لم تكن تعرف من أنا بالنسبة إليها وما كنت أدري، قصارى الأمر بيننا أنني كنت أعرف أنها بنت لأنها ترتدي ملابس البنات، وأنها كانت تعرف أنني ولد لأنني أرتدي ملابس الأولاد. لم أكن أعرف الأنثى فيها، ولم أكن أعرف معنى الأنوثة جميعا، بالنسبة إلى الرجل، ولم تكن تعرف الرجل في ولا معنى الرجولة الذي أمثله، لا ولم تكن تعرف الرجل بالنسبة للأنثى.
لم يكن هذا الجهل يمنعني أن أقدمها على نفسي، وأترك لها فرصة أن تغلبني في بعض الأحيان، وليس في كل الأحيان، وأن أهفو إليها مسرعا إذا سقطت، وتسارع هي إلي إذا وقعت، ولكن أكان هذا قبل أن ندرك شيئا عن الهوى؟ أم أنه كان بعد أن أدركنا شيئا من معناه؟ أكان هذا الاهتمام بها ونحن في الطفولة الأولى البلهاء أم أنه كان ونحن في أواخر الطفولة مشرفان على الوعي أو بعض الوعي؟
أتراه حين كنا في الطفولة الواعية التي تحس ولا تبين ولا تشعر ولا تعبر وتخفق ولا تنطق؟! أتراه كان كذلك، وكيف لي أن أذكر؟
لقد شب حبي معي فاختلطت أدواره وتمازجت أيامه فما أدري كيف عرفته؟ وكيف استبان في كامل الوعي مني؟ أتراني عرفته حين كنت ألقاها ونحن في بواكير الشباب فتعلو وجهها الحمرة، وتمسك بلساني لعثمة فتمر بي وأمر بها لا يحيي الواحد منا صاحبه إلا بهذه الحمرة، وإلا بتلك اللعثمة، لا، لقد عرفت الحب قبل ذلك، عرفته وجيبا وخفقا في الفؤاد شديدا إن أنا ذكرتها، وإن أنا خلوت إلى نفسي؛ فقد كنت أذكرها كلما خلوت إلى نفسي، وعرفته هائم الفكر حذرا أخشى أن يكون حبها وهما من الأوهام. قرأت عن الحب وسمعت به من الرفاق، وعرفت ما الرجل وما الأنثى ورحت أنطلق في فسيح الفضاء لا أفكر إلا فيها، أخشى كلما فكرت في حبها أن يكون وهما من الأوهام.
وفي يوم لقيتها وقد خلا بنا الطريق، وعلت الحمرة وجهها وأمسكت اللعثمة لساني، ولكن الطريق خال بنا نسير في اتجاه واحد متباعدين، فوجدتني أثوب إلى نفسي بعض الشيء ووجدتني أقترب منها، ووجدت حمرة الخجل تزداد وضوحا على وجهها، ولكني كنت قد جمعت بعض نفسي، وكنت قد دربت لساني طويلا على الجملة التي سينطلق بها، فما إن اقتربت حتى ألقيت جملتي مفككة المقاطع متباعدة الكلمات ولكني نطقتها وسمعتها وأجابت، وأود لو أجابت بغير لسانها إلا إنها أجابت على أية حال، نعم أذكر ما قلت: «ماشية وحدك يا هناء.»
وأومأت برأسها أن نعم، ثم ترابطت الكلمات فرحت أحادثها، وراحت هي تضحك أو تبتسم أو تسكت لا تقول شيئا، لا شيء على الإطلاق اللهم إلا قولتها في آخر حديث لي: أخاف أن يرانا أحد.
فأتلفت حولي مذعورا وما إن أثق من خلو الطريق حتى أقول لها: لا تخافي.
ثم أعود إلى حديث طويل ما زلت أدرج فيه من موضوع إلى آخر حتى استطعت آخر الأمر أن أرجوها لتسمح لي بانتظاري لنقطع هذا الطريق سويا، ولم تجب إلا بجملتها الوحيدة: أخشى أن يرانا أحد.
ولكني ظللت مع الأيام ألتقي بها في الطريق، وأحكي لها وتستمع هي، لم أقل لها - أحبك - فقد خشيت إن أنا قلتها ألا تراني بعدها أبدا، لقد كان الطهر الذي يشيع حولها مخيفا يمسك لساني بل يمسك عقلي أن يفكر في التصريح بحبي لها، وينقضي الطريق، وأعود إلى الوحدة، وأعود إلى خوفي ألا تكون محبة لي، ولم أخلص من حيرتي وخوفي إلا بالمذاكرة العنيفة؛ فقد انتهيت إلى أنني ما زلت في المرحلة الثانوية وأنها قد تتزوج قبل أن أحصل أنا على شهادة التوجيهية؛ فذاكرت ومنيت نفسي أنني إذا صرت في الجامعة قد أجد بعض الجرأة أن أخطبها ونتزوج، ذاكرت كما لم أذاكر من قبل، وأصبحت أعد السنين عدا، وأطارد الزمن في عنف وإصرار حتى أصبحت في التوجيهية، وسمعت همهمة تدور حولي أن هناء معرضة للخطبة، ولقيتها في الطريق وسألتها فازداد وجهها احمرارا وتلعثم لسانها وهي تقول: نعم. - وماذا فعلت؟ - رفضت الخطبة. - صحيح؟ - صحيح.
ولم أسأل لماذا رفضت؛ فقد أبى حبي أن يجعل للرفض سببا إلا أنها هي تحبني، وألهيت الزمن بالمذاكرة، كنت لا أفيق من الكتاب إلا في موعد عودتها من المدرسة، لا أفكر إلا في أن أحصل على الشهادة لأصبح جديرا بها، وكنت أفكر إذ ذاك في شيء آخر طالما ضقت بالتفكير فيه، لقد كان أبي خريج جامعات أوروبا وكان أمله أن يرسل بي إلى جامعته لأنال فيها الشهادة التي نالها، وقد كنت تواقا إلى تحقيق أمله هذا؛ فقد كان أملي أيضا، ولكني كنت كلما فكرت في اغترابي عن هناء بعيدا، بل بعيدا عن حبها، بل بعيدا عن مصر كلها، لا أشم النسمة التي تداعب شعر هناء، ولا أتنفس الهواء الذي تتنفسه، ولا أشرب الماء العذب الذي جرى في دمائها والذي يتحول على وجهها حمرة خجل كلما لقيتها، كلما فكرت في ذلك أحسست شيئا قويا عنيفا يهيب بي ألا أسافر.
Unknown page