وإني لأضرب لك مثلا، هذه الممالك المتمدينة الأمريكية، أليست مركبة من ممالك كثيرة؟ قلت: بلى. قال: فالمملكة من إيالات؟ قلت: بلى. قال: فالإيالة من قرى؟ قلت: بلى. قال: فالقرى من بيوت؟ قلت: بلى. قال: أليس سكان البراري والقفار يعيشون قبائل قبائل، وكل واحدة ترى سعدها في أن تهضم حق جارتها، وتهلك حرثها ونسلها، ويقول شاعرهم ويغني مفتخرهم بما يقول عمرو بن كلثوم:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا
ويشرب غيرنا كدرا وطينا
إذا بلغ الفطام لنا صبي
تخر له الجبابر ساجدينا
لنا الدنيا ومن أمسى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا
قلت: بلى. قال: فلو جعلنا الممالك المتحدة قبائل كالتي في البادية لبلغت ألف قبيلة أو يزيدون. قال: أوليسوا الآن أسعد حالا، وأنعم بالا، لو كانوا أشذاذا متفرقين، يقتل بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، ومأواهم العذاب وما لهم من ناصرين؟ قلت: بلى. قال: أفلا يفخر اليوم كل رجل منهم بأنه أمريكي؟ قلت: بلى. قال: أفلا تعد الأمم اليوم قبائل متوحشة، كل قبيلة تنازع جارتها، وتناوئ قرينتها، وإنها لو تضامت لأصبحت ممالك متحدة وأسرة واحدة، يعلم عالمها جاهلها، ويرحم قويها ضعيفها، فتكون سعادتهم أوفر، وخيرهم أكثر، وعزهم أوسع، وهم جميعا على سرر متقابلين.
الطبيعة وأسرارها محجوبة عنكم، ولن تنالوها إلا باتحادكم على استخراجها وتمالئكم على إظهارها، ومقامكم في العالم مقام رفيع، ولكنكم جهلتم أنفسكم، وتربصتم للشر، وارتبتم في الخير، وغرتكم الأماني، حتى صرتم في الأرض صاغرين. قلت: ليس الإنسان معذبا للإنسان، إنما هو معلم له ومرشد وهاد، والأمم الراقية ترشد المقهورة . فقال: قد أجبتنا من قبل بما أفاد أنكم ظالمون طاغون، ولقد غلبت عليك صفة أممكم الأرضية، فأجبت بالإجابة اللفظية، وحققت أن لكم قولا يخالف العمل، وظاهرا يخالف الباطن، تقولون كما أخبرتنا ولا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون، ولقد مزجتم صفات الآساد بأخلاق الذئاب، ووضعتم القوة العالية في مصاف الحيوان.
الآساد أشرف منكم نفوسا وأطيب قلوبا؛ فإن ظاهرها باطنها، وباطنها ظاهرها، فأما أنتم فباطنكم الفطري فيه الرحمة، وظاهركم من قبله العذاب، فتلونتم وعذبتم وذقتم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى.
Unknown page