وابيضت الأيام التالية بأفراح آل حمدان أو آل جبل كما باتوا يدعون؛ فتحت قهوتهم أبوابها، وتربع رضوان الشاعر على الأريكة يلعب بأوتار الرباب، وجرت البوظة أنهارا، وانعقدت في سماء الحجرات سحب الحشيش، ورقصت تمر حنة حتى انحل وسطها. ولم يبالوا بأن يكشفوا عن قاتل قدرة، وصور لقاء الجبلاوي بجبل في هالات من نور الخيال. وكانت تلك الأيام بالنسبة لجبل وشفيقة أطيب الأيام. وقد قال لها: ما أجمل أن ندعو البلقيطي للإقامة معنا!
فقالت وهي تعاني متاعب المخاض الوشيك: نعم كي يستقبل حفيده ببركته.
فقال الرجل ممتنا: أنت قدم السعد يا شفيقة، وستجد سيدة زوجا كفؤا من آل حمدان. - قل آل جبل كما يقولون، فإنك خير من عرف هذا الحي.
فقال باسما: بل أدهم خيرنا جميعا، كم تمنى حياة النعيم حيث لا عمل للإنسان إلا الغناء، وسوف يتحقق لنا حلمه الكبير!
وتراءى دعبس وهو سكران يرقص في جمع من آل جبل، فلما رأى جبل مقبلا لوح بنبوته جذلا وقال له: إنك لا تبغي الفتونة، سأكون أنا الفتوة.
فصاح به ليسمع الجميع: لا فتونة في آل حمدان، ولكن ينبغي أن يكونوا جميعا فتوات على من يطمع فيهم.
ومضى الرجل إلى القهوة فتبعه الجميع وهم يترنحون من السكر. وكان جبل سعيدا فقال لهم: إنكم أحب أهل الحارة إلى جدكم، فأنتم سادة الحارة دون منازع، ولذلك ينبغي أن يسود بينكم الحب والعدل والاحترام، ولن ترتكب جريمة في حيكم أبدا.
وترامى الطبل والغناء من بيوت آل حمدان، وأشرقت أنوار الأفراح في حيهم، على حين غرقت الحارة في ظلمتها المألوفة، وتجمع صغارها عند مشارف حي آل حمدان يتفرجون من بعيد. وإذا برجال من أهل الحارة يفدون على القهوة بوجوههم الكالحة. استقبلوا بالمجاملة ودعوا إلى الجلوس وقدم لهم الشاي. وحدس جبل أنهم لم يجيئوا لخالص التهنئة. وصدق حدسه إذ قال له زناتي وكان أكبرهم سنا: يا جبل، إننا أبناء حارة واحدة، وجد واحد، وأنت اليوم سيد الحارة ورجلها الأقوى، وأن يسود العدل الأحياء جميعا خير من أن يسود حي حمدان وحده.
لم يتكلم جبل، وبدا الفتور في وجه آل جبل. ولكن الرجل قال بعزم: بيدك أن تجري العدل في الحارة كلها.
لم يهتم جبل بأهل الحارة من أول الأمر، ولم يكن أحد من آله يهتم بهم. بل إنهم شعروا بالاستعلاء عليهم حتى في أيام محنتهم. وقال جبل برقة: وصاني جدي بأهلي. - ولكنه جد الجميع يا جبل.
Unknown page