فلست كأخي مريضة ولا معتوهة، ولدت سليمة العقل، بل إني فوق المتوسط المألوف في ذكائي؛ إنني لا أريد الآن أن أتواضع، فليس هذا أوان التواضع الزائف، لكنني لقيت من أبوي ما لقيته من قسوة وجهل بطبائع الطفولة ما ملأني مرارة، وكنت أحاول أن أفر من هذا الجو المسموم بالقراءة وبصحبة الأصدقاء، وهو ملاذ لم يجد أخي المريض سبيلا إليه، كان في مدرسته أضحوكة الضاحكين من زملائه، وكان في البيت موضع سخط الوالدين الغاضبين دائما، المعتركين دائما ... كان أبي أو كانت أمي تضربه بكتبه على رأسه؛ لأنه ولد خائب يجلب على أبويه العار.
بلغت من عمري السادسة عشرة، وكنت كلما كبرت عاما من الزمن، ازددت ثورة نفسية وازددت مرارة وسخطا، حتى عجزت عجزا تاما أن أجر قدمي إلى المدرسة، وأذكر ذات مساء أن خلعت أمي عن جسدي الثياب وضربتني على ظهري بحزام من الجلد، وما كادت تتركني حتى هممت بالانتحار خلاصا من هذا العالم الوبيء، فلم أستطع ... أفتدري ماذا صنعت بعدئذ؟ تحولت منذ الصباح التالي عاهرة تعرض جسدها على كل من أراد أن يستمتع به من زملائي، لم آخذ من أحد مالا على متعته، ولا أقول إني كنت في ذلك أنشد المتعة الجسدية، فما أقل ما وجدتها حينئذ! وما أكثر ما شقيت! ولكني لم أزل عارضة جسدي كل يوم على من شاء ... وأسأل نفسي الآن: لماذا؟ وأجد الجواب حاضرا: لأجد كل يوم شخصا يظهر لي علامات الحب حتى ولو كان زائفا، كان ذلك مني ضربا من الانتقام من والدي.
حاجة الإنسان إلى عطف هي - يا سيدي القاضي - أشد وأقوى ما يدفع الإنسان في هذه الدنيا إلى سلوكه الذي يسلك.
وقضيت في انتقامي العاهر أعواما، ثم قابلت فيمن قابلت شابا عرفني، ولعله لمس قلبي وما يكنه من أخلاط المشاعر والدوافع، فطلب الزواج مني وقبلته زوجا، حيث نعيش الآن زوجين ... لا أظنني كنت أحبه عندئذ حب المرأة للرجل، لكني قبلته زوجا لأفر مما كنت فيه، ومنذ ذلك الحين مضيت في دراستي الجامعية، أزيح عن نفسي قليلا قليلا ما تركه أبواي من رواسب السم.
لقد حكمت على أخي بالموت - يا سيدي القاضي - وها أنا ذا قصصت عليك تاريخي لتعلم في أي بيئة نشأنا؛ إن أخي قد قتل فتاة في جسدها، فحكمت عليه بالموت، وأنا أسألك الآن: ماذا أنت صانع بوالدين تآمرا على قتل نفسين: نفسي ونفس أخي؟ أم أن قتل النفوس عندكم في القانون حلال مباح؟ ...
أملت علي صورتي في المرآة هذا كله، فسألتها: أنى لك هذا؟ فقالت: وما جدواك أن تعرف من أين؟ إن هذه القصة إن تكن من الحياة الواقعة فهي واقع، وإن تكن خيالا فهو خيال يشبه الواقع.
مضت ساعة وبقيت نصف ساعة على الغداء، سأكتب فيها شيئا قرأته الآن، هو خلاصة حديث أدلت به زوجة الكاتب المعروف «ول ديورانت» - الذي أدين له بشيء كثير - فقد ذكرت الزوجة في حديثها كيف كان لقاؤها مع زوجها لقاء أنتج الزواج؛ وهو حديث قالته الزوجة بمناسبة صدور جزء جديد من سلسلة المجلدات التي يخرجها «ول ديورانت» في «قصة الحضارة».
قالت «آريل» - زوجة ديورانت: نشأت في نيويورك وكرهت المدرسة التي كنت أرتادها، حتى لقد كنت أنحرف من نصف الطريق إلى المدرسة، وأذهب إلى حيث أقضي الوقت في اللعب، وكنت ألعب ذات يوم في الحديقة العامة، فجاءت امرأة ومعها مجموعة من أطفال، وقيل إنها مدرسة وهؤلاء تلاميذها، فلم أصدق؛ لأن العلاقة بينها وبينهم كانت علاقة أم بأبنائها، وأحببت أن أرافقهم فجلست معهم، ولما سئلت من أنا؟ قلت: إذا كانت هذه مدرسة فأنا من تلميذاتها ... وهكذا ظللت أياما أجلس بين تلميذات هذه المدرسة التجريبية التي أحببتها حتى ذهبت يوما غابت فيه المدرسة وجاء مكانها رجل هو هذا (وأشارت إلى زوجها ول ديورانت) وهو الذي أصبح زوجي، وكونت معه أسرة لم أر أسعد منها، كانت سنه عندئذ ثمانية وعشرين عاما، وكنت في الخامسة عشرة، كان الفرق بيننا كبيرا، لكن كلانا أحب الآخر، فليس مستحيلا أن تحب فتاة عمرها خمسة عشر عاما رجلا عمره ثمانية وعشرين؛ كان زوجي يقول إن أرسطو من رأيه أن المرأة تسبق الرجل في النضوج بخمس عشرة سنة، فإن كان ذلك كذلك، فقد كنت زميلة لزوجي في درجة النضوج، كنت طفلة في بعض نوازعي، فتعهدني بالتربية حتى أحببت كل ما يحبه هو ... إنني أعتقد أن زوجي من نوابغ القرن العشرين، ولم يكن يسيرا على أي امرأة أن تشارك مثل هذا الرجل حياته؛ لكن الحياة معه جديرة بالعيش!
مشيت بعد الغداء نصف ساعة أو نحوها، وكان الجو جميلا رائعا: شمس مشرقة، وسماء صافية وبرد خفيف يمكن من المشي، لكني عدت إلى غرفتي ثقيل القلب محزون الفؤاد، ولست أدري لهذا الغم سببا، فلماذا تكون الشمس مشرقة والنفس غائمة؟ إني أشعر بضيق شديد، أشعر بوحشة وعزلة؛ فتحت الراديو ساعتين كاملتين، وبرامج الإذاعة يوم الأحد هنا تكون عادة جيدة الاختيار، فسمعت لأشهر المغنين في برنامج يسمونه «الأصوات الذهبية» ويذيعونه كل أحد؛ كذلك سمعت قراءات أدبية ممتازة، ينطق بها أشهر الممثلين وأشهر القراء؛ فسمعت نجوى هاملت المشهور: «أبقاء أم فناء؟ تلك هي المشكلة» يقرؤها جون باريمور قراءة غاية في الجودة، ثم قراءة من الإنجيل عن جنة عدن يقرؤها تشارلس لوتن، من أبدع وأروع ما يمكن أن يسمعه إنسان في حياته، وكذلك سمعت قراءات من الشعر الإنجليزي يقرؤها قراء مجيدون.
كلها أشياء من طبيعتها أن تسري عن النفس، لكن الغم قائم لا يزول، أعددت لنفسي الشاي وشربت ثلاثة أقداح منه، وتحسنت حالي بعض الشيء، لكني قلق لا تستقر بي جلسة ولا رقدة ... لقد سمعت قصة الشجرة المحرمة منذ دقائق يقرؤها تشارلس لوتن من الإنجيل، فسمعت فيها أن آدم وحواء كانا عاريين ولم يكونا يشعران باستحياء من ذلك العري، كان ذلك قبل أكلهما من الشجرة المحرمة، شجرة المعرفة، معرفة الخير والشر، فلما أكلا منها كان أول ما أحساه خجلا من عريهما، فغطيا نفسيهما بورق الشجر، لكن العري لا يزال باديا، والخجل لا يزال قائما، وهنا ناداه ربه: يا آدم؛ فأجاب آدم من بعد واستحيا أن يقابل ربه عاريا؛ فقال له ربه: إذا كان قد أخذك الخجل من عريك، فلا بد أن تكون قد ميزت الخير من الشر، وإذا فلا بد أن تكون قد أكلت من الشجرة المحرمة، فلماذا عصيتني فيما أمرتك به ...؟
Unknown page