ولم يلتفت إليه السجان بل قال للمرأة: ادخلي يا سيدتي، هذا هو طلبتك.
ودخلت المرأة محجبة لا يبين منها شيء، وما انحسر النقاب عن وجهها حتى عرفها إياس. - عاتكة! ماذا جاء بك إلى هنا؟ إني في السجن والعيون رواصد لو رآك أحد فأبلغ الأمير أو أبلغ أباك فماذا أنت قائلة؟ - وماذا يمكن أن أقول، أأسمع أنك سجين ولا أسارع إليك؟ فلست إذن بنت الكرام. - شكرا لله يا عاتكة. - قد جئتك بثياب وطعام، وجئتك بمال حتى لا تقف بك قلة المال أن تعطي السجان أو من تشاء.
ورأى إياس في عاتكة الرحمة التي لم ينلها من أمه، وهاجت إليها في نفسه نوازع لا يدري كنهها، أهي حب؟ ومن أين له أن يدري الحب ولذته؟ أهي إذن عواطفه نحو أمه لم تجد أما فجاشت إلى هذه الفتاة في ربيع العمر؟ ومن أين له أن يدري عواطف البنوة إلى الأمومة؟ فما هذه الصبوة التي ترقى في مشاعره وما هذا الخفق الذي يأخذ بقلبه، وما هذا العجز الذي يمسك بلسانه، أهكذا الحب؟ - لا تخف من أمرك شيئا يا إياس. - أنا لا أخفي شيئا. - هيه إياس، لعلك تريد أن تبوح لي بشيء. - هيهات، وكيف لي أن أبوح، وأنا بين يدي الغيب لا أدري ما يحمله لي في غده أموتا، أم عيشا الموت خير منه؟! هنا من وراء الحياة مع الحديد والقضبان، بماذا أبوح يا عاتكة؟! - قل ما بنفسك ودع الغد يأتي بما يشاء. - بربك يا عاتكة لا أطيق، إن قلت ما أريد فأنا بين اثنتين، إما أن تحبيني فلا والله لا أطيق العيش بعدها والقيد في قدمي لأطير إليك، وإما أن تمنعيني فترداد نفسي كرها لنفسي، ولا والله لا ألومك إن أنت أقصيتني عنك، وإني قاطع طريق، لص أضعت حياتي في رمال الصحراء. - بروحي أنت يا إياس، لا تقل شيئا، وعهد الله بيني وبينك لا أسمع منك شيئا إلا وأنت طليق.
وأخذت عاتكة سمتها إلى الأمير وكان وجهها مقربا إليه فما وقفت بالباب حتى أذن لها الأمير وبين يديه وقفت. - أيها الأمير، أحمل إليك توبة، وأنت ظل الله في الأرض فاقبل التوبة ترض الله. - توبة من؟ - توبة إياس. - وما شأنك به؟
وقصت عاتكة على الأمير ما كان من إياس حين هو في الصحراء وحين هو في السجن، كانت تروي قصتها وجسمها ينتفض من الألم، ولسانها يهدر وكأنها تروي لنفسها فما إن انتبهت إلى نفسها واقفة في رحاب الأمير وقد بلل الدمع لحيته. إلا وقد انتهت من قصتها، وأشرقت دموع الأمير في عين عاتكة فما تمالكت نفسها أن تصيح. - عفا والله الأمير.
وطلع القمر على زوجين يسيران إلى الكعبة المقدسة ، هناك حيث يخلص إياس من ماضيه ليستقبل حياة جديدة هو فيها وليد جديد، حياة فيها رحمة وفيها حنان، وفيها هوى.
على الطريق
منذ سنوات بعيدة في مشرق يوم يمر بالناس سريعا، كان يوم نفضت البيوت أبناءها إلى الشارع صغارا فهم أطفال تتردد الحروف في أفواههم قبل أن تصبح كلاما، أو صبيانا تعاني منهم الأمهات ما تعاني حتى يتعلموا لبس ثيابهم ويخرجوا إلى مدارسهم، أو شبابا يقفون أمام المرآة حتى لتكاد صورهم أن تنطبع على هذه المرآة، أو فتيات، منهن الجادات الحاسمات يرتدين ما يقرب من ملابس الرجال، ومنهن المعجبات بأنفسهن الجميلات يمشطن شعورهن لأمام تارة ثم لخلف تارة أو يعقصنه إلى يمين أو يلقين به إلى يسار، أو هن يجعلن منه ذيل حصان أو حمار، ثم ينتهي الأمر بالجميع من بنين وبنات، من شباب وفتيات، أن يلقفهم الطريق ليفضي بهم إلى حيث يجب أن يذهب كل منهم.
وقد كان اليوم هو افتتاح المدارس؛ فالطلبة عائدون إلى معاهدهم وقد غمرت نفوس الأكثرية فيهم سعادة غامرة، فهم عائدون إلى أصدقائهم وهم قد انتهوا من هذه البطالة التي استقبلوها أول الأمر فرحين مهللين والتي يودعونها اليوم فرحين مهللين فبين الطرفين من أشهر ثلاثة فراغ طويل، وضيق ثقيل، فهم حائرون مع الوقت لا يعرفون كيف يقطعونه فهو يقطعهم بالملل والضجر والحنين ولو إلى الدراسة فإن وسائل التسلية مهما كثرت لا تملأ فراغ الشباب، وهم ضجرون بهذا اليوم الذي قدر لهم فيه أن يلتقوا ثانية بمعادهم وتلك الوجوه التي لازمتهم سنين ثم هي بسبيلها إلى أن تلازمهم سنين أخر.
هكذا كان أبناء الجيل يجمعهم الأمل في المستقبل وتتفرق بهم مناحي التفكير إلى شتيت المشاعر!
Unknown page