أما هذا المنظر السادس وهو النساء اللاتي تراهن فوق الجبل فإنهن يمثلن الحكمة والفضيلة التي أشارت لها تلك العلوم وسهلت سبيلها الأخلاق، ويقطع السبيل عنها الشهوات، فاسع إليها، ولا تنم بالجهل عنها، فإنك إذن تكون من السعداء المصلحين.
وما العلوم الأدبية إلا كالترجمان يفهم الحكمة، وما أقل العاقلين!
وكما أن معرفة اللغات الأجنبية وسيلة للعلوم لا مقصودة بالذات، فهكذا العلوم مقصودة لغيرها، وهي الحكمة والسعادة والفضيلة، فمن أصغى إلى نصائح تلك النساء المشيرات لقمة الجبل الممثلات للعلوم، رقى إليه وحظي بالتاج والجمال، وما أقل السعداء سعادة حقة في العالمين.
ألا وإن السعادة سعادتان، سعادة وقتية، وسعادة دائمة، فسعادة الجهلاء وقتية، كالذي يتخطى عقبة إلى عقبة، ويعبر خندقا فيقابله خندق، وذلك بالحظوظ الوقتية من المال والجاه والعبيد والسلطان وأمثالها، وأما السعادة الدائمة فهي التي نصبوها من أنفسهم وخبئوها في عقولهم وأودعوها في أرواحهم، وهناك سعادة عامة تجمع الأمم جمعاء وهي أن تتعاون الأمم على عمارة الأرض ، وسيصلها نوع الإنسان في مستقبل الأزمان. (15) النفس
ثم انطلق بي حتى علونا الجبل بعد ما كادت نفوسنا عند الغلصمة، وشاهدنا من آيات الجمال والبهاء والحسن ما لا يحلم به أكثر العالمين، ولبسنا التاجين، ونلنا الحسنيين، ورأيت جنة خضراء زينة للناظرين، لا أستطيع وصفها، ولا أعلم كنهها، قد ازينت للمدكرين وأعدت للعاقلين المفكرين، فلما سرنا بجانب خليج من خلجانها، ماؤه لجين، ذي ضفتين خضراوين زبرجديتين نظر إلى بخار مائه يصعد في الجو بحرارة الشمس، فتبسم ضاحكا كالمستهزئين، ثم لوى كشحا كالساخرين. فقلت: مم تضحك؟ فقال: انظر البخار، إذ علا في الجو وطار، فإن بعض علماء النفس عندكم يزعمون أنها نفثة من نفثات الجسم، وعرض عرض لامتزاج العناصر، ومزاج الذرات المتفاعلات، فكأنه هذا البخار المتطاير، ولو صح ما قالوه لنسي العاقل اليوم ما قرأه أمس، ولمحيت سطور لوحه بالطمس، وكيف ينام الرجل ويستيقظ ثم يتذكر ما فعله في أمس الدابر، ويحصر في عقله ما وعاه من أيام صباه، ويجمع القديم والحديث في بخار ضعيف، ومن تذكر بعد النوم ما عمل من قبله، فسوف يذكر عند الموت وبعده، ما سطر في لوح عقله، ولو كان ذلك اللوح كهذا البخار، ما بقي يوما أو بعض يوم، وكيف يبقى أمدا طويلا والجسم يتبدل في بضع سنين؟ فما أكثر الجاهلين من الآدميين.
الماء أكسوجين وأودروجين، والحرارة الشمسية أخرجت بخاره، والجسم أجزاء وعناصر تتقد نارا بالتفاعل، وتعرض لها عوارض بالتمازج، وأعراض الأجسام من الحرارة الغريزية والمفاعلات الكيماوية، كأعراض الماء بالحرارة الشمسية، فإذا تجدد أول العرضين بالمشاهدة والعيان فما أحرى ثانيهما بالتجدد وما أحقه بالدثور، وكيف تبقى آراؤكم وعلومكم وأخلاقكم ومحباتكم طول الحياة والجسم دائم التحليل والتركيب وأعراضه متجددات على أعداد اللحظات؟ إن في ذلك لآيات للمتفكرين.
النفس شقيقة المادة، إنهما أختان تارة تجتمعان وأخرى تفترقان، ولكل منهما صور وأعراض، فليعتبر العقلاء، وليتذكر أولو الألباب.
ثم قال: إننا نضرب لأطفالنا الأمثال بمثل ما شاهدت الآن. ثم أبصرت آسادا كآسادنا وأسلاك التلغراف ممتدة على الأعمدة الخشبية. فقال: إن هذه عندنا كمحال الآثار عندكم، فإذا أردنا تدريب أبنائنا على الاستنتاج في أحوال كوكبنا أو الكواكب الأخرى، أريناهم أشكالها، ونصبنا لهم آثارها، وقلنا لهم: اكتبوا عليها بأسلوب كما سأريك الآن، تطبيقا على المشاهدة والعيان، ألا فاسمع الحكمة مني، وخذ العلم عني، واعلم أنه ضل ابن آدم بخصلتين؛ فضل المنطق، وفضل السلاح، فأما فضل المنطق، فإنه إذا رام اهتضام حق، أو غصب ملك، عمد إلى الأقوال فزينها، وقصد إلى الكتابة فنمقها، ولبس الحق بالباطل، وأبرز الكذب في صورة الصدق، وزخرف القول زورا، فيرفع من شأن نفسه، ويحط من حق غيره، في المجالس والطرقات، والمعابد، وعلى صفحات الجرائد، وينشر ذلك فيما شاء من دولة، ويفيض به فيما أراد من أمة، حتى يخيل للسامع أنه حق، فيعطف على القائل، ويذعن للقول، لا سيما في هذا الزمان، الذي تفرعت فيه فروع البريد البخاري، والبرق السلكي، والبريد الأثيري، بتلغراف «مركوني».
واعتبر ذلك في الأمم الغالبة، فتراها تكذب وتنشر الأقاويل المنفرة عن الأمم الضعيفة، لتستمرئ ابتلاعها، وتسوغ هضمها، ظلما وزورا، وما أسرع تصديق الناس، وما أكثر خطأهم، وما أشد جهلهم، فإن أكثر الناس لا يعلمون.
فأما فضل السلاح، فذلك أن ابن آدم دافع عن نفسه قديما، تارة بالحجر، وأخرى بالعصا، وآونة بالمدر، وطورا بالحديد، ووقتا بالرصاص، فظن ذلك الأمر الاضطراري جبلة راسخة، والعارض ملكة ثابتة، فتوغل فيه، وأخذ يتفنن في السلاح والكراع، جعل ذلك مقدما على غيره من الأغذية والأدوية والملابس.
Unknown page