وفي تلك اللحظة الحرجة جاء جبل على رأس أهله نساء ورجالا، يسيرون في قوة وعزم بما أحرزوا من فوز مبين. وأوسعت الجموع لهم، وتعالى الهتاف والزغاريد حتى أشار جبل لهم بالسكوت فأخذت أصواتهم تخف رويدا رويدا حتى ساد الصمت وعاد عواء الريح يصك الآذان مرة أخرى. ونظر جبل في الوجوه المتطلعة إليه وقال: يا أهل حارتنا، أحييكم وأشكركم.
فارتفعت الأصوات بالهتاف ثانية حتى رفع يده مطالبا بالسكوت، ثم قال: لن يتم عملنا حتى تتفرقوا في هدوء.
فترامى إليه من حناجر شتى: نريد العدل يا سيد حارتنا.
فقال بصوت سمعه الجميع: اذهبوا في هدوء، ولسوف تتحقق إرادة الواقف.
وتعالى الهتاف للواقف ولابنه جبل. ووقف جبل يحث بنظراته الجموع على الذهاب. وكانوا يودون لو يبقون في أماكنهم ولكنهم لم يجدوا بدا أمام نظراته من التفرق فأخذوا يذهبون واحدا في أثر واحد حتى خلا المكان منهم. عند ذاك مضى جبل إلى باب الناظر وطرقه صائحا: افتح يا عم حسنين.
فجاءه صوت الرجل المرتعد وهو يقول: الناس .. الناس. - لا أحد هنا غيرنا.
وفتح الباب فدخل جبل، ودخل وراءه أهله. واخترقوا الممر المعروش إلى السلاملك فرأوا الهانم واقفة أمام باب البهو في استسلام، على حين بدا الأفندي على عتبة الباب، خافض الرأس شاحب الوجه كأنه ملثم بكفن أبيض. وندت عن الأفواه لدى رؤيته دمدمة، فقالت هدى هانم متأوهة: إني بحال سيئة يا جبل.
فأشار جبل نحو الأفندي بازدراء وقال: لو نجحت مكيدة هذا الرجل الفاقد الشرف، لكنا الآن جميعا جثثا ممزقة.
فأجابت الهانم بتنهدة مسموعة دون كلام. فحدج جبل الناظر الخائر بنظرة قاسية وقال: ها أنت ذا ترى نفسك ذليلا بلا حول ولا قوة، لا فتوة يحميك، ولا شجاعة تؤيدك، ولا مروءة تشفع لك. ولو شئت أن أخلي بينك وبين أهل حارتنا لمزقوك إربا ولداسوك بالأقدام.
ارتعدت فرائص الرجل وبدا وكأنه تقوض وضؤل، غير أن الهانم تقدمت من جبل خطوة وقالت برجاء: لا أحب أن أسمع منك غير ما عهدت من طيب الكلام، ونحن في حال عصيبة تستحق من مروءتك الرحمة في المعاملة.
Unknown page