3
أخذ فؤاد يحس في نفسه شعورا جديدا كان يزيد كلما مر عليه يوم، كانت تعويضة في أول الأمر لا تزيد في نظره على زهرة برية عند شاطئ الترعة، أو في خميلة برية في شعب من شعاب الصحراء، ولكنه صار يجد كل يوم ميلا قويا يدفعه إلى الذهاب نحو حقلها وإن لم يكن في الحقل ما يدعو إلى ذهابه، كان من قبل يخيل إلى نفسه أنه يساعدها ويرحمها ويضحك ساخرا إذا بلغه ما يتهامس به الناس عنه وعنها، وكان يذهب إلى حقلها كما يذهب الهواء وشعاع الشمس على سجيته غير متحرج، ولكنه أصبح يشعر شيئا من الحرج، ويكاد يود لو لم تقع عليه عين في طريقه إليها، ولكنه كان لا يملك مقاومة ميله فيذهب نحوها متعللا بالعلل، فإذا سمع منها لفظا وجد صداه يتردد في سمعه بعد أن يعود، فيزنه ويسترجعه ويحاول أن يدرك ما ينطوي فيه.
وأخذ يسأل نفسه أيرضى أبوه عنه لو عرف أن وحيده ينظر إلى تعويضة في مثل هذا الجد؟! لقد حدثه أبوه عنها مرة فيما مضى فلم يزد على أن ضحك قائلا: «لعلني أتخذها لي زوجة يا أبي»، فهل كان يضحك ساخرا لكي يخفي حقيقته عن أبيه أم كان يحاول أن يخدع نفسه ويخفي الحقيقة عنها؟ وتدسس في خفايا نفسه حتى لمح في أعماقها أمنية جريئة.
كانت تعويضة فتاة لا تقل عن سائر الفتيات ذكاء وحسنا وظرفا، بل لقد كانت أكثر ممن عرف منهن في ذكائها وحسنها وظرفها، وأصبحت تحرك قلبه كما لم يتحرك نحو فتاة أخرى من قبلها، أما كان يستطيع أن يسمو بها وأن يخلق منها ...؟ وأمسك عن المضي في التفكير كأنه اصطدم بما لم يقو على مقاومته، وماذا يستطيع أن يخلق منها؟
إن هذا الوشم الذي كان يزين ما تحت شفتها إلى ذقنها الجميل قد خالط دمها فلا سبيل إلى محوه عنه أبدا، ولعل إزالة ذلك الوشم كان أهون عليه من إزالة وشم آخر أعمق منه أثرا، لقد كانت كلماتها إلى مبروكة ترن في أذنه كلما تذكرها إذ قالت لها: «وهل السجن إلا للشجعان يا خالة؟» أكان يستطيع أن يخلق من هذه الفتاة ما يريد؟
كان كل شيء في تعويضة جميلا في عينه وإن كان لا يشبهه في العالم جمال آخر، كان جمالا وحشيا ترضاه العين أو ينجذب إليه الحس كله، كان قوة عنيفة كما ينبغي للجمال الوحشي أن يكون، ولكنه مع ذلك كان من عالم آخر غير عالمه بغير شك.
وكان فؤاد في كل ما جد في نفسه من تعويضة وما حدث به نفسه عنها وما تردد فيه من تحرج وخشية لا يستطيع أن يمنع نفسه من الذهاب إليها ليملأ عينيه منها ويتنسم الهواء الذي يفوح بعطرها.
هكذا مر عليه أكثر الصيف وهو أشد ما يكون متعة في مقامه، وذهب يوما إلى تعويضة وهو يجاذب نفسه حتى بلغ جانب حقلها وألقى إليها تحيته، ثم سأل نفسه: فيم جاء إليها؟ وكانت ترعى قطعة من غنم لها في حوافي الحقل فتركتها وأسرعت إليه تستقبله قائلة: مرحبا بك يا حاج فؤاد.
ثم لمست جانب طرحتها لتخفي وجهها الباسم وما كانت تفعل ذلك من قبل.
وكان صوتها على عهده ناغما وقوامها بديعا ويحيط بوسطها حزامها الأحمر وتتدلى ضفيرتاها الطويلتان على صدرها.
Unknown page