كلمة المترجم
الجزء الأول: الغرس
1 - الشيء الوحيد المطلوب
2 - قتل الأبرياء
3 - مخرج
4 - المستر باوندرباي
5 - كوكتاون
6 - فنون سليري بالخيول
7 - مسز سبارسيت
8 - لا تتعجب إطلاقا
9 - تقدم سيسي
10 - ستيفن بلاكبول
11 - لا طريق للخروج
12 - المرأة العجوز
13 - راشيل
14 - الصانع العظيم
15 - الأب وابنته
16 - الزوج والزوجة
الجزء الثاني: المحصول
1 - أعمال المصرف
2 - المستر جيمس هارتهاوس
3 - الكلب الصغير
4 - رجال وإخوة
5 - الرجال والرؤساء
6 - الرحيل
7 - البارود
8 - الانفجار
9 - سماعها لآخر مرة
10 - سلم مسز سبارسيت
11 - إلى أسفل وإلى أسفل
12 - إلى أسفل
الجزء الثالث: الحصاد
1 - شيء ضروري آخر
2 - قرار حاسم
3 - المفقود
4 - عثر عليه
5 - ضوء النجم
6 - مطاردة الكلب
7 - فلسفة
8 - الخاتمة
كلمة المترجم
الجزء الأول: الغرس
1 - الشيء الوحيد المطلوب
2 - قتل الأبرياء
3 - مخرج
4 - المستر باوندرباي
5 - كوكتاون
6 - فنون سليري بالخيول
7 - مسز سبارسيت
8 - لا تتعجب إطلاقا
9 - تقدم سيسي
10 - ستيفن بلاكبول
11 - لا طريق للخروج
12 - المرأة العجوز
13 - راشيل
14 - الصانع العظيم
15 - الأب وابنته
16 - الزوج والزوجة
الجزء الثاني: المحصول
1 - أعمال المصرف
2 - المستر جيمس هارتهاوس
3 - الكلب الصغير
4 - رجال وإخوة
5 - الرجال والرؤساء
6 - الرحيل
7 - البارود
8 - الانفجار
9 - سماعها لآخر مرة
10 - سلم مسز سبارسيت
11 - إلى أسفل وإلى أسفل
12 - إلى أسفل
الجزء الثالث: الحصاد
1 - شيء ضروري آخر
2 - قرار حاسم
3 - المفقود
4 - عثر عليه
5 - ضوء النجم
6 - مطاردة الكلب
7 - فلسفة
8 - الخاتمة
أوقات عصيبة
أوقات عصيبة
تأليف
تشارلز ديكنز
ترجمة
أمين سلامة
كلمة المترجم
بكل فخر يسعدني أن يكون لي شرف ترجمة هذا العمل الجليل القيم الذي كتبه في يوم من الأيام تشارلز ديكنز، ذلك الروائي الإنجليزي الذي ولد عام 1812م ومات عام 1870م، والذي ذاع صيته حتى أصبح واحدا من أشهر كتاب الرواية في إنجلترا.
وحسب معلوماتي فإن تشارلز ديكنز لم تبدأ شهرته الأدبية إلا بعد أن نشر انطباعاته عن لندن في كثير من المجلات الدورية. ولقد بدأ في تأليف رواياته الطويلة عام 1838 الذي كتب فيها روايته المشهورة «أوليفر تويست» ثم أعقبها بقصص «دافيد كوبرفيلد» والتي كتبها عام 1850، وتلي ذلك كتابته لرواية «أوراق بكويك» التي كتبها في الفترة بين 1836، 1837. ولعل أروع ما جاد به قلم هذا الروائي الممتاز روايته المشهورة «قصة مدينتين» وتدور كلها حول الثورة الفرنسية. وإن كنت أفتخر بأنني قرأت كل هذه الروايات بالإنجليزية، إلا أنه يسعدني أن أفيد القارئ بأن المكتبة العربية تزخر بترجمات رائعة بالعربية لهذه الأعمال الفائقة الجودة والشهرة.
وكما كتب تشارلز ديكنز الرواية الطويلة وحاز فيها قصب السبق، إلا أنه تعرض للقصة القصيرة وعالجها بكفاءة نادرة.
وأول ما تتميز به روايات ديكنز وقصصه ثراؤها الواسع بالوصف الدقيق للشخصيات وبعرضها الثري للحياة الاجتماعية في مختلف صورها، وبما فيها نزعة عاطفية، وانتقاد للشرور الاجتماعية، مثل السجن من أجل الديون، ومماطلات القضاء، وسوء التعليم.
ومن الجدير بالذكر أن كتابات ديكنز عجلت بالإصلاح في ميادين كثيرة.
وتعتبر رواية «أوقات عصيبة» التي كتبت عام 1854 من أشهر وألمع ما كتب تشارلز ديكنز.
أملي أن تلقى هذه الترجمة الأولى لهذا العمل الخارق الجودة، والبالغ المتعة ما تستحقه من ترحيب وتقدير، لعلني بذلك أقدم يد المساعدة للقارئ العربي وجميع طلاب مصر من الذين يدرسون هذه الرواية. ولقد أردت بترجمتها معاونتهم على فهم المتن الإنجليزي حتى تعم الفائدة ويتحقق المنشود، وحتى يقرأها أكبر عدد ممكن من طلاب المعرفة ومن عاشقي تشارلز ديكنز، ذلك الروائي العظيم على مدى الأيام والقرون.
والله ولي التوفيق!
أمين سلامة
1 / 1 / 1993
الجزء
الغرس
الباب الأول
الشيء الوحيد المطلوب
«ما أريده هو الحقائق. لا تلقن هؤلاء الأولاد والبنات شيئا غير الحقائق. ولا نحتاج، في الحياة إلى أي شيء سوى الحقائق. لا تزرع شيئا آخر، واقتلع كل ما عداها. لا يمكنك تكوين عقول الحيوانات العاقلة إلا بالحقائق، الحقائق وحدها، ولا شيء غيرها ينفعهم. هذا هو المبدأ الذي أنشئ عليه أطفالي، وهذا هو المبدأ الذي أربي بمقتضاه هؤلاء الأطفال. التزم بالحقائق، يا سيدي!»
كان المنظر فصلا دراسيا بسيطا مجردا، وإصبع المتكلم الثابتة، تؤكد ملاحظاته. ويساعد في التأكيد حائط جبهة المتكلم الواضحة، التي قاعدتها الحواجب، بينما كانت عيناه في كهفين مظلمين تحت ذلك الحائط. كما يساعد على التأكيد فم المتكلم الواسع والرفيع والثابت، كذلك ساعد في التأكيد صوت المتكلم القوي والجاف والدكتاتوري الآمر. وساعد في التأكيد، أيضا، شعر المتكلم الذي وقف على جانب رأسه كالأشجار. كما أن سترة المتكلم المناسبة، وساقيه الثابتتين، وكتفيه العريضتين، ساعدت كلها في التأكيد. وحتى ياقة سترته، بدت كما لو أنها أمسكته من خناقه، كحقيقة ثابتة.
تزحزح المتكلم والمدرس، والشخص الثالث الكبير الذي كان حاضرا، تزحزحوا كلهم قليلا إلى الخلف، وألقوا نظرة إلى التخوت المليئة بالأطفال، تلك الأوعية المرتبة بنظام، استعدادا لتنال مكاييل من الحقائق، تصب فيها حتى تملأها إلى حافاتها.
الباب الثاني
قتل الأبرياء
اعتاد ثوماس جرادجرايند
Thomas Gradgrind
أن يقدم نفسه، دائما، بنفس الألفاظ. «ثوماس جرادجرايند، يا سيدي! رجل الوقائع. رجل الحقائق والحسابات. رجل يسير على مبدأ أن اثنين واثنين، تكون أربعة ولا أكثر من ذلك. رجل لا يسمح بإمكان وجود شيء أكثر. ثوماس جرادجرايند، يا سيدي. يضع في جيبه، دائما، مسطرة وكفتي ميزان، يا سيدي، مستعدا ليزن ويقيس أي طرد من الطبيعة البشرية، ويخبرك بماهيته بالضبط. إنها مسألة أرقام، وحالة حساب بسيط؛ يمكنك أن تأمل في إدخال اعتقاد غير معقول في رأس جورج جرادجرايند، أو في رأس جون جرادجرايند، أما في رأس ثوماس جرادجرايند، فلا، يا سيدي!»
ثبت ثوماس جرادجرايند عينيه بإمعان على الأطفال الجالسين أمامه، والذين سيملؤهم تماما بالحقائق. كان نوعا من مدفع ضخم محشو بالحقائق، متأهبا لإطلاقها على الأطفال في طلقة واحدة.
قال المستر جرادجرايند: «الفتاة رقم عشرين.»
وهو يشير إليها بالضبط، بإصبعه الثابتة. «لست أعرف هذه الفتاة، من هي تلك الفتاة؟»
فقالت رقم عشرين: «أنا سيسي جوب
Sissy Jupe
يا سيدي». واحمر وجهها بشدة عندما وقفت.
فقال المستر جرادجرايند: «سيسي ليس اسما، لا تطلقي على نفسك اسم سيسي، وإنما أطلقي عليها سيسيليا
Cecilia .»
فأجابت الفتاة الصغيرة بصوت مضطرب، فقالت: «أبي هو الذي سماني سيسي، يا سيدي.»
فقال المستر جرادجرايند: «لا يحق له أن يسميك هكذا. أخبريه يا سيسيليا جوب بأنه لا يحق له أن يسميك هكذا. ولننظر الآن، ما مهنة والدك؟» - «إن طاب لك أن تعرف، يا سيدي، إنه يدرب الخيول للسيرك.»
بدا المستر جرادجرايند مستاء، وأشار بيده معبرا عن امتعاضه من هذه المهنة البغيضة. - «لا نريد أن نعرف شيئا عن مسارح السيرك هنا. والآن، يا سيسيليا، بماذا تعرفين الحصان؟»
ارتبكت سيسي جوب أعظم ارتباك بهذا الطلب.
فقال المستر جرادجرايند: «لا تستطيع الفتاة رقم عشرين تعريف الحصان. لا تعرف الفتاة رقم عشرين أية حقائق عن حيوان من أكثر الحيوانات شيوعا. هل يستطيع أحد الأولاد تعريف الحصان؟ عرفه لنا، يا بيتزر
Bitzer .»
تحركت الإصبع الثابتة، هنا وهناك، ثم توقفت فجأة وهي تشير إلى بيتزر. ربما لأن بيتزر تصادف أن كان يجلس في نفس مسار شعاع الشمس الساقط على سيسي. كانت سيسي في نهاية صف البنات، في الجانب المشمس من تلك الحجرة الواسعة العارية، وبيتزر في نهاية صف الأولاد من الجانب الآخر تسقط عليه نهاية شعاع الشمس، وإذ كانت سيسي سوداء العينيين، وفاحمة الشعر، بدت تنال أحلك لون من ضوء الشمس، بينما كان ذلك الغلام زاهي العينين، وزاهي الشعر، حتى إن نفس الأشعة بدت تأخذ منه قليلا من اللون الذي يملكه. كانت عيناه زاهيتين وباردتين، وبشرته بيضاء تبدو كما لو كانت ستنزف دما أبيض إن جرحت. ويكاد شعره القصير يكون بلون بشرته.
تحركت الإصبع الثابتة، هنا وهناك.
فقال المستر جرادجرايند: «ما هو تعريفك للحصان، يا بيتزر؟» - «حيوان من ذوات الأربع، له أربعون سنا، يفقد جلده في الربيع، نعرف عمره بعلامات في الفم.»
هكذا (وأكثر من هذا) يا بيتزر.
فقال المستر جرادجرايند: «والآن، يا فتاة رقم عشرين، ها أنت ذي تعرفين ما هو الحصان.»
قالت: «نعم يا سيدي». وكان لونها ستشتد حمرته إن أمكن ذلك. وجلس بيتزر ثانية.
خطا الشخص الثالث إلى الأمام، وكان رجلا عظيما، موظفا حكوميا، ولديه دائما خطة يرغم الحاضرين على قبولها، كما لو كانت دواء يبتلعونه.
قال: «والآن، افرضوا أنكم ذهبتم لشراء طنفسة لحجرة، فهل تشترون طنفسة مزخرفة بأزهار؟»
فقال معظم الأولاد: «لا»، ولم يقل «نعم» سوى القليل، ومنهم سيسي جوب.
فقال ذلك الرجل: «يا فتاة رقم عشرين». فوقفت، وقد احمر لونها بشدة.
قال: «إذن، فهل ستضعين طنفسة في حجرتك أو في حجرة زوجك، مزخرفة بالأزهار؟ لماذا ذلك؟»
فأجابت الفتاة تقول : «من فضلك يا سيدي، أنا مولعة جدا بالأزهار.» - «هل هذا هو السبب في أن تضعي عليها الموائد والمقاعد، وتسمحي للناس بأن يمشوا فوقها بأحذية ثقيلة؟» - «ذلك لا يضر الأزهار، يا سيدي. ستكون صورا لما هو جميل جدا، وسار وأتصور ...»
فصاح الرجل وقد سره تماما الوصول سعيدا إلى ما يريد. فقال: «يجب ألا تتصوري ... ينبغي ألا تتصوري.»
فقال ثوماس جرادجرايند، بجدية: «ينبغي ألا تفعلي أي شيء من هذا القبيل يا سيسيليا جوب.»
فقال الرجل: «الحقيقة، الحقيقة، الحقيقة» وكرر ثوماس جرادجرايند قوله: «الحقيقة، الحقيقة، الحقيقة.»
ثم قال ذلك الرجل: «يجب أن تسيري على نظام الحقيقة، وتحكمك الحقيقة. ينبغي أن تنسي كلمة تصور تمام النسيان. الواقع أنك لا تسيرين فوق أزهار. ولذا، لا يسمح لك بالسير فوق أزهار في الطنافس.»
جلست سيسي، وكانت صغيرة السن جدا وبدت كما لو كانت خائفة من موضوع عالم الحقيقة الماثل أمامها.
استدار الموظف الحكومي، نحو المستر جرادجرايند، وقال: «إن جاء المستر م. تشوكامتشايلد
M. Choakumchild
إلى هنا، وشرع يلقي أول درس له، فسأكون سعيدا لملاحظة طريقته.»
أخذ المدرس، وهو رجل اسكتلندي، يدعى م. تشوكامتشايلد، أخذ يلقي الدرس، بأحسن طريقة لديه .. لقد تخرج حديثا هو ومائة وأربعون مدرسا آخرين، في نفس الوقت، وفي نفس المعهد، وبنفس المبدأ كأنهم أرجل معزف متشابهة. درس العديد من الحقائق عن عدة موضوعات. ولو درس أقل من ذلك، فماذا يمكنه أن يعلم أكثر من هذا؟
الباب الثالث
مخرج
سار المستر جرايند عائدا من المدرسة إلى بيته وهو يشعر بالرضى التام؛ فهي مدرسته وقد صمم على أن تكون نموذجية، ويكون كل أطفالها نموذجيين مثلما كان أولاده، هو نفسه، نموذجيين.
كان المستر جرادجرايند يلقي المحاضرات إلى أطفاله الصغار، منذ السنوات الأولى من أعمارهم، وفي أغلب الأحيان بمجرد أن يستطيعوا الجري وحدهم، فيجروا إلى حجرة المحاضرات، وينظروا إلى سبورة كبيرة عليها علامات بالطباشير الأبيض.
ما من طفل من أولاد جرادجرايند، نظر إلى وجه في نور القمر. وما من طفل من أولاده تعلم أناشيد الحضانة السخيفة.
تقاعد المستر جرادجرايند من عمله ، وبنى لنفسه منزلا كبيرا في الريف، على مسافة حوالي كيلومتر من البلدة الصناعية الكبرى كوكتاون
Coketown
في شمالي إنجلترا. وكان يتحين كل فرصة ليجعل لنفسه اسما في البرلمان.
أطلق المستر جرادجرايند على بيته اسم «ستون لودج
Stone Lodge » ومعناه (المسكن الحجري). وكان بيتا ضخما، مربع الشكل، به عدة حجرات، جعل لأولاده منها حجرات للمواد الخام، وحجرة للمعادن. كل شيء مرتب بنظام وعليه بطاقة باسمه.
يسير المستر جرادجرايند نحو داره، وهو يشعر بالأمل وبالرضى. وكان أبا محبا. ولكنه ربما وصف نفسه بأنه عملي أساسا. ويفخر بأن غيره من الناس، يعتبرونه رجلا عمليا.
ما إن وصل المستر جرادجرايند إلى الجزء الخارجي من تلك البلدة التي لم تكن من الحواضر، ولا من الأرياف، حتى سمع صوت موسيقى، وشاهد فسطاط سيرك متجول، وأبصر علما يرفرف في قمة الفسطاط يعلن أنه «معرض سليري
Sleary
لركوب الخيل» وأعلنت الملصقات أن الآنسة جوزفين سليري
Josephine Sleary ، تعرض ألعابها على ظهور الخيل. كما تمكن رؤية السنيور جوب
Jupe
وكلابه المدربة، المعروفة باسم «ميري ليجز
Merry Lego »، ومعناها (الأرجل المرحة).
بينما كان المستر جرادجرايند يسرع بجانب ذلك المكان الصاخب، إذ أبصر فجأة جمعا من الأطفال خارجه، يحاولون استراق النظر إلى داخل الفسطاط، فلم يستحسن ذلك، واقترب ليرى ما إذا كان يعرف أحدا من أولئك الأطفال .. ومن أبصره هناك سوى ابنته لويزا
Louisa
تنظر خلال ثقب في الحائط، وابنه ثوماس راقدا على الأرض يحاول مراقبة أقدام الخيول؟ «يا لويزا! يا ثوماس!»
نهض كلاهما وقد احمر وجه ثوماس وبدا الخوف والخجل والقلق على محياهما، إلا أن لويزا نظرت إلى أبيها بجرأة أكثر مما فعل ثوماس .. الواقع أن ثوماس لم ينظر إليه، ولكنه استسلم لأن يؤخذ إلى البيت كما لو كان آلة.
قال المستر جرادجرايند: «ماذا تعملان هنا؟» وأمسك كلا منهما من يده، وقاده بعيدا.
فقالت لويزا، باختصار: «أردنا أن نرى ماذا هناك.»
بدا كل من الطفلين متعبا ومستاء، ولا سيما الفتاة. ومع ذلك، كان بوسعك أن ترى في وجهها تخيلا قلقا. أشبه بشعاع ضوء لا يجد شيئا يسقط عليه ، أو نار لا تجد ما تحرقه. وبقي هذا التخيل المتلهف، حيا، بطريقة ما.
ووضحت ملامح وجه الفتاة، ليس بالضوء الطبيعي للشباب المرح، وإنما بخلجات مرتابة غير متأكدة، تنم عن وجود شيء مؤلم فيها.
لويزا فتاة جميلة لا يزيد سنها على 15 أو 16 سنة. ولكن أباها فكر في أنها ستغدو امرأة فجأة، وستكون أكثر إصرارا على أن تسير بحسب طريقتها الخاصة لو لم تنشأ جيدا على ذلك النحو.
قال الأب: «يا ثوماس، إني لأجد صعوبة في أن أصدق أنك، رغم تعليمك، قد أحضرت أختك إلى منظر كهذا.»
فقالت لويزا، بسرعة: «أنا التي طلبت منه أن يأتي.» - «يؤسفني أن أسمع هذا؛ فهو لا يجعل ثوماس أفضل، ويجعلك أسوأ، يا لويزا.»
نظرت الفتاة إلى أبيها، مرة ثانية، ولكن ما من دمعة نزلت على خدها.
صاح المستر جرادجرايند، يقول: «أنت! ثوماس وأنت، يا من دائرة المعارف مفتوحة أمامكما. ثوماس وأنت، يا من يمكن القول بأنكما ملمان جيدا بالحقائق. ثوماس وأنت، يا من تدربتما على دقة الرياضيات. ثوماس وأنت، هنا! أنا مدهوش.»
فقالت لويزا: «كنت متعبة يا أبي، ظللت متعبة لوقت طويل.»
فسألها الأب المدهوش، بقوله: «متعبة؟ من أي شيء متعبة؟» - «لست أدري من أي شيء. متعبة من كل شيء، على ما أظن!» - «هذا كلام أطفال، ولن أسمع المزيد.»
لم يتكلم الأب ثانية، حتى ساروا مسافة نصف كيلومتر، بعد ذلك في صمت. ثم قال الأب في جدية: «ماذا يقول خير أصدقائك يا لويزا؟ ألا تقدرين رأيهم الحسن؟ ماذا يقول المستر باوندرباي
Bounderby ؟»
ما إن ذكر المستر جرادجرايند هذا الاسم حتى نظرت إليه ابنته بسرعة، نظرة فاحصة. ثم أسرعت بالنظر إلى أسفل مرة أخرى. ولم يبصر الأب هذه النظرة.
قال: «ماذا يقول المستر باوندرباي؟» وظل يكرر هذه العبارة، طوال الطريق، حتى وصلوا إلى ستون لودج، وهو يقود الأولاد إلى البيت. كان يكرر من وقت إلى آخر قوله: «ماذا يقول المستر باوندرباي؟»
الباب الرابع
المستر باوندرباي
من هو المستر باوندرباي؟
هو رجل غني: صاحب مصرف، وتاجر، وصانع ...
رجل كبير الجسم، عالي الصوت، لضحكته رنين، ينظر إليك نظرة شديدة. يتكون جسمه من مادة، يبدو أنها مدت لتجعله ضخما، يفخر دائما بأنه كون نفسه بنفسه. يقرر بصوته الجهوري الشبيه بصوت البوق النحاسي أنه كان في صباه فقيرا وجاهلا.
يصغر المستر باوندرباي صديقه العملي، المستر جرادجرايند، بسنة أو بسنتين، ولكنه يبدو أكبر منه سنا .. سقط كل شعره، ولم يبق منه سوى القليل. قد يخيل إلى المرء أنه محا شعره بكثرة كلامه. ربما كان الشعر الباقي في رأسه غير مرتب إذ تهب عليه باستمرار مباهاته بصوت عال، كأنه إعصار.
وقف المستر باوندرباي على البساط أمام وطيس حجرة الجلوس في ستون لودج، يتحدث مع مسز جرادجرايند، فيقول: «كنت حافي القدمين، وأنا طفل، ليس عندي حذاء. أما الجورب، فلم أعرف اسمه. كنت أقضي نهاري خارج البيت، وأنام ليلا مع الخنازير. هكذا قضيت عيد ميلادي العاشر.»
كانت مسز جرادجرايند، حزمة صغيرة من الملابس الرفيعة البيضاء، حمراء العينين. إنها ضعيفة الجسم والعقل، تتناول الدواء باستمرار، دون أية جدوى، وكلما أبدت علامة ما تدل على أنها حية، هزمتها قطعة عظيمة من الحقيقة. - «وهكذا، ها أنا ذا في يوم عيد ميلادي، يا مسز جرادجرايند، لا أشكر عليه أحدا غير نفسي.»
تمنت مسز جرادجرايند أن والدته ...
فقال المستر باوندرباي: «والدتي ماتت، يا سيدتي!»
لم تحاول مسز جرادجرايند أن تفهم.
فقال باوندرباي: «تركتني أمي لجدتي. وكانت جدتي أسوأ امرأة في هذه الدنيا. فلو حصلت على زوج أحذية بسيط، أخذته وباعته لتشتري بثمنه خمرا.»
ابتسمت مسز جرادجرايند، في ضعف، ولم تبد أية أمارة أخرى للحياة. تبدو، مثلما تبدو دائما، كأنها صورة فوتوغرافية لأنثى صغيرة، التقطت في نور غير كاف.
استطرد باوندرباي، يقول: «تملك جدتي حانوتا، وتحتفظ بي في صندوق بيض، كان فراشي أيام طفولتي، ولكنني ارتفعت فوق ذلك النوع من الحياة. فما إن كبرت حتى هربت، اشتغلت عاملا في مصنع، ثم كاتبا، ثم ارتقيت فصرت مدير مكتب. ثم شريكا في مؤسسة. ولكن المستر جوزياه باوندرباي
Josiah Bounderby ، لم يتلق تعليما، بل تعلم الحروف من واجهات الدكاكين . هذا هو مواطن كوكتاون، يا مسز جرادجرايند.»
عندئذ، دخل المستر جرادجرايند مع لويزا وثوماس الصغير.
صاح المستر باوندرباي، يقول: «ما الخطب؟ لماذا يبدو ثوماس الصغير مكتئبا؟» كان يتكلم عن ثوماس الصغير، ولكنه كان ينظر إلى لويزا.
فقالت لويزا بصوت منخفض، دون أن ترفع عينيها: «كنا نلقي نظرة إلى السيرك، فضبطنا أبونا.»
كانت مسز جرادجرايند حزمة صغيرة من الملابس الرفيعة البيضاء حمراء العينين.
فقال الأب: «يا مستر باوندرباي، بدا الأمر كما لو أنني وجدت أطفالي يقرءون الشعر.»
فقالت مسز جرادجرايند بصوت ضعيف: «يتملكني العجب منكما. كيف أمكنك، يا لويزا، وأنت يا ثوماس، أن تفعلا ذلك؟ إنكما لتجعلاني أسفا على أن لي أسرة. كم أتمنى لو أنه ما كانت لي أسرة! ماذا فعلتما؟ أريد أن أعرف.»
لم يظهر في ملامح المستر جرادجرايند ما يفيد تأثره بمنطق زوجته، بل بدا عليه القلق.
استأنفت مسز جرادجرايند حديثها، فقالت: «لماذا لم تذهبا لمشاهدة قواقعكما، والمواد الخام، والأشياء العلمية، بدلا من مشاهدة مسارح السيرك؟ أنا على يقين من أن لديكما ما يكفي لتعملاه. إن كان هذا هو ما تريدانه. ورأسي بحالته الحاضرة، أن أتذكر نصف الحقائق، فهناك الكثير منها.»
أمرت مسز جرادجرايند طفليها بالعودة إلى حجرة استذكار دروسهما. وبقيت وحدها مع زوجها والمستر باوندرباي، وراحت مرة أخرى في غيبوبة؛ ولكن لم يلتفت إليها أحد.
قال المستر جرادجرايند: «يا باوندرباي، أنت مولع دائما بطفلي، وخصوصا لويزا - أقول لك هذا صراحة - لقد استأت كثيرا، إذ خططت بحساب تعليم دقيق عقل أسرتي. يجب توجيه التعليم إلى العقل كما تعرف. فلماذا شغفا بذلك السيرك؟»
أجاب صديقه، يقول: «أقول لك لماذا؟ إنه الخيال السيئ».
فقال الأب العملي: «آمل في ألا يكون كذلك، ولكن يدور بخلدي: هل يمكن أن يكون ثوماس ولويزا، قد قرآ كتاب قصص سيئا؟ كيف وصل مثل ذلك الكتاب إلى هذا البيت؟»
فقال باوندرباي: «انتظر لحظة؛ لديك في المدرسة طفلة من السيرك.»
قال: «إنها سيسيليا جوب.»
فقال باوندرباي: «إذن، فسأخبرك بما تفعله. افصل هذه البنت من المدرسة ، ينتهي الأمر .» «نعم؛ أنا من رأيك تماما.»
فقال باوندرباي: «افصلها في الحال، كان هذا هو اعتقادي دائما. افصلها فورا.»
فقال صديقه: «لدي عنوان أبيها، سأذهب إلى البلدة. ألديك مانع من أن تذهب معي؟»
فأجاب باوندرباي، يقول: «ولا أقل مانع، على شرط أن تفصلها في الحال.»
وعلى هذا ألقى المستر باوندرباي قبعته على رأسه. إنه يلقيها دائما ليبين أنه رجل مشغول بأمور هامة وليس لديه وقت ليلبس قبعته بعناية.
بينما كان المستر جرادجرايند يبحث عن العنوان، زار المستر باوندرباي؛ لويزا وثوماس الصغير في حجرتهما.
فقال لهما: «اتفقنا الآن يا لويزا، واتفقنا الآن يا ثوماس الصغير، لن تذهبا إلى السيرك بعد ذلك، ولن يقول أبوكما شيئا عن هذا الموضوع. إذن، يا لويزا، فأنت تستحقين قبلة على هذا. أليس كذلك؟»
فقالت لويزا، وقد وقفت ببرود: «يمكنك أن تأخذها يا مستر باوندرباي.» وسارت ببطء عبر الحجرة، ورفعت خدها نحوه، وقد أدارت وجهها بعيدا. - «أنت دائما عزيزة عندي يا لويزا، أليس كذلك؟»
انصرف المستر باوندرباي، ولكن لويزا بقيت واقفة في نفس المكان، تمسح بمنديل خدها الذي قبله المستر باوندرباي.
الباب الخامس
كوكتاون
كوكتاون بلدة مبنية بالطوب الأحمر أو بالطوب الذي يسمح له الدخان والرماد بأن يبدو أحمر اللون .. إنها بلدة الآلات والمداخن العالية التي يتصاعد منها الدخان كثيفا فيدور ويدور في الهواء بلا نهاية ولا انقطاع.
بتلك البلدة قناة سوداء، ونهر قذر. وتضم المباني الصناعية الضخمة المليئة بالنوافذ، والتي يستمر الطرق والارتجاج فيها طول اليوم. فتتحرك ذراع الآلة البخارية علوا وانخفاضا باستمرار، كأنها رأس فيل غاضب هائج.
في كوكتاون كثير من الشوارع الكبيرة، كل منها يشبه الآخر تمام الشبه، وبها كثير من الشوارع الصغيرة المتشابهة أيضا، ويسكنها أناس كل واحد منهم مثل الآخر. يدخلون ويخرجون جميعا في نفس الوقت وبنفس الصخب، وعلى نفس الطوار ليؤدوا نفس العمل. وكل شخص منهم يرى اليوم مثل الأمس ومثل الغد، وكل سنة مثل السنة القادمة.
كوكتاون بلدة الحقيقة، لا خيال فيها. بنيت كنائسها مثل المصانع، ومنظر المستشفى بها كمنظر السجن. وجميع اللافتات بتلك البلدة منقوشة نقشا متشابها، بحروف من الأسود والأبيض.
كوكتاون بلدة الآلات والمداخن العالية التي يتصاعد منها الدخان.
الحقيقة، الحقيقة، الحقيقة، بكل موضع في المظاهر الهامة بهذه البلدة. والحقيقة، الحقيقة، الحقيقة في كل مكان بالمظاهر غير الهامة، والمدرسة كلها حقيقة. والعلاقات بين الرئيس والعامل في المصانع، كلها حقيقة. وكل شيء حقيقة بين الميلاد والوفاة، وليس هناك أي شيء لا يمكنك ذكره بالأرقام. ولا يمكن أن يوجد شيء بوسعك أن تشتريه رخيصا وتبيعه غاليا.
يحيرني ما إذا كان من الممكن أن يوجد شبه بين أهل كوكتاون، وبين أبناء أسرة جرادجرايند الصغار. وهل يمكن أن يشبهوا أولاد عائلة جرادجرايند في حاجاتهم إلى التسلية؟
بينما يسير المستر جرادجرايند، والمستر باوندرباي في طريقهما لمقابلة المستر جوب؛ التقيا بسيسيليا جوب، أرسلها أبوها لتشتري له زيتا يدهن به جسمه، إذ أصيب في حلبة السيرك. فقادتهما إلى فندق صغير اسمه «ذراعا بيجاسوس
»، يقيم به أبوها وبعض موظفي السيرك.
الباب السادس
فنون سليري بالخيول
لم يكن بالفندق ولا خارجه أي دليل على وجود المستر جوب، جرت سيسي من الفندق إلى السيرك ووجهها ينم عن الرعب الشديد. وشعرها الطويل الفاحم يطير خلف ظهرها وهي تجري بحثا عن أبيها.
أثناء غياب سيسي، تحدث أحد لاعبي السيرك، واسمه تشايلدرز
Chiders ، مع المستر جرادجرايند، فأفهمه أن والد سيسي لم يكن يؤدي عروضه كما ينبغي، في الآونة الأخيرة، في حلبة السيرك.
فقال المستر جرادجرايند: «معي رسالة للمستر جوب»، فقال المستر تشايلدرز: «أرى أنه لن يتسلمها. هل تعرف الكثير عنه؟»
فقال جرادجرايند: «لم أره في حياتي.»
قال: «وأنا أشك فيما إذا كنت ستراه. من الواضح جدا أنه هرب.» - «أتقصد أنه هجر ابنته؟»
فقال تشايلدرز: «نعم؛ إنه هرب؛ لقد دبت الشيخوخة في عضده، فما عاد يقوم بعروضه جيدا، والمتفرجون لا يحبونه الآن، وابنته لا تعرف هذا، وهو لا يريدها أن تعرف، رأيناه ينصرف وقد أمال قبعته فوق عينيه، وتحت ذراعه صرة مربوطة بمنديل، ولكن سيسي لن تصدق أبدا أنه هرب وتركها.»
فقال المستر جرادجرايند: «لماذا لا تصدق؟» - «لأنه هو وابنته، لم يكونا شخصين، بل كانا شخصا واحدا، لم يفترقا أبدا. أراد والدها أن يعلمها، ولكن كيف يدخل التعليم رأسها؟! لا أستطيع أن أعرف، وكل ما أعرفه هو أنه لم يخرج أبدا. فنحن معشر أعضاء السيرك، لا نستقر في أي مكان، بل نتنقل دائما، ولكن .. لماذا دخلت سيسي المدرسة؟ سر أبوها لهذا سرورا بالغا. ربما ظن أن التعليم سيتكفل بمستقبلها، وربما لأنه كان ينوي دائما أن يهرب. وعلى هذا؛ إن كان بوسعك أن تساعد سيسي الآن بطريقة ما؛ كان هذا من حسن الحظ، من الحظ الحسن جدا، وفي الوقت المناسب.»
فقال المستر جرادجرايند: «بالعكس، جئت إلى هنا لأخبر المستر جوب بأن ماضي سيسيليا في السيرك، لا يصلح لمدرستنا، يجب ألا تأتي إليها في المستقبل، ولكن، طالما أن والدها تركها .. اسمح لي يا باوندرباي بكلمة معك.»
تكلم الرجلان معا لبرهة من الوقت، فحاول المستر باوندرباي أن يحث جرادجرايند على ألا يحتفظ بسيسي في المدرسة.
في تلك الأثناء، جاء مختلف أعضاء سيرك سليري إلى الحجرة، ووقفوا يتكلمون بأصوات هادئة. وأخيرا؛ قدم المستر سليري صاحب السيرك. وكان رجلا كبير الجسم، خشن الصوت. فثبت إحدى عينيه بينما تسرح العين الأخرى فيما حواليه.
فقال للمستر جرادجرايند، وهو يلهث: «هذه مسألة غير طيبة يا سيدي. سمعت أن المستر جوب وكلبه المدرب قد هربا. فهل بوسعك أن تفعل شيئا لهذه البنت المسكينة؟»
عند ذلك رجعت سيسي، فلما أبصرت الحجرة مليئة بالناس، وليس أبوها بينهم، انخرطت في البكاء، فأمسكها أعضاء السيرك وهدءوها.
وإذ كان المستر جرادجرايند رجلا متعقلا وعمليا، كعادته، تكلم يقول: «ليس من المهم أن نتوقع عودة ذلك الرجل، أو عدم عودته .. إنه هرب، وليس من المتوقع الآن أن يعود؛ هذا هو ما يتفق عليه كل واحد منا، على ما أظن.»
فقال سليري: «هذا متفق عليه، يا سيدي.» - «والآن، يا سيسيليا جوب، أريد أن أتكفل بك وأعلمك. والشرط الوحيد الذي أطلبه، هو ألا تتصلي بأي واحد من أصدقائك هؤلاء.»
عندئذ سأل المستر سليري سيسي عما إذا كانت تفضل البقاء معهم وتتعلم لتصير واحدة من عارضات السيرك.
بينما تفكر سيسي في هذا الموضوع، قال المستر جرادجرايند: «الملاحظة الوحيدة التي أبديها لك، يا سيسيليا جوب، هي أنه من الضروري جدا لك، أن تحصلي على تعليم عملي طيب؛ فحتى والدك نفسه، يبدو أنه عرف ذلك وشعر به.»
من الجلي أنه كان لهذه الألفاظ الأخيرة تأثير ملحوظ على سيسي. فتوقفت عن البكاء، وواجهت المستر جرادجرايند.
همس أعضاء السيرك، يقولون: «إنها ستذهب.»
صاحت سيسي تقول: «ولكن؛ إن رجع أبي، فكيف يعثر علي إن ذهبت؟»
فقال المستر جرادجرايند: «لا تشغلي بالك بهذا الأمر، في هذه الحالة سيسأل أبوك المستر سليري عن مكانك.»
ساد الجو سكون تام، ثم صاحت سيسي تقول: «أعطوني ملابسي، ودعوني أذهب، قبل أن أكسر قلبي.»
أحضرت نساء السيرك ممتلكات سيسي القليلة فقبلتهن قبلة الوداع. وعندما ذهبت لتوديع الذكور من أعضاء السيرك، كان على كل واحد منهم أن يمد ذراعيه، فعلوا ذلك جميعا، لأنها عادتهم عندما يكونون في حضرة سيد حلبتهم المستر سليري، ثم قبلها كل واحد منهم قبلة الوداع.
فتح المستر سليري ذراعيه، وأمسك سيسي من كلتا يديها، كما لو كان لا يزال سيد ركوب الخيل وأنها نزلت لتوها على الأرض من فوق ظهر حصان.
قال المستر سليري: «وداعا، يا عزيزتي! هذه هي آخر كلماتي إليك، كوني مطيعة للمستر جرادجرايند، وانسينا نسيانا تاما، ولكن عندما تكبرين وتتزوجين، وتصيرين غنية، فإن التقيت بأي سيرك، فلا تشمئزي منه، يجب تسلية الناس.» ثم استطرد كلامه يخاطب زائريه بقوله: «ليس بوسع كل إنسان أن يعمل باستمرار، أو يتعلم باستمرار، يا سيدي!»
أعلنت فلسفة سليري وهم يهبطون السلم، وسرعان ما غاب الأشخاص الثلاثة وسط ظلام الشارع، من أمام عين الفلسفة الثابتة، وعينها المتحركة.
الباب السابع
مسز سبارسيت
كان المستر باوندرباي رجلا أعزب، ترعى بيته سيدة عجوز، نظير أجر سنوي يدفعه لها؛ إنها مسز سبارسيت
Sparsit .. عاشت قبل ذلك أياما تختلف عن أيامها الحالية؛ إذ كانت زوجة رجل ثري، ولكنه مات فقيرا بعد أن أنفق كل أمواله على الخمر. بيد أنه كان لمسز سبارسيت أقارب من علية القوم. فلها عمة عظيمة، لا تزال على قيد الحياة، اسمها ليدي سيد جرز
Lady Seadgers .
لمسز سبارسيت أنف ضخم معقوف، وحاجبان كثيفان أسودان. ومع ذلك، فما زالت أنيقة المنظر، وأخلاقها محترمة جدا. وكان المستر باوندرباي يعاملها بأدب جم، احتراما لثرائها السابق.
يقول المستر باوندرباي لأصدقائه: «ورغم هذا، فكيف تصير الأمور أخيرا؟ إنها هنا تعمل بأجر مائة جنيه في العام، ترعى بيت جوزياه باوندرباي، أحد مواطني كوكتاون.»
بينما كان المستر باوندرباي يتناول طعام إفطاره على المائدة، قالت له مسز سبارسيت: «إنك تتناول طعام إفطارك ببطء، في هذا الصباح، يا مستر باوندرباي!»
قال: «لماذا يا مدام؟ إنني أفكر في وعد توم جرادجرايند السخيف، بأن يأخذ فتاة السيرك».
قالت: «تنتظر هذه البنت الآن، لتعرف ما إذا كانت ستذهب إلى المدرسة مباشرة، أم إلى بيت المستر جرادجرايند (ستون لودج).»
فقال المستر باوندرباي: «قلت لتوم جرادجرايند: إن بوسع هذه الفتاة أن تبيت هنا الليلة الماضية، ويمكنه أن يقرر ما إذا كان سيأخذها إلى بيته في هذا الصباح.» - «حقا، يا مستر باوندرباي، ما أصوب تفكيرك!»
انكمش حاجبا مسز سبارسيت الأسودان، عندما شربت قليلا من الشاي.
قال باوندرباي: «يتضح لي، أن لويزا لن تحصل على أي شيء طيب من مثل هذه الصحبة.»
تناولت مسز سبارسيت قليلا من الشاي مرة أخرى، وقالت: «أنت أب آخر للويزا يا سيدي.» - «إن قلت إنني أب آخر لتوم، أي توم الصغير، وليس صديقي توم جرادجرايند، كنت أقرب إلى الحقيقة. سآخذ توم الصغير في مكتبي، يا مدام.» - «أليس توم صغيرا لذلك العمل، يا سيدي؟»
خاطبت مسز سبارسيت المستر باوندرباي بلقب «سيدي» لتبين سلوكها المؤدب.
فقال المستر باوندرباي: «لن آخذه الآن، لا بد لذلك الغلام أن يتم تعليمه، قبل أن يأتي إلي سيكون قد نال قسطا كافيا من التعليم وقتذاك، ولكن ذلك الغلام لا يعلم ما نلته أنا نفسي من تعليم بسيط؛ لذا أجد صعوبة في مخاطبة الناس كأنداد لي .. والآن، كنت أتحدث معك عن أعضاء السيرك، ماذا تعرفين عنهم؟ كان يسرني أنا نفسي أن أعمل في سيرك عندما كنت صبيا. ولكنك، في ذلك الوقت، كنت قد خرجت من الأوبرا الإيطالية، تتحلين بمجوهراتك.»
فقالت باحترام: «هذا أكيد، يا سيدي. عرفت الأوبرا الإيطالية وأنا صغيرة السن جدا. آمل في أن أعتاد تغيرات الحياة، ولكن كل امرئ يلذ له أن يسمع عن تجاربك، وعن مصاعب حياتك أيام صباك.»
فقال المستر باوندرباي: «حسنا يا مدام! ربما يقول البعض إنهم يحبون أن يسمعوا عما سار فيه جوزياه باوندرباي.»
في تلك اللحظة، وصل المستر جرادجرايند مع ابنته لويزا. فاستدعيت سيسي جوب إلى الحجرة، فقال لها المستر جرادجرايند: «يا جوب قررت أن أخبرك بأنني سآخذك إلى بيتي. وعندما لا تكونين بالمدرسة، فستعملين في مساعدة مسز جرادجرايند؛ لأن صحتها ليست طيبة. وقد أخبرت الآنسة لويزا بأن حياتك في السيرك قد انتهت الآن. يجب ألا تتحدثي عنها بعد ذلك، وأنت الآن جاهلة؛ أعرف هذا.»
قالت: «نعم؛ يا سيدي. أنا جاهلة جدا، ولكنني تعلمت القراءة، وكنت أقرأ لوالدي»، ثم أخذت تبكي.
نظرت إليها لويزا، وسألها المستر جرادجرايند بقوله: «ماذا كنت تقرئين لأبيك؟»
انتحبت سيسي، وقالت: «كنت أقرأ له عن الحوريات، وعن المخلوقات الغريبة.» - «الزمي الصمت! هذا يكفي؛ لا تتكلمي عن أمثال هذه الخزعبلات، بعد الآن ...» ثم استدار نحو صديقه، وقال له: «يا باوندرباي، هذه البنت في حاجة إلى تدريب وتعليم دقيقين. سألاحظ هذا بعد الآن، يا باوندرباي، وأنا أجد متعة فيه.»
وهكذا، صحب المستر جرادجرايند وابنته، سيسيليا جوب معهما إلى ستون لودج، ولم تتكلم لويزا أثناء الطريق بأية كلمة، سواء أكانت طيبة أم خبيثة ... ثم باشر المستر باوندرباي عمله اليومي، وأخذت مسز سبارسيت تفكر طول المساء.
الباب الثامن
لا تتعجب إطلاقا
بعد ذلك ببضعة أيام، جلست لويزا وأخوها توم في حجرة استذكار الدروس، وأخذا يتكلمان.
فقال توم: «أنا أكره حياتي يا لو، وأكره كل إنسان ما عداك.»
وقالت لويزا: «أنت لا تكره سيسي. فهل تكرهها يا توم؟»
قال: «إنها تكرهني.»
فقالت أخته: «كلا؛ إنها لا تكرهك، أنا متأكدة من هذا.»
قال: «يجب أن تكرهني، يجب أن تكرهنا جميعا. سيرهقون رأسها بهذا العمل، على ما أظن، فقد بدأ لونها يمتقع.»
كانا يجلسان بجانب الوطيس. لويزا في الركن الأكثر ظلاما، تنظر أحيانا إلى أخيها، وأحيانا تلاحظ النار وهي تشتعل.
فقال توم: «أنا غبي؛ مجرد حمار، وأحب أن أرفس مثل الحمار، وبالطبع، لن أرفسك يا لو، ولكن عندما أذهب لأعيش مع العجوز باوندرباي، سآخذ بثأري.» - «ثأرك يا توم؟»
قال: «أقصد أن أمتع نفسي قليلا، وأخرج وأرى الحياة، سأعوض نفسي عن الطريقة التي عوملت بها في هذا البيت.»
فقالت لويزا: «ستجد المستر باوندرباي يفكر مثل تفكير أبي. وهو أشد قسوة، وليس رحيما مثل أبي.»
فضحك توم وقال: «لا يهمني ذلك، سأعرف كيف أسوس العجوز باوندرباي.»
قالت: «وما طريقتك التي ستسوسه بها يا توم؟ هل هي سر؟»
قال: «إن كانت سرا، فهي ليست بعيدة، إنها أنت؛ فأنت عزيزة على نفسه، ويعمل أي شيء من أجلك، فإذا قال لي شيئا لا أستسيغه، فسأقول له: «ستغضب من هذا أختي لويزا، يا مستر باوندرباي.»
نظرت لويزا إلى النار وهي تفكر.
الباب التاسع
تقدم سيسي
لم تجد سيسي جوب وقتا مريحا؛ فكانت هناك المدرسة، وكانت هناك مسز جرادجرايند. وقد فكرت في الشهور الأولى، في أن تهرب، إلا أنها كانت تعتقد أن أباها لم يهجرها، فكانت تعيش على أمل أنه سيعود، وسيسعده أن يجدها حيث هي الآن، وكانت معلمتها في المدرسة قررت أن رأس سيسي ضعيف في الأرقام، وأنها متأخرة جدا في دروسها، فهز المستر جرادجرايند رأسه، وقال إن جوب يجب أن تبقى في المدرسة ... وعلى هذا بقيت سيسي بالمدرسة وصارت أضعف روحا وعقلا.
وذات مساء قالت سيسي للآنسة لويزا: «أتمنى لو كنت مثلك يا آنسة لويزا». وكانت لويزا تحاول أن تشرح لها بعض الدروس المدرسية.
فقالت لويزا: «لماذا؟»
قالت سيسي: «لكي أعرف الكثير مثلك يا آنسة لويزا؛ فكل ما هو صعب علي الآن، سيصير سهلا.»
فقالت لويزا: «لن تكوني أحسن من ذلك في الدروس يا سيسي.»
قالت سيسي: «أنا أعطي إجابات خطأ دائما في الفصل، لن أتعلم إطلاقا. ورغم أن أبي المسكين أرادني أن أتعلم، فأخشى أنني لن أحب التعليم!»
فسألتها لويزا بقولها: «وهل كان والدك نفسه يعرف الكثير؟» - «كلا يا آنسة لويزا؛ الحقيقة أن أبي لا يعرف سوى القليل جدا، وقلما يستطيع الكتابة.» - «وماذا عن أمك؟» - «يقول أبي إنها كانت عالمة. ماتت عندما ولدت ... كانت راقصة». - «هل كان أبوك يحبها؟» - «نعم؛ كان يحبها حبا شديدا، مثلما يحبني، وقد أحبني أبي من أجل خاطرها، كان يحملني معه أينما ذهب وأنا طفلة رضيعة، لم نفترق أبدا.» - «ولكنه تركك الآن يا سيسي. ألم يتركك؟» - «لم يتركني إلا من أجل صالحي. ولا أحد يفهمه مثلما أفهمه، أنا أعرف أنه لن يكون سعيدا إلا إذا رجع إلي.» - «أين كنتم تعيشون؟» - «لم يكن لنا مكان ثابت نعيش فيه، بل كنا نتنقل في جميع بلاد الدولة. كان والدي عارضا في السيرك، كان مهرجا.»
فقالت لويزا: «يضحك الناس.» - «نعم؛ ولكنهم كانوا أحيانا لا يضحكون، وبعد ذلك يبكي أبي.» - «وهل كنت راحته في كل شيء؟»
فقالت سيسي وهي تبكي: «نعم؛ وأتمنى ذلك. قال أبي إنني كنت راحته». دخل توم الحجرة وقال: «أحضر أبي معه العجوز باوندرباي إلى بيتنا. أريدك أن تأتي معي يا لو، إلى حجرة الجلوس. فإن أتيت دعاني العجوز باوندرباي إلى تناول العشاء معه.»
ذهبت لويزا مع أخيها.
كانت سيسي جوب تسال المستر جرادجرايند دائما عما إذا كان قد وصله خطاب عنها، إلا أن الجواب كان دائما: «لا». ما من كلمة جاءت من عند أبيها.
الباب العاشر
ستيفن بلاكبول
لم تتناول هذه القصة حتى الآن سوى المستر باوندرباي الغني، وأسرة جرادجرايند المرحة، ولكن هناك كثيرين من أهالي كوكتاون فقراء يؤدون أعمالا شاقة بالمصانع القبيحة الشكل، في وسط كوكتاون؛ تظهر الطبيعة هناك قوية البنيان، في الخارج، بينما في الداخل الهواء القاتل والغازات القاتلة. ويعيش العمال في شوارع ضيقة، يسرعون خلالها إلى أعمالهم، ويعودون خلالها أيضا ، من تلك الأعمال، وعادة يطلقون على أولئك العمال، اسم «الأيدي».
من بين هؤلاء العمال رجل يدعى ستيفن بلاكبول
Stephen Blackpool ، يبلغ من العمر أربعين سنة.
ولكنه يبدو أكبر من سنه، ويعيش عيشة قاسية.
ذات ليلة ماطرة غادر ستيفن عمله، بعد أن توقفت الآلات، ودقت الأجراس، وأسرعت جميع الأيدي، رجالا ونساء، وأولادا وبنات إلى بيوتهم، إلا أن ستيفن وقف ساكنا.
قال ستيفن لنفسه: «لم أبصر راشيل
Rachel ».
مرت أمامه جماعات من النساء، وقد وضعن أغطية على رءوسهن، لوقايتها من المطر، بيد أن راشيل لم تكن بينهن.
أخذ ستيفن يسير نحو بيته، وبعد فترة وقع بصره على شخص مألوف له، يسير في نفس الشارع، فزاد من سرعته، ثم نادى، يقول: «راشيل».
استدارت تلك المرأة، فرأى وجهها في ضوء المصباح الساطع بذلك الشارع. كان ذلك الوجه هادئا ذا عينين لطيفتين، وشعر أسود، وتبلغ صاحبته من العمر حوالي خمسا وثلاثين سنة.
فقال ستيفن: «جئت مبكرة، في هذه الليلة، يا راشيل.»
قالت: «لا أعرف أبدا متى أترك العمل. ومن الخير لنا ألا نرى معا. نحن صديقان قديمان، ولكن ذلك من الأفضل.»
قال: «ولكنه يشق علي يا راشيل.»
قالت: «حاول ألا تفكر هذا التفكير.»
قال: «حاولت، ولكن لم أفلح ... أنت على حق؛ فقد يتقول الناس عنا. كلمتك قانون بالنسبة لي.»
سار ستيفن وراشيل معا، مسافة ما، ولما اقتربا من بيتيهما، توقفت راشيل عند ناصية شارعها، ووضعت يدها في يده، وتمنت له ليلة سعيدة.
قال: «عمي مساء يا عزيزتي راشيل، عمي مساء.»
مشى ستيفن في طريقه إلى بيته، وكان في شارع ضيق فوق حانوت صغير، فصعد السلم إلى حجرته، وكانت مظلمة، ولكنه حمل شمعة ليضعها فوق نضد، وبينما هو يفعل ذلك كاد يقع فوق شيء على الأرض.
أبصر على الأرض امرأة قذرة الملابس، قبيحة المنظر، لعبت الخمر برأسها؛ كانت زوجته.
صاح ستيفن، وهو يتراجع إلى الخلف، فقال: «يا لرحمة السماء! هل رجعت ثانية؟»
قالت: «نعم؛ رجعت ثانية. أنا أرجع دائما ... ولماذا لا أرجع؟»
نهضت تلك الزوجة، وارتمت على السرير، وسرعان ما استغرقت في النوم. بينما استلقى ستيفن على كرسي، ولم يتحرك إلا مرة واحدة، في تلك الليلة، ليضع غطاء فوق جسم زوجته.
الباب الحادي عشر
لا طريق للخروج
ذهب ستيفن في فترة ساعة الغداء من اليوم التالي، لزيارة مخدومة المستر باوندرباي، وكان هذا الأخير يتناول طعام الغداء مع مدبرة بيته مسز سبارسيت.
فقال المستر باوندرباي: «ما خطبك الآن يا ستيفن؟»
انحنى ستيفن وقبعته في يده.
فسأله المستر باوندرباي بقوله: «هل جئت لتقدم شكوى؟»
قال: «لا يا سيدي.»
أزاح المستر باوندرباي طبقه بعيدا عنه، وانحنى إلى الخلف، وقال: «إذن، فأخبرني بسرعة، لماذا أتيت؟»
فقال: «جئت، يا سيدي، طلبا لنصيحتك. أريدها بشدة، تزوجت منذ تسع عشرة سنة، وكانت فتاة صغيرة السن وجميلة. وكنت رقيقا معها، ولكن الأمور ساءت الآن.»
فقال المستر باوندرباي: «سمعت كل هذا من قبل، وأنها أدمنت شرب الخمر، وتوقفت عن العمل، وباعت الأثاث والملابس.»
فقال ستيفن: «فصبرت عليها، وعدة مرات ذهبت إلى البيت لأجد كل ما أملكه قد ذهب، وأنها أنفقت النقود على الخمر، وأراها راقدة على الأرض فاقدة الوعي.»
وبينما ستيفن يتكلم، تعمقت كل تجعيدة في وجهه لتبين ما يقاسيه من محن، فقال: «ظللت مدة خمس سنوات أدفع لها نفقة لتظل بعيدة عني، ولكني ذهبت في الليلة الماضية فوجدتها راقدة على الأرض.»
فقال المستر باوندرباي: «أعرف كل هذا قبل الآن، باستثناء الجزء الأخير، إنه أمر سيئ، ما كان يحق لك أن تتزوجها إطلاقا.»
فقال ستيفن: «جئت إليك يا سيدي لتخبرني كيف يمكنني التخلص منها.»
فقال المستر باوندرباي، وهو ينهض من مقعده: «ماذا تعني؟ عن أي شيء تتكلم؟ لقد أخذتها للسراء وللضراء.»
قال: «صادقت أفضل امرأة موجودة في الدنيا ولولاها ولولا خاطرها، لجننت.»
رفعت مسز سبارسيت رأسها تنظر إلى فوق وقالت: «أخشى أنه يريد التحرر ليتزوج هذه المرأة التي يتكلم عنها، يا مستر باوندرباي.»
فقال ستيفن: «هو كذلك، قرأت في الصحف أن العظماء والأغنياء لا يرتبطون معا إلى الأبد، ويمكنهم التحرر من زيجاتهم التعيسة ليتزوجوا مرة ثانية يجب أن أتحرر من هذه المرأة، وأريد أن أعرف كيف يتم لي ذلك.»
فقال المستر باوندرباي: «لا سبيل لخروجك من هذا المأزق!»
قال: «إن هربت منها، فهل هناك قانون يعاقبني؟» - «طبعا، هناك قانون يعاقبك.» - «وإن تزوجت المرأة الأخرى، فهل هناك قانون يعاقبني؟» - «طبعا، هناك قانون لذلك.»
فقال ستيفن: «والآن، أستحلفك باسم الرب، أن تدلني على قانون يساعدني!»
فقال المستر باوندرباي: «هناك قانون يمكن أن يساعدك، ولكنه يكلفك الكثير من النقود.»
قال: «كم؟» - «أظنه يكلفك من ألف إلى ألف وخمسمائة جنيه، أو ضعف ذلك.»
فقال ستيفن: «أما من قانون آخر؟»
فأجاب المستر باوندرباي، بقوله: «بالتأكيد لا يوجد قانون آخر.»
فقال ستيفن، وقد امتقع لونه بشدة: «لماذا إذن يا سيدي كل شيء صعب ومتعب؟ الحياة صعبة ومتعبة، وكلما أسرع إلى حتفي كان أفضل.»
قال ستيفن قوله هذا وأحنى إليهما رأسه، وخرج من الحجرة.
الباب الثاني عشر
المرأة العجوز
هبط ستيفن درجتي السلم البيضاوين، وأقفل الباب الكبير لبيت المستر باوندرباي، وعبر الشارع وعيناه مثبتتان على الأرض في حزن عميق فإذا به يحس بشخص يلمس ذراعه.
ذلك الشخص امرأة عجوز، طويلة القامة، ما زالت تحتفظ بمسحة من الجمال، نظيفة الثياب البسيطة وحذاؤها ملوث بوحل الريف. من الجلي أنها قطعت مسافة ما.
قالت: «معذرة، يا سيدي! ألم أبصرك تخرج من بيت ذلك الرجل العظيم؟» وأشارت إلى بيت المستر باوندرباي. ثم استطردت تقول: «هل رأيته؟» - «نعم، رأيته.» - «وكيف رأيت منظره؟ هل يوحي منظره بخير؟» - «نعم، يبدو في صحة جيدة جدا.»
فقالت المرأة العجوز، وقد اقتنعت تماما: «شكرا لك، سيدي! أشكرك!»
فسألها ستيفن عما إذا كانت قد جاءت من الريف قالت: «نعم؛ جئت بالقطار في هذا الصباح من مسافة ستين كيلومترا. وسأقطع نفس المسافة، عائدة في هذا المساء، أنفق مدخراتي هكذا، مرة في كل سنة، أجيء لرؤيته، ذلك السيد، ونظرت مرة أخرى إلى بيت المستر باوندرباي.»
استأنفت هذه السيدة كلامها، فقالت: «لم يخرج من بيته، في هذه السنة، وأنا هنا. ولكني رأيتك، وأنت رأيته، ويجب أن أكتفي بذلك. هل أنت ذاهب إلى العمل؟»
قال: «نعم، فأنا أعمل بمصنع المستر باوندرباي.»
قالت: «هل أنت سعيد في عملك؟ منذ كم من الوقت، وأنت تعمل عنده؟» - «منذ حوالي اثنتي عشرة سنة.»
قالت: «يجب أن أقبل اليد التي عملت في هذا المصنع الجميل، مدة اثنتي عشرة سنة.»
قالت هذا، ورفعت يده إلى شفتيها.
بعد ذلك، بينما ستيفن يعمل في المصنع ألقى نظرة إلى خارج النافذة، فأبصر المرأة العجوز، واقفة بالخارج، تنظر إلى المبنى، معجبة به، ثم انصرفت.
الباب الثالث عشر
راشيل
قبل أن يذهب ستيفن إلى بيته، في تلك الليلة، ظل يتجول في الشوارع لفترة ما، وتوقع أن يجد زوجته بالمنزل تصيح بوحشية وعندما اقترب من حجرته، أبصر نورا في النافذة.
وجد الهدوء والسلام في الداخل، وكانت راشيل هناك جالسة بجانب السرير الذي ترقد فوقه زوجة ستيفن، وقد نظفت الحجرة، وأوقدت نارا، بينما ترقد زوجته على السرير في هدوء.
فقالت راشيل: «يسرني أنك جئت أخيرا يا ستيفن. لقد تأخرت جدا.»
قال: «كنت أتجول جيئة وذهابا.»
قالت: «هذا هو ما جال بفكري، ولكن هذه الليلة ليست لمثل هذا التجول. فالمطر يهطل وابلا، وقامت الريح شديدة.»
الريح؟ هذا حقيقي. كانت تهب عاصفة وترعد داخل المدخنة، فكيف يبقى ستيفن خارج البيت في مثل هذه الريح، ولا يعلم أنها تهب؟
قالت راشيل: «كنت هنا مرة، قبل اليوم، يا ستيفن. استدعتني صاحبة بيتك، في وقت العشاء، وقالت إن زوجتك مريضة .. كانت زوجتك تعمل معي ونحن فتاتان صغيرتان، وكنت صديقتها؛ لذا حضرت لأعمل القليل الذي يمكنني عمله، حاولت أن تنتحر في هذا الصباح.»
سار ستيفن ببطء نحو كرسي، وجلس، وهو مطأطئ الرأس، وراشيل تعتني بالجروح التي في رقبة زوجته فوضعت قطعة من الشاش في حوض، وسكبت في الحوض سائلا من زجاجة، ثم وضعت قطعة الشاش برفق فوق الجروح. وكان هناك نضد صغير إلى جانب السرير، فوقه قارورتان إحداهما التي سكبت راشيل منها السائل.
لم تكن الزجاجة بعيدة عن ستيفن، وإذ كان يتابع يدي راشيل بعينيه، أمكنه أن يقرأ ما كتب عليها بحروف كبيرة «سم. لا تشرب» فامتقع لونه جدا، وتملكه رعب فجائي.
فقالت راشيل، في هدوء: «سأبقى هنا يا ستيفن حتى تدق الأجراس معلنة الساعة الثالثة، يجب أن أغسل جروحها، مرة ثانية، في ذلك الوقت. وبعدئذ يمكن تركها حتى الصباح.»
فقال ستيفن: «ولكن، ماذا عن راحتك في هذه الليلة؟ عليك أن تعملي بالمصنع غدا.»
قالت: «نمت جيدا في الليلة الماضية، وبوسعي أن أبقى متيقظة لعدة ليال، أنت الذي بحاجة إلى الراحة. لونك ممتقع جدا ويبدو عليك التعب. حاول أن تنام على ذلك الكرسي، بينما أظل أنا يقظى.»
سمع ستيفن قصف الريح تزمجر في الخارج وبدا كأن إحساساته الغاضبة، تحاول النيل منه، ولكن راشيل عملت على تهدئة هذه الإحساسات، وكان يثق في أن بمقدورها أن تحميه من نفسه.
قالت راشيل: «إنها لا تعرفني يا ستيفن، إنها مريضة جدا، فعندما تثوب إلى رشدها، مرة أخرى أكون قد فعلت ما في مكنتي، دون أن تعرف إطلاقا .. قال الطبيب إنها ستعود إلى عقلها السليم غدا.»
وقفت عينا ستيفن، مرة أخرى عند القارورة ذات البطاقة المكتوب عليها «سم» فارتجف جسمه، وجعل أعضاءه ترتعش، فقالت راشيل: «إنك لترتعد بردا وبللا يا ستيفن!»
قال: «كلا؛ فقد أصابني رعب وأنا قادم إلى البيت عندما كنت أفكر. عندما كنت ...»
قالت: «أيا ستيفن!» وهمت بأن تذهب نحوه، إلا أن ذراعه امتدت لتوقفها.
قال: «أرجوك ألا تقبلي نحوي، دعيني أراك جالسة بجانب السرير، طيبة ومسامحة. دعيني أراك مثلما رأيتك عندما جئت إلى هنا.»
ارتعد ستيفن مرة أخرى، وارتمى فوق كرسيه.
فقالت راشيل: «عندما تتحسن حالتها يا ستيفن فمن المنتظر أن تتركك وشأنك مرة أخرى، ولن تصيبك بأي أذى بعد ذلك .. والآن، سألزم الهدوء؛ إذ أريدك أن تنام.»
أغمض ستيفن عينيه، وأخذ يصغي إلى زمجرة الريح. وبالتدريج، تحول إلى عمل آلاته بالمصنع، والأصوات التي سمعها طوال ذلك النهار. ثم استغرق في النوم.
بعد لحظة، أيقظه صوت الريح، وكان المطر يحدث صوتا وهو يسقط على أسطح البيوت. وانكمشت الخطوات الكبرى، التي تحرك بها في حلمه، إلى جدران حجرته الأربعة، وكانت كما هي، باستثناء أن النار انطفأت.
وبدا أن راشيل نامت فوق مقعدها بجانب السرير، وبقي النضد في نفس موضعه، وفوقه الزجاجتان؛ إحداهما زجاجة السم.
خيل إلى ستيفن فجأة أنه رأى الستار الذي فوق السرير يتحرك، فنظر إلى فوق مرة أخرى، وتأكد من أنه يتحرك فعلا. أبصر يدا تتحرك وتمتد، وبعد ذلك، جذبت المرأة التي فوق السرير الستار جانبا، وجلست، وجالت عيناها فيما حولها. يبدو أنها لم تبصر الناس الموجودين في الحجرة. ثم توقفت عيناها عند النضد والزجاجتين اللتين فوقه.
ارتعد ستيفن مرة أخرى، وارتمى فوق كرسيه.
أخذت قدحا، ونظرت إلى القارورتين، ثم أمسكت القارورة التي فيها الموت السريع الأكيد، ونزعت سدادتها، وبينما عيناها تراقبان راشيل، سكبت محتويات الزجاجة ببطء، وقربت السائل من شفتيها. وعندئذ ما هي إلا لحظة، حتى لا يمكن إسعافها.
هبت راشيل واقفة وهي تصيح، فناضلت هذه المرأة المتوحشة، وضربت راشيل، وأمسكتها من شعرها. ولكن راشيل أخذت القدح من يدها.
نهض ستيفن من فوق كرسيه، وقال: «يا راشيل، هل أنا أمشي أم أحلم؟»
قالت: «كل شيء على ما يرام يا ستيفن، لقد نعست أنا نفسي، والساعة الآن حوالي الثالثة ... أصغ .. إني لأسمع دقات ساعة الكنيسة الآن.»
نقلت الريح أصوات ساعة الكنيسة إلى النافذة، فأصغيا إليها وهي تعلن الثالثة. فنظر ستيفن إلى راشيل، فوجدها ممتقعة اللون، ولاحظ عدم ترتيب شعرها، وآثارا حمراء لأصابع على جبهتها؛ فأيقن من أنه كان متيقظا. وكانت راشيل لا تزال ممسكة بالقدح في يدها، فقالت بهدوء: «ظننتها حوالي الثالثة.»
سكبت راشيل السائل في الحوض، ووضعت فيه قطعة الشاش، وقالت: «لقد هدأت الآن، فيمكنني غسل الجروح.»
غسلت راشيل جروح المرأة المريضة بالسائل، ثم سكبت الباقي من الحوض، فوق النار، وكسرت الزجاجة.
ارتدت راشيل معطفها، واستعدت للخروج في الريح والمطر.
فقال ستيفن: «اسمحي لي بأن أسير معك يا راشيل.»
فقالت: «كلا، فإنها مسافة دقيقة على الأقدام إلى بيتي.»
فقال بصوت منخفض وهما يسيران نحو الباب: «ألست خائفة من أن تتركيني وحدي معها؟»
وبينما هي تنظر إليه وتقول: «يا ستيفن!» جثا على ركبته أمامها، وقال: «أنت ملاك يا راشيل، جئت إلى البيت وقد استبد بي اليأس، وليس بمقدور أي إنسان أن يساعدني، ثم رأيت زجاجة السم على النضد .. لا أحد يعرف ماذا كنت سأفعل بنفسي، أو بها، أو بكلينا.»
قالت: «كف عن الكلام!» ووضعت كلتا يديها على فمه لتمنعه أن يتكلم. ووجهها مملوء بالرعب، ثم ألقت عليه تحية المساء بصوت متهدج، وخرجت إلى الشارع.
هبت الريح من الناحية التي سيبزغ منها النهار، وما زالت تهب بعنف، وجعلت السماء صافية أمامها، وكف المطر عن الانهمار، وذهب إلى مكان آخر، وتألقت النجوم في السماء، ووقف ستيفن عاري الرأس في الطريق يراقب اختفاء راشيل السريع.
وكما هي النجوم المتألقة بالنسبة إلى الشمعة الصغيرة، التي في النافذة، كذلك كانت راشيل بالنسبة إلى هذا الرجل، في أحداث حياته المحزنة.
الباب الرابع عشر
الصانع العظيم
سار الوقت في كوكتاون مثلما تسير آلاتها، فكم من مواد صنعت! وكم من طاقات استعملت! وكم من أموال جمعت!
كذلك طال الوقت مثلما زاد طول ثوماس الصغير ثلاثين سنتيمترا عما لاحظه أبوه آخر مرة.
فقال المستر جرادجرايند: «حان الوقت الذي يجب أن يذهب فيه ثوماس إلى مصرف باوندرباي.»
وهكذا مرر الوقت ثوماس الصغير إلى مصرف باوندرباي، وجعله يعيش في بيته.
كذلك مرر الوقت سيسي خلال مصنعه (أي مصنع الوقت) وجعلها فتاة جميلة جدا بحق.
قال المستر جرادجرايند: «أخشى يا جوب أن يكون تقدمك في المدرسة مثبطا للعزيمة، فلم تحصلي على كمية المعارف المتوقعة.»
قالت: «آسفة يا سيدي، أعرف أن هذا صحيح جدا، ولكني حاولت جاهدة، وفكرت أحيانا في أنني حاولت أن أتعلم الكثير جدا بما لا تحمله طاقتي. ولو سمح لي بأن أتعلم أقل من ذلك قليلا، فلربما فعلت ما هو أفضل.»
فقال المستر جرادجرايند: «كلا، كلا، لا تبكي يا جوب؛ أنت امرأة صغيرة رقيقة وطيبة، ومفيدة لمسز جرادجرايند، ومساعدة في الأسرة؛ لذا آمل في أن تجعلي نفسك سعيدة في بيتنا .»
فقالت سيسي معترفة بالجميل: «شكرا عظيما لك، يا سيدي»، ولكنها ما زالت تفكر في أن والدها سيعود في يوم ما.
في كل هذه الأثناء، كانت لويزا تمر هادئة وصامتة، فلما لاحظ أبوها مرة أخرى أنها صارت امرأة صغيرة، قال: «يا عزيزتي لويزا .. يجب أن أتحدث معك على انفراد، وفي جدية، تعالي إلي في حجرتي بعد أن تتناولي طعام الإفطار، غدا، فهل تسمحين بهذا؟» - «نعم يا أبت.»
قال: «يداك باردتان؛ فهل تشعرين بمرض؟» - «أنا على ما يرام من الصحة يا أبت.»
نظرت لويزا إلى أبيها مرة أخرى، وابتسمت بطريقتها الغربية، وقالت: «أنا سعيدة ومبتهجة، مثلما اعتدت أن أكون.»
قبل المستر جرادجرايند ابنته، وانصرف.
أطل أخوها من الباب، وقال: «هل أنت هنا يا لويزا؟» وكان، في ذلك الوقت، شابا أنيقا، ولكنه لم يكن جذاب المنظر جدا.
نهضت لويزا من على مقعدها، وطوقت أخاها بذراعيها، وقالت: «يا عزيزي توم! كم من الوقت مر ولم تأت لتراني؟!»
قال: «كنت مشغولا في الأمسيات يا لو، وبالنهار يشغلني العجوز باوندرباي بالعمل، وعلى فكرة .. هل قال لك أبونا شيئا خاصا، يا لو؟»
نظر هذا الشاب إلى وجه أخته بمتعة أعظم مما اعتاد أن ينظر إليها من قبل، وطوق وسطها بذراعه وقال: «أراك مولعة جدا بي يا لو، أليس كذلك؟»
قالت: «بلى؛ الواقع أنني مولعة جدا بك يا توم، ولو أنك لا تأتي كثيرا لتراني.»
قال: «حسنا يا أختاه؛ وعندما تقولين هذا فأنت تقتربين كثيرا من أفكاري. الواقع أنه من الممكن أن نكون معا مرات أكثر، تصنعين الكثير من الخير لي، إن فكرت في أن تؤدي لي خدمة» ثم توقف عن الكلام ونظر إلى وجه أخته المفكر، ولكنه لم يفهم منه شيئا فقبلها، فبادلته التقبيل وهي لا تزال تنظر إلى الوطيس.
استطرد ثوماس الصغير، يقول: «لا أستطيع البقاء هنا الآن، لا تنسي أنك مولعة بي.»
قالت: «لن أنسى يا عزيزي توم!» انصرف توم، ووقفت لويزا عند الشباك تنظر إلى نيران كوكتاون، وهي تصغي إلى وقع أقدام أخيها وهو ينصرف.
الباب الخامس عشر
الأب وابنته
يوجد بحجرة المستر جرادجرايند ساعة دقاقة كبيرة، يمكنك سماع صوتها وهي تعمل. جلست لويزا بجانب النافذة قرب مائدة أبيها، فوقع بصرها على مداخن كوكتاون العالية، والدخان يتصاعد منها كثيفا فيملأ الجو بلون أسود يبعث على الاكتئاب.
قال الأب: «يا عزيزتي لويزا، لدي شيء بالغ الأهمية، أود أن أقوله لك، كما أخبرتك في الليلة الماضية .. لقد تدربت وتعلمت جيدا، ولي ثقة تامة في إحساسك المرهف الطيب.»
انتظر الوالد أن تتكلم ابنته، ولكنها لم تنطق بكلمة واحدة. فقال: «يا عزيزتي لويزا، يريد شخص ما أن يتزوجك وها أنت ذي قد تسلمت اقتراحا بالزواج، فماذا تقولين؟»
انتظر المستر جرادجرايند، مرة أخرى، أن ترد ابنته على سؤاله، ولكنها لم تجب بشيء في هذه المرة أيضا. فأدهش هذا أباها، فكرر قوله: «يريد شخص أن يتزوجك يا عزيزتي.»
قالت: «أنا أسمعك يا أبي، أنا مصغية إلى ما تقول.»
أحس المستر جرادجرايند بالانزعاج، ولكنه استطرد يقول: «أخبرني المستر باوندرباي بأنه يريد أن يقدم لك يده للزواج، وقد لاحظ تقدمك بمتعة، وكله أمل، طيلة وقت طويل، أن تأتي الفرصة التي يطلب فيها يدك للزواج، ويأمل كثيرا في أن تولي طلبه هذا اعتبارك الموافق.»
ساد السكون بين الأب وابنته، وبدا صوت الساعة عاليا جدا، ولاح الدخان البعيد شديد السواد وكثيفا جدا.
تكلمت لويزا، فقالت: «يا أبتاه، أتعتقد أنني أحب المستر باوندرباي؟»
شعر المستر جرادجرايند بالقلق الشديد، فقال: «لا يمكنني الجزم بذلك، يا طفلتي.»
فاستطردت لويزا تقول بنفس الصوت السابق: «أي أبت! هل تطلب مني أن أحب المستر باوندرباي؟»
قال: «كلا، كلا يا عزيزتي لويزا، لا أطلب منك شيئا كهذا.»
فاستأنفت لويزا كلامها، تقول: «هل يطلب المستر باوندرباي مني أن أحبه؟»
فقال الأب: «الحقيقة، يا عزيزتي، أنه من الصعب الإجابة على سؤالك.»
قالت: «هل من الصعب الإجابة بنعم، أو لا .. يا أبي؟»
أجاب الوالد بقوله: «نعم، هذا أكيد يا عزيزتي؛ لأن الرد يتوقف على المعنى الذي نسنده إلى السؤال. والآن، أقول لك إن المستر باوندرباي لا يطلب منك شيئا خياليا. وربما كان استعمال كلمة «حب» خاطئا قليلا.»
قالت: «وبماذا تنصحني أن أستعمل بدلا من كلمة «حب» يا أبي؟»
قال: «يبدو لي يا لويزا أنه ما من كلمة يمكن أن تكون أوضح منها. وموضوع الحقيقة الذي بوسعك أن تفكري فيه، في قراءة نفسك هو: هل يطلب مني المستر باوندرباي أن أتزوجه؟ نعم، هو يطلب ذلك. والسؤال الوحيد، الباقي بعد ذلك، هو: هل أتزوجه؟ لا أظن يا عزيزتي لويزا أن هناك شيئا سيكون أوضح من ذلك!»
أخذت لويزا تكرر قولها ببطء: «هل أتزوجه؟ هل أتزوجه؟»
فقال المستر جرادجرايند: «نعم بالضبط، وهو مقبول بالنسبة لي، بصفتي والدك يا عزيزتي لويزا، أعرف أنك لن تنظري إلى هذا السؤال بعقل وتفكير كثيرات من النساء.»
قالت: «لن أنظر إليه هكذا يا أبي.»
قال: «أتركك الآن لتفكري في هذا الأمر في هدوء وعلى مهل.»
سحبت لويزا عينيها من على أبيها، وجلست مدة طويلة تنظر نحو مداخن البلدة، ثم قالت أخيرا: «يطلب مني المستر باوندرباي، أن أتزوجه، والسؤال الذي أسأل به نفسي هو: هل أتزوجه؟» - «بالتأكيد، يا عزيزتي.»
قالت: «ليكن هكذا، ماذا يهم؟ فبما أن المستر باوندرباي يريد أن يتزوجني، فأنا موافقة على طلبه، أخبره يا أبي في الوقت الذي تراه ملائما، بأن هذا هو ردي، كرره حرفا بحرف إن أمكنك؛ لأنني أريده أن يعرف نص ما قلته.»
قبلت لويزا أباها، فأمسكها من يدها، وذهبا معا إلى حجرة الجلوس. وكانت بها مسز جرادجرايند وسيسي.
فقال الأب: «هذا صحيح تماما، يا عزيزتي. ولكي أكون واقعيا، فسأفعل ما تطلبينه. هل لك رغبات بخصوص موعد الزواج؟»
قالت: «كلا، يا أبت. فما أهمية هذا؟»
تأثر المستر جرادجرايند بنجاحه أعظم التأثر، وسر سرورا بالغا، فقال: «أشكرك، يا عزيزتي لويزا إذ عوضتني عن عنايتي بك. والآن، قبليني، يا ابنتي.»
قبلت لويزا أباها، فأمسكها من يدها، وذهبا معا إلى حجرة الجلوس. وكانت بها مسز جرادجرايند وسيسي.
فقال المستر جرادجرايند: «يا مسز جرادجرايند اسمحي لي بأن أقدم لك مسز باوندرباي .»
فقالت مسز جرادجرايند: «مرحى! إذن، فقد سويت الموضوع، أتمنى أن تظل صحتك جيدة، يا لويزا أتمنى ألا تمرضي مثلما مرضت أنا بعد زواجي. لا بد أن أقبلك قبلة التهنئة، ولكن لا تلمسي كتفي اليمنى: أشعر بأن هناك شيئا يسري خلالها ويؤلمني طول اليوم.»
نظرت سيسي إلى لويزا، في عجب، وفي إشفاق، وفي حزن. عرفت لويزا هذا دون أن تنظر مباشرة إلى سيسي. ومنذ تلك اللحظة، ولويزا فخورة وباردة وتنظر إلى سيسي من بعيد. لقد تغيرت نحوها تماما.»
الباب السادس عشر
الزوج والزوجة
عندما سمع المستر باوندرباي بما أسعده، ساوره القلق من أجل مسز سبارسيت. فماذا يقول لمدبرة بيته؟
ولما جاء المساء قرر أن يخبرها، فاشترى زجاجة أملاح مضادة للإغماء، احتياطا لما إذا كان سيغمى على مسز سبارسيت، وعمل ترتيبه أن يمكن نزع سدادة الزجاجة بسهولة، إذا اقتضى الأمر استعمالها. ثم استدعى مسز سبارسيت، فلما جاءت وجلست، قال لها: «يا مدام! يا مسز سبارسيت! أنت من كريمات العقائل، بمولدك وبتربيتك، كما أنك سيدة سامية الأخلاق والمشاعر.»
قالت: «يا سيدي، كثيرا ما وقرتني بأمثال هذه العبارات الدالة على رأيك الطيب.»
قال: «يا مدام! يا مسز سبارسيت! سأخبرك بما يدهشك.»
فقالت في هدوء: «نعم يا سيدي!»
قال: «سأتزوج ابنة المستر جرادجرايند.»
قالت: «أهنئك يا سيدي، وأتمنى لك السعادة يا مستر باوندرباي. الحقيقة أنني أتمنى لك السعادة من كل قلبي يا سيدي.»
قالت ذلك بلهجة الإشفاق، حتى دهش المستر باوندرباي. فوضع السدادة بإحكام في عنق الزجاجة، ثم وضع زجاجة الأملاح في جيبه، وقال في نفسه: «لعنة الله على هذه المرأة إذ تستقبل هذا النبأ بمثل هذه الطريقة!»
ثم قال بصوت مرتفع: «أنا مدين لك بالشكر الجزيل يا مسز سبارسيت، وآمل في أن أظل مدينا به.»
ابتهجت مسز سبارسيت من ذلك الإطراء والثناء، فقالت: «هل أنت مدين لي بالشكر يا سيدي؟ من الطبيعي أن تشكرني .. طبعا تشكرني.»
مرت فترة صمت حرجة، ظلت مسز سبارسيت خلالها تعمل بالخياطة.
فقال المستر باوندرباي: «لا حاجة بك إلى أن تتركي خدمتي يا مسز سبارسيت، سأخصص لك مقرا بالمصرف تكونين مدبرته، سيكون لك فيه حجراتك الخاصة، وخادمة ترعى شئونك، وستجدينه مريحا جدا.»
فقالت مسز سبارسيت: «لا تقل أكثر من هذا يا سيدي، أنا أقبل عرضك شاكرة، وأتمنى أن تكون الآنسة جرادجرايند هي كل ما تحتاج إليه وتستحقه.»
لم تتأثر مسز سبارسيت بذلك الموقف، بل كانت مؤدبة ومبتهجة ولها آمال. ولكن المستر باوندرباي، كان يعرف أنها تشفق عليه.
حدد موعد الزواج بأن يكون بعد ثمانية أسابيع وأخذ المستر باوندرباي يذهب في كل مساء إلى ستون لودج، لمجالسة لويزا، وصنع الحب في تلك المناسبات في صورة هدايا ومجوهرات. وطوال مدة الخطوبة، بدا الحب في مظهر صناعي، صنعت الملابس والقفازات والكعك، كان الموضوع حقيقة، من أوله إلى آخره، ولم يكن به أي مظهر غرامي. وبعد ذلك تزوجا في اليوم.
الجزء
المحصول
الباب الأول
أعمال المصرف
المصرف في كوكتاون عبارة عن بيت ضخم مبني بالطوب الأحمر، أكبر قليلا من بيت المستر باوندرباي. جلست مسز سبارسيت في حجرتها بالمصرف، التي كانت تستعملها بعد الظهر، عقب انتهاء ساعات العمل، وكانت في ذلك الوقت هي المسئولة عن سلامة جميع مباني المصرف، والخزائن بما فيها من نقود، كما كان هناك، أيضا، شاب يحرس خزانة حفظ الأشياء الثمينة. فأعدت الخادمة صينية الشاي لمسز سبارسيت، أحضرها إليها ذلك الشاب بداخل الحجرة.
فقالت مسز سبارسيت: «أشكرك يا بيتزر.»
فرد عليها الشاب بقوله: «شكرا يا مدام.» وبيتزر هذا، هو الغلام الذي عرف الحصان بمهارة في المدرسة منذ سنوات. وما زال أبيض الشعر والبشرة مثلما كان في أيام المدرسة.
سألت مسز سبارسيت، بيتزر بقولها: «هل كل شيء في أمان، يا بيتزر؟»
قال: «كل شيء مقفل يا مدام.»
فقالت وهي تصب الشاي في القدح: «ما الأخبار اليوم؟ هل من أحداث؟» - «أستطيع القول يا مدام بأنني لم أسمع شيئا بعينه.»
ولما كان ذلك الوقت هو الفترة التي يتحدث فيها مع مسز سبارسيت، عن الأمور السرية، تظاهر بأنه يرتب «كلا، لم يكن العمل كثيرا، يا مدام.»
قالت : «هل كان اليوم كثير العمل يا بيتزر؟» - «كلا؛ لم يكن العمل كثيرا يا مدام.»
قالت: «بالطبع، الكتبة أمناء، ويعملون بجد وإخلاص!»
قال: «نعم يا مدام. كلهم على ما يرام، مع الاستثناء الوحيد المعتاد.»
يقوم بيتزر بدور الجاسوس لمسز سبارسيت في المصرف. وفي نظير هذا العمل، كانت تقدم له هدية في عيد الميلاد، وهو شاب ألمعي بالغ النباهة، وشديد الحرص. وعلى يقين من أنه سوف يرتفع في الحياة، وإذ درب عقله بعناية، لم تكن لديه أية أمور عاطفية، كل أعماله نتيجة حسابات دقيقة.
كرر بيتزر قوله مرة ثانية، فقال: «كلهم على ما يرام، مع الاستثناء الوحيد المعتاد يا مدام.»
فقالت مسز سبارسيت وهي تشرب الشاي وتهز رأسها: «يا للأسف!»
قال: «إنه المستر ثوماس يا مدام. أنا أرتاب كثيرا في المستر ثوماس. لا تعجبني أساليبه بحال ما.»
فقالت مسز سبارسيت بلهجة الأمر: «هل تتذكر ما قلته لك عن عدم ذكر أسماء؟»
قال: «عفوا يا مدام، هذا صحيح تماما. لقد مانعت في ذكر أسماء.»
قالت: «إن قلت: فردا ما استمعت إليك، أما إن قلت المستر ثوماس، فينبغي لك أن تستسمحني!»
قال: «مع استثناء فرد واحد يا مدام.»
فقالت مسز سبارسيت: «حسنا!»
قال: «فرد واحد لم يسلك أبدا المسلك اللائق به، إنه يتلكأ في العمل، وكسلان، ويبذر نقوده.»
هزت مسز سبارسيت رأسها، وتأوهت.
استطرد بيتزر كلامه، فقال: «آمل يا مدام في ألا يمده صديقه وقريبه بالنقود، ونحن جميعا نعرف من جيب من تأتي النقود.»
فقالت مسز سبارسيت مرة أخرى: «حذار يا بيتزر!»
قال: «ينبغي لنا يا مدام أن نشفق على هذا الشخص الذي تكلمت عنه الآن.»
فقالت: «نعم يا بيتزر؛ كنت أشفق عليه دائما من أجل ذلك.»
قال بيتزر، وقد خفض صوته واقترب منها: «ذلك الشخص الصغير، يبذر نقوده مثلما يبذرها أي شخص في هذه البلدة. وإنك لتعلمين كم هم مبذرون!»
قالت: «لو حذوا حذوك لأحسنوا صنعا!»
قال: «شكرا يا مدام، لقد ادخرت نقودا، والهدية التي أخذتها منك، في عيد الميلاد، لم أمسها على الإطلاق، أنا لا أنفق كل مرتبي، رغم ضآلته. فما يستطيع أن يعمله أي إنسان، يستطيع غيره أن يعمله.»
فقالت: «نعم، هذا صحيح.»
قال: «أتريدين شيئا آخر أحضره لك يا مدام؟»
قالت: «لا شيء الآن يا بيتزر، وشكرا!»
أطل بيتزر من النافذة إلى الشارع، والتفت نحو مسز سبارسيت، وقال: «لا أريد إزعاجك، وأنت تشربين الشاي يا مدام. ولكن يوجد رجل في الخارج ظل ينظر إلى هذا الشباك، مدة دقيقة أو اثنتين، وأظنه سيطرق الباب الأمامي. هل تريدينني أدخله لمقابلتك يا مدام؟»
قالت: «إن رأيت هذا ملائما يا بيتزر.»
طرق الغريب الباب، فهبط بيتزر السلم ليفتحه له.
وأزاحت مسز سبارسيت أدوات الشاي جانبا.
جاء بيتزر، يقول: «الرجل الغريب يريد مقابلتك يا سيدتي.»
كان ذلك الزائر في حوالي الخامسة والثلاثين من عمره، وأنيق المنظر.
فقالت مسز سبارسيت لهذا الزائر: «أعتقد أنك تريد التحدث إلي، تفضل بالجلوس.»
فقال: «شكرا يا سيدتي!» ثم سحب كرسيا لتجلس عليه مسز سبارسيت، بينما بقي هو واقفا إلى جانب المائدة، وقال: «معي خطاب توصية للمستر باوندرباي، صاحب هذا المصرف.»
نظرت مسز سبارسيت إلى هذا الزائر، فأعجبها حسن هندامه، ووجدته ذا شعر أسود، وعينين جريئتين، وصوت عذب جدا.
قال: «سألت عن الطريق إلى بيت المستر باوندرباي، فقادني أحد الناس إلى هذا المصرف، ولكن من المؤكد أن المستر باوندرباي لا يقيم هنا.»
قالت: «طبعا، هو لا يقيم هنا ولكن بوسعي أن أعطيك عنوان بيته.» - «شكرا، يا سيدتي؛ خطاب التوصية الذي معي من أحد أعضاء البرلمان، هو مندوب كوكتاون، واسمه المستر جرادجرايند. التقيت به في لندن.»
أطلع هذا الغريب مسز سبارسيت على خطاب التوصية، فأعطته عنوان بيت المستر باوندرباي ووصفت له كيفية الذهاب إليه.
فقال الغريب بأدب: «ألف شكر يا سيدتي، من المؤكد أنك تعرفين جيدا صاحب هذا المصرف.»
قالت: «نعم؛ أعرفه منذ عشر سنوات.»
قال: «أظنه تزوج ابنة المستر جرادجرايند.»
قالت: «نعم.» وفجأة انكمش فمها، واستطردت تقول: «كان له ذلك الشرف!»
فقال الغريب: «اغفري لي فضولي يا سيدتي، أنت تعرفين تلك الأسرة، وتعرفين العالم: هل عقيلة المستر باوندرباي بارعة الجمال؟ وكم يبلغ عمرها؟ هل أربعون أم خمس وثلاثون سنة؟»
ضحكت مسز سبارسيت، وقالت: «لم تبلغ العشرين عندما تزوجت.»
فقال الغريب: «هل هذا حقيقي؟ إنه يدهشني!»
ثم انحنى لها، وخرج من الحجرة.
وقفت مسز سبارسيت خلف ستائر النافذة ولاحظت ذلك الغريب وهو يسير في الطريق، وقد جعل منظره وحسن هندامه الناس ينظرون إليه.
عندما كانت مسز سبارسيت وحدها، وهي تتناول وجبة العشاء، قالت: «يا لك من غبي!» فمن كانت تقصد؟ لم توضح.
الباب الثاني
المستر جيمس هارتهاوس
الغريب الذي زار مسز سبارسيت، اسمه جيمس هارتهاوس
James Harthouse . وهو شاب من أسرة طيبة، كثير الارتحال، ولكنه لم يستقر في أي عمل أو مهنة. التقى أخيرا مع بعض أعضاء البرلمان في لندن، ومن بينهم المستر ثوماس جرادجرايند.
قرر المستر هارتهاوس أنه يستطيع العمل في حزب سياسي؛ فقد كان ماهرا في الخطابة، وقوي التأثير؛ بوسعه أن يتلو المعلومات والحقائق، ويتحدث جيدا إلى الجموع.
اعتقد المستر جرادجرايند أن هذا الشاب يمكن أن يكون ذا فائدة لحزبه؛ لذا أعطاه خطاب توصية للمستر باوندرباي، صاحب مصرف كوكتاون.
ما إن تسلم المستر باوندرباي خطاب هارتهاوس حتى نهض من مجلسه، ولبس قبعته، وذهب إلى الفندق الذي يقيم فيه ذلك الزائر.
قال: «اسمي جوزياه باوندرباي، من أهالي كوكتاون.»
الواقع أن مستر هارتهاوس سر كثيرا بمقابلته.
فقال باوندرباي: «ليست كوكتاون يا سيدي، المكان الذي تعودته. سأخبرك شيئا عنها قبل أن نتمادى.»
شرح المستر باوندرباي لهذا الزائر أهمية المصانع التي تبدو قذرة المنظر يلوثها الدخان.
ثم قال: «ربما تعلم أنني تزوجت ابنة توم جرادجرايند؛ ويسرني أن أقدمك إليها لو جئت معي إلى البيت.»
التقى المستر هارتهاوس، في حجرة الاستقبال بمنزل المستر باوندرباي، المبني بالطوب الأحمر، التقى بفتاة بالغة الشهرة وهادئة ومتحفظة، ولكنها قوية الملاحظة، تبدو باردة ومتكبرة، غير أنها سامية المشاعر، جميلة الوجه، إلا أنه عديم الملامح، تجلس شاردة الذهن.
وبينما هم يتحدثون سألته لويزا عن معتقداته السياسية.
قال: «أظن، يا مسز باوندرباي أن أية مجموعة من الآراء تأتي بفائدة طيبة كأية مجموعة آراء أخرى، وتأتي بنفس الضرر الذي تجلبه مجموعة أخرى، ما سيكون سيكون، ولكني سأؤيد حزب أبيك.»
لم تأخذ لويزا فكرة طيبة عن هذا الزائر.
صحب المستر باوندرباي هذا الغريب لزيارة بعض الشخصيات البارزة في كوكتاون، الذين يمكنهم التصويت لحزبهم.
أعدت المائدة في المساء لأربعة أشخاص، بيد أن ثلاثة فقط هم الذين جلسوا إليها.
راقب مستر هارتهاوس مسز باوندرباي وهي تجلس إلى رأس المائدة، صغيرة الجسم، رشيقة القوام، تبدو غير مهتمة بالحجرة، ولا بما حولها.
فقال هارتهاوس في نفسه: «أما من شيء يحرك هذا الوجه؟»
نعم، هناك شيء، وها هو، في شخص جاء ولم يكن من المتوقع مجيئه؛ إذ جاء توم؛ فتغيرت ملامح لويزا بمجرد أن فتح الباب ودخل. فابتسمت ابتسامة عريضة حلوة، وأمسكت يد توم في يدها.
فقال الزائر في نفسه: «هل هذا الكلب الصغير هو المخلوق الوحيد الذي تهتم به؟»
وأخيرا، نهض جيمس هارتهاوس ليعود إلى فندقه، وساوره الشك فيما إذا كان بوسعه أن يعرف الطريق إليه ليلا، إلا أن الكلب الصغير قام في الحال، وعرض خدماته كدليل، وخرج مع ذلك الضيف ليريه الطريق.
الباب الثالث
الكلب الصغير
عندما وصلا إلى الفندق، قال المستر جيمس هارتهاوس: «هل تدخن؟»
قال توم: «نعم.» وعلى هذا دعاه ذلك الغريب إلى الصعود معه إلى حجرته بالفندق، وأعطاه كمية من التبغ الفاخر ليدخنه، كما قدم له شرابا باردا، ورغم برودته، كان قويا جدا. فجلس توم في مقعد بمتاكئ وأسند ظهره، وأطرى صديقه الجديد.
قال توم: «شكرا، يا مستر هارتهاوس، وأرجو أن تكون قد توصلت إلى ما تريد من المستر باوندرباي في هذه الليلة.»
تكلم توم، وقد أغمض إحدى عينيه، ونظر بالأخرى، من فوق قدح الويسكي، نظرة ذات معنى.
ابتسم المستر جيمس هارتهاوس، ونهض من فوق مقعده، ووقف ينظر إلى توم، وقال: «يا لك من نسيب
1
لطيف!»
فقال توم: «أظنك تعني أن تقول: «يا للمستر باوندرباي، من نسيب لطيف!»
تكلم توم، وقد أغمض إحدى عينيه ، ونظر بالأخرى ، من فوق قدح الويسكي، نظرة ذات معنى!
فقال المستر جيمس هارتهاوس: «أنت دقيق الملاحظة، يا توم.»
سر توم من أن صديقه خاطبه باسمه المختصر، ولما تمض على صداقتهما مدة طويلة، وبمثل طريقة قدامى الأصدقاء هذه، ولا سيما بواسطة رجل وسيم الوجه حسن الهندام.
قال توم: «سأبدأ بألا أكون مؤدبا من ناحية العجوز باوندرباي. نحن في وقت متأخر من هذا اليوم.»
فقال جيمس هارتهاوس: «لا يهمنك وجودي، ولكن احذر الكلام عندما تكون زوجته على مقربة منك، وأنت تعرف ذلك.» «زوجته؟ أختي لو؟ نعم.»
ضحك توم، وشرب قليلا من الويسكي، بينما وقف جيمس هارتهاوس ينظر إليه.
فقال توم: «لم تهتم أختي لو بذلك العجوز باوندرباي.»
فقال جيمس هارتهاوس: «لم تهتم، تؤدي معني الفعل الماضي، ونحن في الزمن الحاضر الآن، أليس كذلك؟»
فقال توم: «الفعل في الزمن الحاضر (أي المضارع) والفاعل مفرد متكلم، هو (أنا لا أهتم). والفعل المضارع والفاعل مفرد مخاطب هو (أنت لا تهتم) والفعل المضارع والفاعل مفرد غائب هو (هو لا يهتم) هذا للمذكر، أما للمؤنث فهو (هي لا تهتم).»
فقال صديقه: «حسنا! هذا ممتع جدا، ولكنك لا تعنيه.»
فصاح توم يقول: «ولكنني أعنيه، من المؤكد أنني أعنيه، ولن تقول لي يا مستر هارتهاوس أنك تظن أن أختي لو تهتم بالعجوز باوندرباي!»
فقال جيمس: «يا صديقي العزيز؛ ماذا أظن عندما أجد زوجين يعيشان في وئام وانسجام وسعادة؟»
قال: «أنت تعرف أبي، ولا حاجة بك لأن تدهش من أن لو تزوجت العجوز باوندرباي، لم يكن لها أي عاشق على الإطلاق؛ إذ كان أبي في منتهى الصرامة.
وكان بيتنا عبارة عن سجن؛ فاقترح أبي عليها أن تتزوج العجوز باوندرباي؛ فأخذته.»
فقال المستر جيمس هارتهاوس: «أختك تعرف واجبها، مثلما هي جميلة.»
فقال الكلب الصغير: «ما كانت أختي لتعرف واجبها، لولاي!»
ما كان من المضيف إلا أن رفع حاجبيه؛ فاضطر الكلب الصغير إلى أن يستمر في كلامه.
قال: «أنا حثثتها، وكانت تعمل أي شيء من أجلي، وهذا لطيف جدا منها.»
فقال هارتهاوس : «عندما ذهبت إلى المصرف مساء أمس لأعرف عنوان بيت المستر باوندرباي، التقيت بسيدة عظيمة عجوز هناك، تبدو معجبة جدا بأختك.»
فقال توم: «إنها الأم سبارسيت؛ شعورها نحو أختي أكثر من الإعجاب، على ما أعتقد.» ثم أغمض عينا، وضرب بإصبعه على أنفه عدة مرات، وأردف يقول: «الأم سبارسيت، لم تأمل إطلاقا في أن تتزوج باوندرباي، عندما كان أعزب، لم تأمل في هذا أبدا.»
كان للويسكي الذي ظل توم يشربه لفترة من الوقت تأثير قوي على قواه العقلية، فاستغرق في النوم.
استيقظ توم من حلم مزعج، بركلة من حذاء، ثم سمع صوتا يقول له: «استيقظ! نحن في وقت متأخر جدا من الليل، ويجب أن تنصرف.»
صحا توم من نومه، وقال: «نعم؛ يجب أن أنصرف الآن.» الواقع، أنه كان لا يدري ما يقول. ثم أردف بقوله: «تبغك طيب، ولكنه خفيف.»
فقال المضيف: «نعم؛ هو خفيف جدا.»
فقال توم: «خفيف جدا .. أين الباب؟ مساء الخير!»
وجد توم طريقه إلى البيت وهو يسير كما لو أن الجو أمامه مشبع بالضباب، إذ عب الكثير من ذلك الشراب البارد.
وهكذا ذهب الكلب الصغير إلى البيت وإلى الفراش.
ولكنه لو شعر بما فعله في تلك الليلة لتوقف .. لتوقف وأغرق نفسه في النهر الأسود، الذي يجري خلال كوكتاون.
الباب الرابع
رجال وإخوة
«أيا أصدقائي وزملائي المواطنين .. يا عبيد الطغيان ذي اليد الحديدية .. يا أصدقائي وزملائي .. يا من تعانون أقسى ألوان الظلم .. يا زملائي العمال، وزملائي الرجال، أقول لكم: لقد حانت الساعة. يجب أن يلتف كل واحد منكم حول الآخر كقوة واحدة متحدة. يجب أن نسحق في التراب أولئك الذين يحتفظون بنا عبيدا، ويعيشون من عملنا.»
صفق الحاضرون تصفيقا حادا، وشرب الخطيب بعض الماء من كوب، وكانت القاعة مزدحمة وجوها حار. ثم استأنف الخطيب سلاكبريدج
Slackbridge
كلامه، فقال: «ولكنني آسف يا إخواني وزملائي! ماذا نقول لذلك العامل المنشق علينا؟ ذلك الرجل الذي لن ينضم إلينا في حربنا من أجل الحرية والحق؟»
فصاح صوت يقول: «فلنستمع إليه.»
فقال سلاكبريدج: «ها هو!»
إنه ستيفن بلاكبول . فصعد هذا الرجل إلى المنصة شاحب اللون وبادي التعب.
فقال ستيفن بصوت هادئ واضح: «يا إخواني، فكرت في هذا الموضوع يا زملائي العمال، وأنا أعرف تماما أنكم ستقاطعونني ولن تتحدثوا معي بعد ذلك. ولكني لا أستطيع الانضمام إليكم.»
فقال رئيس الاجتماع: «فكر في هذا الأمر مرة أخرى يا ستيفن بلاكبول، قبل أن يتحاشاك جميع أصدقائك وزملائك.»
ولكن ستيفن لم يستطع تغيير رأيه، فغادر القاعة في صمت.
وقع ستيفن في حياة العزلة بسهولة. فإذا قابله زملاؤه أشاحوا بوجوههم عنه. كان ستيفن هذا رجلا هادئا، ولم يعرف كيف أننا جميعا نحتاج إلى نظرة وكلمة من غيرنا من البشر، وكيف أن كل واحد منا بحاجة إلى التآلف والتآزر مع بني جنسه.
مرت الأيام الأربعة الأولى على ستيفن طويلة وثقيلة، لم يلتق خلالها براشيل، وتجنب كل فرصة للالتقاء بها .. إنهم الرجال وليسوا النساء الذين أمروا بمقاطعته، ولكنه اعتقد أنه إن رؤي مع راشيل، فربما أساء القوم معاملتها.
ظل ستيفن هادئا وحده لمدة أربعة أيام، لم يتحدث مع أي إنسان، ولم يتحدث معه أي إنسان. ثم حدث بينما كان يغادر عمله ليلا، أن استوقفه شاب في الشارع، وقال له: «هل اسمك بلاكبول؟» وكان ذلك الشاب ذا بشرة زاهية جدا حتى لتحسبها بيضاء ناصعة.
فقال ستيفن: «نعم!»
ذلك الشاب هو بيتزر، فقال لستيفن: «هل أنت اليد، الذي يريد العمال جميعا ألا يتحدثوا معه؟»
فأجاب ستيفن يقول مرة أخرى: «نعم!»
قال: «يريد المستر باوندرباي أن يتكلم معك. وأنت تعرف بيته.»
استدار ستيفن، ويمم شطر بيت المستر باوندرباي الكبير والمبني بالطوب الأحمر.
الباب الخامس
الرجال والرؤساء
ذهب ستيفن لمقابلة المستر باوندرباي الذي كان بحجرة الاستقبال في بيته، وكانت الأسرة وقتذاك تتناول الشاي، وكان هناك زوجة المستر باوندرباي، صغيرة السن، وأخوها، وشاب جميل أنيق، من لندن.
وقف ستيفن عند الباب بأدب، ممسكا قبعته في يده، وقال: «فيم تريد أن تتحدث إلي، يا سيدي؟»
فقال المستر باوندرباي: «أخبرني عن نفسك، وعن اتحاد العمال ذاك.»
فأجاب ستيفن بقوله: «عفوا يا سيدي ، ليس لدي ما أقوله عنه.»
استشاط المستر باوندرباي غضبا، وثار وصار مثل الريح التي إن وقف في طريقها شيء هبت عليه وقهرته.
فقال المستر باوندرباي: «يا هارتهاوس! ها هي عينة منهم. فعندما كان هذا الرجل هنا ذات مرة قبل الآن أخبرته بأنه يسير في الاتجاه الخطأ، وحذرته من صانعي الشغب، وها هو الآن خائف أن يتكلم عنهم.»
فقال ستيفن: «قلت إنه ليس لدي ما أقوله عنهم يا سيدي، ولم أقل إنني خائف أن أتكلم.»
زاد غضب المستر باوندرباي شيئا فشيئا، فقال: «هنا رجل من لندن، وأريده أن يسمع المناقشة بيننا. فمم تشكو؟»
قال ستيفن: «لم آت إلى هنا لأشكو يا سيدي، بل جئت لأنني استدعيت.»
فقال المستر باوندرباي، وقد وضع ذراعيه على صدره: «هل تشتكون بطريقة عامة أيها الناس؟»
تردد ستيفن لحظة، ثم قال: «انظر حول هذه البلدة يا سيدي، يجب على الناس أن يعملوا بجد منذ الطفولة إلى الشيخوخة، بدون أي تغيير، انظر كيف تتحدث عنا، وتقول دائما إننا مخطئون. هنا شيء خطأ، خطأ تماما.»
فقال المستر باوندرباي: «طبعا؛ هو كذلك. والآن؛ ربما أمكنك أن تخبر هذا السيد بما ستعمله لتصحيح الخطأ.»
قال: «لست أعرف يا سيدي.»
فقال المستر باوندرباي: «سأخبرك بشيء يساعدك، سنقبض على ستة خطباء من أمثال سلاكبريدج.»
هز ستيفن رأسه بجدية.
فقال المستر باوندرباي، وهو يصيح كالريح العاصفة: «لا تقل إننا لن نستطيع القبض عليهم؛ لأننا سنفعل هذا، أكيدا.»
أشارت لويزا إلى ستيفن لكي يذهب نحو الباب، ولكنه لم يكن سريعا بما فيه الكفاية.
فقال المستر باوندرباي، وقد اشتدت حمرة وجهه: «قف لحظة يا ستيفن. أخبرتك في المرة الأخيرة التي كنت فيها هنا ومعك شكوى، أخبرتك برأيي. والآن أجدك سيئ الطباع، فحتى زملاؤك العمال لا يتحدثون معك الآن. لم أفكر، قط في أن أولئك الأشخاص يمكن أن يكونوا على حق في أي شيء، ولكني أتفق معهم الآن، ولن تكون لي بك أية صلة.»
رفع ستيفن عينيه بسرعة إلى وجه المستر باوندرباي.
فقال المستر باوندرباي : «يمكنك أن تنهي العمل الذي تقوم به، ثم تذهب إلى أي مكان آخر.»
فقال ستيفن: «أنت تعرف جيدا يا سيدي أنني إن لم أعمل عندك فلن يكون بوسعي أن أجد عملا في أي مكان آخر.»
فأجاب المستر باوندرباي، بقوله: «ما أعرفه أعرفه، وما تعرفه أنت تعرفه، ولن أقول شيئا عن هذا الموضوع بعد الآن.»
نظر ستيفن بسرعة إلى لويزا، ولكن عينيها كانتا تنظران إلى أسفل نحو الأرض. فانصرف ستيفن وهو يئن، وقال بصوت منخفض: «فلتساعدنا السماء جميعا في هذا العالم!»
الباب السادس
الرحيل
عندما خرج ستيفن من عند المستر باوندرباي كان الظلام قد خيم على الكون ولفه في غلالة سوداء، فسمع خلفه وقع أقدام يعرفها، فاستدار، فأبصر راشيل ومعها المرأة العجوز التي رآها قبل ذلك عندما زار المستر باوندرباي. فدهش لرؤيتها مرة أخرى.
سار ستيفن مع راشيل وتلك المرأة نحو البلدة، وفي أثناء الطريق، قالت المرأة العجوز إنها سمعت عن زواج المستر باوندرباي، وإنها لتحب كثيرا أن ترى زوجته. غير أن المستر باوندرباي لم يخرج من منزله؛ لذا سألت راشيل عن منظر تلك الزوجة.
فقال ستيفن: «أنا أخبرك؛ فقد رأيتها منذ لحظة. هي صغيرة السن وجميلة، ذات عينين سوداوين مفكرتين وجذابتين، وأخلاقها هادئة.»
سألت راشيل تقول بلهفة: «هل تركت العمل يا ستيفن؟»
قال: «يا راشيل، سواء تركت عمل المستر باوندرباي أو إن عمله هو الذي تركني؛ فهذان سيان. لقد افترقت أنا وعمله، وربما كانت هذه الطريقة أفضل. فلو بقيت هناك لجلب بقائي متاعب فوق متاعب، ولكن يجب أن أغادر كوكتاون، الآن، ثم أبدأ من جديد.»
فقالت راشيل: «إلى أين ستذهب يا ستيفن؟» - «لست أدري، وسأفكر في هذا الأمر.»
استمر الثلاثة يسيرون نحو بيت ستيفن، فلما اقتربوا منه، قال ستيفن للمرأة العجوز: «هل تتفضلين بالمجيء إلى بيتي، وتتناولين قدحا من الشاي؟ وكذلك تأتي راشيل، وبعد ذلك أوصلك إلى مساكن السياح. سيمر وقت طويل قبل أن ألتقي بك مرة أخرى يا راشيل.»
وافقت المرأة، فذهبوا جميعا إلى حيث يقيم ستيفن. رأى ستيفن بارتياح أن شباك حجرته مفتوح كما تركه، ولا أحد بالحجرة. انصرفت منذ شهور زوجته التي كانت عفريت حياته الشرير، وأخذت معها بعض ممتلكاته، ولم يسمع عنها منذ ذلك الوقت، ولكنه كان يخاف دائما أن تعود.
تناول هؤلاء الثلاثة الشاي معا، وأخبرته المرأة العجوز أن اسمها مسز بجلر
، وأنها أرملة، ولها ابن واحد، ولكنها فقدته.
صعدت صاحبة بيت ستيفن، فجأة، واستدعته إلى الباب، وأخبرته بأن مسز باوندرباي تريد زيارته.
فبدا الخوف عندئذ على وجه المرأة العجوز، وانزوت في أحد أركان الحجرة حيث لا يلاحظ وجودها أحد.
هبط ستيفن السلم، وعاد بعد لحظات مع لويزا، وكان يتبعها أخوها توم.
نهضت راشيل في معطفها وهي ممسكة قبعتها في يدها، وقد دهش ستيفن لهذه الزيارة، فوضع الشمعة على المائدة، ووقف ينتظر أن تتكلم لويزا.
لأول مرة في حياة لويزا تذهب إلى بيت أحد عمال كوكتاون. ولأول مرة في حياتها تلتقي بهم وجها لوجه. كانت تعلم فقط بوجودهم، بالمئات وبالألوف. فوقفت لبضع لحظات تنظر حوالي الحجرة، فلاحظت قلة المقاعد، والكتب القليلة، والسرير والمائدة.
نظرت لويزا إلى المرأتين وإلى ستيفن، وقالت إليه: «جئت إلى هنا بسبب ما حدث بعد ظهر هذا اليوم، وأحب أن أساعدك، إن سمحت لي، ماذا ستفعل الآن؟»
قال: «سأغادر هذه البلدة، يا مدام، وأجرب غيرها.»
قالت: «وكيف ستسافر؟» - «على قدمي يا سيدتي الرحيمة، على قدمي.»
تغير لون لويزا، وظهر كيس نقود في يدها، فأخذت منه ورقة مالية ووضعتها على المائدة وقالت: «هل تتفضلين يا راشيل بأن تخبريه بأن هذه الورقة له لتساعده في سفره؟ وهل تتفضلين برجائه أن يأخذها؟»
نظرت لويزا إلى المرأتين وإلى ستيفن وقالت إليه: «جئت إلى هنا بسبب ما حدث بعد ظهر هذا اليوم، وأحب أن أساعدك.»
فقالت راشيل: «لا يمكنني أن أفعل هذا يا سيدتي الصغيرة. وليباركك الرب نظير تفكيرك فيه، ولكن قبول هذه الورقة يرجع إليه هو نفسه. عليه أن يفعل ما يعتقده صوابا.»
فقال ستيفن: «شكرا لك يا مدام، سآخذ جنيهين فقط، بصفة قرض، وسأردهما ثانية .»
استعادت لويزا الورقة المالية، ووضعت مكانها جنيهين ذهبيين.
في تلك الأثناء كان توم جالسا على السرير يهز إحدى ساقيه، وينظر إلى ما يجري بدون اهتمام، فلما رأى أخته تستعد للانصراف، نهض بسرعة وقال: «انتظري لحظة يا لو، أريد أن أتحدث مع ستيفن؛ إذ طرأ على بالي أمر الآن، وإن صحبتني إلى الخارج يا بلاكبول فسأقوله لك.»
تبع ستيفن توم، فأغلق هذا الأخير باب الحجرة وراءهما، وقال هامسا: «أعتقد أن بوسعي مساعدتك.»
وقعت أنفاس توم كالنار على أذن ستيفن، إذ كانت ساخنة.
قال توم: «متى سترحل؟»
فقال ستيفن، وهو يحسب: «اليوم الإثنين، إذن، فسأرحل يوم الجمعة أو السبت.»
فقال توم: «يوم الجمعة أو السبت .. إنك تعرف الشاب الذي في المصرف، ذلك الذي جاءك بالرسالة اليوم؟»
قال: «نعم أعرفه.»
فقال توم: «حسنا جدا؛ عندما تترك المصنع مساء، في كل ليلة حتى ترحل، اذهب إلى المصرف، وانتظر خارجه لمدة ساعة أو نحوها، قد ترى ذلك الشخص في النافذة، ولكنه لن يخرج ليتحدث إليك إلا إذا وجدت أن بوسعي مساعدتك، فإن أمكنني مساعدتك، خرج إليك ذلك الشاب، أو ترك لك مذكرة أو رسالة. هل أنت متأكد من أنك فهمت؟»
فقال ستيفن: «نعم فهمت يا سيدي.» ثم رجعا إلى الحجرة، إلى الآخرين.
بعد انصراف توم ولويزا، صحب ستيفن وراشيل مسز بجلر إلى مسكنها، وقد أعجبت هذه الأخيرة بمسز باوندرباي غاية الإعجاب، وبكت لكونها فتاة جميلة.
سار ستيفن وراشيل نحو ناصية الشارع الذي تقيم فيه راشيل، وعند اقترابهما منه، نزل عليهما سكوت تام ثم توقفا وهما لا يزالان صامتين، كما لو كان كل منهما خائفا أن يتكلم.
وأخيرا قال ستيفن: «يا راشيل، سأحاول أن أراك مرة أخرى قبل رحيلي، ولكن إذا ...»
قالت: «لن تراني، أنا أعرف ذلك. من الخير أن يكون كل واحد منا صريحا مع الآخر. اكتب إلي وأخبرني بكل ما يحدث يا ستيفن.» - «نعم، سأكتب إليك يا راشيل، وليكن الله معك، وليباركك ويجازك ويثبك!» - «عسى أن يبارك الرب جميع تجوالاتك يا ستيفن، وليمنحك السلم والراحة أخيرا ، وليباركك الله، ومساء الخير!»
لم يكن هذا سوى وداع سريع في الشارع، ولكنه كان ذكرى مقدسة لدى هذين الشخصين العاديين.
عمل ستيفن في المصنع في اليوم التالي والذي يليه. وما من أحد من العمال تكلم معه، وكان في كل ليلة يذهب إلى المصرف ويقف خارجه أكثر من ساعة ولم يتصل به أحد، ولم يحدث أي شيء سواء كان طيبا أو رديئا.
قرر ستيفن في الليلة الثالثة والأخيرة أن يبقى خارج المصرف لمدة ساعتين، فبدت هاتان الساعتان دهرا. كان يعرف أن مديرة بيت المستر باوندرباي جالسة عند نافذتها بالطابق الأول، وأن رسول المصرف جاء إلى تلك النافذة مرة أو مرتين، وجاء مرة إلى الباب الأمامي، ولكنه لم يقل شيئا لستيفن.
وأخيرا، ذهب ستيفن إلى بيته، وودع صاحبة البيت، وذهب إلى الفراش مبكرا، ورغب في مغادرة البلدة مبكرا، قبل أن يكون العمال الآخرون في الشارع الذي يسير فيه.
عندما بزغ النهار، ألقى ستيفن نظرة حول حجرته لآخر مرة، ثم غادر البيت.
كانت الشوارع خالية من الناس، لم يبصر فيها أي مار، كما لو أن سكان البلدة قد هجروها؛ لأنهم لا يريدون أن يتحدثوا معه. فصعد في التل. وعندئذ ارتفعت الشمس في السماء بعيدا عن الأفق، وأخذت الحياة تدب في البلدة.
من الغريب أن يتحول ما اعتاد ستيفن رؤيته، من المداخن العالية ذوات الدخان الكثيف، إلى الطيور تشقشق وتزقزق على أفنان الأشجار، ومن الغريب أيضا أن يعلق تراب الشوارع بقدميه بدلا من تراب الفحم، ومن الغريب كذلك أن يقضي حياته في تلك البلدة، ثم يرحل عنها ليبدأ حياة أخرى من جديد، في هذا الصباح من الصيف.
سار ستيفن في الطريق، وهذه الأفكار تدور في خلده، وهو يحمل صرته تحت ذراعه، تظله الأشجار وتهمس إليه بأنه ترك وراءه قلبا محبا.
الباب السابع
البارود
أخذ المستر هارتهاوس يفكر في لويزا، وكيف انفرجت أساريرها، وهش وجهها وبش، وابتسمت ابتسامة جميلة لمجرد رؤية أخيها، ذلك الكلب الصغير، وسيكون إحساسا جديدا، أن تغير ذلك الوجه من أجله هو ، جيمس هارتهاوس.
كان المستر هارتهاوس سريع الملاحظة، قوي الذاكرة. لم ينس أي كلمة مما قاله توم عن أخته لويزا، ولكن الحقيقة أنه لم يفهم الجزء الأفضل من أخلاق لويزا. فالعمق لا يستجيب إلا للعمق، ورغم هذا، أخذ يقرأ بقيته في عيني الطالب المتعلم.
عندما تزوج المستر باوندرباي، اشترى منزلا يبعد عن البلدة بحوالي أربعة وعشرين كيلومترا، وعن أقرب محطة سكة حديدية بكيلومتر واحد أو اثنين. وكثيرا ما كان المستر هارتهاوس يعيش الآن مع أسرة باوندرباي، في المنزل الريفي، عندما ينتقل في تلك المنطقة، يعمل من أجل حزبه السياسي. وكثيرا ما كان المستر باوندرباي يفخر أمام جميع معارفه بأنه لا يهتم فيما يختص بذوي العلاقات السياسية؛ أمثال المستر جيمس هارتهاوس، ولكنه يقول إن اهتمت بهم زوجته رحبوا بصحبتها.
وذات يوم، جلست لويزا وحدها في الحديقة، والجو هادئ هناك وسط الأشجار، وقد اعتادت أن تجلس في الحديقة، تلاحظ أوراق السنة الماضية وهي تسقط، مثلما كانت تلاحظ رماد النار في بيت طفولتها.
جاء المستر هارتهاوس إلى حيث تجلس مسز باوندرباي، وقال: «يسرني، يا مسز باوندرباي أن أجدك وحدك؛ لأنني أريد أن أتحدث معك في موضوع خاص بك.»
جلس هارتهاوس إلى جانب لويزا، ينظر إلى وجهها الجميل، وقال: «أخوك توم، صديقي الصغير توم ...»
ما إن سمعت لويزا اسم أخيها توم، حتى انفرجت أسارير وجهها، ونظرت إلى هارتهاوس باهتمام. ففكر يقول لنفسه: «لم أر في حياتي شيئا جذابا مثل هذا الوجه عندما تنفرج أساريره.»
أدرك هارتهاوس أن لويزا لاحظت إعجابه، فقال: «عفوا يا سيدتي! ملامح محبتك الأخوية جميلة جدا، يجب أن يفخر بها توم.»
قالت: «يا مستر هارتهاوس؛ إنني لأوقرك من أجل محبتك لأخي.»
فاستطرد يقول بلهجة ألطف: «يا مسز باوندرباي، أخوك توم ما زال صغيرا، وليس ذنبا كبيرا أن يبذر نقوده.»
قالت: «هذا صحيح.»
قال: «اسمحي لي يا مسز باوندرباي بأن أكون صريحا. أتظنينه يراهن؟»
قالت: «نعم، أظنه يراهن، وأعلم ذلك.»
قال: «وبالطبع يخسر!»
قالت: «نعم.»
قال: «كل من يراهن يخسر. وهل لي أن أقول إنك ربما أعطيته نقودا، في بعض الأحيان؟»
جلست لويزا تنظر إلى أسفل، ولكن عندما سمعت هذا السؤال، رفعت عينيها ذعرا.
فقال هارتهاوس: «أريد مساعدة توم.»
قالت: «يا مستر هارتهاوس! أنا لا أندم على أي شيء فعلته، فعندما تزوجت، وجدت أخي مثقلا بالديون، فبعت بعضا من مجوهراتي وأعطيته النقود، ولكنه يحتاج الآن إلى مبالغ أكبر، لا يمكنني أن أعطيه إياها .. احتفظت بهذا سرا، حتى الآن، وإني لأثق في شرفك!»
فقال المستر هارتهاوس إن ذلك لم يكن خطأ أخيها، إذ كان تعليمه صارما، ثم أردف يقول: «إنني لألومه على شيء واحد؛ هو أن يكون أكثر رقة معك، وأكثر اعترافا بالجميل.»
عندما سمعت لويزا هذا الكلام، لاح أمام عينيها منظر الغابات، إذ امتلأت عيناها بالدموع، خرجت من مآقيها العميقة، حيث ظلت خافية لمدة طويلة. وكان قلبها مفعما بالألم الحاد، إلا أن هذا الألم لم يجد شفاء في الدموع.
فقال هارتهاوس: «سأفعل كل ما في مقدوري لتغيير هذا، يا مسز باوندرباي. وها أنا ذا أرى أخاك قادما إلى الحديقة نحونا.»
نهض جيمس هارتهاوس، كما نهضت لويزا لملاقاة الكلب الصغير، وكان في حالة نفسية بالغة السوء. فلما وصلوا جميعا إلى البيت، تركتهما لويزا.
سأل هارتهاوس، توم بقوله: «ما الخطب يا عزيزي توم؟»
قال وهو يتأوه: «آه، يا مستر هارتهاوس، أنا بحاجة فظيعة إلى نقود، وقلق جدا من أجلها.»
قال هارتهاوس: «وكذلك أنا يا صديقي الطيب.»
فقال توم: «أنت؟ إنك بخير يا مستر هارتهاوس. أما أنا ففي مأزق حرج. ليس لديك أية فكرة عن الحالة التي أوقعت نفسي فيها، لكن بوسع أختي أن تخرجني منها، وتنتشلني إن فعلت.»
قال: «إنك لتتوقع الكثير من أختك يا توم. لقد حصلت منها على نقود قبل الآن أيها الكلب، وأنت تعرف ذلك.»
قال وهو يكاد يبكي: «أعرف أنني أخذت منها نقودا .. فإلى من أذهب للحصول على نقود؟»
فقال هارتهاوس: «ولكن يا عزيزي توم، إن لم يكن لدى أختك؟»
فأجاب توم بقوله: «يجب أن تحضرها. لم تتزوج العجوز باوندرباي من أجل خاطرها، بل من أجل خاطري أنا، يجب أن تكون أكثر رفقا معه. إنها تجلس معه كقطعة من الحجر، بوسعها أن تجعل نفسها مقبولة وتأخذ منه كل ما تريده من نقود.»
كان بأسفل المكان الذي يقفان فيه بركة ماء للزينة، وكانت لدى المستر جيمس هارتهاوس رغبة قوية في أن يقذف فيها توم جرادجرايند الصغير، ولكنه استمر يتكلم باللين.
قال هارتهاوس: «يا عزيزي توم، دعني أكون صاحب مصرفك.»
فقال توم، فجأة، وقد امتقع لونه: «من أجل خاطر الله، يا مستر هارتهاوس لا تتكلم عن المصارف.»
فقال هارتهاوس: «كم تحتاج الآن يا توم؟ ثلاثة أرقام؟ قل كم تحتاج.»
قال توم وهو يبكي: «الواقع يا مستر هارتهاوس أنه فات الأوان، ليس للنقود أية فائدة لي الآن. كان يجب أن أحصل عليها قبل الآن، ولكني شاكر لك جدا. إنك صديق حميم، وكم أتمنى لو أنني عرفتك من قبل.»
قال: «يا توم؛ يجب أن تكون أكثر محبة، ولطافة حيال أختك.»
قال: «سأكون كذلك، يا مستر هارتهاوس.»
فقال هارتهاوس: «ما من وقت مثل الوقت الحاضر، يا توم ابدأ فورا.»
عندما ظهر توم عند العشاء، قال لأخته: «لم أقصد أن أكون ثقيلا يا لو.» ومد إليها يده وقبلها، ثم استطرد يقول: «أعرف أنك مولعة بي، وتعرفين أنني مولع بك.»
ابتسمت لويزا، في ذلك اليوم، لشخص آخر. للأسف، لشخص آخر.
الباب الثامن
الانفجار
في اليوم التالي ركب المستر جيمس هارتهاوس حصانا وأخذ يطوف في أرجاء تلك المنطقة، يزور الناس الذين يصوتون لحزبه. فلما رجع في الساعة السادسة مساء، اندفع نحوه فجأة المستر باوندرباي، فجفل حصانه.
صاح المستر باوندرباي يقول: «يا هارتهاوس! هل سمعت؟»
فقال هارتهاوس: «سمعت ماذا؟» وهدأ حصانه وربطه جانبا.
وقف المستر باوندرباي ثائرا عابس الأسارير وقال: «لقد سرق المصرف.»
قال: «لا بد أنك تقصد شيئا غير هذا!»
فقال باوندرباي: «سرق في الليلة الماضية يا سيدي. سرق بطريقة غير عادية، سرق بمفتاح مصطنع!» - «وهل سرق مبلغ كبير؟» - «ليس كبيرا جدا، إلا أنه كان من الممكن سرقة مبلغ كبير.» - «كم؟»
فقال المستر باوندرباي: «ليس أكثر من مائة وخمسين جنيها، ولكن المهم ليس هو المبلغ، المهم هو الحقيقة. سرق المصرف. هذا هو المهم. يدهشني أنك لم تفهم ذلك.»
جاء إليهما: لويزا، ومسز سبارسيت، وبيتزر.
فقال المستر باوندرباي: «تعرف زوجتي جيدا، ماذا كان يمكن أن يحدث، فلما سمعت أغمي عليها.»
ما زالت لويزا تبدو ضعيفة وشاحبة اللون، فطلب منها المستر جيمس هارتهاوس أن تمسك ذراعه، ثم أخذا يسيران ببطء.
ما زال المستر باوندرباي متكدرا، فقال: «سأخبركم كيف حدثت السرقة. هل تعرف مسز سبارسيت؟»
فأجاب جيمس هارتهاوس بقوله: «سبق أن نلت شرف معرفتها.» - «وهل تعرف ذلك الشاب بيتزر، وتعرف أن كليهما يعيش في المصرف؟ فعند نهاية العمل، مساء أمس، وضع كل شيء كالمعتاد، ونام ذلك الشاب خارج غرفة الخزانة، كما أن هناك خزانة صغيرة في الحجرة التي يعمل بها توم، وتستعمل للمبالغ البسيطة، كان بها مائة وخمسون جنيها.»
فقال بيتزر: «مائة وأربعة وخمسون.»
فقال المستر باوندرباي: «لا تقطع علي القول يا بيتزر. يكفي أن سرق المصرف وأنت نائم .. سأستمر في كلامي. وضع توم ذلك المبلغ في الخزانة وأقفلها، وهي ليست خزانة قوية جدا، وعندما انصرف توم، كان كل شيء على ما يرام، وفي أثناء الليل، وبيتزر نائم، ذهب شخص ما إلى خزانة توم. لا بد أنه - أو أنهم - كانوا مختبئين في البيت، أو دخلوه بطريقة ما، ففتحوا خزانة توم الصغير عنوة، وأخذوا ما فيها، وخرجوا من البيت، من الباب الرئيسي، وكان الباب موصدا بالقفل، ولكنهم استخدموا مفتاحا مصطنعا، عثر عليه فيما بعد في الشارع بقرب المصرف في حوالي الساعة الثانية عشرة .. فعندما فتح بيتزر المكاتب، في هذا الصباح، لاحظ خزانة توم، كان الباب نصف مفتوح، والقفل مكسورا، والنقود غير موجودة.»
ما زالت لويزا تبدو ضعيفة وشاحبة اللون. فطلب منها المستر جيمس هارتهاوس أن تمسك ذراعه، ثم أخذا يسيران ببطء.
تطلع المستر هارتهاوس حواليه، وقال: «أين توم الآن؟»
فقال بيتزر: «إنه يساعد البوليس، وهو الآن بالمصرف.»
فقال هارتهاوس: «وهل اشتبه في أي شخص؟»
كاد المستر باوندرباي ينفجر غضبا، وقال: «قد يكون اللص يدا من المصنع.»
فقال هارتهاوس، في هدوء: «آمل في ألا يكون صديقنا بلاكبول.»
فقال المستر باوندرباي: «قل بول (أي بركة) بدلا من قدر يا سيدي، إنه ذلك الرجل ستيفن بلاكبول، هو المشتبه فيه.»
أطلقت لويزا صوت دهشة ضعيفا، فنظر المستر باوندرباي إلى هارتهاوس، وقال: «هل تذكر ما قلته له عندما رأيته معي؛ أخبرته بما أعتقده في سلوكه. أنا أصرح دائما بما يجول بفكري. أعرف أولئك الأيدي. لقد اختفى بعد ذلك بثلاثة أيام، ولا أحد يعرف أين ذهب. وماذا فعل قبل أن يرحل؟ شوهد ليلة بعد ليلة خارج المصرف يراقبه.»
فقال جيمس هارتهاوس: «هذا أمر يدعو إلى الريبة بكل تأكيد.»
فقال المستر باوندرباي: «هذا هو نفس اعتقادي. ولكن هناك أكثر من واحد، هناك سيدة عجوز، يبدو أنها قدمت إلى البلدة في زيارة طارئة، وهي تراقب المصرف أيضا. التقت به في الليلة التي رأيت فيها بلاكبول بمنزلي.»
تذكرت لويزا أنه كان بمنزل ستيفن بلاكبول، في تلك الليلة، امرأة عجوز، توارت في ركن مظلم بالحجرة دون أن تتكلم.
فقال هارتهاوس: «لا شك في أنهم سيعاقبون جميعا عندما يعثر عليهم.»
بعد ذلك، دعا المستر باوندرباي، مسز سبارسيت لتمكث معهم مدة يوم أو يومين، إذ أزعجتها كثيرا سرقة المصرف هذه.
بعد العشاء، تناقش المستر باوندرباي، في حجرة الاستقبال، في موضوع السرقة ثم أرسل بيتزر ثانية إلى المصرف يحمل رسالة إلى توم كي يأتي إليهم بآخر قطار في تلك الليلة.
فيما بعد ذلك، حثت مسز سبارسيت، المستر باوندرباي على أن يجلس إلى مائدة، ويلعب معها لعبة الحظ، فجلسا بجانب شباك يطل على الحديقة، وكان مساء لطيفا، وكانت لويزا تسير مع هارتهاوس في الحديقة، وكان بالإمكان سماع صوتيهما في ذلك الجو الهادئ، ولكن ليس نص الكلام. استمرت مسز سبارسيت تنظر إلى الحديقة بينما يظلم الجو شيئا فشيئا.
فقال المستر باوندرباي: «ما الخطب يا مدام؟ هل ترين حريقا؟»
قالت: «لا يا سيدي .. كنت أفكر في هواء الليل البارد ، وأخشى أن تصاب الآنسة جرادجرايند بالبرد.» وكانت تقصد لويزا.
فقال المستر باوندرباي: «إنها لا تصاب بالبرد أبدا.»
بعد مدة طويلة من ذهاب لويزا إلى الفراش في تلك الليلة انتظرت قدوم أخيها، وأخذت تنصت وهي تعرف أنه لن يأتي إلا بعد منتصف الليل. فلما سمعت وقع أقدامه، عرفت أنه جاء، فذهبت إلى حجرته.
كان باب الحجرة مقفلا، ففتحت برفق، وتحدثت إليه. ثم سجدت إلى جانب سريره، وجذبت وجهه نحوها وهي تعرف أنه لم يكن نائما. فتظاهر بأنه صحا لتوه، وسألها ما الخطب.
قالت: «يا توم؛ ألديك ما تحدثني به؟ إن كنت قد أحببتني في حياتك، ولديك ما تخفيه عن كل إنسان غيري، فبح به إلي.»
قال: «لا أعرف ما تقصدين يا لو. إنك تحلمين!»
لم يخبر توم أخته بشيء، ولكنه بكى بعد أن انصرفت.
الباب التاسع
سماعها لآخر مرة
ما زالت مسز سبارسيت تقيم مع أسرة باوندرباي. كانت مؤدبة جدا ولطيفة مع المستر باوندرباي، وقدر هو لها هذا المسلك، فصار رقيقا مع مسز سبارسيت أكثر من ذي قبل، وأقسى مع كل من عداها، ابتداء من زوجته فمن دونها.
وذات صباح، قالت مسز سبارسيت بطيبة قلب: «أراك تنتظر طعام إفطارك، يا مستر باوندرباي، وأتوقع مجيء زوجتك إلى هنا بسرعة لتهتم بك.»
قال: «لو انتظرت زوجتي لكي تهتم بي يا مدام لانتظرت إلى الأبد. ربما يمكنك إعداد إبريق الشاي.»
نفذت مسز سبارسيت ما طلبه المستر باوندرباي، ثم اتخذت مكانها القديم الذي اعتادته عند المائدة، عندما كانت مدبرة بيته قبل أن يتزوج.
بعد مرور مدة، من ذلك اليوم، جاء بيتزر يحمل مذكرة تخبر لويزا بأن أمها مريضة جدا. لم تكن صحة والدتها طيبة، أبدا. وساءت الآن كثيرا. فذهبت لويزا على الفور إلى بيتها القديم لترى أمها.
ذهبت لويزا، والحزن يملأ نفسها، إلى البيت، إلى حجرة أمها. ومنذ أن تركت لويزا ذلك البيت عاشت سيسي جوب مع بقية الأسرة، على قدم المساواة. فوجدتها لويزا جالسة إلى جانب سرير الأم المريضة.
قالت الأم بضعف : «أرجو يا عزيزتي أن تكوني في أحسن حال في حياتك. كان زواجك كله من فعل أبيك. هو الذي أصر عليه، ويجب أن يعرف ذلك.»
فقالت لويزا: «أريد أن أسمع عنك يا أماه وليس عن نفسي.»
فقالت الأم: «لست بحال جيدة يا لويزا، أنا ضعيفة جدا.» - «هل تشعرين بألم يا أمي العزيزة؟»
قالت: «أظن أن هناك ألما في موضع ما بالحجرة. ولكني لست متأكدة من أن الألم بي.» ثم صمتت لحظة وأردفت تقول: «يا فتاتي الطيبة سيسي، اتركيني وحدي لمدة دقيقة.» فغادرت سيسي الحجرة.
فقالت لويزا: «هل تريدين التحدث معي يا أماه؟» «نعم. تعرفين أن أباك في لندن. يجب أن أكتب له عنه.» - «عن ماذا يا أماه؟»
قالت: «لقد علمك أبوك، وعلم أخاك، أشياء كثيرة، أكثر مما أستطيع فهمه، ولكن هناك شيئا نسيه أبوك يا لويزا، لست أدري ما هو. وكثيرا ما جلست، وسيسي قريبة مني، وفكرت في ذلك الشيء، ولكني لم أعرف اسمه حتى الآن. أما أبوك فقد يعرفه. أريد أن أكتب إليه أطلب منه أن يعرفني بذلك الشيء. أعطيني قلما.»
ما كانت الأم لتستطيع أن تمسك قلما، ولكنها حركت يدها كما لو كانت تكتب، ثم توقفت يدها. لقد انطفأ النور الذي كان دائما ضعيفا، وخرجت مسز جرادجرايند من الظل الذي يعيش فيه الإنسان قلقا.
الباب العاشر
سلم مسز سبارسيت
مكثت مسز سبارسيت بضعة أسابيع في بيت أسرة باوندرباي، وعندما أرادت الانصراف، دعاها المستر باوندرباي لأن تقضي عندهما عطلة نهاية الأسبوع إبان الطقس اللطيف. فقبلت مسز سبارسيت الدعوة مسرورة.
ظلت مسز سبارسيت تراقب لويزا، وتخيلتها تهبط سلما كبيرا، عند قاعدته العار والخراب للويزا. وصار عمل حياة مسز سبارسيت أن تنظر إلى قمة سلمها الخيالي، وتراقب لويزا وهي تهبطه، أحيانا ببطء، وأحيانا أخرى بسرعة، وأحيانا تهبط عدة درجات في كل خطوة، وأحيانا تهبط ولكنها لا تستدير عائدة إلى أعلى إطلاقا.
عندما كانت مسز سبارسيت تحزم أمتعتها، ذات مساء؛ لتغادر المنزل، نظرت إلى سلمها الكبير فأبصرت لويزا ما زالت تهبط.
جلست لويزا إلى جانب المستر جيمس هارتهاوس في مكان هادئ بالحديقة، يتكلمان بهدوء جدا. الواقع أنهما كانا يتكلمان عن ستيفن بلاكبول، إلا أن مسز سبارسيت لم تسمع حديثهما.
قال المستر هارتهاوس: «أظن أن ستيفن سرق النقود.»
غير أن لويزا لم تصدقه، في مبادئ الأمر. فأخذ يحثها على تصديقه، ثم شرعا يسيران ببطء في ممرات الحديقة، والظلام ينتشر في الجو. فاستندت لويزا على ذراع هارتهاوس، لم تعرف أنها كانت تهبط إلى أسفل، وإلى أسفل، وإلى أسفل، سلم مسز سبارسيت.
الباب الحادي عشر
إلى أسفل وإلى أسفل
عندما علم المستر جرادجرايند بموت زوجته، رجع من لندن، ودفنها بطريقة عملية، ثم عاد مباشرة إلى أعماله البرلمانية في لندن.
في ذلك الوقت، إذ رجعت مسز سبارسيت إلى مسكنها في المصرف، داومت على المراقبة. لقد انفصلت عن سلمها طوال الأسبوع، بقدر المسافة ما بين كوكتاون ومنزل المستر باوندرباي الريفي، ولكنها ظلت تراقب لويزا، مراقبة دقيقة بطريقة غير مباشرة.
قالت مسز سبارسيت للشبح الهابط: «قدمك على الدرجة السفلى من السلم، يا سيدتي، وكل أفانين خداعك لن تعميني.»
حقيقة، كانت لويزا صامتة هادئة بصورة غريبة. وكانت هناك أوقات لا يتأكد فيها المستر جيمس هارتهاوس من لويزا، وأوقات لم يستطع فيها قراءة ذلك الوجه الذي درسه مدة طويلة.
مر الوقت، وحدث أن استدعى العمل المستر باوندرباي بعيدا عن بيته لمدة ثلاثة أو أربعة أيام، ولكنه دعا مسز سبارسيت إلى أن تذهب إلى بيته الريفي لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، كما اعتادت.
عندما أقفل المصرف في ذلك المساء، قالت مسز سبارسيت لبيتزر، رسول المصرف: «اذهب من فضلك يا بيتزر، وأخبر توم الصغير بأن يأتي ويشاركني وجبة.»
قبل توم الصغير الدعوة، وسرعان ما كان يتناول العشاء على مائدة مسز سبارسيت.
سألت مسز سبارسيت توم، بقولها: «كيف حال المستر هارتهاوس، يا مستر توم؟»
قال: «إنه بخير.»
فقالت مسز سبارسيت بلهجة ودية: «أين هو الآن؟»
قال: «كان بعيدا عن البيت، غير أنني أتوقع أن أراه غدا. عندي موعد معه. اتفقنا على أن نلتقي في المساء عندما يصل إلى المحطة هنا في كوكتاون، ثم نتعشى معا. لا يستطيع البقاء في بيت أبي كثيرا الآن، إذ عليه أن يتنقل، ولكني أظنه سيمكث هناك يوم الأحد القادم.»
فقالت مسز سبارسيت: «يوم الأحد؟ هذا يذكرني بشيء، فهل تتفضل يا مستر توم بحمل رسالة إلى أختك؟ أرجوك أن تخبرها وهي وحدها، بأنني لن أستطيع الذهاب إلى بيتها الريفي، في نهاية هذا الأسبوع لأن صحتي ليست على ما يرام.»
في يوم السبت التالي، جلست مسز سبارسيت بجانب نافذتها طول اليوم، وفي المساء، ارتدت معطفها وقبعتها وذهبت إلى المحطة، فجلست في أحد الأركان المظلمة بالمحطة، واختبأت في حجرة انتظار السيدات لفترة ما، وأخذت تراقب ما يحدث خارج الحجرة.
أبصرت مسز سبارسيت، توم على رصيف المحطة ينتظر القطار القادم، ولكن عند مجيء ذلك القطار لم يكن المستر جيمس هارتهاوس به، فتحدث توم مع موظفي المحطة، فعلم أن عليه أن ينتظر ساعة وأربعين دقيقة حتى يأتي القطار التالي.
فقالت مسز سبارسيت لنفسها: «هذه خطة مدبرة، لإبعاد توم عن البيت؛ هارتهاوس الآن مع أخته.»
وعلى هذا، تركت مسز سبارسيت هذه المحطة بسرعة، وذهبت إلى المحطة الأخرى التي بالبلدة حيث يمكنها أن تستقل القطار إلى بيت المستر باوندرباي الريفي، وسرعان ما كانت في القطار، وهي تتصور سلمها الخيالي، طوال الطريق، فترى الشبح يقترب الآن من الخراب والدمار.
كان مساء غائما من شهر سبتمبر؛ فذهبت مسز سبارسيت إلى بيت المستر باوندرباي، واختبأت في الحديقة، ونظرت إلى نوافذ البيت، فلم تكن بها أنوار حتى ذلك الوقت، والجو يسوده الهدوء. فنظرت حواليها في الحديقة، فلم تبصر أحدا. ثم فكرت في الغابة الصغيرة القائمة في طرف الحديقة، والمقعد الذي تحب لويزا أن تجلس فيه.
وسارت مسز سبارسيت، حتى صارت على مسافة آمنة من ذلك المقعد، ووقفت هادئة، وأصغت .. هناك أصوات خافتة قريبة؛ صوته وصوتها. إذن، فقد كان الموعد مع توم في المحطة، مجرد خدعة لإبعاده من طريقهما .. كانا هناك يجلسان معا، بين الأشجار.
اقتربت مسز سبارسيت مسافة ما، وكان جيمس هارتهاوس، قد جاء راكبا حصانه خلال الحقول فلما وصل، ترجل وربط الحصان في السور. إنه يتكلم الآن مع لويزا.
قال المستر هارتهاوس: «يا أعز محبوبة! ماذا بوسعي أن أفعل؟ عرفت إنك وحيدة هنا، فهل من الممكن أن أبقى أنا بعيدا؟»
حولت لويزا نظرها إلى أسفل، ورجت هارتهاوس أن ينصرف، ثم أمرته بأن ينصرف. لم ترفع عينيها عن الأرض، ولم تنظر إلى وجهه، أو إليه، أو نحوه. بل جلست ساكنة واضعة يدا فوق أخرى، وهي تتكلم ببطء.
ابتهجت مسز سبارسيت عندما رأت ذراع هارتهاوس حول وسط لويزا، وهو يقول لها: «يا طفلتي العزيزة. ألا تسمحين لي بالبقاء هنا برهة؟» - «ليس هنا.» - «أين إذن يا لويزا؟» - «ليس هنا.»
فقال هارتهاوس: «ولكن ليس لدينا سوى القليل من الوقت الذي يمكن أن ننتفع به. وقد جئت من مسافة بعيدة، أنا عبدك!»
قالت بلهجة الغضب: «هل أجبر على أن أقول مرة أخرى إنه يجب أن أترك وحدي؟»
قال: «ولكن يجب أن نتقابل، يا عزيزتي لويزا. فأين نتقابل؟»
أخذ جيمس هارتهاوس يلقي على مسامع لويزا أنه يحبها حبا جما، وعلى استعداد لأن يتنازل عن كل شيء من أجلها. فسمعت مسز سبارسيت هذا الكلام العاطفي وهي مبتهجة، وأخيرا، ركب المستر هارتهاوس جواده وانصرف.
لم تتأكد مسز سبارست من المكان الذي سيلتقيان فيه. ولكنها كانت على يقين من أن اللقاء سيكون في تلك الليلة. ولاحظت لويزا وهي تدخل البيت وانتظرت في الحديقة تحت المطر الوابل، وقد ابتل جوربها الأبيض كله، وسال المطر من قبعتها ومن أنفها المعقوف. وأخيرا، أبصرت لويزا تخرج من البيت.
فكرت مسز سبارسيت في أن لويزا ستهرب مع هارتهاوس. فلم تعبأ بالمطر الغزير، وتبعت لويزا.
خرجت لويزا من الباب الجانبي، ويممت شطر المحطة. وعرفت مسز سبارسيت أنه سرعان ما سيأتي قطار متجه إلى كوكتاون.
اختبأت مسز سبارسيت، من لويزا، في المحطة. فلما جاء القطار، وركبت لويزا في إحدى العربات، وركبت مسز سبارسيت في عربة أخرى. ورغم أن أسنانها كانت تصطك بشدة بسبب البرد، إلا أنها كانت مسرورة .
قالت مسز سبارسيت لنفسها: «ستصل لويزا إلى كوكتاون قبل هارتهاوس، فأين ستنتظره؟ أو إلى أين سيذهبان معا؟ سوف أرى.»
ولكن مسز سبارسيت لم تر شيئا؛ لقد أحدثت العاصفة ارتباكا في محطة كوكتاون، حتى إن مسز سبارسيت فقدت رؤية لويزا.
الباب الثاني عشر
إلى أسفل
جلس المستر جرادجرايند في بيته (ستون لودج)، إذا لم يعقد البرلمان، جلسته، وكان يكتب في حجرته، والساعة العتيقة ما زالت هناك تدق بصوتها العالي المنتظم.
لم تزعج العاصفة الرعدية المستر جرادجرايند كثيرا.
وكان الرعد وقتذاك يتجه بعيدا والمطر يهطل كالطوفان.
بينما المستر جرادجرايند منهمكا في الكتابة، إذ بباب حجرته يفتح فجأة، فتطلع حواليه وهو أمام المصباح الموضوع على المائدة، فأدهشه أن رأى ابنته الكبرى. - «لويزا!»
قالت: «أريد أن أتحدث إليك يا أبت.»
بدت لويزا غريبة الشكل، حتى إن أباها خاف منها. فجلست على مقعد، ووضعت يدها الباردة على ذراعه.
قالت: «لقد دربتني يا أبت منذ سنواتي المبكرة.»
قال: «نعم يا لويزا.»
قالت: «إني لألعن الساعة التي ولدت فيها لمثل هذا المصير.»
فلما سمع الأب كلامها هذا، بعد كل عنايته بها، طأطأ رأسه، وأسنده فوق يده، وتأوه عاليا.
قالت: «كنا معا لآخر مرة في هذه الحجرة يا أبت، عندما تحدثت إلي عن الزواج بجوزياه باوندرباي، ولو عرفت حقيقة مشاعري، فهل كنت تعطيني له؟» «كلا يا طفلتي المسكينة.»
قالت: «هل كنت تسلبني الجزء الهام من حياتي: ربيع وصيف إيماني؟»
أجاب الأب بقوله: «كلا، كلا، يا لويزا.»
قالت لويزا: «شعرت بأن الحياة سرعان ما ستمر، ولا شيء يساوي ألم النضال وتعبه.»
فقال المستر جرادجرايند بإشفاق: «وأنت صغيرة هكذا يا لويزا؟»
قالت: «كان شعوري على ذلك النحو يا أبي، عندما اخترت لي زوجي. فأخذته، ولم أدع سواء له أو لك بأنني أحببته .. كنت أعرف، وأنت تعرف، وهو يعرف أنني لا أحبه إطلاقا. ظننت أن بمقدوري مساعدة أخي توم، بهذا الزواج. كنت أشعر بالعطف الكثير على توم.»
فقال أبوها: «وماذا بوسعي أن أفعل يا طفلتي لويزا؟ اطلبي ما تريدينه .»
قالت: «يا أبت، ألقى الحظ في طريقي بصديق جديد، إنه رجل اجتماعي عصري، ومهذب ومرن، لم تسبق لي أية ممارسة مع أمثال هذا الرجل، لم يتقدم بادعاءات، له آراء متواضعة عن كل شيء، شعرت بأنها هي آرائي أنا نفسي، أيضا يبدو أن هناك تقاربا بيننا يا أبي، وما تعرفه عن قصة زواجي، سرعان ما عرفها هو أيضا.»
امتقع لون المستر جرادجرايند جدا، وأمسك ابنته بكلتا ذراعيه.
قالت: «لا أعرف ما إذا كنت أحبه، ولكن تغيب زوجي في هذه الليلة، فجاء إلي ذلك الرجل، وقرر أنه يحبني، وإنه ليتوقع لقائي، في هذه اللحظة .. آسفة لأنني لا أعرف مثل ذلك الشيء، كل ما أعرفه هو أن فلسفتك وتعليمك لن ينقذاني، وبما إنك نشأتني على هذا يا أبي، فأنقذني!»
شدد الأب قبضته على ابنته، فصرخت بصوت فظيع، وقالت: «سأموت إن أمسكت بي!» ثم سقطت على الأرض مغمى عليها.
الجزء
الحصاد
الباب الأول
شيء ضروري آخر
أفاقت لويزا بعد ذلك في فراشها بحجرتها القديمة، ثم دخل أبوها ليطمئن عليها، وبعد ذلك دخلت سيسي جوب.
قالت سيسي: «أرجو ألا أكون قد أزعجتك؛ جئت لأسالك ما إذا كان بوسعي أن أبقى معك.»
فقالت لويزا: «لماذا تمكثين معي هنا؟»
قالت سيسي: «أحب أن أساعدك إن استطعت.» - «لماذا؟» - «لأساعدك في أي شيء تحتاجين إليه، إن كان ذلك الشيء في مكنتي، وعلى أية حال، سأحاول أن أكون بقربك، قدر طاقتي، فهل تسمحين لي بذلك؟»
فقالت لويزا: «هل سبق أن كرهتك؟»
فقالت سيسي: «أرجو ألا تحدث بيننا أية كراهية، لأنني أحببتك دائما، ولكنك تغيرت قليلا عندما غادرت هذا البيت. وكان هذا طبيعيا جدا، عندما تذهبين إلى أصدقاء .. لم أتأثر إطلاقا.»
أدركت لويزا أن هذه الفتاة تحبها، وتأثر بها قلبها. فقالت سيسي: «هل أحاول؟»
فأومأت لويزا برأسها علامة على الموافقة.
وهكذا صارت سيسي جوب، ابنة عارض السيرك، أوفى صديقة للويزا. •••
قضى المستر هارتهاوس، ليلة كاملة ويوما كاملا في قلق بالغ. فبعد أن ترك لويزا، عاد إلى فندقه، فظل جالسا الليل بطوله ينتظرها . وفي الصباح، ذهب إلى بيت باوندرباي الريفي مرة أخرى، فعلم أن المستر باوندرباي ما زال غائبا، وأن زوجته في البلدة .. سافرت في الليلة الماضية، فجأة.
وعلى هذا، رجع جيمس هارتهاوس ثانية إلى كوكتاون، وذهب إلى بيت باوندرباي بالبلدة أملا في أن يجد لويزا هناك، ولكنه لم يجدها، فسأل في المصرف، فعلم أن المستر باوندرباي ما فتئ متغيبا، وأن مسز سبارسيت ليست هناك هي أيضا. فسأل توم: «أين ذهبت مسز سبارسيت؟»
فقال توم: «لست أدري، انصرفت إلى مكان ما في أول هذا الصباح.»
فقال هارتهاوس: «أين كنت في الليلة الماضية يا توم؟»
قال: «كنت أنتظرك بالمحطة يا مستر هارتهاوس، ولكنك تعني أين كنت أنت!»
فقال هارتهاوس: «منعني الذهاب طارئ ما؛ فاضطررت إلى البقاء.»
فقال توم: «كذلك اضطررت أنا إلى البقاء. كلانا اضطر إلى البقاء؛ إذ بقيت بالمحطة حتى فاتني كل قطار، فكان لزاما علي أن أنام بالبلدة.» - «أين؟» - «ولماذا أين؟ في فراشي ببيتنا.» - «هل رأيت أختك؟» - «كيف أرى أختي وبيني وبينها مسافة أربعة وعشرين كيلومترا؟»
عاد جيمس هارتهاوس إلى فندقه، وظل طيلة بعد الظهر ينتظر أخبارا، وأخيرا جاءه خادم الفندق، يقول: «عفوا يا سيدي، توجد فتاة تريد مقابلتك.»
أسرع المستر هارتهاوس بالخروج من حجرته إلى حيث تقف فتاة لم يرها من قبل، ترتدي ثيابا بسيطة، وكانت هادئة جدا، وجميلة جدا. فقادها إلى الحجرة، وقدم لها كرسيا لتجلس. فرآها في نور الشموع، أجمل مما كان يظن.
عندما صارا وحدهما، قالت الفتاة: «هل أنت المستر هارتهاوس؟»
قال: «نعم، أنا المستر هارتهاوس.»
قالت: «ربما أمكنك التخمين بمن تركتها منذ لحظة قصيرة!»
قال: «كنت قلقا جدا، ومهموما غاية الهم من أجل سيدة صغيرة السن، في الأربع والعشرين ساعة الماضية، وآمل أن تكوني قد جئت من عندها.»
قالت: «نعم! وتركتها منذ أقل من ساعة.» - «أين؟»
قالت: «في بيت أبيها.»
استطال وجه المستر هارتهاوس، رغم بروده.
استطردت هذه الفتاة تقول: «جاءت إلى هناك في الليلة الماضية، في حالة اضطراب شديد، وظلت فاقدة الوعي طول الليل . أنا أقيم في بيت والدها، وكنت معها. يمكنك أن تتأكد يا سيدي من أنك لن تراها مرة أخرى.»
استنشق المستر هارتهاوس نفسا عميقا، وقال: «هل طلبت منك هذه السيدة أن تخبريني بهذا؟»
قالت: «كلا، ولكن لا تأمل في أن تراها.»
قال: «ولكن تلك السيدة لم تبعث إلي بأية رسالة، ولم تطلب منك أن تأتي إلي؟»
قالت: «هذا صحيح؛ ولكنها تثق بي، وأنا أعلم شيئا عن زواجها، وأظنك أنت أيضا تثق بي، يا مستر هارتهاوس.»
نزل هذا النبأ في المكان الذي به قلب جيمس هارتهاوس.
أردفت هذه الفتاة تقول: «أطلب منك، يا مستر هارتهاوس، أن ترحل من هذا المكان، في هذه الليلة، وتعد بألا تعود إليه.»
قال: «هل تسمحين لي بأن أعرف اسم عدوتي؟»
قالت: «اسمي؟»
قال: «نعم.»
قالت: «اسمي سيسي جوب، أنا فتاة فقيرة، انفصلت عن أبي الذي كان عارضا في السيرك، فأشفق علي المستر جرادجرايند، فعشت مع أسرته منذ ذلك الوقت.»
انصرفت سيسي.
بعد ذلك، أمسك المستر جيمس هارتهاوس قلما وكتب لأخيه في لندن:
عزيزي جاك
انتهى كل شيء في كوكتاون.
مللت هذا المكان.
سأعود.
المحب: جيم
ثم حزم أمتعته وغادر كوكتاون في نفس الليلة.
الباب الثاني
قرار حاسم
أصيبت مسز سبارسيت، التي لا تكل ولا تتعب، بنزلة برد حادة؛ فتغير صوتها وتقلص إلى همس، وانتابها عطاس مستمر، ورغم هذا ظلت تبحث عن المستر باوندرباي في كافة أنحاء لندن، حتى عثرت عليه.
أخبرته بقصتها، من أولها إلى آخرها، ثم أغمي عليها، فعمل المستر باوندرباي على إعادتها إلى وعيها برفق، ثم صحبها إلى كوكتاون بالقطار.
فلما بلغا كوكتاون، ذهبا إلى بيت ثوماس جرادجرايند، المعروف باسم «ستون لودج».
اقتحم باوندرباي حجرة توم جرادجرايند في وقت متأخر من الليل، وقال له: «هذه سيدة، مسز سبارسيت، لديها ما تقوله لك.»
فقال المستر جرادجرايند: «إذن، فأنت لم تتسلم خطابي.»
فقال المستر باوندرباي: «لا وقت للخطابات من شخص يتكلم عن خطابات مع جوزياه باوندرباي، مواطن كوكتاون، وعقله في مثل هذه الحال التي هو عليها الآن .. يا مسز سبارسيت، تقدمي يا مدام، وتكلمي.»
ولكن إصابة مسز سبارسيت بالبرد كانت شديدة، فلم تستطع الكلام. فقال باوندرباي: «إذن؛ فسأتكلم أنا بدلا منها.»
قال المستر باوندرباي: «سمعت مسز سبارسيت، صدفة، حديثا بين ابنتك وصديقك المستر جيمس هارتهاوس.»
فقال المستر جرادجرايند: «هل هذا حقيقي؟»
فصاح باوندرباي، يقول: «حقيقي .. وفي تلك المحادثة ...»
فقال جرادجرايند: «لا لزوم للإعادة، يا باوندرباي. أنا أعرف ما حدث.»
فقال المستر باوندرباي: «هل تعرف؟ وربما تعرف أين ابنتك، الآن؟!»
قال المستر جرادجرايند: «لا شك في أنها هنا الآن». فصاح باوندرباي، يقول: «هنا؟»
قال جرادجرايند: «نعم، لويزا هنا. ففي اللحظة التي استطاعت فيها التخلص من ذلك الشخص الذي تتكلم عنه، أسرعت إلى هنا لحمايتها. ركبت القطار من بيتك الريفي، إلى كوكتاون. وجرت من هناك إلى هذا البيت، وسط العاصفة الهوجاء، جاءتني في حالة فظيعة. من المؤكد أنها بقيت هنا منذ تلك اللحظة. أرجوك من أجل خاطرك وخاطرها أن تكون أكثر هدوءا.»
ظل المستر باوندرباي مدة لحظة، ينظر حواليه في صمت، ثم قال لمسز سبارسيت وهو غاضب: «يسعدنا يا مدام أن نسمع منك أي اعتذار بسيط. ربما أمكنك أن تفسري لنا لماذا سافرت حول هذا البلد بحكاية كلها هراء في هراء.»
انخرطت مسز سبارسيت في البكاء، فصحبها المستر باوندرباي إلى العربة التي كانت لا تزال واقفة أمام البيت، ونصحها بأن تذهب إلى المصرف وتضع قدميها في ماء ساخن وتستريح.
فقال المستر جرادجرايند: «أعتقد يا عزيزي باوندرباي أنني أفهم لويزا الآن أفضل مما كنت أفهمها من قبل. أعتقد أن لها شيما ستنمو وتكبر. وأقترح أننا إن تركناها على سجيتها الأفضل، لفترة ما، فسيكون هذا خيرا لسعادتنا، جميعا.»
احمر وجه المستر باوندرباي غضبا، وقال: «أتعني أنك تريد الاحتفاظ بها هنا، لوقت ما؟»
كانت إصابة مسز سبارسيت بالبرد شديدة، فلم تستطع الكلام. فقال باوندرباي: «إذن؛ فسأتكلم أنا بدلا منها.»
فقال المستر جرادجرايند: «كنت أود أن تسمح لها بأن تبقى هنا، في زيارة لنا.»
قال: «أستنتج من هذا يا توم جرادجرايند أنك تعتقد أن أخلاق لويزا وأخلاقي لا تتفقان، انظر إلي الآن، أنا جوزياه باوندرباي، مواطن كوكتاون. ابنتك لا تعرف قدر زوجها، وابنتك لم تولد عقيلة، أنا الذي منحتها ذلك الشرف بزواجي إياها. لقد دهشت نساء كثيرات، ساميات المنزلة لسلوكها، وأدهشهن كيف أنني صبرت وتحملت ذلك. وأنا نفسي، أدهش الآن، ولن أتحمله.»
نهض المستر جرادجرايند، وقال: «يا باوندرباي، أعتقد أنه كلما قل كلامنا الآن في هذه الليلة كان أفضل.»
فقال باوندرباي: «لا أريد أن أتعارك معك من أجل هذا الموضوع، يا توم جرادجرايند؛ ولكن، إذا لم ترجع ابنتك إلى بيتها غدا، في الساعة الثانية عشرة ظهرا، فسأفهم أنها تفضل البقاء بعيدا، وسأرسل ملابسها ومتعلقاتها إلى هنا، فتتولى أنت أمرها مستقبلا.»
فقال جرادجرايند: «أرجوك أن تعيد النظر في هذا يا باوندرباي، قبل أن تتخذ مثل هذا القرار.»
قال: «كلا؛ فأنا أقرر دائما بسرعة كل ما أفعله، أفعله فورا، وليس عندي ما أقوله زيادة على هذا. مساء الخير!»
ذهب المستر باوندرباي إلى بيته في كوكتاون وأوى في الفراش.
بعد الساعة الثانية عشرة وخمس دقائق ظهرا في اليوم التالي، أمر المستر باوندرباي بحزم كل متعلقات زوجته، بعناية، وأرسلها إلى بيت توم جرادجزايند وأعلن عن عرض بيته الريفي للمبيع، وعاد من جديد إلى حياة العزوبة.
الباب الثالث
المفقود
لم ينس المستر باوندرباي سرقة المصرف، فوضع ملصقة عليها صورة ستيفن بلاكبول، وعرض مكافأة قدرها عشرون جنيها، لكل من يعثر على ذلك الرجل، ويقبض عليه. ففزعت راشيل عندما أبصرت هذه الملصقة، وذهبت لمقابلة المستر باوندرباي.
فصحبها المستر باوندرباي، لمقابلة أسرة جرادجرايند، وأخذ معه توم الصغير.
دخل المستر باوندرباي، ببرود، وقال لزوجته: «يا مسز باوندرباي، آمل في ألا أزعجك، ولكن هذه المرأة الصغيرة، أفضت إلي بحقائق، جعلت زيارتي ضرورية. وأود أن أعرف ما إذا كانت حقيقية أم كاذبة. وأخوك لا يريد أن يتكلم.»
قالت راشيل للويزا: «لقد رأيتني قبل الآن يا سيدتي الصغيرة.»
فقالت لويزا: «نعم، هذا صحيح.»
فقالت راشيل: «هل تتفضلين، يا سيدتي الصغيرة بأن تخبريني أين رأيتني؟ ومن كان هناك ؟»
قالت: «ذهبت إلى البيت الذي كان يقيم فيه ستيفن بلاكبول، في الليلة التي فصل فيها من العمل، فرأيتك هناك، وكان أخي معي.»
فقال المستر باوندرباي: «لماذا لم تتكلم بهذا يا توم الصغير؟»
فأجاب توم، وهو ينظر إلى أخته بحسرة، وقال: «وعدت أختي بألا أذكر ذلك.»
أكدت لويزا قول أخيها بسرعة.
فاستطردت راشيل تقول: «هل تسمحين يا سيدتي الصغيرة بأن تخبرينا بسبب ذهابك إلى بيت ستيفن بلاكبول، في تلك الليلة؟»
فقالت لويزا، وقد زادت حمرة وجهها: «أحسست بالشفقة على ذلك الرجل، فرأيت أن أقدم له مساعدة.»
فقالت راشيل: «هل قدمت له ورقة مالية؟»
قالت: «نعم، ولكنه رفض أن يأخذها، وأخذ فقط جنيهين ذهبيين.»
نظرت إليها راشيل وقالت: «يا سيدتي الصغيرة، البلدة كلها تعرف الآن أن ستيفن بلاكبول لص، مع أنه أعظم رجل من حيث الأمانة والإخلاص، وأعظم رجل في ...» ثم توقفت عن الكلام وهي تنتحب.
فقالت لويزا: «أنا آسفة جدا، جدا!»
فقال المستر باوندرباي لراشيل: «هيا، وأخبريهم ماذا فعلت.»
فقالت راشيل: «كتبت إلى ستيفن بالبريد الذي سافر بعد ظهر اليوم.»
خرج المستر باوندرباي مع توم، الذي بدا شاحب اللون. فلما انصرفا، سألت سيسي راشيل عن عنوان بيتها، ووعدتها بأن تزورها لتعرف إن كانت هناك أخبار من ستيفن.
وبعد أن انصرفت راشيل، قال المستر جرادجرايند لابنته لويزا: «هل تعتقدين أن ذلك الرجل بريء؟»
قالت: «نعم، أعتقد هذا الآن.»
أخذ المستر جرادجرايند يفكر، فقال لنفسه: «إنني لأسأل نفسي عما إذا كان اللص الحقيقي يعرف هذه الاتهامات، أين هو؟ ومن هو؟»
بدأ لون المستر جرادجرايند يقتتم أكثر من ذي قبل، ويبدو أكبر سنا. فذهبت إليه لويزا بسرعة، وجلست إلى جانبه. وبمحض الصدفة، التقت عيناها بعيني سيسي في تلك اللحظة، فاحمر وجه سيسي، ووضعت لويزا إصبعها على شفتيها.
مر اليومان ولم يحضر ستيفن بلاكبول، وفي اليوم الرابع، ذهبت راشيل إلى المصرف، وأطلعت المستر باوندرباي على الخطاب الذي تسلمته من ستيفن، وعليه عنوانه في مصنع على بعد تسعين كيلومترا.
بعثت رسلا إلى ذلك المكان ، ولكنهم عادوا وحدهم .. تسلم ستيفن بلاكبول خطاب راشيل، فسافر على الفور، ولكن ما من إنسان سمع عنه بعد ذلك.
الباب الرابع
عثر عليه
مر الوقت ولم يظهر ستيفن بلاكبول. فأين يوجد ذلك الرجل؟ ولماذا لم يرجع؟
أخذت سيسي تزور راشيل كل يوم لتعرف ما إذا كانت هناك أخبار.
وذات يوم، كانت سيسي وراشيل تسيران في الشارع الذي به منزل المستر باوندرباي. فإذا بعربة تأتي وتقف أمام الباب، فنزلت منها مسز سبارسيت تجر خلفها امرأة عجوزا.
صاحت مسز سبارسيت تقول: «اتركوها، لا أحد يلمسها. إنها تختص بي.»
سحبت مسز سبارسيت، هذه المرأة العجوز إلى بيت المستر باوندرباي. وبدافع الفضول، تبعتهما راشيل وسيسي، وعدد من الناس كانوا في الشارع .. فدخلوا جميعا إلى حجرة مائدة المستر باوندرباي الكبيرة، ظنا منهم أنه لا بد لهذه السيدة علاقة بسرقة المصرف.
عندئذ ظهر المستر باوندرباي ودهش لرؤية هذا الجمع في غرفة مائدته.
فقالت مسز سبارسيت: «نادوا المستر باوندرباي.» ثم تكلمت مع راشيل وقالت لها: «يا سيدتي الصغيرة، أنت تعرفين من تكون هذه المرأة العجوز؟»
فقالت راشيل: «سبق أن رأيتها، إنها مسز بجلر.»
غطت مسز بجلر وجهها، وتوسلت إلى مسز سبارسيت أن تدعها تنصرف.
عندئذ ظهر المستر باوندرباي بصحبة المستر جرادجرايند، وتوم الصغير، الذي كان يتحدث معه في الطابق العلوي، فدهش المستر باوندرباي لرؤية هذا الجمع في غرفة مائدته.
نظر المستر باوندرباي إلى مسز سبارسيت، وقال: «ما الخطب الآن؟ لماذا كل هؤلاء يا مسز سبارسيت، يا مدام؟»
قالت: «يا سيدي! وجدت شخصا، أردت أنت بلهفة أن تراه!»
ما إن وقعت عينا المستر باوندرباي على مسز بجلر، حتى احمر وجهه بشدة.
صاح المستر باوندرباي، يقول: «يا مسز سبارسيت .. كيف تتجاسرين على التدخل في شئوني العائلية؟»
ارتعدت مسز بجلر، وقالت: «يا عزيزي جوزياه!»
يا ولدي المحبوب، هذا خطئي أنا. قلت لهذه السيدة إنك تتوق إلى رؤيتي. كنت أعيش دائما في هدوء، وفي سرية. يا ابني العزيز جوزياه، لم أقل أبدا إنني أمك، بل كنت أعجب بك من بعيد، وأجيء إلى هذه البلدة بين آونة وأخرى كي أحظى بنظرة سريعة إليك دون أن يراني، أو يعرفني أي إنسان.»
أخذ المستر باوندرباي يذرع أرض الحجرة جيئة وذهابا، وقد وضع يديه في جيوبه، والغيظ يكاد يقتله، فقال المستر جرادجرايند لتلك السيدة العجوز: «يدهشني يا مدام، أن تقولي إن المستر باوندرباي ابنك، لقد عاملته بقسوة وهو صغير، وهجرته.»
فصاحت مسز بجلر تقول: «هجرت ابني جوزياه؟ كلا، كلا، لم أهجره، وإنما أعطيته تعليما طيبا. مات أبوه المحبوب، وابني هذا في الثامنة من عمره، فاعتنيت به حتى صار رئيسا طيبا، وتاجرا طيبا.»
فلما سمع الناس الذين جاءوا من الشارع كلامها هذا، أصدروا أصوات العطف على العجوز مسز بجلر. لقد ظل المستر باوندرباي يخدع كل إنسان بالقصص التي رواها عن طفولته الصعبة، وبأنه أهمل في حداثة سنه وكون نفسه بنفسه.
بقي المستر باوندرباي يسير في أرض الحجرة ذهابا وإيابا، واشتدت حمرة وجهه أكثر فأكثر، ثم توقف، وقال: «لا أعرف بالضبط كيف جاءني السرور لهذه الصحبة الحاضرة، ولكن تدخل شخص ما في شئوني الخاصة، فأزعجني؛ إذ أمقت هذا التدخل. مساء الخير!» ثم فتح الباب على مصراعيه ليخرج الناس.
الباب الخامس
ضوء النجم
كان يوم الأحد التالي يوما مشرقا من أيام الخريف، جوه صحو وبارد، وكانت راشيل وسيسي قد اتفقتا على أن تخرجا في نزهة على الأقدام في الريف. فركبتا القطار أولا للخروج من تلك البلدة كثيرة الدخان.
نزلت هاتان الفتاتان من القطار، وأخذتا تسيران خلال الحارات والممرات، تتمتعان باستنشاق الهواء العليل. وكانت بالأرض هناك حفر للفحم، فتجنبتا السير وسط الحشائش الطويلة، التي قد تخفي حفر الفحم.
وبينما هما تسيران، صاحت سيسي بغتة تقول لراشيل: «هنا قبعة فوق الحشائش.» فاتجهتا معا نحو القبعة، والتقطتها راشيل بسرعة، وما إن ألقت عليها نظرة حتى ارتعدت فرائصها من رأسها إلى قدميها، إذ قرأت بداخل تلك القبعة، اسم ستيفن بلاكبول. لا بد أن بقيت هذه القبعة فوق الحشائش بضعة أيام، إذ بللها المطر والندى، فهمست سيسي تقول: «سأسير وحدي مسافة قصيرة.»
ما إن همت سيسي بالتقدم خطوة واحدة، حتى صرخت راشيل وأمسكتها بكلتا ذراعيها. فأمامهما، وتحت أقدامهما مباشرة، حافة حفرة واسعة تخفيها الحشائش الكثيفة. فقفزتا إلى الخلف، في وقت واحد، ووقعتا على ركابهما.
صاحت راشيل تقول: «وا ربي الرحيم! إنه في أسفل هذه الحفرة، أسفلها.»
فقالت سيسي: «يا راشيل، قد يكون ستيفن حيا.» وذهبت إلى حافة الحفرة، ونادت بأعلى صوتها، ولكن، ما من صوت رد عليها.
سارت الفتاتان بعد ذلك في جهتين مختلفتين بحثا عن نجدة، وأخذت سيسي تجري من مكان إلى آخر، حتى وجدت اثنين من عمال السكة الحديدية، فأخبرتهما بخبرها، فذهبا معها، وجمعا رجالا آخرين، وجاء طبيب من كوكتاون ومعه أناس آخرون.
وأخيرا، أخرج ستيفن من الحفرة ضعيفا جدا. فأرقدوه على الأرض وذهبت إليه راشيل.
أدليت شمعة متقدة في تلك الحفرة، في الساعة الخامسة مساء لتجربة الهواء الذي بداخل الحفرة ومعرفة ما إذا كان صالحا للنفس. ولما أخرجت الشمعة كانت لا تزال مشتعلة. فربط دلو بحبل، وأنزل رجلان إلى قاع الحفرة.
عاد أحد هذين الرجلين، فعلا صياح الناس يقولون: «أهو حي أم ميت؟» فلما أخبرهم بأنه حي، علت صيحة فرحة عظمى شكرا لله، وترقرقت الدموع في عدة عيون.
أردف الرجل الذي خرج من الحفرة، يقول: «ولكنه مصاب بفظاعة؛ أين الطبيب؟»
كان ستيفن يحاول عبور تلك المنطقة الخطرة بعد أن هبط الظلام، وكان يسرع الخطو ليعود إلى كوكتاون لينقذ سمعته.
وأخيرا، أخرج ستيفن من الحفرة ضعيفا جدا.
فأرقدوه على الأرض، وذهبت إليه راشيل وقالت له: «إنك لتتألم ألما عظيما، الآن، يا عزيزي ستيفن.»
قال: «كنت أتألم من قبل، أما الآن فلا أشعر بأي ألم، الأمر كما سبق أن قلت من قبل؛ هناك الكثير من سوء التفاهم في هذه الحياة، ولكن انظري إلى فوق، يا راشيل.»
تتبعت راشيل عينيه، فرأته يحدق النظر إلى نجم ساطع، وقال: «أضاء لي هذا النجم عندما كنت أتألم وأشعر بالتعب، أضاء في داخل عقلي. فنظرت إليه، وفكرت فيك، يا راشيل. وإنني لأصلي لله قبل موتي، طالبا منه ، أن ينضم الناس بعضهم إلى بعض، أكثر مما هم عليه الآن، ويكون هناك حسن تفاهم بين كافة الأنام، لا تتركي يدي يا راشيل، يا فتاتي المحبوبة.»
أقبل المستر جرادجرايند، وهو وابنته لويزا، فقال له ستيفن: «أنقذ اسمي يا سيدي، واجعله حسنا لدى كل الناس. أترك هذا لك.»
ارتبك المستر جرادجرايند، وقال: «كيف؟»
فأجاب ستيفن يقول: «يا سيدي، سيخبرك ابنك كيف.»
استعد الناس لنقل ستيفن إلى البلدة، وسارت راشيل إلى جانبه، ولكن سرعان ما انقلب هذا الموكب إلى جنازة .. أوضح النجم لستيفن بلاكبول طريقه إلى مثواه الأخير.
الباب السادس
مطاردة الكلب
وقف توم الصغير بين الجموع المحتشدة حول الحفرة العتيقة، فلما سمعت سيسي ما قاله ستيفن للمستر جرادجرايند، ذهبت في هدوء إلى توم وتحدثت إليه بعض الوقت؛ فأصغى توم إلى كلامها، واختفى بسرعة.
في اليوم التالي، حاول المستر جرادجرايند العثور على ابنه، ولكن دون جدوى. فقال لابنته لويزا: «هل تظنين يا لويزا أن أخاك التعيس خطط لهذه السرقة عندما ذهب معك إلى بيت بلاكبول؟»
قالت: «أخشى أن يكون الأمر هكذا يا أبي أعرف أنه كان بحاجة ماسة إلى نقود، وأنه أنفق مبالغ كبيرة.»
فقال الأب: «وهل تكلم مع ستيفن بلاكبول على انفراد؟» - «نعم، أظنه طلب منه أن ينتظره خارج المصرف ليلتين أو ثلاث ليال، قبل أن يغادر كوكتاون.»
فقال المستر جرادجرايند: «إذن، فالأمر واضح جدا .. واضح كل الوضوح.» ثم غطى وجهه بيديه لبضع لحظات، واستطرد يقول: «وكيف يمكن إنقاذ توم من العقاب الآن؟ فبعد بضع ساعات، يجب أن أعلن الحقيقة.»
فقالت لويزا: «ما عليك يا أبي إذ دبرت سيسي الأمر».
رفع المستر جرادجرايند عينيه إلى حيث تقف سيسي، وقال لها: «إنه أنت دائما، يا طفلتي.»
فقالت سيسي: «فكرت في سيرك أبي القديم. لم أنس أين يعمل في مثل هذا الوقت من السنة، وكنت قد قرأت عنه في إحدى الصحف منذ مدة قريبة فحسب. فأخبرت توم بأن يذهب إلى المستر سليري ويطلب منه أن يخفيه عنده، إلى أن أذهب إليه.»
فصاح المستر جرادجرايند يقول : «شكرا للسماء! بوسعنا إرساله إلى الخارج.»
تبعد البلدة التي أرشدت سيسي توم إليها، مسيرة ثلاث ساعات من ليفربول
Liverpool
ويمكن إرساله من تلك الميناء إلى أي مكان في العالم.
سارت سيسي ولويزا طول الليل إلى تلك البلدة، بينما ذهب المستر جرادجرايند من طريق آخر .. وأخيرا وصلنا إلى سيرك سليري، فاستقبلهما المستر سليري بترحاب عظيم.
فقالت لويزا: «سرعان ما سيكون أبي هنا، هل أخي في أمان؟»
ابتسم المستر سليري وقال: «في أمان تام، انظري إلى حلبة السيرك، إنه أحد المهرجين الواقفين فيها.»
ما من أحد يستطيع أن يقول أي المهرجين هو توم.
نظر المستر سليري إلى لويزا، وقال: «أشفق والدك على سيسيليا جوب، وعلى هذا أرى لزاما علي أن أقف إلى جانبه. وفيما بعد، عندما يصل أبوك، سيجد أخاك متخفيا تماما.»
عندما جاء المستر جرادجرايند، فيما بعد، قابله توم وهو في ثياب المهرج.
فقال له أبوه: «كيف حدثت السرقة، يا توم؟»
قال: «فتحت الخزانة عنوة، في تلك الليلة، وتركت الباب مقفلا نصف إقفال، قبل أن أنصرف، وقد أعددت المفتاح المصطنع قبل ذلك بمدة طويلة. ورميته في الصباح، في الشارع قريبا من المصرف، حتى يظن أنه استعمل. لم آخذ النقود كلها دفعة واحدة، بل كنت أتظاهر بأنني أودع رصيدي في الخزانة في كل ليلة، ولكنني لم أفعل. وها أنت ذا تعرف كل شيء عنها.»
فقال الأب: «يجب نقلك إلى ليفربول، ومنها إلى الخارج.»
تأوه الكلب الصغير، وقال: «أظن يجب ذلك، لن أكون أكثر تعاسة في أي مكان آخر، من تعاستي هنا، منذ أن تذكرت فعلتي.»
زود المستر سليري، توم، بمجموعة أخرى من الملابس ليسافر فيها، فارتدى توم زي عامل زراعي.
فقال المستر جرادجرايند: «هاك أوراقك يا توم، وستتخذ كافة الوسائل اللازمة لك. أعطني يدك يا ولدي المسكين، وعسى أن يغفر الله لك، مثلما غفرت أنا لك.»
بكى توم عند ذلك، ولكن عندما مدت لويزا ذراعيها نحوه قال: «ليس أنت، لا أريد أن تكون لي بك أية علاقة.»
فقالت لويزا: «ما هذا يا توم ؟ هل تنتهي علاقتنا على هذا النحو، بعد كل محبتي إياك؟»
قال: «لم تقفي إلى جانبي، ولم تهتمي بي أبدا.»
صاحت لويزا تقول له إنها تحبه وسامحته، وسوف يندم في يوم ما على تركه إياها هكذا، وستسره آخر كلماتها، وهو على مسافة بعيدة.
غير أنه عندما ذهبوا ليستقلوا العربة إلى المحطة، وقف بيتزر في طريق المستر جرادجرايند وسيسي، ومنعهما التقدم، فوقفا.
قال بيتزر: «يؤسفني أن أمنع خطتكم، فلن أسمح لنفسي بأن يهزمني عارضو السيرك ولا بد أن أقبض على توم الصغير. يجب ألا يقوده عارضو السيرك بعيدا .. ها هو يرتدي ثياب عامل بمزرعة، لا بد أن أقبض عليه.»
أمسك بيتزر توم من ياقة قميصه.
الباب السابع
فلسفة
عاد الجميع إلى فسطاط السيرك.
فقال المستر جرادجرايند مكتئبا وحزينا: «هل لك قلب، يا بيتزر؟»
فأجاب بيتزر يقول: «لا يعيش أي إنسان بدون قلب.»
فقال المستر جرادجرايند: «إذن، فما الدافع الذي يجعلك تمنع هروب هذا الشاب؟ انظر إلى أخته هذه، واعطف علينا.»
فقال بيتزر: «يا سيدي، سأصحب توم الصغير إلى كوكتاون، وأسلمه إلى المستر باوندرباي، ومن المؤكد أن هذا الأخير، سيعطيني وظيفة توم، وهذه ترقية لي.»
وقفت لويزا وسيسي تبكيان.
لما سمع المستر سليري كل ما دار بين المستر جرادجرايند، وبيتزر من حديث، فتح فاه، وثبت عينه المتحركة على بيتزر، وقال: «يا مستر جرادجرايند، لم أعرف أن ابنك سرق مصرفا، هذه مسألة بالغة الخطورة؛ ولذلك فأنا أوافق هذا الشاب، الآن. وسأنقل ابنك وهذا الشاب، في عربتي إلى المحطة، ولا يمكنني أن أفعل أكثر من هذا.»
ولكنهم عندما خرجوا مرة ثانية، همس المستر سليري يقول لسيسي: «بما أن المستر جرادجرايند، وقف إلى جانبك، فسأقف أنا إلى جانبه. هذه ليلة حالكة الظلام. عندي حصان يفعل كل شيء ما عدا الكلام، وعندي مهر أصغر منه يسير بسرعة أربعة وعشرين كيلومترا في الساعة، وعندي كلب يمكنه أن يحتفظ بأي إنسان في مكانه لمدة أربع وعشرين ساعة ولا يدعه يفلت منه. فأخبري المستر توم الصغير بهذا؛ عندما يرى الحصان الذي يجر عربتنا، يبدأ يرقص، يجب عليه أن يتطلع إلى الطريق حتى يرى حصانا أصغر، يجر عربية أخرى، فلما تقترب منه هذه العربة الأخيرة الصغيرة، عليه أن يقفز من عربتنا ويركب العربة الصغيرة، فتنقله بسرعة إلى ليفربول، وعند ذلك لن يسمح كلبي لموظف البنك هذا بأن يتحرك من مكانه مسافة سنتيمتر واحد، ولن يتحرك حصاني من المكان الذي بدأ يرقص فيه .. أسرعي.»
بعد عشر دقائق، كان حصان المستر سليري وعربته جاهزين، فركب بيتزر وتوم هذه العربة، والكلب ينبح حولها، فأشار المستر سليري للكلب بعينه لكي يجعل بيتزر هدفه الخاص؛ وسرعان ما انطلقت العربة بعد أن خيم الظلام بدياجيره، فبدءوا رحلتهم، وثبت الكلب عينه على بيتزر، وقبع إلى جانب العجلة التي بجانب هذا الشاب. كان ذلك الحيوان الماهر المدرب، على استعداد للهجوم على بيتزر إن بدرت من هذا الأخير أية بادرة تنبئ عن محاولته النزول من العربة.
جلست سيسي ولويزا مع المستر جرادجرايند في الفندق الذي نزلوا به في تلك البلدة، وظلوا فيه طول الليل، وفي الساعة الخامسة من الصباح التالي، ظهر المستر سليري وكلبه، مرة ثانية، مبتهجين.
فقال المستر سليري: «كل شيء على خير ما يرام، يا مستر جرادجرايند، لا بد أن يكون ابنك على ظهر السفينة الآن، أخذه موظفي المستر تشايلدرز
Childers
إلى السفينة بعد ساعة ونصف من مغادرتنا هذا المكان في الليلة الماضية. طفق الحصان يرقص حتى كاد يموت. فلما قلت له الكلمة، نام، وعندما حاول ذلك الشاب بيتزر النزول من العربة، تعلق الكلب بياقة سترته، فذعر بيتزر وانتفض، واضطر إلى البقاء حيث هو، إلى أن أدرت رأس الحصان، ورجعنا إلى هنا في هذا الصباح.»
شرب المستر سليري ما في قدحه من الويسكي.
شكره المستر جرادجرايند من كل قلبه، وعرض عليه أن يعطيه مكافأة مالية.
فقال المستر سليري: «لا أريد أية نقود، أنا نفسي، يا مستر جرادجرايند، ولكن المستر تشايلدرز ذو أسرة، فإن أعطيته ورقة مالية بخمسة جنيهات، رحب بها وفرح، كذلك إن رغبت في شراء طوق للكلب، ومجموعة أجراس للحصان، فسأقبلها بسرور. وأنا يعجبني أن أشرب الويسكي بالماء.»
قدم المستر جرادجرايند، عن طيب خاطر، كافة أمارات الشكر وعرفان الجميل هذه، ولو أنه اعتقد أنها ضئيلة جدا بالنسبة إلى تلك الخدمة الجليلة، التي أداها له المستر سليري وأتباعه.
فقال المستر سليري: «إذن، فأنا أطلب منك، يا مستر جرادجرايند، أن تتكلم بخير عن رجال السيرك ونسائه وحيواناته، وبذا تقدم لنا خدمة، أكثر مما تستحق.»
صحب المستر سليري، المستر جرادجرايند، إلى حجرة أخرى ليفضي إليه بحديث سرى عن والد سيسي، فأخبره بأنه يعتقد أن والد سيسي قد مات، لأن كلبه العجوز، رجع متعبا من وعثاء السفر، ومريضا، ثم ما لبث أن مات. وفي اعتقاده، أن الكلب جاء من مسافة بعيدة ليعرفهم بأن صاحبه فارق الدنيا.
قال المستر سليري: «يا مستر جرادجرايند قررنا ألا نكتب إلى سيسي، وألا نخبرها بهذا؛ فنحن لا نعرف بصفة قاطعة ما إذا كان أبوها قد تحسر في وحدته لأنه تركها ولم يأخذها معه. الواقع أننا لا نعرف ذلك، ولن نعرفه، ولكن الأرجح، أنه مات.»
نظر المستر سليري إلى قاع قدح الويسكي، وقال: «يبدو أنه يمثل شيئين للمرء، أليس كذلك؟ الأول؛ أن هناك محبة متبادلة، في العالم، ليست كلها منفعة شخصية. والثاني؛ أن لكل إنسان طريقته الخاصة في الحساب أو عدم الحساب.»
شرب المستر سليري كل ما في قدحه من الويسكي، وطلب من السيدتين أن تدخلا.
لما دخلت سيسي ولويزا، ودع المستر سليري الجميع. وآخر ملاحظة أبداها للمستر جرادجرايند هي: «صافحني، يا سيدي! ولا تشمئز منا، نحن متجولو السيرك المساكين، فلا بد للناس من التسلية لا يمكنهم أن يتعلموا أو يعملوا باستمرار، فلم يخلقوا لذلك، لا بد لكم منا، يا سيدي، فأنتم بحاجة إلينا.»
الباب الثامن
الخاتمة
غضب المستر باوندرباي غضبا شديدا من مسز سبارسيت، من جراء اكتشافها مسز بجلر. فلما ذهب إلى حجرة المائدة ليتناول طعام الغداء، وجد مسز سبارسيت جالسة إلى جانب الوطيس، فتظاهرت بأنها حزينة جدا.
فسألها المستر باوندرباي، بطريقة مقتضبة جدا وبلهجة في غاية الفظاظة، بقوله: «ما الخطب الآن يا مدام؟»
قالت: «أرجوك يا سيدي ألا تقضم أنفي.»
فقال مكررا قولها: «أقضم أنفك؟ أنفك؟» يقصد أن أنفها طويل جدا، فلا يمكن قضمه.
قالت: «يا سيدي المستر باوندرباي! هل ضايقك أي شيء، في هذا الصباح؟»
قال: «نعم يا مدام.»
قالت: «هل لي أن أسأل يا سيدي عما إذا كنت أنا السبب اللعين في خروجك هذا عن طورك؟»
قال: «سأخبرك الآن ما أغضبني يا مدام.»
وهو أن تلعب بي امرأة. لن أسمح لأية امرأة بأن تضايق وتزعج رجلا في مركزي، لن أتساهل في هذا الأمر.
رفعت مسز سبارسيت حاجبيها، وقالت: «يتضح، يا سيدي، أنني أقف في طريقك الآن. سأذهب إلى حجرتي.»
فقال المستر باوندرباي، بلهجة جافة: «اسمحي لي بأن أفتح لك الباب، يا مدام.»
قالت: «شكرا يا سيدي! بوسعي أن أفتحه لنفسي.»
قال: «من الخير أن تسمحي لي، يا مدام، بأن انتهز هذه الفرصة، فأقول لك كلمة قبل أن تنصرفي. لا أظن يا مسز سبارسيت، يا مدام، أن لك مكانا في بيتي، لا يحق لامرأة، في مثل رجاحة عقلك ونبوغك، أن تتدخل في شئون غيرها.»
نظرت مسز سبارسيت إلى المستر باوندرباي، نظرة غضب شديد، وقالت في أدب: «أهذا حقيقي، يا سيدي؟»
قال: «كنت أفكر في هذا الأمر. أشعر بأن بيتا آخر يمكنه أن يضم سيدة بمثل قواك، مثل بيت قريبتك الليدي سكادجرز
Scadgers
ألا تظنين أن بوسعك أن تجدي عملا هناك، يا مدام، لتتدخلي فيه؟»
فقالت مسز سبارسيت: «لم يحدث هذا من قبل إطلاقا يا سيدي، ولكن بما أنك تذكره الآن، فينبغي إلى أن أعتبره محتملا جدا.»
فقال المستر باوندرباي، وقد وضع مظروفا به شيك، في سلة أدوات الخياطة الصغيرة، الخاصة بها: «افرضي أنك تحاولين يا مدام.»
صمت المستر باوندرباي برهة، ثم استطرد يقول: «يمكنك اختيار الوقت الذي ترحلين فيه، يا مدام. ولكن، ربما كان من الأوفق لسيدة في مثل قواك العقلية، أن تأكل وجباتها بنفسها دون أن يزعجها أي إنسان.»
أقفل المستر باوندرباي الباب ، ووقف أمام الوطيس يفكر في المستقبل. •••
إلى كم مستقبل؟ هل يرى نفسه يقدم بيتزر إلى الأغراب، على أنه شاب يرتقي؟ هل يرى نفسه يكتب وصيته الأخيرة السخيفة والمعقدة؟ هل عرف أنه سيموت بعد خمس سنوات بالسكتة القلبية في أحد شوارع كوكتاون؟ نعم، كل هذا سيحدث.
وها هو المستر جرادجرايند، في نفس اليوم، وفي نفس الساعة، جالس في حجرته يفكر: كم من مستقبل رأى؟ هل رأى نفسه رجلا عجوزا ضعيفا، أشيب الشعر، ما عاد عضوا هاما في البرلمان في لندن؟
سيترك هذا الرجل نظرياته الصعبة، ويصير أكثر لينا. ستضيع حقائقه وأرقامه، في الإيمان والأمل والمحبة.
وها هي لويزا، في ليلة ذلك اليوم نفسه، تلاحظ النار في الوطيس، كما اعتادت أن تلاحظها منذ سنوات طوال، في أيام طفولتها، إلا أن وجهها صار أكثر رقة، ولم تعد متكبرة مثلما كانت. يمكنها أن ترى الملصقات الآن، موقعا عليها باسم والدها، تعلن براءة ستيفن بلاكبول النساج، وإدانة ابنه، هو نفسه، أخيها. استطاعت لويزا أن ترى هذه الأشياء بوضوح. ولكن، كم من مستقبل؟
مرضت عاملة، اسمها راشيل، لمدة طويلة ولكنها حلوة الطباع وهادئة ومرحة، وهي وحدها التي تعطف بعد ذلك، انضمت إلى عاملات كوكتاون. إنها امرأة ذات جمال مفكر. كانت ترتدي ثياب الحداد باستمرار، ولكنها حلوة الطباع وهادئة ومرحة، وهي وحدها التي تعطف على سيدة فقيرة عجوز، هي زوجة ستيفن بلاكبول، التي تظهر من آن إلى آخر، وقد عبت الكثير من الخمر، فهل رأت لويزا ذلك؟ لا بد من حدوث أمثال هذه الأمور.
صارت راشيل نفسها زوجة، وأم أطفال ترعى أولادها بمحبة. فهل رأت لويزا ذلك أيضا؟ لن يكون لها مثل ذلك الشيء.
ولكن أطفال سيسي السعيدة، السعداء يحبون أمهم حبا جما ويحبون لويزا، التي تحب طبيعة الأطفال وتتفهمهم وتساعدهم على أن يشبوا، ليس كالآلات، وإنما كمخلوقات بشرية مفكرة. هل رأت لويزا أمثال هذه الأشياء؟ ستحدث أمثال هذه الأشياء.
Unknown page