وقرأت مقالا غاية في الجودة وسمو العاطفة لكاتبة اسمها «دكي تشابل» معظمه عن أهل الشرق الأوسط والهند وما هم فيه من فقر فظيع، ورغم أني حساس جدا لما أقرؤه عن الشرق الأوسط، إلا أنني لم أشعر للكاتبة إلا بالتقدير والإعجاب؛ لأنها شحنت أسطرها بالعطف والعاطفة والدراية والفهم، فكان من بين ما قالته إن فكرة الجمال النسوي تختلف باختلاف وفرة الطعام؛ فحسان هوليوود نحيفات لدرجة المرض؛ لأن الأمريكيات يحيط بهن الطعام الموفور، وجمال المرأة هو في أن تمتنع؛ وأما نجوم السينما في أوروبا الجائعة - هكذا قالت - فتراهن مليئات الأجسام بدرجة يمجها الذوق الأمريكي؛ وذلك لأن الطعام قليل هناك، فلا يتصور الناس كيف يمكن لإنسان في هذه القلة أن يمتنع عن طعام ... وقل ذلك أيضا في الشرق وأهله، فالجميلة هي البدينة، والناس هناك لا يكادون يفهمونك إذا قلت لهم إني أقلل من السمن؛ فهذا كلام غير مفهوم في بلاد كل الأمل عند أهلها هو أن يجدوا الطعام.
وأحسن ما في هذا المقال - بل هو صلب المقال من أوله إلى آخره - هو أن الكاتبة تبذل جهدها في إقناع بني قومها أن الفقر هو القاعدة الغالبة في بلاد العالم أجمع، وأن ثراء الأمريكيين هو الشذوذ وهو معجزة التاريخ، فليس في الأمر ما يبعث على التقزز إذا علمت أن الناس يسكنون بيوتا من طين، فهكذا الدنيا بأسرها، وليس في الأمر ما يبعث على التقزز إذا علمت أن الناس مرضى؛ لأن القاعدة السائدة في معظم بلاد العالم هو ألا طبيب ولا دواء، وليس في الأمر ما يدعو إلى التقزز إذا علمت أن الناس معظمهم جياع؛ لأن القاعدة الغالبة في أرجاء العالم كله هي أن يأكل الناس الطعام الذي ينتجونه بأيديهم، فإذا حدث بسبب الظروف الجوية أن شح الطعام وقل كان الجوع نتيجة حتمية؛ ليس الناس في سائر أنحاء الأرض كالأمريكيين يشترون طعامهم من الدكاكين، وليس هناك في سائر أنحاء العالم هذه المشكلة اليومية التي تصادف الأمريكي كل صباح: ماذا نأكل اليوم؟ ففي أمريكا من الكثرة ما يجعل أمام الناس مجالا للاختيار.
لم يسعني هنا سوى أن أتذكر فلاحنا المصري وطعامه؛ إنه لا يفكر ماذا يأكل في الغداء؛ لأن طعامه في الغداء معروف.
الفصل الثالث
في نيويورك
السبت 26 ديسمبر
غادرت واشنطن بالقطار إلى نيويورك فبلغتها بعد أربع ساعات وربع ساعة ... الانتقال من كولمبيا بولاية كارولاينا الجنوبية إلى واشنطن، ثم من واشنطن إلى نيويورك، كالانتقال من منزل إلى مكتب، ثم من مكتب إلى دكان ... نيويورك بمثابة دكان كبير زاخر بالمعروضات، نشيط بما فيه من حركة بيع وشراء، تحب أن تستعرض أجزاءه، لكنك لا تحب أن تقضي الليل فيه ... نيويورك مدينة فريدة في نوعها بما فيها من ناطحات السحاب، إنها مدينة لا تكاد عينك تقع فيها على شيء قديم، كأنها شيدت منذ أعوام قلائل ولم يمض عليها في الحياة إلا زمن قصير؛ لهذا لا تحس فيها بجلال التاريخ ... تتحرك فيها من شارع إلى شارع فيكون انتقالك من مكان إلى مكان، لكنك لا تنتقل من زمن إلى زمن، كما تفعل لو انتقلت في القاهرة - مثلا - من مصر القديمة إلى مصر الجديدة أو من الحي الحسيني إلى الزمالك.
الشوارع في نيويورك بين هذه الناطحات تبدو ضيقة، أو لست أدري لماذا تضيق الصدر ولا تشرحه؛ فالأرجح أن يشعر الإنسان - وهو سائر بين هذه العمالقة المعمارية - بأنه تافه ضئيل بدل أن يحس أنه عظيم جبار أقام هذه العمائر العالية ... لا عجب أن يكون هذا هو الشعور الدفين في نفس الأمريكي الفرد؛ فهو على اعتزازه بفرديته وشخصيته يخشى على نفسه أن يهصر ويعصر ويطحن ويكسر أمام جبروت الأعمال الكبيرة والمباني الكبيرة ... ذلك ظاهر من فرحة الناس التي لا تنقطع برؤية الأفلام السينمائية الكاريكاتورية الرمزية التي تجعل الفأر الضئيل في خطر من القط الكبير المفترس، لكن الفأر ينجو بنفسه دائما! فرحة الناس بهذا المعنى - وهو مكرر في آلاف الأفلام - تعكس ما هو دفين في نفوسهم من الخوف أن يفتك الجبار بالتافه، مهما يكن نوع الجبروت ونوع التفاهة ... والجبروت في نيويورك هو جبروت الناطحات، والتافه هو الفرد يمشي في الشوارع بين هذه الشوامخ.
العمارة في نيويورك رائدها المنفعة لا الجمال، ولو أن المنفعة والجمال قد تلاقيا فليس في ظاهر البناء زخرف ولا نقش ولا بروز ولا انحناء، إنما هي خطوط مستقيمة عالية تضم بينها ثقوبا هي النوافذ، كل نافذة منها في غرفة ... قارن ناطحة السحاب في عصرنا بالكاتدرائية في القرون الوسطى تدرك ما أعنيه بقولي إن الغرض المقصود من عمارة الناطحات هو المنفعة، على حين كان الغرض المقصود من فن العمارة فيما مضى هو الجمال.
الأحد 27 ديسمبر
Unknown page