بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
إذا قيل: إن العربي لا يخطأ، فالمراد لا يخطأ في اللفظ للملكة اللسانية الراسخة فيه، وأما في المعاني فلم يقل أحد بعصمة جنانه، كما قالوا بعصمة لسانه، بل هو خلاف ما صرح به أئمة العربية، ألا تراهم كيف خطأوا أبا قيس بن رفاعة في قوله:
منا الذي هو ما إن طر شاربه ... والعانسون ومنا المرد والشيب
لأنه لم يحسن التقسيم في البيت.
وقد اعترض ابن هشام في المغنى على ذكره المرد بعد قوله: ما طر شاربه، إذ الذي لم ينبت شاربه أمرد، فكأنه قال: منا الأمرد، ومنا المرد، ثم قال: «والبيت عندي فاسد التقسيم بغير هذا، ألا ترى أن العانسين، وهم الذين لم يتزوجوا، لا يناسبون بقية الأقسام، وإنما العرب محميون عن الخطأ في الألفاظ دون المعاني» انتهى.
وقد حاول بعض شراحه تصويب ما في البيت بتقدير أن أصله: منا العانسون والمتزوجون ومنا المرد والشيب، وذكروا فيه أوجهًا أخرى لا تخلو من مثل هذا التكلف.
وقال الجاحظ في كتاب الحيوان: «وليس الأعرابي بقدوة إلا في الجر والنصب والرفع وفي الأسماء، وأما غير ذلك فقد يخطئ فيه ويصيب» . والنصوص على ذلك كثيرة لا تختلف إلا في المبنى فلا حاجة لذكرها، وقد بحثنا فيما وصل إلينا من هذه الأوهام، وتفحصنا أسبابها، فرأيناها ترجع إلى الأقسام الآتية:
القسم الأول
فمن أسباب الوهم في المعاني جهل الشاعر بما يذكره لبعده عنه، فتراه يأتي به على غير حقيقته، ويضعه في غير موضعه، أو يبهم في وصفه فلا يدنيه منك ولا يبعده، كالحضري الذي لم يسبق له التبدي، والبدوي الذي لم يتحضر، فإنهما قلما يستطيع أحدهما أن يذكر ما عند الآخر فيصيب فيه، أو يصفه فيحسن الإفصاح عنه لأنه إنما يذكر ما لم يعرفه، ولم يره إلا بسمعه. حكى صاحب الأغاني عن الكميت أنه قال: لما قدم ذو الرمة أتيته فقلت: إني قد قلت قصيدة عارضت فيها قصيدتك:
(ما بال عينك منها الماء ينسكب)
فقلت:
هل أنت عن طلب الأيفاع منقلبُ ... أم كيف يحسن من ذي الشيبة اللعب؟
حتى أنشدته إياها، فقال لي: ويحك! إنك لتقول قولًا ما يقدر إنسان أن يقول لك: أصبت ولا أخطأت، وذلك أنك تصف الشيء فلا تجئ به، ولا تقع بعيدًا عنه، بل تقع قريبًا. قلت له: أوتدري لم ذلك؟ قال: لا، قلت: لأنك تصف شيئًا رأيته بعينك، وأنا أصف شيئًا وصف لي، وليست المعاينة كالوصف. قال: فسكت. انتهى.
ويروى: أن الكميت كانت له جدتان أدركتا الجاهلية، فكانتا تصفان له البادية وأمورها، وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية، فإذا شك في شعر أو خبر عرضه عليهما فتخبرانه، فمن هناك كان علمه.
قلنا: وقد رأيت كيف لم يغنه وصف الجدتين شيئًا، فوقع فيما أحتاج إلى الاعتذار منه. وليت شعري أين عزبتا عنه لما نظم قصيدته:
(أبت هذه النفس إلا ادكارًا)
فقال فيها:
إذا ما الهجارس غنيها ... يجاوبن بالفوات الوبارا
وقال:
كأن الغطامط من غليها ... أراجيز أسلم تهجو غفارا
فكانتا تخبرانه بأن الوبار لا تسكن الفلوات، وبأن أسلم ما هجت غفارًا قط فتنجيانه من انتقاد نصيب.
ومثل هذا الحضري في وصفه ما لم يره من أمور البادية، كمثل ذلك البدوي الذي سمع بأن الرقاق والفستق من مأكول الحضر، وأراد وصف جارية بالتبدي فقال:
دسنية لم تأكل المرفقا ... ولم تذق من البقول الفستقا
وعذره أنه لم يعرف الفستق، وإنما سمع به فظنه من البقول، وهو ثمر شجرة. قال شارح القاموس: «وتمحل بعضهم فقال: إنما هو النقول بالنون قال الصاغاتي: ولكن الرواية بالباء لا غير» انتهى.
ولا ندري ما الذي كان يأتينا به في الرقاق لو اتسع له المجال في البيت.
ولو أنا قدرنا عكس هذه الحالة وأرينا هذا الأعرابي الرقاق والفستق قبل أن نخبره بهما لكان حقًا علينا أن نعذره كما عذرناه أولًا إذا رأيناه يعدل عن حقيقتهما إلى ما يصوره ظنه فيهما كما وقع للعرب في وقعة أليس لما استولوا على ما في معسكر الفرس، فجعل من لم ير الرقاق منهم يقول: ما هذه الرقاع البيض على ما حكاه ابن الأثير في الكامل.
1 / 1
ومن طريف ما يروى عن ناهض بن ثومة، وكان بدويًا جافًا، أنه نزل حلب وشهد في ضاحيتها عرسًا، فلما رأى احتشاد الناس ظنهم في أحد العيدين، ثم تذكر أنه خرج من البادية في صفر وقد مضى العيدان، ولما رأى العروس بين السماطين ظنه أمير البلد في يوم جلوسه للناس.
ثم وصف ما رآه في العرس على ما تصوره، فقال عن الموائد: «فلم أنشب أن دخل رجال يحملون هنات مدورات، أما ما خف منها فيحمل حملًا، وأما ما كبر وثقل فيدحرج فوضع ذلك أمامنا، وتحلق القوم عليه حلقًا، ثم أتينا بخرق بيض فألقيت بين أيدينا فظننتها ثيابًا، وهممت أن أسأل القوم منها خرقا أقطعها قميصًا، وذلك أني رأيت نسجًا متلاحمًا لا يبين له سدى ولا لحمة، فلما بسطه القوم بين أيديهم إذا هو يتمزق سريعًا، وإذا هو فيما زعموا صنف من الخبز لا أعرفه» . وقال عن العود: «وكان معنا في البيت شاب لا آبه له، فعلت الأصوات بالثناء عليه والدعاء، فخرج فجاء بخشبة عيناها في صدرها، فيها خيوط أربعة، فاستخرج من خلالها عودًا فوضعه خلف أذنه، ثم عرك آذانها وحركها بخشبة في يده، فنطقت ورب الكعبة! وإذا هي أحسن قينة رأيتها قط، وغنى عليها فأطربني حتى استخفني من مجلسي، فوثبت فجلست بين يديه وقلت: بأبي أنت وأمي ما هذه الدابة فلست أعرفها للأعراب وما أراها خلقت إلا قريبًا؟ فقال: هذا البربط، فقلت: بأبي أنت وأمي، فما هذا الخيط الأسفل؟ قال: الزير، قلت: فالأعلى، قال: البم، فقلت: آمنت بالله أولًا، وبك ثانيًا، وبالبربط ثالثًا، وبالبم رابعًا» انتهى.
ومن قبيل بيت الفستق قول عمر بن أحمر الباهلي يصف امرأة بالغرارة:
لم تدر ما نسج اليرندج قبلها ... ودراس أعوص دارس متخدد
يريد أنها غرة لا تعرف نسج اليرندج، ولم تدارس الناس عويص الكلام الذي يخفى أحيانًا ويتبين أحيانًا. قالوا: ولم يعرف الشاعر أن اليرندج: جلد أسود تعمل منه الخفاف، فظنه مما ينسج. والتمس بعضهم له مخرجًا فقال: أراد بالنسج هنا: المعالجة والعمل. وقال آخر: بل أراد أنها لغرتها وقلة تجاربها ظنت أن اليرندج منسوج.
قلنا: ولا نخال النصوص اللغوية تساعد على الأول. أما الثاني فكما قال أبو هلال في الصناعتين: إن ألفاظ البيت لا تدل عليه.
(ومن قبيله) قول رؤبة:
بل بلد ملء الفجاج قتمهْ ... لا يشتري كتانه وجهرمه
وجهرم: قرية بفارس تنسب إليها الثياب والبسط قال أبو عمرو والأصمعي: فظن رؤبة أنها ثياب، ورد عليهما علي بن حمزة البصري في التنبيهات: بأنه أراد كتانة وجهرمية، فقطع ياء النسب، كما قال العجاج:
يكاد يدري القيقبان المسرجا
والقيقب: خشب تنحت منه السروج، فنسب السرج إليه فقال القيقباني ثم قطع ياء النسب.
وقد استشهد الوزير البطليوسي بهذا البيت في شرح ديوان امرئ القيسي، فذهب فيه مذهب أبي عمرو والأصمعي حيث قال: «وغلط في الجهرم ظن أنها ثياب وهو بلد بفارس» (ومن قبيله) قول الراعي يصف امرأة تدهن بالمسك:
تكسو المفارق واللبات ذا أرج ... من قصب معتلف الكافور دراج
فجعل المسك من القصب، وهو المعي، وكأنه لما سمع أنه من دابة ظنها تعتلف الكافور فيتحول في أمعائها إلى مسك ويجتنى منها. وخطأه أبو حنيفة الدينوي في كتاب النبات في قوله يصف إبلًا:
لها فأرة ذفراء كل عشية ... كما فتق الكافور بالمسك فاتقه
فقال: «ظن أنه يفتق به، وكان الراعي أعرابيًا قحًا، والمسك لا يفتق بالكافور» ولكن علي بن حمزة البصري رد عليه في التنبيهات بقوله: «أما قوله: والمسك لا يفتق بالكافور فصحيح، ولم يقل الراعي كما فتق المسك بالكافور، وإن كان المسك لا يفتق بالكافور فإن الكافور يفتق بالمسك. وجعل الراعي أعرابيًا قحًا، ونسبه إلى الجفاء، وأوهم أنه قد غلط، وخطأه في شيء لم يقله، اللهم إلا أن يكون عند أبي حنيفة أن الكافور لا يفتق بالمسك، ويكون قد غلط هو في العبارة وعكسها، فيكون في هذه الحالة أسوأ حالًا منه في الأولى، ويكون قليل الخبرة بالطيب وعمله واستعماله، ولا رائحة أنم من الكافور إذا فتق بالمسك، يشهد بذلك بنو النعمة والعطارون قاطبة» انتهى.
(ومن قبيله) قول رؤبة:
هل يعصمني حلف سختيتُ ... أو فضة أو ذهب كبريت
1 / 2
قال ابن الأعرابي والأصمعي وغيرهما: ظن رؤبة أن الكبريت ذهب. وفي العقد: سمع بالكبريت أنه أحمر فظن أنه ذهب. وفي شفاء الغليل: «وذكره رؤبة في شعره بمعنى الذهب، وخطئ فيه لأن العرب القدماء يخطئون في المعاني دون الألفاظ» .
قلنا: ولا يخرج ما في اللسان عن ذلك، ولكنه ذكر تفسير الكبريت بالذهب الأحمر في قول لبعضهم، وهو كما لا يخفى يناقض ما اعترض به هؤلاء الأئمة، فلعله حدث بعد نظم البيت وبنى على ما فيه وثوقًا من قائله بالشاعر وليحقق.
(ومن قبيله) قول أبي ذؤيب في وصف الدرة:
فجاء بها ما شئت من لطمية ... يدوم الفرات فوقها ويموج
قالوا: والدرة لا تكون في الماء العذب، وإنما تكون في الماء الملح، كذا في اللسان والعقد والوساطة وما يجوز للشاعر في الضرورة وغيرها وذكر أبو هلال في الصناعتين: أن من يحتج له يرى أن مراده ماء الدرة، وقد وقفت في شرح السيرافي على كتاب سيبويه على تفصيل لذلك بما نصه: «قال الأصمعي: هذا غلط، وذلك أنه ظن أن اللؤلؤ يخرج من الماء العذب لبعده عن مواضع اللؤلؤ، ومعنى يدوم الفرات فوقها ويموج: أي يسكن مرة ويهيج أخرى بالريح أو زيادة الماء. وذكر بعض أهل اللغة: أن هذا صحيح، وأن الأصمعي هو الغالط، وكيف يذهب هذا على أبي ذؤيب، وهو من هذيل، ومساكنهم جبال مكة المطلة على البحر ومواضع اللؤلؤ، وإنما أراد أبو ذؤيب بالفرات هاهنا ماء اللؤلؤة الذي قد علاها وجعله فراقًا، إذ كان أعلى المياه ما كان فراقًا. وقوله: يدوم الفرات، أي يسكن. ويموج، أي يضطرب. إنما أراد في الناظر مرة، ويضطرب أخرى لصفائها وبريقها، وأن الماء هو ماء اللؤلؤة» انتهى.
(ومن ذلك) قول لبيد:
ومقام ضيق فرجته ... بمقامي ولساني وجدل
لو يقوم الفيل أو فياله ... زل عن مثل مقامي وزحل
أي لو يقوم الفيل أو صاحبه في هذا المقام لزل وتنحى، ولم يثبت مثل ثباتي، ولا معنى لذكر الفيال هنا، ولكنه لما سمع بعظم خلق الفيل وشدة أيده، ظن أن لسائسه مثل قوته فأخطأ.
(ومنه) قول الآخر:
وألين من مس الرخامات يلتقي ... بمارنه الجادي والعنبر الورد
أنشده السيوطي في المزهر، ونقل عن القالي في أماليه أنه قال: «غلط الأعرابي لأن العنبر الجيد لا يوصف إلا بالشهبة» .
قلنا: البيت وارد في الأمالي، وهو من أبيات أولها: (سقى دمنتين ليس لي بهما عهد) وليس في النسخة المطبوعة ما نقل في المزهر من الانتقاد، فلعل القالي ذكره في كتاب آخر له.
(ومنه) قول خالد بن زهير:
وقاسمها بالله جهدًا لأنتمُ ... ألذ من السلوى إذا ما نشورها
ظن السلوى العسل فقال نشورها، أي تجنيها من الخلية. قال الزجاج: أخطأ خالد إنما السلوى طائر، وتمحل الفارسي في الرد عليه بأن السلوى كل ما سلاك. وقيل للعسل: سلوى لأنه يسليك بحلاوته، وتأتيه عن غيره مما تلحقك فيه مؤونة الطبخ وغيره من أنواع الصناعة انتهى ولا يخفى ما فيه.
القسم الثاني
وكما أنهم يخطئون فيما لم يروه ويعهدوه، نراهم يخطئون أيضًا فيما نشأوا عليه، وألفوا رؤيته صباح مساء. ومأتي هؤلاء من تعرضهم لما عرفوا جملته، ولم يحيطوا بتفصيله، لأن المعرفة تتفاوت كثرةً وقلة بحسب ملابسة الأشياء ومجانبتها، فمن كان أشد علاقة بالشيء كان بالضرورة أخبر به وأبصر ممن ضعفت علاقته به، أو قصرت معرفته له على مجرد الألف والمشاهدة. ألا ترى أن قيم الغراس لا يجهل السيف، كما لا يجهله سائر العرب، ولكنا إذا اختبرناه فيه لا نصيب عنده من العلم به وبدقائق أجزائه ومختلف حالاته وصفاته ما نصيبه عند الطباع والصيقل. وكذلك صاحب الظلف أعرف بالشاة والعنز منه بالفرس والبعير، وصاحب الخيل أبصر بها من الملاح أو البزاز، وقس على ذلك سائر الأمور في الكثير الغالب ومن هذه الناحية تطرق الخطأ لرؤبة في قوله يصف فرسًا ويذكر قوائمه:
بأربع لا يعتنفن العفقا ... يهوين شتى ويقعن وفقا
فجعله يضبر، أي يجمع يديه ثم يثب فيقع مجموعة يداه، وهو عيب، لأن الجياد من الخيل لا تقع حوافرها معًا، إنما المستحب من الفرس أن يسبح بيديه. ولما قيل له: أخطأت يا أبا الجحاف جعلته مقيدًا يضبر، قال: أي بني لا علم لي بالخيل، ولكن أدنني من ذنب البعير أصفه كما يجب، قال الأصمعي: فأدني منه فلم يصنع شيئًا.
1 / 3
(ومثله) قول أبي النجم يصف فرسًا أجراه في الحلبة:
يسبح أخراه ويطفو أوله
قال الأصمعي: أخطأ في هذا لأنه إذا سبح أخراه كان حمار الكساح أسرع منه، وإنما يوصف الجواد بأنه تسبح أولاه وتلحق رجلاه، كذا في الأغاني. وفي العقد: أن اضطرب مؤخر الفرس قبيح، والوجه ما قال أعرابي في وصف فرس أبي الأعور السلمي.
مر كلمح البرق ناظره ... يسبح أولاه ويطفو آخره
فما يمس الأرض منه حافره
وقال ابن قتيبة في طبقات الشعراء: «وكأن أبو النجم وصافًا للفرس وأخذ عليه في صفته يسبح أخراه ويطفو أوله» ثم ذكر قول الأصمعي ولم يزد، ولكن علي بن حمزة البصري نقل عنه في التنبيهات قولًا عن غير الأصمعي فيه تصويب لما في الرجز، فلعله ذكره في كتاب آخر غير الطبقات. وعزا على بن حمزة انتقاد الأصمعي إلى تعصبه على أبي النجم ومن يستقر كلامه في هذا الكتاب يجد عجبًا من تعصبه هو على الأصمعي ورده ما يقول بحق وبغير حق، وكان خيرًا له أن يعتذر هنا لأبي النجم اعتذار رؤبة لنفسه.
(ومما) خطىء فيه أبو النجم ونبه عنه ابن قتيبة في طبقات الشعراء قوله في وصف الفرس:
كأنها ميجنة القصار
ولم يبين وجهه بسوى قوله: إن الميجنة لصاحب الأدم، أي الجلد، وأنها أيضًا التي يدق عليها الأدم من حجر وغيره، فإن كان يريد أنها لا تكون لقصار الثياب كما يؤخذ من كلامه وكلام أبي هلال في الصناعتين فليس بشيء لأنها تكون لكليهما، وإن كان الخطأ في تشبيه الفرس بها فربما ولكن لم يظهر لنا يظهر لنا وجهه (مما) أخطأ فيه أبو النجم أيضًا قوله في الإبل:
وهي على عذب روى المنهل ... دحل أبي المرقال خير الأدحل
من نحت عاد في الزمان الأول ففي الأغاني: «قال الأصمعي: الدحل لا تورده الإبل إنما تورد الركايا، وقد عيب بهذا وعيب بقوله في البيت الذي يليه: إن هذا الدحل من نحت عاد، قال: والدحلان لا تحفر ولا تنحت إنما هي خروق وشعاب في الأرض والجبال لا تصيبها الشمس فتبقى فيها المياه، وهي هوة في الأرض يضيق فمها ثم تتسع فيدخلها ماء السماء» .
(ومما) أخطأ فيه الإبل أيضًا قوله يصف ورودها:
جاءت تسامي في الرعيل الأول ... والظل عن أخفافها لم يفضل
فقوله: والظل لم يفضل عن أخفافها يدل على أنها وردت الماء في الهاجرة.
والعرب إنما تصف الورود غلسًا والماء بارد كقول الشاعر:
فوردت قبل الصباح الفاتق
وقول الآخر:
فوردت قبل تبين الألوان
وقول لبيد:
إن من وردى تغليس النهل
(ومما) خطأوا فيه أبا النجم قوله في وصف راعي الإبل:
صلب العصا جاف عن التعزل
قالوا: ولا يوصف الراعي بالصلابة على إبله. والعرب إذا أرادت وصفه قالت: (هو ضعيف العصا) كأنه لحسن رعايته لا يحتاج إلى شدة وغلظة كما قال الشاعر:
ضعيف العصا بادى العروق ترى له ... عليها إذا ما أمحل الناس إصبعا
صدى إبل أن تتبع الريح مرة ... يدعها ويخفى الصوت حتى تربعا
إذا سرحت من مبرك نام خلفها ... بميثاء مبطان الضحى غير أروعا
لها أمرها حتى إذا ما تبوأت ... بأخفافها مأوى تبوأ مضجعا
فهذا ما توصف به حذاق الرعاة. ومثله قول الراجز:
إذا الركاب عرفت أبا مطر ... مشت رويدًا وأسفت في الشجر
لأنها ألفت منه الرفق بها وتركها ترعى كما تشاء. وقيل: لم يرد أبو النجم بصلابة العصا شدته عليها، وإنما أراد وصفه بصلابة الظهر وقوة البدن، كما يقال: فلان صلب القناة. وقيل: بل أراد أنه صلب العصا على الحقيقة لأن الراعي إذا كان جلدًا صارمًا اختار عصاه من أصلب ما يقدر عليه، وإلا هلكت إبله وضاعت، وعبثت بها الوحوش والسابلة. وقد أطال على بن حمزة البصري في التنبيهات في الانتصار له بما لا يخرج عما ذكرناه وقد آن لنا أن ندع أبا النجم وننتقل إلى الملك الضليل لنرى كيف ضل في وصف فرسه فقال:
فللسوط ألهوب وللساق درة ... وللزجر منه وقع أخرج مهذب
1 / 4
الألهوب والدرة: شدة الجرى: والأخرج، الظليم. والمهذب: السريع العدو. أراد امرؤ القيس أن يصف فرسه بالسرعة، فذكر أنه يضربه بالسوط فيلهب، ويركضه بساقه فيدر جريه، ويزجره فيقع الزجر منه موقعه من الظليم فيعدو عدوه. قالوا: ولو أستعين بهذه الأشياء على أخس حمار وأضعفه فعدا لم يستحق أن ينعت بالسرعة. ويقال: إن أول من عاب عليه هذا البيت امرأته أم جندب لما احتكم إليها هو وعلقمة ابن عبدة الفحل في أيهما أشعر؟ فقالت: سمعتك زجرت وضربت وحركت، وفرس ابن عبدة أجود من فرسك حيث يقول فيه:
فأقبل يهوى ثانيًا من عنانه ... يمر كمر الرائح المتحلب
فغلبت علقمة عليه، ولله در ابن المعتز فإنه ذكر السياط ولكنه احترس احتراسًا حسنًا فقال:
صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل
فقوله: ظالمين من أحسن ما يحترس به هنا.
(ومما) أخذ على امرئ القيس قوله في وصف فرس أيضًا:
لها متنتان خظاتا كما ... أكب على ساعديه النمر
ومعنى الخظاة: المكتنزة، أراد لها متنان كثيرا اللحم كساعدي النمر البارك في الغلظ، وليس هذا مما تمدح به الجياد، وإنما المستحب في المتن والوجه التعريق كما قال طفيل:
معرفة الألحى تلوح متونها
وفي اللسان. «ويستحب من الفرس أن يكون معروق الخدين قال:
قد أشهد الغارة الشعواء تحملني ... جرداء معروقة اللحيين سرحوب
ويروى: معرقة الجنبين، وإذا عرى لحياها من اللحم فهو من علامات عتقها، وفرس معرق: إذا كان مضمرًا، يقال: عرق فرسك تعريقًا، أي أجره حتى يعرق ويضمر ويذهب رهل لحمه» انتهى.
(وتبعه) أبو ذؤيب الهذلي فقال في فرس:
قصر الصبوح لها فشرج لحمها ... بالني فهي تتوخ فبها الإصبع
تأبى بدرتها إذا ما استكرهت ... إلا الحميم فإنه يتبضع
أي قصر صاحبها عليها اللبن فسمنت حتى شرج لحمها بالنى، أي خلط بالشحم فلو غمزته بإصبعك تاخت فيه، فجعلها كثيرة اللحم رخوة، وهو عيب، لأن الجياد توصف بقلة لحمها وصلابته، وأما الذي قاله فالأحرى به شاة يضحى بها قالوا: وأخطأ في البيت الثاني أيضًا فقال: تأبى بدرتها، أي تأبى الجرى إذا أكرهت عليه فجعلها حرونًا إذا حركت قامت، وأخذ الحميم. أي العرق، يتبضع منها، أي يتفجر ويسيل. قال أبو هلال في الصناعتين: وما وصف أحد الفرس بترك الانبعاث إذا حركت غير أبي ذؤيب، وإنما توصف بالسرعة في جميع حالاتها إذا حركت أو لم تحرك، فتشبه بالكوكب والبرق والحريق والريح إلى آخر ما ذكره.
وقيل: كان أبو ذؤيب لا يجيد وصف الخيل فظن أن هذا مما توصف به.
قلنا: وفي الذي أخذوه عليه في البيت الثاني نظر لأنه علق إباءها على الإكراه، والمعروف في صفة الفرس الجواد أنك إذا حركته للعدو أعطاك ما عنده عفوًا، فإذا أكرهته بساق وبسوط لتحمله على الزيادة حملته عزة نفسه على ترك العدو، فهو يقول: إنها تأبى بدرتها عند إكراهها ولا تأبى العرق، كذا في اللسان وشرح ديوانه.
_ومنه) قول سلمة بن الخرشب:
إذا كان الحزام لقصرييه ... أمامًا حيث يمتسك البريم
قال القاضي الجرجاني في الوساطة: «يقول: إن الحزام يقرب في جولانه إذا كثر من عدوه فيصير أمام القصريين. قال الأصمعي: أخطأ في الوصف لأن خير جرى الإناث الخضوع، وإنما يختار الإشراف في جرى الذكور، فإذا اختضعت تقدم الحزام كما قال بشر بن أبي خازم:
تسوق للحزام بمرفقيها ... يسد خواء طبييها الغبار
وقد ساعد متمم بن نويرة على هذا الوصف سلمة فقال:
وكأنه فوق الحبائل جائبًا ... ريم تضايقه كلاب أخضع
فوصف الذكر بالخضوع وإنما يختار له الإشراف» انتهى.
(ومنه) قول عدي بن زيد في صفة فرس:
فصاف يجري جله عن سراته ... يبذ الجياد فارهًا متتايعا
1 / 5
أي صاف هذا الفرس يشق جله عن ظهره من السمن. قالوا: وقد أخطأ في قوله فارهًا لأنه لا يقال للفرس: فاره، وإنما يقال له: جواد وكريم وعتيق، وأما الفاره فالكودن والحمار والبغل. وفي لسان العرب: «زعم أبو حاتم أن عديًا لم يكن له بصر بالخيل وقد خطئ عدي في ذلك» . ووقفت في نبذة عندي مخطوطة منقولة من الفوائد النجفية لسليمان بن عبد الله البحراني على نقول من كتاب لحن العامة لأبي حاتم السجستاني، منها قوله: «ويقال: فرس رائع ولا يقال: فاره، الفاره للحمار والكلب، وفي شعر عدي فارهًا متتايعًا فسألت الأصمعي عنه فقال: لم يكن صاحب خيل، قلت: فيقال: برذون فاره، فقال: لعله، ولعله يقال في البختي» .
(وممن) أخطأ بوضع الغلظ موضع الدقة كعب بن زهير في قوله يصف الناقة:
ضخم مقلدها عبل مقيدها ... في خلقها عن بنات الفحل تفضيل
فقد عد أبو هلال في الصناعتين قوله: ضخم مقلدها من خطأ الوصف لأن النجائب توصف بدقة المذبح، وهو قول غيره من الأئمة أيضًا.
(ومثله) قول الشماخ في ناقته:
فنعم المعترى ركدت إليه ... رحا حيزومها كرحا الطحين
الحيزوم: الصدر. والرحا الأولى: الكركرة، وهي ما يمس الأرض من صدر البعير إذا برك، شبهها في العظم بالرحا التي يطحن بها.
قال المرزباني في الموشح: وإنما توصف النجائب بصغر الكركرة ولطف الخف. وذكر ابن رشيق في العمدة: أن الأصمعي خطاه في هذا لأنه ظنه يصفها بالكبر، وهو عيب لا محالة، وإنما وصفها بالصلابة لا غير. وفي الصناعتين لأبي هلال: «وقال: من احتج للشماخ إنما شبهها بالرحا لصلابتها كما قال:
قلائص يطحن الحصا بالكراكر»
(وأخطأ) أبو النجم في وصفه بالقصر ما يوصف بالسبوطة، فقال في البعير:
أخنس في مثل الكظام مخطمه»
الأخنس: القصير الأنف. والمخطم: الأنف، يقول: كأن أنفه لقصره مشدود بحبل. قال أبو هلال: إنه من خطأ الوصف لأن المشافر إنما توصف بالسبوطة.
(ومن) وضع الشيء في غير موضعه قول المتلمس:
وقد أتناسى الهم عند احتضاره ... بناج عليه الصيعرية مكدم
الناحي هنا: البعير السريع، والصيعرية: سمة للإناث خاصة توسم بها الناقة في عنقها، وهو وسم لأهل اليمن فأخطأ المتلمس في جعلها للفحول وسمعه طرفة بن العبد، وهو صبي، ينشد هذا البيت فقال: (استنوق الجمل) أي صار ناقة، فضحك الناس وسار قوله مثلًا.
(وقال) لبيد:
ولقد أعوص بالخصم وقد ... أملأ الجفنة من شحم القلل
أعوص به، أي ألوى عليه أمره، والقلل: جمع قلة، وهي أعلى السنام. قال أبو هلال والمرزباني: أراد السنام ولا يسمى السنام شحمًا.
(ومن) الخطأ في المعاني ما رواه المرزباني في الموشح قال: قال الأصمعي: قرأت على أبي عمرو بن العلاء شعر النابغة الذبياني فلما بلغت قوله:
مقذوفة بدخيس النحض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد
قال لي: ما أضر عليه في ناقته ما وصف، فقلت له: وكيف؟ قال: لأن صريف الفحول من النشاط، وصريف الإناث من الإعياء والضجر، كذا تكلمت العرب، فرآني بسكوتي مستزيدًا فقال: ألم تسمع قول ربيعة بن مقروم الضبي:
كناز البضيع جمالية ... إذا ما بغمن تراها كتوما
وكما قال الأعشى:
كتوم الرغاء إذا هجرت ... وكانت بقية ذود كتم
وكما قال الأعشى أيضًا:
والمكاكيك والصحاف من الفض ... ضة والضافرات تحت الرحال
انتهى. قلنا: والنصوص اللغوية التي وقفنا عليها تؤيد ما ذهب إليه ابن العلاء، وهو ما حكاه أيضًا الوزير أبو بكر البطليوسي في شرح ديوان النابغة، غير أنه ذكر قولًا آخر عن أبي زيد بأن الصريف يكون في الإناث والفحول من النشاط ومن الإعياء، قال: والبيت لا يحتمل أن يكون إلا من النشاط. ثم نقل قولًا آخر عن القتبي بأن الناس يغلطون في مراد النابغة، فيقولون: إنه وصفها لذلك لنشاطها، وليس هو كذلك، ولكنه أراد أنى تركتها بعد ما كانت فيه من الشدة يصرف نابها. والصريف: إذا كان من الإناث فهو من الإعياء.
(ومنه) قول بشامة بن الغدير يصف راحلته:
وصدر لها مهيع كالخليفِ ... تخال بأن عليه شليلا
1 / 6
أي لها صدر واسع كالطريق في الجبل تخال عليه مسحا من صوف، أو شعر، لكثرة ما عليه من الوبر. قال ابن رشيق في العمدة: إن الأصمعي خطأه فيه لأن من صفة النجائب قلة الوبر.
(ومنه) قول عمر بن لجإ من أرجوزة وصف فيها إبله، فجعلها كالجبال في عظم الخلق، ثم قال في فحلها:
كالظرب الأسود من ورائها
والظرب: الجبل الصغير، ولا يوصف الفحل بأنه أصغر من إناثه في الخلقة، وقد عابه عليه جرير، فكان أحد الأسباب التي أهاجت الهجاء بينهما. وتفصيل الكلام في ذلك في خزانة البغدادي (١: ٣٦١) .
(ومنه) قول طرفة بن العبد في وصف نعجة:
من الزمرات أسبل قادماها ... وضرتها مركنة درور
الزامرات: القليلات الصوف، وخصها بالذكر لأنها أغزر ألبانا.
والقادمان: الخلفان اللذان في الأمام، ويقال لما وراءهما: الآخران.
والمركنة: التي لها أركان. والدرور: الكثيرة الدر.
يقول: هذه النعجة أسبل خلفاها القادمان، وضرتها مملوءة تدر باللبن، وهذا من الخطأ، لأن النعجة ليس لها إلا خلفان، وإنما يصح ذلك في الناقة، لأن لها أربعة خلاف قادمان وآخران. قال المرزباني في الموشح بعد أن أورد هذا البيت: «لا يكون القادمان إلا لما له آخران، وتلك الناقة لها أربعة أخلاف. ومثله قول امرئ القيس:
إذا مشت قوادمها أرنت ... كأن الحي بينهم نعي»
انتهى. قلنا: هو من أبيات قالها لما نبهت إبله، ووهبه بنو نبهان معزى بدلها. والمعنى: إذا مسحت قوادمها عند الحلب صاحت كما يصيح قوم لنعى أتاهم. والخطأ على هذه الرواية كالخطأ في قول طرفة، لأن المعزى ليس لها إلا خلفان، وهي رواية تفرد بها المرزباني. والمعروف: (إذا مشت حوالبها) ويروى: (إذا ما قام حالبها) . وما أحسن ما عزى امرؤ القيس به نفسه في ختام هذه الأبيات فقال:
فتملأ بيتنا أقطًا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع ورى
(ومنه) قول رؤبة:
وكل زجاء سحام الخمل ... تبرى له في زعلات خطل
الزجاء: النعامة. وسحام الخمل: سوداء الريش. وتبرى: أي تنبرى وتتعرض. والزعلات: الخطل النشيطات المضطربات. يقول: هذه الإناث من النعام تنبرى وتتعرض للظليم _أي ذكرها_ وهي في طائفة من نوعها نشيطات مضطربات بالتلوى والتبختر. قال أبو هلال وابن عبد ربه وابن قتيبة: أخطأ في جعله للظليم عدة إناث كما يكون للحمار، وليس للظليم إلا أنثى واحدة.
(ومنه) قول ذي الرمة بصف حمرًا وحشية:
فأقبل الحقب والأكباد ناشزة ... فوق الشراشيف من أحشائها تجب
حتى إذا زلجت عن كل حنجرة ... إلى الغليل ولم يقصعنه نغب
رمى فأخطأ والأقدار غالبة ... فانصعن والويل هجيراه والحرب
معناه: أقبلت الحقب _أي الحمر_ وأكبادها تضطرب خوفا من الصائد حتى إذا وردت الماء ودخلت منه نغب إلى أجوافها لم تكسر غليلها رماها فأخطأها وتفرقت عنه. قال أبو عمرو والأصمعي: وليس هذا من جيد الوصف لأنها إذا شربت ثقلت وإن كانت لم ترو: يريدان أن الثقل يقلل نشاطها في العدو ويمكن الصائد منها. فكأنه وصفها بما يفيد عكس ما أراد. وقد أصاب علي بن حمزة البصري في الرد عليهما في التنبيهات بما نصه: «وهذا غلط إنما تثقل إذا رويت، وأما إذا شربت قليلا فإنه يقويها على العدو، ولولاه لهلكت عطشا. وقد زاده شرحا بقوله في غير هذه الكلمة:
فانصاعت الحقب لم تقصع صرائرها ... وقد نشحن فلا ري ولا هيم
ولولا صحة ما قال لم يقل العجاج:
حتى إذا ما بلت الأغمارا ... ريا ولما تقصع الأصرارا
أجلى نفارا وأنتحت نفارا»
انتهى. (ومنه) قول رؤبة:
كنتم كمن أدخل في جحرٍ يدا ... فأخطأ الأفعى ولاقى الأسودا
يريد: نجوتم من شر فوقعتم في أشد منه. قالوا: وقد أخطأ في ظنه الأفعى دون الأسود، وهي أشد مضرة ونكاية منه.
(ومما) خطأوا فيه المسيب بن علس قوله:
وكأن غاربها رباوة مخرم ... وتمد ثنى جديلها بشراع
1 / 7
أراد وصف هذه الناقة بطول العنق. وتشبيهه بالدقل، وهو خشبة طويلة تشد في وسط السفينة يمد عليها الشراع فقال: كأن زمامها ممدود بشراع لطول عنقها، فأخذوا عليه ذكره الشراع بدل الدقل. وقال بعضهم: إنما أراد بالشراع: الدقل إذ كان الشراع منوطًا به، ومثله لا يعد خطأ، ولمن يريد أن يخطئه من وجه آخر أن يقول: أراد أن يمدحها فذمها لأن طول العنق في الإبل هجنة عند أبي عمرو والأصمعي، وكانا يعيبان على رؤبة قوله في وصف بعير:
عن دوسري بتع ململمهْ ... في جسم خدل صلهبي عممه
غير أن حمزة بن علي البصري خطأهما في هذا الزعم فقال في التنبيهات: «قولهما طول العنق هجنة رد على كلام العرب المأثور، وشعرهم المشهور، لا على رؤبة وحده، وهذا سبيل من ركبه ضلل، ومن نصره جهل» ثم أورد قول من قال: (أبين الإبل عتقا أطولها عنقا) وساق عشرين شاهدًا من كلام العرب تفند ما ذهبا إليه.
(ومنه) قول أيمن بن خريم يمدح بشر بن مروان:
وإنا قد رأينا أم بشر ... كأم الأسد مذكارًا ولودا
قالوا: أخطأ في أن جعل أم الأسد ولودًا لأن الحيوانات الكريمة عشرة نزرة النتاج، والصواب قول كثير:
بغاث الطير أكثرها فراخًا ... وأم الصقر مقلات نزور
كذا في الموازنة والصناعتين، وهو المعروف والمشهور.
ومثله ما أنشده صاحب اللسان في مادة (قلت) لبعضهم:
لنا أم بها قلت ونزر ... كأم الأسد كاتمة الشكاه
(ومنه) قول العجاج يصف بعيره:
كأن عينيه من الغؤور ... قلتان أو حوجلتا قارور
صيرتا بالنضح والتصبير ... صلاصل الزيت إلى الشطور
القلت (بفتح فسكون): النقرة في الجبل تمسك بالماء. والحوجلة: القارورة. والصلاصل هنا: بقايا الزيت، شبه عينيه حين غارتا بقارورتين بقى ما فيهما من الزيت إلى نصفيهما بسبب النضح. قالوا: وقد أخطأ لأنه جعل الزجاج ينضح ويرشح، وإنما تنضح الجرار ونحوها.
(ومنه) قول يزيد بن محمد المهلبي من أرجوزة:
حتى إذا السرب انبرى فاجتهدا ... حطت عليهن البزاة مددا
تجمع منها كل ما تبددا ... تصيد بحرًا وتصيد جددا
من كل ما أحببت أن تصيدا ... سمكة أو طائرًا أو أسدا
قال المزرباني في الموشح: «قال محمد: أحال في هذا البيت لأنه ذكر البزاة، وليس السمك من صيد البزاة» .
(ومنه) قول حميد بن ثور:
لما تخايلت الحمول حسبتها ... دومًا بأيلة ناعمًا مكموما
والتكميم لا يكون إلا في النخل، وهو أن تجعل الكبائس في أكمة تصونها كما تجعل عناقيد الكرم في الأغطية كما في المخصص. ولم يكن هذا العربي يجهل النخل والدوم، ولكنه لما رآهم يكمون النخل ورأى الدوم يشبهه ظن أن يكم مثله لجهله بالغرس وتعهد أنواع الغرس. قال التميمي في ما يجوز للشاعر في الضرورة: ومن يحتج له يرويه: (نخلًا) .
وفي معناه قول النابغة الجعدي:
كأن تواليها بالضحى ... نواعم جعل من الأثاب
وقد أخطأ فيه أيضًا ولكن من وجه آخر لأنه شبه المطي بصغار النخل، والوجه أن توصف بالكبر والعظم كما فعل حميد. قال القاضي الجرجاني في الوساطة: «والجعل: صغار النخل، وإنما المراد الكبار، وبه يصح الوصف فيما زعموا» انتهى.
وفي طبقات الشعراء لابن قتيبة: أن الذي أخذ عليه فيه جعله الجعل من الأثاب، قال: «ولا أراه إلا صحيحًا على التشبيه، كأنه أراد نواعم أثاب كالجعل، وقد تسمى العرب الشيء باسم الشيء إذا كان له مشبهًا، ولعل الأثاب أن تكون تسمى أفناؤه جعلًا، كما تسمى أفناء النخل وقصاره جعلًا» انتهى ولا يخلو من نظر.
(ومنه) قول المرار بن منقذ يصف نخلًا:
كأن فروعها في كل ريح ... جوار بالذوائب ينتصينا
يريد: كأن هذه النخل إذا أمالتها الريح وتلاقى سعفها جوار يتنازعن ويتبارين بأن تأخذ الواحدة بناصية الأخرى فذهب أبو عمرو والأصمعي إلى أن المرار لم يكن له علم بالنخل في وصفها بتقارب النبتات لأن أفضل الغرس ما بوعد بينه. ومما وضعته العرب على ألسنة الأشياء قول النخلة الأخرى:
أبعدي ظلي من ظلكِ ... أحمل حملي وحملك
وتبعهما أبو حنيفة الدينوي في كتاب النبات، فقال في تفسير هذا البيت:
1 / 8
هذا من التقارب حتى ينال سعف بعضه سعف بعض، وذلك هو الحصر، أي التضايق ورد عليهم علي بن حمزة البصري في التنبيهات بكلام طويل خلاصته: أن الحصر تقارب ما بين الأصول وهو مذموم، وخطأهم في زعمهم أن النخل يتناصى من الحصر لأن سبيله أن يباعد بين غرسه، ولكن من جيد نعته أن يمتد جريده ويكثر خوصه ويتصل بعضه ببعض حتى لا ترى منه الشمس، ويمنع الطير من أن تشقه، وإن ما روى عن الأصمعي على لسان النخلة نقله عنه أبو حنيفة، وهو مخالف لما نقله عنه أبو حاتم فقال: «قال الأصمعي: في مثل للفرس والنبط: تقول النخلة لأختها: تباعدي عني، وأنا أحمل حملك وحملي» أي فلم يذكر فيه تباعد الظل. ثم صوب قول المرار وقال: لا شيء أحسن من هذا الوصف للنخل، واستشهد على صحة كلامه بقول ذكوان العجلي:
نواضر غلبًا قد تدانت رءوسها ... من النبت حتى ما يطير غرابها
ترى الباسقات العم منها كأنها ... ظعائن مضروب عليها قبابها
بعيدة بين الزرع لا ذات حشوة ... قصار ولا صعل سريع ذهابها
(ومنه) قول أوس بن حجر:
كأن ريقتها بعد الكرى اعتبقت ... من ماء أدكن في الحانوت نضاح
ومن مشعشة كالمسك تشربها ... أو من أنابيب رمان وتفاح
قال أبو هلال في الصناعتين: «ظن أن الرمان والتفاح في أنابيب.
وقيل: إن الأنابيب: الطرائق التي في الرمان، وإذا حمل على هذا الوجه صح المعنى» .
(ومنه) قول بعضهم في وصف سيف:
وأبيض أخلص من ماء اليلب
قال ابن منقذ في كتاب البديع: «والسيوف لا تعمل من ماء اليلب لأن اليلب جلود تتخذ منها دروع منسوجة، فتوهم الشاعر أنها حديد» . ورواه القاضي الجرجاني في الوساطة: (ومحور) بدل وأبيض، ولعل المراد الحديدة التي تدور عليها البكرة، وقد خطأه فيه أيضًا فقال: «جعل اليلب حديدًا وهي سيور» .
قلنا: هما تابعان في ذلك لابن دريد لأن اليلب ليس عنده الحديد. وذهب غيره إلى أنه الحديد، وفسره به في قول عمرو بن كلثوم:
علينا البيض واليلب اليماني ... وأسياف يقمن وينحنينا
وعلى هذا فلا خطأ، ولكن ابن السكيت خطأ الراجز من وجه آخر فقال بعد ذكره لبيت ابن كلثوم: سمعه بعض الأعراب فظن أن اليلب أجود الحديد فقال: (ومحور أخلص من ماء اليلب) وهو خطأ إنما قاله على التوهم. انتهى.
(ومنه) قول زهير:
يحيل في جدول تحبو ضفادعه ... حبو الجواري ترى في مائه نطقا
يخرجن من شربات ماؤها طحل ... على الجذوع يخفن الغم والغرقا
ففي العقد والوساطة والوشح وسر الفصاحة والموازنة والصناعتين وطبقات الشعراء لابن قتيبة: أنه أخطأ في ظنه أن الضفادع تخرج من الماء مخافة الغم والغرق، وإنما تخرج لتبيض وتفرخ في الشطوط. وقال الأعلم في شرحه لديوان زهير: «قوله: يخفن الغم والغرقا توهم أن خروج الضفادع مخافة الغرق فغلط، ويقال: إنما قال ذلك ليخبر بكثرة الماء وانتهائه، فأشار إلى ذلك بذكره الغرق وإن كانت لا تخاف ذلك»، ونحوه في العمدة لابن رشيق، وخلاصة ما قال: إنه لم يرد أن تخاف الغرق على الحقيقة، وإنما أراد المبالغة في كثرة ماء هذه الشربات، واقتدى فيه بقول أوس بن حجر:
فباكرن جونًا للعلاجيم فوقه ... مجالس غرق لا يحلا ناهله
(ومما أخذوه) على طرفة قوله في وصف ناقته:
وأتلع نهاض إذا صعدت به ... كسكان بوصي بدجلة مصعد
أراد لها عنق أتلع: أي طويل يرتفع إذا أشخصته في سيرها، فهو كسكان سفينة مصعدة في دجلة، والسكان (بضم الأول وتشديد الكاف): ذنب السفينة الذي يقوم به سيرها ويعدل، ويقال له أيضًا: الخيزرانة والكوثل، وتسمية العامة بمصر الآن (الدفة) فذهب القاضي الجرجاني في الوساطة إلى أنه أخطأ، لأنه أراد تشبيه عنقها بالدقل: أي خشية الشراع، فذكر بدله السكان.
1 / 9
قلنا: ولا ريب في خطئه إذا كان أراد ذلك، غير أن البيت يحتمل وجهين آخرين لا خطأ فيهما، أحدهما: أن يكون شبهه بالسكان نفسه، أي الذنب لا الدقل، وهو ما يؤخذ من معاجم اللغة وشروح المعلقات التي بأيدينا. والثاني: أن يكون شبهه بالسكان مريدا به شيئًا آخر غير الذنب، وهو المفهوم من شرح الأعلم الشنتمري لديوان طرفة، فقد فسر السكان في هذا البيت بعود المركب. والمتبادر أنه يريد بالعود شيئًا كالدقل، أي (الصاري) وهو تفسير كاد يتفرد به، ولم نقف على ما يماثله سوى في قول علي بن حمزة في التنبيهات: «شبه عنقها بسكان سفينة من سفن دجلة، وربما كان أطول من الدقل وشر أحواله أن يكون بطول الدقل» انتهى. فدل بقوله هذا على أنه شيء يشبه الدقل، ولكنه أطول منه، وقد يكون بطوله في أقل حالاته، ولا يخفى أن الذنب له طرف قائم، ولكنه لا يبلغ في حال من الأحوال مثل هذا الطول، فلا ريب في أن المراد بالسكان في هذا القول شيء غيره، ولعله العود الطويل الذي يمد عليه الشراع ثم يناط معترضنا بالدقل. وتسمية العامة بمصر: (القرية) فإنها تكون عادة أطول من (الصاري)، وهي محرفة عن (القرية) بفتح فكسر وتشديد الياء. وقد فسرت في اللغة بعود الشراع الذي في عرضه من أعلاه، غير أننا لم نر من نص على تسمية هذا العود بالسكان أيضًا فليحقق.
(ومنه) قول عنترة:
وخلا الذباب بها فليس يبارح ... غردًا كفعل الشارب المترنم
هزجًا يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم
أي أن الذباب يصوره حال حكه إحدى ذراعيه بالأخرى، مثل قدح رجل ناقص اليد قد أقبل على قدح الزناد. وجاء في مجلة البيان للعلامة اليازجي: أن صوت البعوض والذباب والنحل وأشباهها يحدث من اهتزاز أجنحتها في الهواء على حد ما يكون من أجنحة الحمام. وعلى هذا ففي قول عنترة تناقض ظاهر لأنه لا يمكن أن يحك الذباب إحدى ذراعيه بالأخرى إلا وهو واقع، ومتى كان واقعا تكون أجنحته ساكنة فلا يمكن أن يصوت، ولكن عنترة توهم أن صوته من حنجرته فلم يمتنع عنده الجمع بين هاتين الحاليتين. انتهى بمعناه وأكثر لفظه.
القسم الثالث
ومن أسباب الوهم في المعاني استهواء المبالغة للشاعر، وتجاوزها به حدًا إذا تعداه عكس عليه مقصده، كما فعل امرؤ القيس لما أراد المبالغة في وصف ذنب فرسه بالطول فقال:
لها ذنب مثل ذيل العروس ... تسد به فرجها من دبر
يريد بالفرج: الفضاء الذي بين الرجلين، وإذا كان الذنب كثيفًا طويلًا سد هذا الفضاء حتى لا يبين. وطول الذنب مستحب في الخيل، ومن دلائل عتقها وكرمها، ولكن إلى حد ألا يكون كذيل العروس يجر على الأرض لأنه إذا بلغ الأرض وطئه الفرس برجله، وربما عثر به، وهو عيب. وتبعه في ذلك من المولدين البحتري فقال:
ذنب كما سحب الرداء يذب عن ... عرف وعرف كالقناع المسبل
والجيد من ذلك قول امرئ القيس في المعلقة:
صليع إذا استدبرته سد فرجه ... بضاف فويق الأرض ليس بأعزل
1 / 10
فوصفه بالطول إلا أنه جعله فويق الأرض فلم يقع فيما وقع فيه في بيته المتقدم. أما كونه أراد في ذلك البيت بذيل العروس الطول المذموم فهو ما ذهب إليه ابن سنان في سر الفصاحة وعابه عليه. وقال ابن رشيق في العمدة: «أراد طوله لأن العروس تجر ذيلها إما من الحياء، أو من الخيلاء» . ومن يحتج له يقول إنما أراد بهذا الوصف الكثافة والطول الممدوح، وهو رأي الآمدي، ونص عبارته في الموازنة: «وما أرى العيب لحق أمرأ القيس في هذا لأن العروس وإن كانت تسحب ذيلها، وكان ذنب الفرس إذا مس الأرض عيبًا فليس بمنكر أن يشبه به الذنب وإن لم يبلغ أن يمس به الأرض لأن الشيء إنما يشبه بالشيء إذا قرب منه أو دنا من معناه، فإذا أشبهه في أكثر أحواله فقد صح التشبيه ولاق به، وامرؤ القيس لم يقصد أن يشبه طول الذنب بطول ذيل العروس فقط، وإنما أراد السبوغ والكثرة والكثافة، ألا تراه قال: (تسد به فرجها من دبر) وقد يكون الذنب طويلًا يكاد يمس الأرض ولا يكون كثيفًا، بل يكون رقيقًا نزر الشعر خفيفًا فلا يسد فرج الفرس، فلما قال: تسد به فرجها علمنا أنه أراد الكثافة والسبوغ مع الطول، فإذا أشبه الذنب الذيل من هذه الجهة، وكان في الطول قريبًا منه فالتشبيه صحيح، وليس ذلك بموجب للعيب، ولا أن يكون ذنب الفرس من أجل تشبيهه بالذيل مما يحكم به على الشاعر أيضًا أنه قصد إلى أن الفرس يسحبه على الأرض، وإنما العيب في قول البحتري: (ذنب كما سحب الرداء) فأفصح بأن الفرس يسحب ذنبه.
ومثل قول امرئ القيس قول خداش بن زهير:
لها ذنب مثل ذيل الهدى ... إلى جؤجؤ أيد الزافر
والهدى: العروس التي تهدى إلى زوجها. والأيد: الشديد. والزافر: الصدر لأنها تزفر منه، فإنما أراد بذيل العروس طوله وسبوغه، فشبه الذنب السابغ به وإن لم يبلغ في الطول إلى أن يمس الأرض» انتهى كلام الآمدي.
ولم يكتف امرؤ القيس بأن جعل ذنب فرسه يجر على الأرض إن صح أنه أراد ذلك حتى أبرز لنا وجه هذه الفرس مجللًا بشعر الناصية لا تكاد تبصر منه الطريق فقال:
وأركب في الروع خيفانة ... على وجهها سعف منتشر
وكأنه خشي أن يظن بها السفى، وهو خفة الناصية، فوصف شعرها بالطول والكثرة، وحملته المبالغة على جعله كالسعف على وجهها. وقد عاب عليه هذا الوصف شارح ديوانه الوزير البطليوسي، وأبو هلال في الصناعتين، وابن سنان في سر الفصاحة، والجرجاني في الوساطة، والمرزباني في الموشح. وروى الآمدي في الموازنة عن أبي حاتم عن الأصمعي ما نصه: «شبه شعر الناصية بسعف النخلة، والشعر إذا غطى العين لم يكن الفرس كريما، وذلك هو الغمم، والذي يحمد من النواصي الجثلة، وهي التي لم تفرط في الكثرة، فتكون الفرس غماء، والغمم مكروه، ولم تفرط في الخفة فتكون سفواء، والسفى أيضًا مكروه في الخيل» انتهى.
قلنا: ومنه يعلم ما في قول البحتري في بيته المتقدم: (وعرف كالقناع المسبل) وعندنا أنه أشد تغلغلًا في الخطأ من وصف امرئ القيس.
وكأننا بالطرماح أشفق أن يكون ذنب ناقته دون ذنب فرس امرئ القيس، ولم يفطن إلى أن طول الذنب في الإبل غير مستحسن فقال:
تمسح الأرض بمعنونس ... مثل مثلاة النياح القيام
فأخطأ خطأين كان في غنى عنهما، لولا أن المبالغة استدرجته إلى الأول فتمهد له السبيل إلى الثاني.
أما الأول: فجعله الذي يمسح الأرض، وإذا كان طوله قبيحًا مذمومًا في الإبل فبلوغه إلى هذا الحد أقبح وأدعى إلى الذم.
والثاني: أنه أراد أ، يشبهه بثوب يجر ولم يشأ أن يسلب امرأ القيس ذيل عروسه، فشبهه بخرقة النائحة، وهي لا تجرها على الأرض، ولا تبلغ في الطول أن تصلح لذلك، وإنما هي كالمنديل تمسكها بيدها وتشير بها إذا قامت تنوح.
هذا تفسير ما أجمله المرزباني في الموشح عن هذا البيت بقوله: «أفصح بأن الذنب يمس الأرض وأساء في التشبيه أيضا» . وتبعه البحتري، ولكنه اقتصد هذه المرة في الطول فقال:
سيحمل همي عن قريب وهمتي ... قرى كل ذيال جلال جلنفع
أي سيحمل همي وهمتي ظهر كل جمل طويل الذنب غليظ شديد. قال أبو العلاء المعري في عبث الوليد: «وصفه الجمل بذيال قلما يستعمل، إنما يوصف بذلك الفرس والثور الوحشي» .
1 / 11
وكما أن طول الذنب غير ممدوح في الإبل فإن كثرة شعره غير ممدوح أيضًا في نجائبها، وقد جمعهما طرفة لناقته فقال:
كأن جناحي مضرحي تكنفا ... حفافيه شكا في العسيب بمسرد
أي كأن جناحي نسر عتيق عظيم تكنفا جانبي هذا الذنب وشكا في عظمه بمخصف. قال المزرباني في الموشح: «إنما توصف النجائب برقة شعر الذنب وخفته، وجعله هذا كثيفا طويلا عريضا» ومثله في الصناعتين لأبي هلال. وقال التبريزي في شرح المعلقات: «قال الأصمعي: يستحب من المهارى أن تقصر أذنابها، وقل ما ترى مهريًا إلا ورأيت ذنبه أعصل كأنه أفعى» إلا أنه قال بعد ذلك: «وقال غيره: كل الفحول من الشعراء وصفوا الأذناب بكثرة الهلب، منهم امرؤ القيس وطرفة وعيينة بن مرداس وغيرهم» .
قلنا: ولا نخالهم فعلوا ذلك إلا للمبالغة فيما كان الأولى فيه القصد. ومن هذا النوع قول ذي الرمة في ناقته:
تصغى إذا شدها بالكور جانحة ... حتى إذا ما استوى في غرزها تثب
يقول: هي مؤدبة ليس بنفور تميل رأسها لصاحبها كأنها تستمع إذا شدها بالرحل، ثم أراد أن يصفها بالنشاط فجعلها تثب عند وضع رجله في ركابها، وهي مبالغة جعلت نشاطها هوجًا ورعونة. وفي العقد الفريد والموشح: أن أعرابيًا سمعه ينشد هذا البيت فقال: صرع والله الرجل. وقيل: إنه أنشده أبا عمرو بن العلاء فقال له: ما قاله عمك الراعي أحسن مما قلت، وهو:
ولا تعجل المرء قبل الورو ... ك وهي بركبته أبصر
وهي إذا قام في غرزها ... كمثل السفينة أو أوقر
فقال ذو الرمة: إن الراعي وصف ناقة ملك، وأنا أصف ناقة سوقة.
قال المزرباني في الموشح: «أراد أن يحتال فلم يصنع شيئًا» . وذهب علي بن حمزة البصري في التنبيهات إلى أنه لم يخطئ، وأن ما روى عنه من الاعتذار حكاه الأصمعي فكذب فيه، وأن مراد ذي الرمة حتى إذا ما استوى على ظهرها، وإذا كان كذلك فقد استوى في غرزها، ثم قال: «وأبو عمرو مع عيبه بيت ذي الرمة قد أنشد مثله في نوادره، بل هو أشد سرعة من بيت ذي الرمة، وهو:
إذا وضعت في غرزها الرجل أجفلت ... كما أجفلت بيدانة أم تولب
ثم لم يعب هذا البيت» انتهى.
ولو قال قائل: ما المانع من أن يكون أكثر ما ذكر في هذا القسم والذي قبله لم يرد به قائلوه إلا ذكر الواقع، فما على من كانت ناقته ضخمة المقلد، أو فرسه مسحوب الذنب على الأرض إذا وصفهما بحقيقة ما فيهما.
قلنا: لو كانوا أرادوا ذلك لما وجد العلماء سبيلا إلى تخطئتهم والنعى عليهم، كما فعلوا مع من نهج منهج الحقيقة من الشعراء، وإنما أخذوا على هؤلاء ما أخذوه، لأنهم ذكروا أشياء حاولوا وصفها بما يحمد في نوعها، فتخيلوا لها أحسن ما تنعت به من النعوت، ولحقهم الخطأ في بعضها لجهلهم بخصائص ما ينعتون، ولو أن رؤبة أراد وصف ذاك الفرس بحقيقة ما فيه لما قال لمن خطأه: «أي بني لا علم لي بالخيل، ولكن ادننى من ذنب البعير» كما تقدم.
القسم الرابع
ومن الأوهام في المعاني ما لا يرجع لسبب من الأسباب المتقدمة فلا يصح عده من أحد أقسامها، كأن يصنع الشاعر لفظة في موضع لا تصلح له لجهله بالشيء كما تقدم، بل لسهو أو لخطإ في تقديره، أو أن يسئ في التعبير إساءة تحيل المعنى وتفسده، إن لم تعكس الغرض المقصود منه، أو أن يأتي بكلام متلائم الأجزاء، أو فاسد التقسيم، أو التشبيه أو غير ذلك مما يشبهه ويجري مجراه. وكثيرًا ما تنشأ هذه الأوهام من التساهل، إما لثقة الشاعر بقدرته وبمكانة شعره في النفوس، أو لكلال يلحق طبعه في بعض الأحيان فيلقي بالكلام على عواهنه في البيت والبيتين من القصيدة، ثم تمنعه تلك الثقة أو الضجر أو ضيق وقت من إعادة النظر فيما قال.
(فمن ذلك) قول النابغة الذبياني:
ماضي الجنان أخي صبر إذا نزلت ... حرب يوائل منها كل تنبال
يوائل: يطلب الموئل، وهو الملجأ. والتنبال: القصير، أو الجبان وذكره هنا مفسد لمعنى البيت قال أبو هلال: «ليس القصير بأولى بطلب الموئل من الطويل، وإن جعل التنبال الجبان فهو أبعد من الصواب لأن الجبان خائف وجل اشتدت الحرب أم سكنت» . ومثله في الموشح للمزرباني.
وقال النابغة أيضًا يصف ناقته:
تحيد عن أستن سود أسافله ... مشى الإماء الغوادي تحمل الحزما
1 / 12
الأستن (بوزن أحمر): شجر إذا نظر الناظر إليه من بعد شبهه بشخوص الناس، كذا في اللسان. وقال الأعلم الشنتمري في شرح الديوان: «شبه الأستن في سواد أسافله وطوله بإماء سود يحملن الحزم، وأوقع التشبيه في اللفظ على المشي لأن السبب في ظهر أسافلهن وتبين سوادهن، وإنما خص اللواتي تحمل الحزم لأنهن إذا كانت عليهن الحزم مددن أيديهن فكان أطول لهن» . وفي شرح الوزير أبي بكر البطليوسي: «شبه سواد أسافل هذا الشجر وما فوق ذلك من فروعه اليابسة بإماء سود على رءوسهن حطب لأن لون هذا الشجر إذا كان أسفله أسود وأعلاه يابس الأغصان فكأنه حطب على رءوس إماء سود» . والذي عيب عليه في هذا البيت من فساد المعنى قوله: (الغوادي) لأن الإماء تحمل الحطب بالعشي وهن روائح، وأما إذا غدون إلى الصحراء فإنهن مخفات. قالوا: والجيد قول التغلبي:
تظل ربد النعام كأنها ... إماء تزجى بالعشي حواطب
قد شبه النعام بالإماء الحواطب لأن النعامة إذا خفضت عنقها ومشت كانت أشبه بماش وعلى ظهره حمل. وقال أبو هلال في بيت النابغة: «وقد روى: مثل الإماء، وإذا صحت الرواية سلم المعنى» .
قلنا: لم يظهر لنا وجه سلامة المعنى على هذه الرواية لأن أبا هلال لم يعب عليه قوله: (مشى افماء) بل عاب عليه كغيره قوله: (الغوادي) وتغيير مشي بمثل لا يجعل تلك الإماء روائح حتى يسلم المعنى به، وإنما الذي ينتصر للنابغة يقول: أراد أن الإماء تغدو لتحمل الحطب رواحًا.
وقال علي بن حمزة البصري في التنبيهات: «كان أبو عبيدة يقول: لم يقله النابغة إلا عشاء تحمل الحزما» .
(وقال) النابغة أيضًا يصف ثورًا:
من وحش وجرة موشى أكارعه ... طاوى المصير كسيف الصيقل الفرد
قال أبو هلال: «أراد بالفرد أنه مسلول من غمده، فلم يبن بقوله الفرد عن سلة بينانًا واضحًا. والجيد قول الطرماح وقد أخذه منه:
يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد
وهذا غاية في حسن الوصف» ومثله في طبقات الشعراء لابن قتيبة.
(ومما خطأوا) فيه النابغة أيضًا قوله:
ألكني يا عيين إليك قولًا ... ستحمله الرواة إليك عنى
ألكني: أي كن رسولي وبلغ. ألوكتى: أي رسالتي. وفسره أبو هلال بأرسلني فقال منتقدًا البيت: «وليس من الصواب أن يقال: أرسلني إلى نفسك ثم قال: ستحمله الرواة إليك عني» . وقال الآمدي: «قالوا: ألكنى: أي كن لي رسولًا، فكيف يكون ألكنى إليك عني، فاعتذر له الأصمعي وقال: أهذا مما حملته الرواة عن النابغة، كأنه يدفع أن يكون قاله» .
قلنا: من فسره بأرسلني راعى اللفظ فقط، ومن فسره بكن رسولي راعى المعنى، ففي اللسان أن مقتضى لفظ: (ألكني إليها برسالة) أن يكون أرسلني إليها برسالة إلا أنه جاء على القلب، إذ المعنى: كن رسولي إليها بهذه الرسالة، فاللفظ يقضى بأن المخاطب مرسل، والمتكلم مرسل، وهو في المعنى بعكس ذلك،. انتهى ملخصًا.
والذي أنكره هؤلاء الأئمة أجازه صاحب اللسان فقال: «وقد يكون المرسل هو المرسل إليه، وذلك كقولك: ألكني إليك السلام، أي كن رسولي إلى نفسك بالسلام، وعليه قول الشاعر» ثم استشهد بالبيت. هذا فيما يتعلق بالصدر، وأما إنكارهم قوله بعد ذلك: ستحمله الرواة إليك عني، فإن رواية الديوان وشروحه التي بأيدينا: «سأهديه إليك إليك عني» وفسره الأعلم بقوله: أي كف عني في أمر إخواني بني أسد، وكان عيينة بن حصن سام قوم نابغة أن ينقضوا حلف بني أسد فتوعده النابغة بالهجاء والحرب.
(ومما عابوه) على النابغة قوله:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
فقال المعترضون: تشبيهه الإدراك بالليل يساويه إدراك النهار فلم خصه دونه، وإنما كان سبيله أن يأنى بما ليس له قسيم، هذا خلاصة ما قيل في البيت، والكلام فيه كثير حتى عده بعضهم في نقد الشعر من باب العبث، وهو أن يقصد الشاعر شيئًا من الأشياء ليس لذكره فائدة. وقال المعتذرون للنابغة: إنما خص الليل بالذكر لأنه وصفه في حال سخطه فشبهه بالليل وهوله، وهي كلمة جامعة لمعانٍ كثيرة. وقيل: ذكر الليل لأنه أهول، ولأنه أول، ولأن أكثر أعملهم كانت فيه لشدة حر بلادهم، فصار ذلك عندهم متعارفًا.
(ومما خطأوه) فيه قوله:
1 / 13
كأن حجاج مقلتها قليب ... من الشِّيقين حلّق مستقاها
الحجاج: العظم الذي ينبت عليه شعر الحاجب. والقليب: البئر. والشيقان: موضع. وحلق مستقاها: غار ماؤها. والحجاج لا يوصف بأنه غائر كالقليب، وهذا مما لا يخفى على أحد.
ومن ذلك قول بعضهم:
ونطعنهم حيث الكلى بعد ضربهم ... ببيض المواضي حيث ليّ العمائم
أراد هذا الشاعر أن يذكر شجاعتهم، ويصف بأسهم في قتال أعدائهم، فأتى بما يدل على عكس ما أراد، لأنه إذا ضربهم بالسيوف مكان ليّ العمائم: أي في رؤوسهم ولم يموتوا، واحتاجوا بعد ذلك إلى طعنهم بالرماح في كلاهم، فقد فعلوا فعل الجبان الخائف غير المتمكن من قتل قرنه، وهذا مما لا يفخر به، وإنما الجيد قول بلعاء بن قيس:
غشيته وهو في جأواء باسلة ... عضبًا أصاب الرأس فانفلقا
بضربة لم تكن مني مخالسة ... ولا تعجّلتها جبنًا ولا فرقا
(ومن فاسد) التشبيه قول بشر بن أبي حازم:
وجرّ الرامسات بها ذيولًا ... كأنّ شمالها بعد الدَّبور
رماد بين آظآر ثلاث ... كما وشم النواشر بالنؤور
والشمال والدبور لا تشبهان بالرماد، وإن كان أراد ما تخلف من فعل الشمال والدبور، فقد أساء التعبير، وقصر في بيان مراده.
(ومن قبيله) قوله أيضًا يصف سفينة:
أجالد صفّهم ولقد أراني ... على زوراء تسجد للرياح
إذا ركبت بصاحبها خليجًا ... تذكّر ما لديه من جناح
ونحن على جوانبها قعود ... نغضّ الطرف كالإبل القماح
وهو مما عابه عليه ابن قتيبة في طبقات الشعراء، لأن معنى غض طرفه كسره وأطرق ولم يفتح عينيه والإبل القماح: هي الرافعات رءوسها عن الماء الممتنعة عن الشرب، فكيف يشبه المطرق بالرفع رأسه. ولكن من يراجع مادة (قمح) في اللسان لا يعدم للكلام مخرجًا.
(ومن التشبيهات) التي لم تقع موقعها قول ابن هرمة:
وإنّى وتركي ندى الأكرمينَ ... وقدحي بكفّى زنادًا شحاحا
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
وقول الفرزدق:
وإنك إن تهجو تميما وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق العمائم
كمهريق ماء بالفلاة وغرّه ... سحاب أذاعته رياح السمائم
فإن بيت ابن هرمة الثاني يليق ببيت الفرزدق الأول، وبيت الفرزدق الثاني يليق ببيت ابن هرمة الأول، فلو كانا كذلك لكن كل واحد منهما قد شبه تشبيهًا واضحًا صحيحًا؛ فأما والشعر وما هو عليه فإن التشبيه فيه بعيد. كذا في سر الفصاحة لابن سنان. وعزا صاحب الأغاني هذا النقد لأبي نواس، فذكر أنه قال: «شاعران قالا بيتين وضعا التشبيه فيهما في غير موضعه، فلو أخذ البيت الثاني من شعر أحدهما فجعل مع بيت الآخر، وأخذ بيت ذاك فجعل مع هذا لصار متفقًا معنى وتشبيهًا» وقال بعد إيراد المقطوعين: «ولكن ابن هرمة قد تلافى ذلك بعد فقال:
وإنّك إذ أطمعتني منك بالرضا ... وأيأستني من بعد ذلك بالغضبْ
كممكنة من ضرعها كفّ حالب ... ودافقة من بعد ذلك ما حلبْ»
انتهى. يريد: أنه أتى هنا بتشبيه صحيح لا أنه أصلح به تشبيهه الأول فإن هذا غير ذاك.
(ومما وهم) فيه خفاف بن ندبة قوله:
أبقى لها التعداء من عتداتها ... ومتونها كخيوطة الكتّان
قال المرزباني: «العتدات: القوائم، أراد: أن قوائمها دقت حتى عادت كأنها خيوط، وأراد ضلوعها فقال متونها» .
(ومثله) قول ابن أحمر:
غادرني سهمه أعشى وغادره ... سيف ابن أحمر يشكو الرأس والكبدا
قالوا: أراد غادرني سهمه أعور فلم يمكنه فقال أعشى. وكان ابن أحمر أعور رماه رجل يقال له مخشى بسم فذهبت عينه.
(ومن الأوهام) قول القائل:
يمشى بها كل موشّى أكارعه ... مشى الهرابذ حجوا بيعة الزُّون
الهرابدة: النمجوس، وهم قومة بيت النار، والزون: الصنم. قال أبو هلال: «الغلط في هذا البيت في ثلاثة مواضع، أحدهما: أن الهرابذ المجوس لا النصارى. والثاني: أن البيعة للنصارى لا للمجوس. والثالث: أن النصارى لا يعبدون الأصنام ولا المجوس» .
(ومما عابه) أبو هلال على ذي الرمة قوله:
تغار إذا ما الروع أبدى عن البرى ... ونقرى عبيط اللحم والماء جامس
1 / 14
فقال: «لا يقال: ماء جامس، وإنما يقال: ودك جامس» . قلنا: هو تابع في ذلك للأصمعي. والجامس: الجامد، يريد: أننا نقرى في الشتاء. وبض اللغويين يجيز الجموس في الماء.
(وعاب) عليه قوله أيضًا:
إذا أنجا بت الظلماء أضحت رءوسها ... عليهنّ من جهد الكرى وهي ظلَّع
فعده من عجائب الغلط، ونقل عن ابن فروة أنه قال: قلت لذي الرمة: ما علمت أحدًا من الناس أظلع الرءوس غيرك! فقال أجل. انتهى.
قلنا لأن المعروف في الظلع أنه العرج والغمز في المشي، وهذا لا يكون في الرءوس.
(وعاب) على أبي ذؤيب الهذلي قوله:
فما برحت في الناس حتّى تبيّنت ... ثقيفًا بزيزاء الأشاء قبابها
الزيزاء: (بكسر الأول): الأكم، واحدتها زيزاءة والأشاء: النخل. قال أبو هلال: «يقول: ما زالت هذه الخمرة في الناس يحفظونها حتى أتوا بها ثقيفًا. قال الأصمعي. وكيف تحمل الخمرة إلى ثقيف وعندهم العنب!» ومثله في طبقات الشعراء لابن قتيبة.
قلنا: الذي في شرح السكرى لديوان أبي ذؤيب أن المعنى: «حملت إلى عكاظ لتباع، وهي دار ثقيف» وعليه فلا خطأ إلى أن يكون مراد الشاعر حملت إلى ثقيف نفسها كما فهم الأصمعي، وتبعه فيه أبو هلال وابن قتيبة.
(ومما أخطأوا) فيه الشماخ قوله:
وأعددت للساقين والرجل والنسا ... لجامًا وسرجًا فوق أعوج مختال
قال المرزباني: «وإنما يلجم الشدقان لا الساقان» .
قلنا: لم يقل الشماخ ألجمت الساقين ولا يقوله أحد، وإنما قال: أعددت لها لجامًا وسرجًا، أي ألجمت فرسي وأسرجته ليعدو ويحرك ساقيه إلا أنه لم يحسن التعبير.
(ومما استضعف) من معاني الأعشى قوله:
فرميت غفلة عن شاته ... فأصبت قلبها وطحالها
المراد بالشاة هنا: المرأة. قال المزرباني: «وقد عابه قوم بذلك لأنهم رأوا ذكر القلب والفؤاد والكبد يتردد كثيرًا في الشعر عند ذكر الهوى والمحبة والشوق، وما يجده المغرم في هذه الأعضاء من الحرارة والكرب، ولم يجدوا الطحال استعمل في هذه الحال إذ لا صنع له فيها، ولا هو مما يكتسب حرارة وحركة في حزن ولا عشق، ولا بردًا وسكونًا في فرح أو ظفر فاستهجنوا ذكره» .
(ومن المتناقض) قول المسيب بن علس:
فتسلَّ حاجتها إذا هي أعرضت ... بخميصة سرح اليدين وساع
وكأن قنطرة بموضع كورها ... ملساء بين غوامض الأنساع
وإذا أطفت بها أطفت بكلكل ... نبض الفرائض مجفر الأضلاع
فوصفت بأنها خميصة: أي ضامرة، ثم شبهها بعد ذلك بالقنطرة، والقنطرة لا تكون إلا عظيمة، وأكد ذلك بقوله: مجفر الأضلاع. والمجفر: العظيم الجنين من كل شيء، فكيف تكون خميصة وهذه صفتها.
(ومن المتناقض) قول الحطيئة في ثور وحشي:
حرج يلاوذ بالكناس كأنّه ... متطوّف حتّى الصباح يدور
حتّى إذا ما الصبح شقّ عموده ... وعلاه أسطع لا يردّ منير
أوفى على عقد الكثيب كأنّه ... وسط القداح معقّب مشهور
وحصى الكثيب بصفيحته كأنّه ... خبث الحديد أطارهنّ الكير
قالوا: زعم أنه بات يطوف حتى أصبح وأشرف على الكثيب، فمن أين صار الحصى بصفيحته! وإنما يلتصق بهما إذا كان راقدًا.
(ومنه) قول عروة بن أذينة:
نزلوا ثلاثَ منىً بمنزل غبطة ... وهمُ على غرض لعمرك ما همُ
متجاورين بغير دار إقامة ... لو قد أجدّ رحيلهم لم يندموا
قال أبو هلال: «فقال لبثوا في دار غبطة، ثم قال: لو رحلوا لم يندموا.
ومثله قول جرير:
فلم أر دارًا مثلها دار غبطة ... وملقىً إذا التف الحجيج بمجمع
أقلّ مقيمًا راضيًا بمقامه ... وأكثر جارًا ظاعنًا لم يودّع
وهل يغتبط عاقل بمكان من لا يرضى به» انتهى.
(ومنه) قول ابن نوفل:
لأعلاج ثمانية وشيخ ... كبير السن ذي بصر ضرير
لأن الضرير إنما يستعمل في الأكثر للذي لا بصر له، فقوله في هذا الشيخ أنه ذو بصر، وأنه ضرير تناقض، فكأنه يقول: إنه لا بصرًا ولا بصر له، فهو بصير أعمى، كذا في الموشح للمرزباني ونقد الشعر لقدامة.
1 / 15
قلنا: يطلق الضرير أيضًا على المريض المهزول، وعلى ذي الزمانة إلا أن الأكثر استعماله لفاقد البصر كما قالا، ولا نظن الشاعر أراد غير الضعف وسوء الحال، ولكنه لما استعمله في غير ما يستعمل فيه في الأكثر أتى بما يوهم الخطأ والاحتراس من مثله أولى.
(ومنه) قول يزيد بن مالك:
أكفّ الجهل عن حلماء قومي ... وأعرض عن كلام الجاهلينا
إذا رجل تعرّض مستخفًّا ... لنا بالجهل أوشك أن يحيينا
قال قدامة: «قد أوجب هذا الشاعر في البيت الأول لنفسه الحلم والإعراض عن الجهال، ونفى ذلك بعينه في البيت الثاني بتعديه في معاقبة الجاهل إلى أقصى العقوبات وهو القتل» .
(ومما عدوه من التناقض) قول زهير:
قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيّرها الأرواح والديم
فقالوا: نقض في عجز هذا البيت ما قال في صدره، لأنه زعم أن الديار لم يعفها القدم، ثم انتبه من مرقده فقال: بلى عفاها وغيرها أيضًا الأرواح والديم. وقال أبو عبيدة: أكذب نفسه فقال: لم يعفها، ثم رجع فقال: بلى. ومن يحتج له يقول: مراده أن بعضها عفا وبعضها لم يعف. وقيل: بل المراد أن الديار لم اعف في عينه من طريق محبته لها، وشغفه بمن كان فيها. ومثله قول امرئ القيس:
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمأل
ثم قوله في بيت آخر:
وإن شفائى عبرة مهراقة ... فهل عند رسم دارس من معوّل
ومن يذهب إلى عدم التناقض يقول: أراد لم يعف رسم حبها من قلبي. والأظهر قول بعضهم: أراد لم يقتصر سبب محوها على نسج الريحين، بل كان له أسباب منها هذا السبب، ومر السنين، وترادف الأمطار وغيرها.
وعد بعضهم من التناقض قوله في موضع:
فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال
ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي
وقوله في كلمة أخرى:
فتملأ بيتنا أقطًا وسنًا ... وحسبك من غنًى شبع وري
لأنه وصف نفسه في موضع بسمو الهمة وقلة الرضا بدنيء المعيشة، وأطرة في موضع آخر القناعة، وأخبر عن اكتفاء الإنسان بشبعه وريّه. وقد رد قدامة على هذا العائب فقال: «أقول: إنه لو تصفح أولًا قول امرئ القيس حق تصفحه لم يجد معنى ناقص معنى، فالمعنيان في الشعرين متفقان إلا أنه زاد في أحدهما زيادة لا تنقض ما في الآخر، وليس لأحد ممنوعًا من الإتساع في المعاني التي لا تتناقض، وذلك أنه قال في أحد المعنيين:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال
وهذا موافق لقوله: (وحسبك من غنى شبع وري) ولكن في المعنى الأول زيادة ليست بناقضة لشيء، وهو قوله: لكني لست أسعى لما يكفيني ولكن لمجد أؤثله، فالمعنيان اللذان ينبئان عن اكتفاء الإنسان باليسير متوافقان في الشعرين، والزيادة في الشعر الأول التي دل بها على بعد خمته ليستن تنقض واحدًا منهما ولا تنسخه، وأرى أن هذا العائب ظن امرأ القيس قال في أحد الشعرين: إن القليل يكفيه، وفي الآخر لا يكفيه، وقد ظهر بما قلنا أن هذا الشاعر لم يقل شيئًا من ذلك ولا ذهب إليه، ومع ذلك فلو قاله وذهب إليه لم يكن عندي مخطئًا من أجل أنه لم يكن في شرط شرطه يحتاج إلى أن لا ينقض بعضه بعضًا، ولا في معنى سلكه في كلمة واحدة أيضًا» .
(ومن التناقض) على طريق المضاف قول عبد الرحمن بن عبد الله القيسي:
فإنّي إذا ما الموت حلّ بنفسها ... يزال بنفسي قبل ذلك فأقبر
قال قدامة: «جمع بين قبل وبعد، وهما من المضاف، لأنه لا قبل إلا لبعد، ولا بعد إلا لقبل، حيث قال: إنه إذا وقع الموت بها، وهذا القول كأنه شرط وضعه ليكون له جواب يأتي، وجوابه قوله: يزال بنفسه قبل ذلك، وهذا شبيه بقول قائل: لو قال: إذا انكسرت الجرة انكسر الكوز قبلها» . وقال أبو هلال: «هذا شبيه بقول قائل: إذا دخل زيد الدار دخل عمرو قبله» .
(ومما أخذوه) على الأعشى قوله:
شتّان ما يومي على كورها ... ويوم حيّان أخي جابر
وكان حيّان أشهر وأعلى ذكرًا من أخيه جابر، فلم يكن محتاجًا لأن يعرف به.
(ومن غريب الوهم) قول عدي بن زيد:
والمشرف الهندي يسقى به ... أخضر مطوثًا بماء الخريص
1 / 16
المشرف: إناء كانوا يشربون فيه. والمطموث: الممسوس. والخريص: السحاب. ووجه الخطأ وصفه الخمر بالخضرة، وما وصفها بذلك أحد غبره، ولا كانت العرب تعرف هذا اللون للخمر.
(ومن قبيله) قول المرار:
وخال على خدّيك يبدو كأنّه ... سنا البدر في دعجاء باد دجونها
فوصف الخال بالبياض، والوجه بالسواد، وهو خلاف المتعارف، اللهم إلا أن يكون حكى الواقع، ولو كان كذلك ما عابه عليه أئمة الأدب ونقده الشعر كالمرزباني وأبي هلال وقدامة وغيرهم.
(ومما أخطأوا) فيه جريرًا قوله:
لمّا تذكرت بالديرين أرّقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
فقالوا: غلط مرتين فإن الدجاج لا تصيح، وإنما الديوك تصيح، والأرق في أول الليل، والديوك تصيح عند الصباح.
قلنا: الدجاج تطلق على الديوك أيضًا، وإنما الوهم في الثاني، وقد تكلف له بعضهم وجهًا فقال: إنما أراد أرقني انتظار صوت الدجاج والنواقيس.
(ومن عيوب) المعاني أن ينسب الشيء إلى ما ليس منه، كما قال خالد بن صفوان:
فإن صورة راقتك فأخبر فربّما ... أمرّ مذاق العود والعود أخضر
قال قدامة والمرزباني: «كأنه يومئ إلى أن سبيل العود الأخضر في الأكثر أن يكون عذبًا أو غير مر، وهذا ليس بواجب، لأنه ليس العود الأخضر بطعم من الطعوم أولى منه بالآخر» .
(ومن عيوب) المعاني قول الحكم الخضري:
كانت بنو غالب لأمّتها ... كالغيث في كلّ ساعة يكف
وليس في المعهود أن يكون الغيث واكفًا في كل ساعة.
(ومنها) قول الحطيئة:
ومن يطلب مساعى آل لأى ... تصعّده الأمور إلى علاها
قال أبو هلال: «كان ينبغي أن يقول: من طلب مساعيهم عجز عنها وقصر دونها، فأما إذا تناهى إلى علاها فأي فخر لهم، فإن قيل: إنه أراد به يلقى صعوبة، كما يلقى الصاعد من أسفل إلى غلو، فالعيب أيضًا لازم له، لأنه لم يعبر عنه تعبيرًا مبينا» ونحوه في الموشح للمزرباني.
قلنا: البيت على القول الأول أشبه بالهجاء عنه بالمدح، لأنه أراد أن يعظم شأنهم فصغره وحقره، وقد وقع الأخطل فيما يشبهه، فإذا أراد مدح سماك الأسدي وكان قومه يلقبون بالقيون ويعيرون بذلك فقال:
قد كنت أحسبه قينًا وأنبؤه ... فاليوم طيّر عن أثوابه الشَّررُ
أي فاليوم نفى ذلك عن نفسه وذهب عنه هذا اللقب، فنبه في محده له على شيء يعير به، وكان له في ضروب الممادح متسع. ويروي: أنه لما أنشده سماكًا قال له: أردت أن تمدحني فهجوتني كان الناس يقولون قولًا فحققته.
وأراد الأخطل أن يهجو سويد بن منجوف، فأتى بما يدل على مدحه في قوله:
وما جذع سوء خرّب السوس أصله ... لما حمّلته وائل بمطيق
فجعله لا يطيق ما خملته وائل من أمورها، فأثبت له نباهة وسؤددًا، وجعله من تعصب به الحاجات. وفي الأغاني: أنه لما هجا سويدًا بهذا الشعر قال له: يا أبا مالك، ما تحسن تهجو ولا تمدح، لقد أردت مدح الأسدي فهجوته، يعني قوله: (قد كنت أحسبه قينًا وأنبؤه) وأردت هجائي فمدحتني، جعلت وائلًا حملتني أمورها، وما طمعت في بني تغلب فضلًا عن بكر.
قلنا: وقد سبقه زهير إلى المدح بما يشبه الهجاء في بيت لم نر من تنبه لما فيه غير ابن شرف القيرواني فقال عنه ما نصه: «وقال زهير_ وهو من أطيب شعره أملحه عند العامة، وكثير من الخاصة، فهاهنا تحفظ وتأمل، ولا يهلك ذلك منهم الحق أبلج_قال:
تراه إذا ما جئته متهللًا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
مدح به شريفًا، أي شريف، فجعل سروره بقاصده كسروره بمن يدفع شيئًا من عرض الدنيا إليه، وليس من صفات النفوس العازفة السامية، والهمم الشريفة العالية، إظهار السرور إلى أن تتهلل وجوههم، وتسر نفوسهم بهبة الواهب، ولا شدة لابتهاج بعطية المعطى، بل ذلك عندهم سقوط همة، وصغر نفس» إلى أن قال: «هذا نقض البناء، ومحض الهجاء، والفضلاء يفخرون بضد هذا» .
(وعابوا) على الفرزدق قوله:
ومن يأمن الحجّاج والطير تتّقى ... عقوبته إلاّ ضعيف العزائم
وزعموا أن الحجاج قال له: ما عملت شيئًا، إن الطير تتقى الصبي والثوب وتنفر من الخشبة، ولا نخال الفرزدق أراد ذلك، وإنما مراده أن القريب والبعيد يتقيه حتى الطائر في الجو، ولكنه قصر في البيان.
1 / 17
(ومن عيوب المعاني) فساد التقسيم، وهو إما أن يكون بالتكرير كقول هذيل الأشجعي:
فما برحت تومي إليه بطرفها ... وتومض أحيانًا إذا خصمها غفل
فإن تومي وتومض متساويان، فكأنه قال: ما برحت تومي إليه أحيانًا وتومي أحيانا. وإما أن يكون بدخول أحد القسمين في الآخر، كقول القائل:
أبادر إهلاك مستهلك ... لمالي أو عبث العابث
فإن عبث العابث داخل في إهلاك المستهلك.
ومثله قول أمية بن أبي الصلت:
لله نعمتنا تبارك ربّنا ... ربّ الأنام وربّ من يتأبّد
فمن يتأبد: أي يتوحش داخل في الأنام، ولا يجوز أن يكون أراد به الوحش لأن من لا تقع على غير العاقل.
ومنه أن يكون القسمان مما لا يجوز دخول أحدهما في الآخر كقول أبي عدي القرشي:
غير ما أن أكون نلت نوالًا ... من نداها عفوًا ولا مهنيا
فإن العفو قد يكون مهنيا، والمهنى قد يكون عفوا، وهو مثل ما حكى أن أنوك سأك مرة فقال: علقمة بن عبدة جاهلي أو من بني تميم.
ومثله قول عبد الله بن سليم الغامدي:
فهبطت غيثًا ما يفزّغ وحشه ... من بين سرب ناوئٍ وكنوس
فإن الناوئ: أي السمين يجوز أن يكون كانسًا أو راتعًا، والكانس يجوز أن يكون سمينًا أو هزيلًا، وإما أن يكون بترك ما يحتمل الواجب تركه، كقول جرير في بني حنيفة:
صارت حنيفة أثلاثًا فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها
قيل: إن هذا الشعر أنشد في مجلس ورجل من بني حنيفة حاضر فيه فقيل له: من أيهم أنت؟ فقال: من الثلث الملغى ذكره. انتهى ملخصًا من نقد الشعر والموشح.
(ومن عيوب المعاني) الإخلال، قال قدامة والمرزباني: «هو أن ترك من اللفظ ما يتم به المعنى، مثال ذلك قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود:
أعاذل عاجل ما أشتهى ... أحبّ من الأكثر الرائث
فإنما أراد أن يقول: عاجل ما اشتهى مع القلة أحب إلي من الأكثر المبطئ، فترك مع القلة وبه يتم المعنى.
ومثل ذلك قول عروة بن الورد:
عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم ... ومقتلهم عند الوغا كان أعذرا
فإنا أراد أن يقول: عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم في السلم، ومقتلهم عند الوغا أعذر فترك في السلم.
ومن هذا الجنس قول الحارث بن حلزة:
والعيش خير في ظلا ... ل النوك ممن عاش كدّا
فأراد أن يقول والعيش خير في ظلال النوك من العيش بكد في ظلال العقل، فترك شيئًا كثيرًا، وعلى أنه لو قال ذلك لكان في الشعر خلل آخر، لأن الذي يظهر أنه أراده هو أن يقول إن العيش الناعم في ظلال النوك خير من العيش الشاق في ظلال العقل، فأخل بشيء كثير.
ومن هذا الجنس نوع آخر، وهو كما قال بعضهم:
لا يرمضون إذا حرّت مشافرهم ... ولا ترى منهم في الطعن ميّالا
ويفشلون إذا نادى ربيئهم ... ألا اركبنّ فقد آنست أبطالا
الربئي: الطليعة، فأراد أن يقول: ولا يفشلون، فحذف (لا) فعاد المعنى إلى الضد» انتهى.
(ومن اضطراب) المعنى قول أبي دؤاد الإيادي
لو أنها بذلت لذي سقم ... حرض الفؤاد مشارف القبض
حسن الحديث لظلّ مكتئبًا ... حرّان من وجد بها مضّ
قال أبو هلال: «وكان استواء المعنى أن يقول: لبرأ من سقمه» .
(ومن الإحالة) قول ابن مقبل:
أما الأداة ففينا صنعٌ ... جردٌ عواجرُ بالألباد واللُّجم
ونسج داود من بيض مضاعفة ... من عهد عاد وبعد الحيّ من إرم
قال ابن رشيق: «فكيف يكون نسج داود من عهد عاد اللهم إلا أن يريد فينا ضمر صنع من عهد عاد، فذلك له على سبيل المبالغة، مع أن الإحالة لم تفارقه، وكم بين قيس عيلان وبين عاد فضلًا عن بني العجلان» انتهى. والصنع من قولهم: صنع فرسه: إذا أحسن القيام عليه، فهو فرس صنيع. والعواجر: التي تقمص. وجاء في اللسان عن البيت الأول: «رويت بالحاء والجيم في اللجم، ومعناه: عليها ألبادها ولحمها، يصفها بالسمن، وهي رافعة أذنابها من نشاطها» .
1 / 18
قلنا: والذي انتقده قيه ابن رشيق يصح على القول الأول أن يجاب عنه بأنه أراد ما يشبه نسج داود في الجودة، فيستقيم به المعنى، وأما إنكاره في القول الثاني بقاء هذه الخيل من عهد عاد إلى زمان الشاعر، فلا ريب في أن ابن مقبل لم يرد بقاءها بأعيانها، وإنما أراد بقاء ما تناسل منها زمنًا بعد زمن، فليس فيه غير المبالغة.
(ومن الخطأ) قول بعضهم:
كأنه سبط من الأسباط
قال في اللسان نقلًا عن ابن سيده: إنه ظن السبط الرجل فغلط. وفي المزهر: «ظن أن السبط الرجل، وإنما السبط واحد الأسباط من بني يعقوب» .
(ومثله) قول الآخر:
نقضّ أم الهام والترائكا
قالوا: الترائك: بيض النعام. فظن الشاعر أن البيض كله ترائك.
قلنا: لم يخطئ الشاعر. فإن بيضة الحديد التي للرأس يقال لها أيضًا: تريكة على التشبيه ببيضة النعامة.
(ومن وضع) كلمة موضع أخرى قول امرئ القيس:
إذا ما الثريّا في السماء تعرضت ... تعرّض أثناء الوشاح المفصّل
قالوا: غلط فذكر الثريا، وهو يريد الجوزاء، لأن الثريا لا تتعرض، وهو قول الجمحي. وقال بعضهم: تعرض الثريا أنها إذا بلغت كبد السماء أخذت في العرض ذاهبة ساعة، كما أن الوشاح يقع مائلًا إلى أحد شقي المتوشحة به.
(ومما أدركه) بعضهم على لبيد قوله:
نحن بني أم البنين الأربعة ... ونحن خير عامر بن صعصعهْ
أراد بأم البنين: جدته ليلى، وكانت ولدت أباه ربيعة بن مالك، وأعمامه: عامرًا ملاعب الأسنة، وطفيلًا فارس قرزل، ومعاوية معود الحكماء، وعبيدة الوضاح، فكانوا خمسة لا أربعة كما قال، ولهذا حمل بعضهم قوله أربعة على الضرورة الشعرية.
والأكثرون على أنه لم يخطئ لأنه قال ذلك بعد موت أبيه. قال السهيلي: «وإنما قال أربعة لأن أباه كان مات قبل ذلك، لا كما قال بعض الناس، وهو قول يعزى إلى الفراء أنه قال: إنما قال أربعة ولم يقل خمسة من أجل القوافي، فيقال له: لا يجوز للشاعر أن يلحن لإقامة وزن الشعر، فكيف بأن يكذب لإقامة الوزن» .
القسم الخامس
ومن هذه الأوهام (القلب) عند من لا يرى جوازه، وهو أن يجعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر، والآخر مكانه مع إثبات حكم كل للآخر، نحو: قطع المسمار الثوب. وأدخلت رأسي في القلنسوة. لأن المسمار هو القاطع للثوب، والرأس هو المدخل في القلنسوة.
وقد اختلف فيه النحاة والبيانيون، فأجازه بعض النحاة لوضوح المعنى، وخصه بعضهم بالضرورة، وقبله بعض البيانيون مطلقًا، ورده بعضهم مطلقًا على ما هو مفصل في كتبهم. وذهب بعض البانيين إلى قبوله أن تضمن اعتبارًا لطيفًا، كقول رؤبة بن العجاج:
ومهمه مغبّرة أرجاؤه ... كأنّ لون أرضه سماؤه
فالأصل: كأن لون سمائه لما فيها من الغبار لون أرضه. قالوا: والإعتبار اللطيف وهم المبالغة في وصف لون السماء بالغبرة حتى كأنه صار بحيث يشبه به لون الأرض في ذلك مع أن الأرض أصل فيه. واعترض بعضهم بأن هذا لا ينبغي إجراء الخلاف فيه لأنه على هذا الاعتبار يكون من التشبيه المقلوب وقلب التشبيه متفق عليه، فكأن الأولى التمثيل بقول الشاعر:
ورأين شيخًا قد تحنى صلبه ... يمشي فيقعس أو يكبّ فيعثر
لأن الأصل: أو يعثر فيكب، أي يسقط على وجهه. والاعتبار اللطيف أن في القلب تخييل أنه من غاية ضعفه يسقط على وجهه قبل عثاره. ومثلوا للقلب المردود لعدم تضمنه هذا الاعتبار اللطيف بقول القطامى يصف ناقته:
فلمّا أن جرى سمن عليها ... كما طيّنت بالفدن السياعا
1 / 19
والفدن: القصر. والسياع: (بفتح الأول وكسره): الطين بالتبن الذي يطين به ظاهر الجدار. أراد كما طينت بالسياع الفدن فقلب. والمعنى: إن هذه الناقة امتلأت سمنًا فصارت كالقصر المسيع في الملامسة. واعترض بأنا لا نسلم خلوه من النكتة، لأنه يتضمن من المبالغة في سمن الناقة ما لا يتضمنه قولنا: كما طينت الفدن بالسياع، لإيهامه أن السياع بلغ من العظم والكثرة إلى أن صار بمنزلة الأصل، والفدن بالنسبة إليه كالسياع بالنسبة إلى الفدن، كذا في الهندية للدماميني على المغنى، وفي عروس الأفراح للبهاء السبكي ما نصه: «ويروى: بطنت، كذا رأيته في الصحاح للجوهري وحلية المحاضرة للحاتمي، والتوسعة لابن السكيت وجعله قلبًا وفيه نظر، لأنه يجوز أن يريد أنه جعل القصر بطانة للطين لأنه داخله فلا قلب، وكل ما كان ظهارة لغيره كان الغير بطانة له» انتهى.
(ومما عدوه) من القلب قول القطامى في مطلع هذه القصيدة:
قفى قبل التفرق يا ضباعا ... ولا يك موقفٌ منك الوداعا
لأنه جعل ما هو في موقع المبتدأ نكرة وما هم في موقع الخبر معرفة، فحمل على القلب لتصحيح الحكم اللفظي وصار تقديره: ولا يكن موقف الوداع موقفًا منك، ولو أنه نكر الوداع ما حمل على ذلك.
ومثله قول حسان:
كأنّ سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسلٌ وماءُ
عند من نصب مزاجها فجعل المعرفة الخبر والنكرة الإسم. وفي البيت تأويلات أخرى تخريجه عن القلب ليس هذا محل ذكرها.
(ومن القلب) قول القائل:
إنّ سراجًا لكريم مفخرهْ ... تحلى به العين إذا ما تجهرهْ
قال السيد المرتضى في أماليه: أي يحلى بالعين فقدم وأخر.
(ومنه) قول الجعدي:
كانت فريضة ما تقول كما ... كان الزناءُ فريضةَ الرجم
والأصل: كان الرجم فريضة الزناء.
(ومنه) قول الآخر:
وقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي ... على وعلٍ في ذي المطارة عاقلِ
أراد: ما تزيد مخافة وعل على مخافتي، كذا في أمالى المرتضى.
(ومنه) قول الآخر:
ترى الثور فيها مدخل الظلِ رأسه ... وسائره بادٍ إلى الشمس أجمع
(ومنه) قول الراعي:
فصبّحته كلاب الغوث يؤسدها ... مستوضحون يرون العين كالأثر
يريد أنهم يرون الأكثر كالعين.
(ومنه) قول النابغة الذبياني:
فلا تتركنّي بالوعيد كأنّني ... إلى الناس مطليّ به القار أجربُ
قال الأعلم: «قوله: كأنني إلى الناس، أي في الناس، وقوله: مطلي به القار، أي مطلي بالقار فقلب، ويحتمل أن يكون في مطلي ضمير البعير كأنه قال: كأني بعير مطلي أجرب فيه القار، أو عليه القار» .
(ومنه) قول أبي النجم:
قبل دنو الأفق من جوائزه
أي قبل دنو الجوزاء من الأفق.
(ومنه) قول عروة بن الورد:
فلو أنّى شهدت أبا معاذ ... غداة غدا بمهجته يفوق
فديت بنفسه نفسي ومالي ... وما آلوك إلّا ما أطيق
قال المرزباني: أراد أن يقول: فديت نفسه بنفسي فقلب المعنى.
(ومنه) قول الحطيئة:
فلمّم خشيت الهون والعير ممسك ... على رغمه ما أمسك الحبل حافرهْ
وكان الوجه: ما أمسك الحبل حافره.
ومثله قول المجنون:
يضمّ إلى الليل أطفال حبّكم ... كما ضمّ أزرار القميص البنائقُ
والوجه: رفع الأزرار ونصب البنائق، ولهذا ذكر السيرافي أن بعضهم رواه: (كما ضم أزرار القميص البنائقا) قال: وليس بصحيح، لأن القصيدة مرفوعة. هذا على تفسير البنيقة بالرقعة تكون في الثوب كاللبنة، أو هي لبنة القميص، وقال صاحب اللسان: «وفسر أبو عمرو الشيباني البنائق هنا بالعرا التي تدخل فيها الأزرار. والمعنى على هذا واضح بين لا يحتاج معه إلى قلب ولا تعسف إلا أن الجمهور على الوجه الأول» انتهى.
(ومنه) قول الشماخ:
بانت سعاد ففي العينين ملمول ... وكان في قصر من عهدها طول
قال أبو هلال: «كان ينبغي أن يقول: في طول من عهدها قصر لأن العيش مع الأحبة يوصف بالقصر» ونحوه في الموشح للمزرباني (ومنه) قول أبي ذؤيب:
فلا يهنأ الواشون أن قد هجرتها ... وأظام دوني ليلها ونهارها
قال أبو هلال: هذا من المقلوب، وكان ينبغي أن يقول: وأظلم دونها ليلي ونهاري، ومثله في الموشح.
(ومنه) قول الأخطل:
1 / 20