فلما أن وصلنا ساحة القوم في ذلك القصر الفسيح الأرجاء البديع البناء، رأيت القوم مجتمعين والجمع محتشدين، وهم ألوف وألوف، صفوف خلفها صفوف، وعلى وجوههم سيمى الحب وفي هيآتهم بهاء الوقار، فسلمنا وسلموا، وأجلسنا على كراسي في ساحة المكان، وبينما نحن جلوس إذ أقبل شيخ عظيم الهامة، طويل القامة، جليل القدر، رفيع الذكر، جلس بيننا وبين القوم وهم جميعا له معظمون ولشيبته وهيبته مبجلون.
فقلت لصاحبي: من هذا؟ فقال: هذا عالم الأرض والمريخ. فقلت: وكيف ذلك؟ فقال: أليس للحشرات فيما بينكم علماء؟ قلت: نعم. قال: فهاهنا لكل شيء في العالم أخصائيون، وهذا أخصائي في علم الأرض والمريخ، يدرس ما أنتم عليه من الأحوال، ليكون عبرة لهم ولمن بعدهم من الأجيال.
ولقد جاءوا به ليحل مشاكلكم السياسية، وعقدكم الاجتماعية، ويزيل المظالم الدولية، وليكون مخبرا أمينا، وصادقا شهيدا، ثم هو من وجه آخر يريد أن يهتدي إلى بعض ما غاب عنه بسؤالك، ويستخرج المجهول بجوابك، فليس كل ما لديكم عنده بحاصل، وما هو بكل دقيق وجليل عندكم بعالم، فأصغ إلى سؤاله واستعد لجوابه، فستستفيد وتفيد، ويسأل وتسأل، ويعلم وتعلم.
وهنا أصغت تلك الجموع، وخشعت القلوب، وخفتت الأصوات، وابتدأ الشيخ يقول: أيها الشخص ، لقد بلغني عنك الليلة ما بلغني، فقيل لي إنك أسد من الآساد. أفحق ما يقولون أم باطل ما يدعون؟ فقلت: كلا ومن فلق الحب والنوى، إن المخلوقات على سطح كرتنا على ثلاثة أقسام، نبات رأسه أسفل في الطين، وحيوان غير إنسان رأسه متجهة للجوانب الأربعة، والإنسان رأسه أعلى، فأنا من نوع الإنسان. فتبسم الشيخ وضحك وضحكوا، وقال: لعلكم كما قال شاعركم:
أما الخيام فإنها كخيامهم
وأرى رجال الحي غير رجاله
فاعترتني الدهشة وعجبت كيف يحفظ شعر شعرائنا، وجاش بخلدي أن هذه النفوس لها صلة بنفوسنا وعلم بآرائنا، وإلا فكيف يعرف ما درسناه ويدرس ما قرأناه.
ثم قال: أيها الفتى، أنت أجبتني بالإنسانية الجسمية، ونحن نريد الإنسانية المعنوية، صورتكم صورة الإنسان، معدة للرقي إلى عوالم العرفان، وهل بعد ارتفاع الرأس من شرف في الجثمانية، ولكني وجهت سؤالي إلى أخلاقكم وأعمالكم وآرائكم ونفوسكم، أأنتم آساد؟ قلت: كلا. فقال: خبرني ماذا فعلتم بالإنسانية؟ وبماذا ارتقيتم عن الحيوان؟ إن مقياس الإنسانية يتجاوز أخلاق الحيوانية، فقل لي: بمذا علوتم على الحيوان؟ فقلت: زرعنا الحقول، وأنضجنا البقول، وحفرنا الترع، وأقمنا الجسور، ونظمنا البلاد، ونفعنا العباد، وأدرنا الآلات، فسقت الحقل، وحصدت الزرع، وخاطت الثوب، وفصلت النعل، ونقلت المتاع، وحملت الإنسان والحيوان، وتكلمنا بعد أميال بالبرق والتلفون، بل إن الإشارة البرقية تطوف الكرة الأرضية في سدس ثانية زمنية.
قلت ذلك وهو يتبسم ويقول: أنا أسألك عن الإنسانية وأنت تشرح لي الحيوانية؛ إن الزرع والحصد والثوب يشارككم فيها الحيوان، فهو يأكل ويلبس ويعيش، وقصارى الأمر أنكم محتاجون لما نقصكم، ساعون لتلحقوا الحيوان، فهو سهل الغذاء، حاضر الملابس، وأنتم بتلكم الآلات والعدد الحديدية والعلوم تريدون إدراك شأوه، فأنتم للحيوانية ساعون مضطرون، وعلى الحياة مجبورون. ولكني سألتك عن الإنسانية، وما سرعة النقل والبريد وقرب التخاطب إلا لتملئوا بطونكم وتكسوا جلودكم، وتعولوا نساءكم وأبناءكم، فأنتم بهذا تسارعون في الحيوانية لا الإنسانية، وما سرعة الخطا ورغد العيش، وكثرة الألوان على المائدة، ولا الذهب والفضة، ولا الخيل المسومة، ولا الأنعام ولا الحرث ولا النسل إلا حطام الطعام، تشارككم فيها الأنعام أكالة الحشيش، كالنعجة والخروف والعنز والتيس والبقرة والجاموسة، ولو كانت سرعة السير إنسانية لكانت الأرانب أعظم منكم، وما سرعة البرق والبريد إلا صوت امتد في الفضاء، كما زاد صوت الجمل على النملة، فلم يوجب له فخارا ولم يدفع عنه عارا، وما الآلات البخارية للإنسان إلا أرجل جديدة يجري عليها، فقصارى أمركم أنكم زدتم حيوانية وبعدتم عن الإنسانية، فإذا كان معنى الإنسانية هي الحيوانية العظيمة، فالفيل إنسان بالنسبة للعنز وهذا لا يقول به العاقلون.
ثم أراني خريطة فيها صورة جيوش حرب السبعين، وحرب الروس مع الترك واليابان وغير ذلك، وقال: كيف قطعتم هذه الرءوس وأزلتم تلك النفوس؟! فقلت: إن لنا مدارس فيها الفنون الحربية، والآلات الدفاعية، وكيفية الكر والفر، والإقبال والإدبار، ولقد وصلنا اليوم إلى أربع درجات في الحرب، السفن الغاطسة المائية، والسفن الجارية فوق البحر، والجيوش المنظمة البرية، والمناطيد الجوية. إن العالم الإنساني اليوم زادت قوته، ووصل إلى أن اكتشف المنطاد ليحارب في الجو.
Unknown page