كلمة المترجم
الجزء الأول: الغرس
1 - الشيء الوحيد المطلوب
2 - قتل الأبرياء
3 - مخرج
4 - المستر باوندرباي
5 - كوكتاون
6 - فنون سليري بالخيول
7 - مسز سبارسيت
8 - لا تتعجب إطلاقا
Unknown page
9 - تقدم سيسي
10 - ستيفن بلاكبول
11 - لا طريق للخروج
12 - المرأة العجوز
13 - راشيل
14 - الصانع العظيم
15 - الأب وابنته
16 - الزوج والزوجة
الجزء الثاني: المحصول
1 - أعمال المصرف
Unknown page
2 - المستر جيمس هارتهاوس
3 - الكلب الصغير
4 - رجال وإخوة
5 - الرجال والرؤساء
6 - الرحيل
7 - البارود
8 - الانفجار
9 - سماعها لآخر مرة
10 - سلم مسز سبارسيت
11 - إلى أسفل وإلى أسفل
Unknown page
12 - إلى أسفل
الجزء الثالث: الحصاد
1 - شيء ضروري آخر
2 - قرار حاسم
3 - المفقود
4 - عثر عليه
5 - ضوء النجم
6 - مطاردة الكلب
7 - فلسفة
8 - الخاتمة
Unknown page
كلمة المترجم
الجزء الأول: الغرس
1 - الشيء الوحيد المطلوب
2 - قتل الأبرياء
3 - مخرج
4 - المستر باوندرباي
5 - كوكتاون
6 - فنون سليري بالخيول
7 - مسز سبارسيت
8 - لا تتعجب إطلاقا
Unknown page
9 - تقدم سيسي
10 - ستيفن بلاكبول
11 - لا طريق للخروج
12 - المرأة العجوز
13 - راشيل
14 - الصانع العظيم
15 - الأب وابنته
16 - الزوج والزوجة
الجزء الثاني: المحصول
1 - أعمال المصرف
Unknown page
2 - المستر جيمس هارتهاوس
3 - الكلب الصغير
4 - رجال وإخوة
5 - الرجال والرؤساء
6 - الرحيل
7 - البارود
8 - الانفجار
9 - سماعها لآخر مرة
10 - سلم مسز سبارسيت
11 - إلى أسفل وإلى أسفل
Unknown page
12 - إلى أسفل
الجزء الثالث: الحصاد
1 - شيء ضروري آخر
2 - قرار حاسم
3 - المفقود
4 - عثر عليه
5 - ضوء النجم
6 - مطاردة الكلب
7 - فلسفة
8 - الخاتمة
Unknown page
أوقات عصيبة
أوقات عصيبة
تأليف
تشارلز ديكنز
ترجمة
أمين سلامة
كلمة المترجم
بكل فخر يسعدني أن يكون لي شرف ترجمة هذا العمل الجليل القيم الذي كتبه في يوم من الأيام تشارلز ديكنز، ذلك الروائي الإنجليزي الذي ولد عام 1812م ومات عام 1870م، والذي ذاع صيته حتى أصبح واحدا من أشهر كتاب الرواية في إنجلترا.
وحسب معلوماتي فإن تشارلز ديكنز لم تبدأ شهرته الأدبية إلا بعد أن نشر انطباعاته عن لندن في كثير من المجلات الدورية. ولقد بدأ في تأليف رواياته الطويلة عام 1838 الذي كتب فيها روايته المشهورة «أوليفر تويست» ثم أعقبها بقصص «دافيد كوبرفيلد» والتي كتبها عام 1850، وتلي ذلك كتابته لرواية «أوراق بكويك» التي كتبها في الفترة بين 1836، 1837. ولعل أروع ما جاد به قلم هذا الروائي الممتاز روايته المشهورة «قصة مدينتين» وتدور كلها حول الثورة الفرنسية. وإن كنت أفتخر بأنني قرأت كل هذه الروايات بالإنجليزية، إلا أنه يسعدني أن أفيد القارئ بأن المكتبة العربية تزخر بترجمات رائعة بالعربية لهذه الأعمال الفائقة الجودة والشهرة.
وكما كتب تشارلز ديكنز الرواية الطويلة وحاز فيها قصب السبق، إلا أنه تعرض للقصة القصيرة وعالجها بكفاءة نادرة.
Unknown page
وأول ما تتميز به روايات ديكنز وقصصه ثراؤها الواسع بالوصف الدقيق للشخصيات وبعرضها الثري للحياة الاجتماعية في مختلف صورها، وبما فيها نزعة عاطفية، وانتقاد للشرور الاجتماعية، مثل السجن من أجل الديون، ومماطلات القضاء، وسوء التعليم.
ومن الجدير بالذكر أن كتابات ديكنز عجلت بالإصلاح في ميادين كثيرة.
وتعتبر رواية «أوقات عصيبة» التي كتبت عام 1854 من أشهر وألمع ما كتب تشارلز ديكنز.
أملي أن تلقى هذه الترجمة الأولى لهذا العمل الخارق الجودة، والبالغ المتعة ما تستحقه من ترحيب وتقدير، لعلني بذلك أقدم يد المساعدة للقارئ العربي وجميع طلاب مصر من الذين يدرسون هذه الرواية. ولقد أردت بترجمتها معاونتهم على فهم المتن الإنجليزي حتى تعم الفائدة ويتحقق المنشود، وحتى يقرأها أكبر عدد ممكن من طلاب المعرفة ومن عاشقي تشارلز ديكنز، ذلك الروائي العظيم على مدى الأيام والقرون.
والله ولي التوفيق!
أمين سلامة
1 / 1 / 1993
الجزء
الغرس
الباب الأول
Unknown page
الشيء الوحيد المطلوب
«ما أريده هو الحقائق. لا تلقن هؤلاء الأولاد والبنات شيئا غير الحقائق. ولا نحتاج، في الحياة إلى أي شيء سوى الحقائق. لا تزرع شيئا آخر، واقتلع كل ما عداها. لا يمكنك تكوين عقول الحيوانات العاقلة إلا بالحقائق، الحقائق وحدها، ولا شيء غيرها ينفعهم. هذا هو المبدأ الذي أنشئ عليه أطفالي، وهذا هو المبدأ الذي أربي بمقتضاه هؤلاء الأطفال. التزم بالحقائق، يا سيدي!»
كان المنظر فصلا دراسيا بسيطا مجردا، وإصبع المتكلم الثابتة، تؤكد ملاحظاته. ويساعد في التأكيد حائط جبهة المتكلم الواضحة، التي قاعدتها الحواجب، بينما كانت عيناه في كهفين مظلمين تحت ذلك الحائط. كما يساعد على التأكيد فم المتكلم الواسع والرفيع والثابت، كذلك ساعد في التأكيد صوت المتكلم القوي والجاف والدكتاتوري الآمر. وساعد في التأكيد، أيضا، شعر المتكلم الذي وقف على جانب رأسه كالأشجار. كما أن سترة المتكلم المناسبة، وساقيه الثابتتين، وكتفيه العريضتين، ساعدت كلها في التأكيد. وحتى ياقة سترته، بدت كما لو أنها أمسكته من خناقه، كحقيقة ثابتة.
تزحزح المتكلم والمدرس، والشخص الثالث الكبير الذي كان حاضرا، تزحزحوا كلهم قليلا إلى الخلف، وألقوا نظرة إلى التخوت المليئة بالأطفال، تلك الأوعية المرتبة بنظام، استعدادا لتنال مكاييل من الحقائق، تصب فيها حتى تملأها إلى حافاتها.
الباب الثاني
قتل الأبرياء
اعتاد ثوماس جرادجرايند
Thomas Gradgrind
أن يقدم نفسه، دائما، بنفس الألفاظ. «ثوماس جرادجرايند، يا سيدي! رجل الوقائع. رجل الحقائق والحسابات. رجل يسير على مبدأ أن اثنين واثنين، تكون أربعة ولا أكثر من ذلك. رجل لا يسمح بإمكان وجود شيء أكثر. ثوماس جرادجرايند، يا سيدي. يضع في جيبه، دائما، مسطرة وكفتي ميزان، يا سيدي، مستعدا ليزن ويقيس أي طرد من الطبيعة البشرية، ويخبرك بماهيته بالضبط. إنها مسألة أرقام، وحالة حساب بسيط؛ يمكنك أن تأمل في إدخال اعتقاد غير معقول في رأس جورج جرادجرايند، أو في رأس جون جرادجرايند، أما في رأس ثوماس جرادجرايند، فلا، يا سيدي!»
ثبت ثوماس جرادجرايند عينيه بإمعان على الأطفال الجالسين أمامه، والذين سيملؤهم تماما بالحقائق. كان نوعا من مدفع ضخم محشو بالحقائق، متأهبا لإطلاقها على الأطفال في طلقة واحدة.
Unknown page
قال المستر جرادجرايند: «الفتاة رقم عشرين.»
وهو يشير إليها بالضبط، بإصبعه الثابتة. «لست أعرف هذه الفتاة، من هي تلك الفتاة؟»
فقالت رقم عشرين: «أنا سيسي جوب
Sissy Jupe
يا سيدي». واحمر وجهها بشدة عندما وقفت.
فقال المستر جرادجرايند: «سيسي ليس اسما، لا تطلقي على نفسك اسم سيسي، وإنما أطلقي عليها سيسيليا
Cecilia .»
فأجابت الفتاة الصغيرة بصوت مضطرب، فقالت: «أبي هو الذي سماني سيسي، يا سيدي.»
فقال المستر جرادجرايند: «لا يحق له أن يسميك هكذا. أخبريه يا سيسيليا جوب بأنه لا يحق له أن يسميك هكذا. ولننظر الآن، ما مهنة والدك؟» - «إن طاب لك أن تعرف، يا سيدي، إنه يدرب الخيول للسيرك.»
بدا المستر جرادجرايند مستاء، وأشار بيده معبرا عن امتعاضه من هذه المهنة البغيضة. - «لا نريد أن نعرف شيئا عن مسارح السيرك هنا. والآن، يا سيسيليا، بماذا تعرفين الحصان؟»
Unknown page
ارتبكت سيسي جوب أعظم ارتباك بهذا الطلب.
فقال المستر جرادجرايند: «لا تستطيع الفتاة رقم عشرين تعريف الحصان. لا تعرف الفتاة رقم عشرين أية حقائق عن حيوان من أكثر الحيوانات شيوعا. هل يستطيع أحد الأولاد تعريف الحصان؟ عرفه لنا، يا بيتزر
Bitzer .»
تحركت الإصبع الثابتة، هنا وهناك، ثم توقفت فجأة وهي تشير إلى بيتزر. ربما لأن بيتزر تصادف أن كان يجلس في نفس مسار شعاع الشمس الساقط على سيسي. كانت سيسي في نهاية صف البنات، في الجانب المشمس من تلك الحجرة الواسعة العارية، وبيتزر في نهاية صف الأولاد من الجانب الآخر تسقط عليه نهاية شعاع الشمس، وإذ كانت سيسي سوداء العينيين، وفاحمة الشعر، بدت تنال أحلك لون من ضوء الشمس، بينما كان ذلك الغلام زاهي العينين، وزاهي الشعر، حتى إن نفس الأشعة بدت تأخذ منه قليلا من اللون الذي يملكه. كانت عيناه زاهيتين وباردتين، وبشرته بيضاء تبدو كما لو كانت ستنزف دما أبيض إن جرحت. ويكاد شعره القصير يكون بلون بشرته.
تحركت الإصبع الثابتة، هنا وهناك.
فقال المستر جرادجرايند: «ما هو تعريفك للحصان، يا بيتزر؟» - «حيوان من ذوات الأربع، له أربعون سنا، يفقد جلده في الربيع، نعرف عمره بعلامات في الفم.»
هكذا (وأكثر من هذا) يا بيتزر.
فقال المستر جرادجرايند: «والآن، يا فتاة رقم عشرين، ها أنت ذي تعرفين ما هو الحصان.»
قالت: «نعم يا سيدي». وكان لونها ستشتد حمرته إن أمكن ذلك. وجلس بيتزر ثانية.
خطا الشخص الثالث إلى الأمام، وكان رجلا عظيما، موظفا حكوميا، ولديه دائما خطة يرغم الحاضرين على قبولها، كما لو كانت دواء يبتلعونه.
Unknown page
قال: «والآن، افرضوا أنكم ذهبتم لشراء طنفسة لحجرة، فهل تشترون طنفسة مزخرفة بأزهار؟»
فقال معظم الأولاد: «لا»، ولم يقل «نعم» سوى القليل، ومنهم سيسي جوب.
فقال ذلك الرجل: «يا فتاة رقم عشرين». فوقفت، وقد احمر لونها بشدة.
قال: «إذن، فهل ستضعين طنفسة في حجرتك أو في حجرة زوجك، مزخرفة بالأزهار؟ لماذا ذلك؟»
فأجابت الفتاة تقول : «من فضلك يا سيدي، أنا مولعة جدا بالأزهار.» - «هل هذا هو السبب في أن تضعي عليها الموائد والمقاعد، وتسمحي للناس بأن يمشوا فوقها بأحذية ثقيلة؟» - «ذلك لا يضر الأزهار، يا سيدي. ستكون صورا لما هو جميل جدا، وسار وأتصور ...»
فصاح الرجل وقد سره تماما الوصول سعيدا إلى ما يريد. فقال: «يجب ألا تتصوري ... ينبغي ألا تتصوري.»
فقال ثوماس جرادجرايند، بجدية: «ينبغي ألا تفعلي أي شيء من هذا القبيل يا سيسيليا جوب.»
فقال الرجل: «الحقيقة، الحقيقة، الحقيقة» وكرر ثوماس جرادجرايند قوله: «الحقيقة، الحقيقة، الحقيقة.»
ثم قال ذلك الرجل: «يجب أن تسيري على نظام الحقيقة، وتحكمك الحقيقة. ينبغي أن تنسي كلمة تصور تمام النسيان. الواقع أنك لا تسيرين فوق أزهار. ولذا، لا يسمح لك بالسير فوق أزهار في الطنافس.»
جلست سيسي، وكانت صغيرة السن جدا وبدت كما لو كانت خائفة من موضوع عالم الحقيقة الماثل أمامها.
Unknown page
استدار الموظف الحكومي، نحو المستر جرادجرايند، وقال: «إن جاء المستر م. تشوكامتشايلد
M. Choakumchild
إلى هنا، وشرع يلقي أول درس له، فسأكون سعيدا لملاحظة طريقته.»
أخذ المدرس، وهو رجل اسكتلندي، يدعى م. تشوكامتشايلد، أخذ يلقي الدرس، بأحسن طريقة لديه .. لقد تخرج حديثا هو ومائة وأربعون مدرسا آخرين، في نفس الوقت، وفي نفس المعهد، وبنفس المبدأ كأنهم أرجل معزف متشابهة. درس العديد من الحقائق عن عدة موضوعات. ولو درس أقل من ذلك، فماذا يمكنه أن يعلم أكثر من هذا؟
الباب الثالث
مخرج
سار المستر جرايند عائدا من المدرسة إلى بيته وهو يشعر بالرضى التام؛ فهي مدرسته وقد صمم على أن تكون نموذجية، ويكون كل أطفالها نموذجيين مثلما كان أولاده، هو نفسه، نموذجيين.
كان المستر جرادجرايند يلقي المحاضرات إلى أطفاله الصغار، منذ السنوات الأولى من أعمارهم، وفي أغلب الأحيان بمجرد أن يستطيعوا الجري وحدهم، فيجروا إلى حجرة المحاضرات، وينظروا إلى سبورة كبيرة عليها علامات بالطباشير الأبيض.
ما من طفل من أولاد جرادجرايند، نظر إلى وجه في نور القمر. وما من طفل من أولاده تعلم أناشيد الحضانة السخيفة.
تقاعد المستر جرادجرايند من عمله ، وبنى لنفسه منزلا كبيرا في الريف، على مسافة حوالي كيلومتر من البلدة الصناعية الكبرى كوكتاون
Unknown page
Coketown
في شمالي إنجلترا. وكان يتحين كل فرصة ليجعل لنفسه اسما في البرلمان.
أطلق المستر جرادجرايند على بيته اسم «ستون لودج
Stone Lodge » ومعناه (المسكن الحجري). وكان بيتا ضخما، مربع الشكل، به عدة حجرات، جعل لأولاده منها حجرات للمواد الخام، وحجرة للمعادن. كل شيء مرتب بنظام وعليه بطاقة باسمه.
يسير المستر جرادجرايند نحو داره، وهو يشعر بالأمل وبالرضى. وكان أبا محبا. ولكنه ربما وصف نفسه بأنه عملي أساسا. ويفخر بأن غيره من الناس، يعتبرونه رجلا عمليا.
ما إن وصل المستر جرادجرايند إلى الجزء الخارجي من تلك البلدة التي لم تكن من الحواضر، ولا من الأرياف، حتى سمع صوت موسيقى، وشاهد فسطاط سيرك متجول، وأبصر علما يرفرف في قمة الفسطاط يعلن أنه «معرض سليري
Sleary
لركوب الخيل» وأعلنت الملصقات أن الآنسة جوزفين سليري
Josephine Sleary ، تعرض ألعابها على ظهور الخيل. كما تمكن رؤية السنيور جوب
Jupe
Unknown page
وكلابه المدربة، المعروفة باسم «ميري ليجز
Merry Lego »، ومعناها (الأرجل المرحة).
بينما كان المستر جرادجرايند يسرع بجانب ذلك المكان الصاخب، إذ أبصر فجأة جمعا من الأطفال خارجه، يحاولون استراق النظر إلى داخل الفسطاط، فلم يستحسن ذلك، واقترب ليرى ما إذا كان يعرف أحدا من أولئك الأطفال .. ومن أبصره هناك سوى ابنته لويزا
Louisa
تنظر خلال ثقب في الحائط، وابنه ثوماس راقدا على الأرض يحاول مراقبة أقدام الخيول؟ «يا لويزا! يا ثوماس!»
نهض كلاهما وقد احمر وجه ثوماس وبدا الخوف والخجل والقلق على محياهما، إلا أن لويزا نظرت إلى أبيها بجرأة أكثر مما فعل ثوماس .. الواقع أن ثوماس لم ينظر إليه، ولكنه استسلم لأن يؤخذ إلى البيت كما لو كان آلة.
قال المستر جرادجرايند: «ماذا تعملان هنا؟» وأمسك كلا منهما من يده، وقاده بعيدا.
فقالت لويزا، باختصار: «أردنا أن نرى ماذا هناك.»
بدا كل من الطفلين متعبا ومستاء، ولا سيما الفتاة. ومع ذلك، كان بوسعك أن ترى في وجهها تخيلا قلقا. أشبه بشعاع ضوء لا يجد شيئا يسقط عليه ، أو نار لا تجد ما تحرقه. وبقي هذا التخيل المتلهف، حيا، بطريقة ما.
ووضحت ملامح وجه الفتاة، ليس بالضوء الطبيعي للشباب المرح، وإنما بخلجات مرتابة غير متأكدة، تنم عن وجود شيء مؤلم فيها.
Unknown page
لويزا فتاة جميلة لا يزيد سنها على 15 أو 16 سنة. ولكن أباها فكر في أنها ستغدو امرأة فجأة، وستكون أكثر إصرارا على أن تسير بحسب طريقتها الخاصة لو لم تنشأ جيدا على ذلك النحو.
قال الأب: «يا ثوماس، إني لأجد صعوبة في أن أصدق أنك، رغم تعليمك، قد أحضرت أختك إلى منظر كهذا.»
فقالت لويزا، بسرعة: «أنا التي طلبت منه أن يأتي.» - «يؤسفني أن أسمع هذا؛ فهو لا يجعل ثوماس أفضل، ويجعلك أسوأ، يا لويزا.»
نظرت الفتاة إلى أبيها، مرة ثانية، ولكن ما من دمعة نزلت على خدها.
صاح المستر جرادجرايند، يقول: «أنت! ثوماس وأنت، يا من دائرة المعارف مفتوحة أمامكما. ثوماس وأنت، يا من يمكن القول بأنكما ملمان جيدا بالحقائق. ثوماس وأنت، يا من تدربتما على دقة الرياضيات. ثوماس وأنت، هنا! أنا مدهوش.»
فقالت لويزا: «كنت متعبة يا أبي، ظللت متعبة لوقت طويل.»
فسألها الأب المدهوش، بقوله: «متعبة؟ من أي شيء متعبة؟» - «لست أدري من أي شيء. متعبة من كل شيء، على ما أظن!» - «هذا كلام أطفال، ولن أسمع المزيد.»
لم يتكلم الأب ثانية، حتى ساروا مسافة نصف كيلومتر، بعد ذلك في صمت. ثم قال الأب في جدية: «ماذا يقول خير أصدقائك يا لويزا؟ ألا تقدرين رأيهم الحسن؟ ماذا يقول المستر باوندرباي
Bounderby ؟»
ما إن ذكر المستر جرادجرايند هذا الاسم حتى نظرت إليه ابنته بسرعة، نظرة فاحصة. ثم أسرعت بالنظر إلى أسفل مرة أخرى. ولم يبصر الأب هذه النظرة.
Unknown page
قال: «ماذا يقول المستر باوندرباي؟» وظل يكرر هذه العبارة، طوال الطريق، حتى وصلوا إلى ستون لودج، وهو يقود الأولاد إلى البيت. كان يكرر من وقت إلى آخر قوله: «ماذا يقول المستر باوندرباي؟»
الباب الرابع
المستر باوندرباي
من هو المستر باوندرباي؟
هو رجل غني: صاحب مصرف، وتاجر، وصانع ...
رجل كبير الجسم، عالي الصوت، لضحكته رنين، ينظر إليك نظرة شديدة. يتكون جسمه من مادة، يبدو أنها مدت لتجعله ضخما، يفخر دائما بأنه كون نفسه بنفسه. يقرر بصوته الجهوري الشبيه بصوت البوق النحاسي أنه كان في صباه فقيرا وجاهلا.
يصغر المستر باوندرباي صديقه العملي، المستر جرادجرايند، بسنة أو بسنتين، ولكنه يبدو أكبر منه سنا .. سقط كل شعره، ولم يبق منه سوى القليل. قد يخيل إلى المرء أنه محا شعره بكثرة كلامه. ربما كان الشعر الباقي في رأسه غير مرتب إذ تهب عليه باستمرار مباهاته بصوت عال، كأنه إعصار.
وقف المستر باوندرباي على البساط أمام وطيس حجرة الجلوس في ستون لودج، يتحدث مع مسز جرادجرايند، فيقول: «كنت حافي القدمين، وأنا طفل، ليس عندي حذاء. أما الجورب، فلم أعرف اسمه. كنت أقضي نهاري خارج البيت، وأنام ليلا مع الخنازير. هكذا قضيت عيد ميلادي العاشر.»
كانت مسز جرادجرايند، حزمة صغيرة من الملابس الرفيعة البيضاء، حمراء العينين. إنها ضعيفة الجسم والعقل، تتناول الدواء باستمرار، دون أية جدوى، وكلما أبدت علامة ما تدل على أنها حية، هزمتها قطعة عظيمة من الحقيقة. - «وهكذا، ها أنا ذا في يوم عيد ميلادي، يا مسز جرادجرايند، لا أشكر عليه أحدا غير نفسي.»
تمنت مسز جرادجرايند أن والدته ...
Unknown page
فقال المستر باوندرباي: «والدتي ماتت، يا سيدتي!»
لم تحاول مسز جرادجرايند أن تفهم.
فقال باوندرباي: «تركتني أمي لجدتي. وكانت جدتي أسوأ امرأة في هذه الدنيا. فلو حصلت على زوج أحذية بسيط، أخذته وباعته لتشتري بثمنه خمرا.»
ابتسمت مسز جرادجرايند، في ضعف، ولم تبد أية أمارة أخرى للحياة. تبدو، مثلما تبدو دائما، كأنها صورة فوتوغرافية لأنثى صغيرة، التقطت في نور غير كاف.
استطرد باوندرباي، يقول: «تملك جدتي حانوتا، وتحتفظ بي في صندوق بيض، كان فراشي أيام طفولتي، ولكنني ارتفعت فوق ذلك النوع من الحياة. فما إن كبرت حتى هربت، اشتغلت عاملا في مصنع، ثم كاتبا، ثم ارتقيت فصرت مدير مكتب. ثم شريكا في مؤسسة. ولكن المستر جوزياه باوندرباي
Josiah Bounderby ، لم يتلق تعليما، بل تعلم الحروف من واجهات الدكاكين . هذا هو مواطن كوكتاون، يا مسز جرادجرايند.»
عندئذ، دخل المستر جرادجرايند مع لويزا وثوماس الصغير.
صاح المستر باوندرباي، يقول: «ما الخطب؟ لماذا يبدو ثوماس الصغير مكتئبا؟» كان يتكلم عن ثوماس الصغير، ولكنه كان ينظر إلى لويزا.
فقالت لويزا بصوت منخفض، دون أن ترفع عينيها: «كنا نلقي نظرة إلى السيرك، فضبطنا أبونا.»
كانت مسز جرادجرايند حزمة صغيرة من الملابس الرفيعة البيضاء حمراء العينين.
Unknown page