ولم يكن من العسير عليه إذا لم يشأ أن ينخدع منذ أول الأمر أن يعرف هذه الحقيقة الواضحة، كان من الواضح أن كل شيء في ذلك الشاب يعجبها حتى لون بذلته وربطة رقبته، وأما آراؤه - وهل كان لصدقي آراء؟! - كانت تافهة ولكن علية كانت تقرها، أو كان هو دائما على وفاق معها في آرائها، فما تكاد تنطق حتى يتم لها قولها، فإذا أتمه أعادت هي كل كلمة معجبة بكل حرف منها.
وامتلأ قلب فؤاد من شيء يشبه الحنق أو الحقد على ذلك الشاب الذي خيل إليه أن المقادير قذفت به بينه وبين علية لكي تحرمه منها، وإلا فما الذي عاد به من فرنسا وقد كان له - بغير شك - في فتياتها غنى عن علية؟ وما الذي أقام هذه الحرب في ذلك العام فلم يتقدم به ولم يتأخر كأن القضاء قد أثار تلك الحرب عمدا ليعود ذلك الفتى إلى مصر في الوقت الذي عرف فيه علية؟
وكان الحنق يحمله أحيانا على أن يدافع نفسه عن تلك الفتاة ويحاول أن يظهر كل ما يستطيع الحنق أن يصوره له من العيوب، وسأل نفسه أيستطيع أن يتخذها زوجة؟
لقد تعود في حياته بساطة الريف، فهو لا يميل إلى مفاتن المدينة وملاهيها، ولا يرتاح إلى مجامعها الصاخبة ولا إلى أنوارها التي تكاد تعشي العيون، كان نور القمر الخافت أحب إليه من أضواء المسارح الوهاجة، وكانت أنفاس الشاطئ أروح لصدره من جو الأبهاء المزدحمة، وكانت أغاني قوية الساذجة ورقصة تعويضة الوحشية أدعى إلى مسرته من النغمات الناشزة التي تبعثها الموسيقى الصاخبة في حلقات الرقص الماجنة.
ولكن علية تحب كل هذا الذي ينكره وتجد فيه متعتها، فهل كان يستطيع أن يتخذها زوجة مع كل هذا؟
ولكن هذه المحاولة لم تجده نفعا، فكان بعد أن يطيل تأمل ما في علية من عيوب يفيق إلى نفسه على خفقة من قلبه إذا تمثل ذلك الشاب «صدقي» جالسا إلى جانبها يحدثها، وخيل إليه أن تأمله في عيوبها قد زاده تعلقا بها، فكان لا يلبث أن يعود فيسأل نفسه لم لا تكون علية زوجة له فتخرجه من ذلك الظلام الذي يخيم على قلبه، وتخلق منه شخصا جديدا يطرب للحياة ويعيش في زحمتها ويتذوق مباهجها ومفاتنها؟ بل إنه لأشد حاجة إلى مثلها من ذلك الشاب المرح الذي إذا أنصف التمس له زوجة تصلح له ما فيه من طراوة، وتدخل إلى قلبه وعقله شيئا من الجد، ومع هذا فقد كان كلما تمثل صورته داخله شعور العجز الذي يقعد بالقزم عن مصارعة العملاق، وهل كان يستطيع هو بقامته الضئيلة ولونه الأسمر وملامحه الحادة ونظرته التي تكاد تكسب وجهه مظهر العبوس الدائم الصارم، أكان يستطيع بهذا أن يهزم الشاب الباسم المرح المتأنق الوسيم؟! كان صدقي يكاد يشبه الغادة الحسناء لولا صوته العميق وجذور الشعر الخضراء التي تغطي عارضيه، وماذا يضره من ضآلة أفكاره التي تشبه أفكار الصبية أو تفاهة ثقافته ونظراته في الحياة؟ فمهما يكن من أمره فإن كل شيء فيه محبب عندها، فكل لفتة منه تسترعي التفاتها، وكل لفظة ينطق بها تستقر في أذنها، وهي تعرف ألوان كل قطعة من ملابسه، وهيئة كل حركة من حركاته، حتى لقد كانت عينها أول عين لمحته عندما اقترب من البيت.
كانت تستطيع أن تميز صوته من بين ضجيج الأصوات، وتعرف دبيب سيره كأنها تراه.
وقضى أيام الأسبوع شقيا ينتظر مضي ساعاتها البطيئة حتى يأتي يوم الجمعة المقبل ليراها مرة أخرى ويراجع نفسه لعل ما بدا له منها كان من وساوس الخيال، ولكن الأسابيع كانت تمر، ويعود من الإسكندرية في أعقابها كل مرة بخيبة تزيد قلبه مرارة على مرارة.
وجاءت إليه يوما رسالة من رئيس النيابة يأمره بأن يسرع إلى التحقيق في جريمة كبرى، ذهب ضحيتها أحد كبار أعيان الإقليم إبراهيم ميسور ، فثارت نفسه فجأة تتذكر الماضي الذي كاد يغيب عنه في ثنايا الضباب، وعادت إليه ذكريات النجيلة والكوم وقوية وتعويضة، فماذا عسى آل إليه أمرهما؟ وكيف انتهى قوية في تهمته بعد أن تركه للأقدار تصرفه كما تشاء في تيارها؟ وسأل نفسه وهو يسرع في طريقه إلى القرية: أما كان لقوية يد في تلك الجريمة؟ ألا يكون قوية قد سجن ظلما فلما خرج من سجنه دبر للرجل فاغتاله انتقاما؟ وحاول أن يشغل فكره بما حوله والسيارة تطوي الأرض طيا حتى بلغ العزبة.
وطلع عليه منظر الدار العزيزة ولكنها كانت عابسة عالية، ودخل إلى روضتها الجافية ثم إلى بهوها الجاهم وجلس في كآبة يستعد للتحقيق، وكان أول من سأل عنه من أهل القرية قوية بن سلام.
Unknown page