قال لها: «ارحلي.»
أخذت ما هلا ماي السيجارة من فمها وحاولت أن تناوله إياها، وقالت: «لماذا دائما يشتد الغضب بسيدي مني بعد أن يطارحني الغرام؟»
أعاد قوله: «ارحلي.»
واصلت ما هلا ماي تمسيد كتف فلوري. لم تتعلم أبدا الحكمة في تركه وحيدا في هذه الأوقات. كانت تعتقد أن الخلاعة نوع من الشعوذة التي تمنح المرأة قوى سحرية للسيطرة على الرجل، حتى تستطيع في نهاية الأمر أن توهنه فيصير عبدا شبه أبله. كل حضن بعد الآخر كان يستنزف إرادة فلوري ويجعل السحر أقوى؛ كان هذا اعتقادها. جعلت تزعجه ليعاودا الأمر. وضعت سيجارتها وأحاطته بذراعيها، محاولة تحويله ناحيتها وتقبيل وجهه الذي أشاح به عنها، وهي توبخه على بروده.
قال بسخط: «ارحلي، ارحلي! ابحثي في جيب سروالي القصير. يوجد به نقود. خذي خمس روبيات واذهبي.»
وجدت ما هلا ماي ورقة بخمس روبيات ودستها في صدر بلوزتها، لكنها ظلت دون أن تغادر. حامت حول الفراش، مسببة الإزعاج لفلوري حتى استبد به الغضب في النهاية ووثب واقفا. «اخرجي من هذه الحجرة! قلت لك أن تذهبي. لا أريدك هنا بعد أن أنتهي منك.» «يا له من أسلوب لطيف لمخاطبتي! إنك تعاملني كما لو كنت بغيا.»
قال لها وهو يدفع بها من كتفيها إلى خارج الحجرة: «إنك كذلك. لتخرجي من هنا.» ثم ركل خفيها وراءها، وهذه هي الطريقة التي كثيرا ما كانت تنتهي بها لقاءاتهما.
وقف فلوري في وسط الحجرة وهو يتثاءب. فهل يذهب إلى النادي للعب التنس على أي حال؟ لا، فهذا معناه أن يحلق، وهو لا يقوى على جهد الحلاقة قبل تجرع بضع كئوس من الشراب. تحسس ذقنه الخشن وسار متراخيا إلى المرآة ليتفحصه، لكنه تحول عنها بعد ذلك؛ إذ لم يرد أن يطالع الوجه النحيل الأصفر الذي كان سيبادله النظر. وقف بضع دقائق بأطراف مرتخية، يشاهد البرص وهو يتتبع عثة فوق أرفف الكتب. احترقت السيجارة التي رمتها ما هلا ماي برائحة لاذعة، وتحول الورق إلى اللون البني. تناول فلوري كتابا من على الرفوف، وفتحه ثم ألقاه في نفور. ليس لديه الطاقة حتى للقراءة. يا إلهي، يا إلهي، ماذا يفعل فيما تبقى من هذا المساء اللعين؟
دخلت فلو الحجرة تتهادى وتهز ذيلها طالبة الخروج في نزهة. دخل فلوري الحمام الصغير ذا الأرضية الحجرية المفضي إلى مخدع النوم، ونضح نفسه ببعض الماء الفاتر وارتدى قميصه وسرواله القصير. لا بد أن يمارس بعض النشاط قبل أن تغرب الشمس. في الهند يعد شرا نوعا ما أن تمضي يوما من دون أن تتصبب عرقا ولو مرة واحدة، فإنه شيء يعطي المرء شعورا بالخطيئة أقوى من ألف فاحشة. وفي المساء المعتم، بعد يوم من الخمول التام، يبلغ الملل بالإنسان ذروة من الجزع والرغبة في الانتحار. ملل يصير أمامه العمل والصلاة والكتب والشراب والحديث بلا جدوى؛ ولا يمكن التخلص منه إلا عرقا من مسام الجلد.
خرج فلوري واتخذ الطريق الصاعد إلى الغابة. كانت في بدايتها غابة من الأشجار الخفيضة، ذات شجيرات متقزمة كثيفة، والأشجار الوحيدة كانت أشجار مانجو شبه برية، تحمل ثمارا صغيرة بمذاق التربنتين وفي حجم البرقوق. ثم يتوغل الطريق بين أشجار أطول. كانت الغابة جافة وبلا حياة في هذا الوقت من العام. تراصفت الأشجار على الطريق في صفوف متلاصقة مغبرة، بأوراق لونها أخضر زيتوني باهت. وخلا المنظر من الطيور سوى بعض مخلوقات بنية سقيمة مثل طيور سمنة رثة الهيئة، راحت تتقافز طائشة تحت الشجيرات؛ ومن بعيد ندت عن طير آخر صيحة «آه ها ها! آه ها ها!» صوت خائر وحيد مثل رجع ضحكة. وانبعثت رائحة سامة شبيهة باللبلاب من أوراق شجر متهشمة. كان الجو ما زال حارا، مع أن الشمس كانت تفقد وهجها وأصبحت أشعتها المائلة صفراء اللون.
Unknown page