Awham Caql
أوهام العقل: قراءة في «الأورجانون الجديد» لفرانسيس بيكون
Genres
وحتى بعد أن نقوم بذلك فإن الذهن إذ يترك لحاله وطرائقه فهو غير قادر وغير لائق لتكوين المبادئ ما لم يتم توجيهه ودعمه؛ لذا فإن علينا في المقام الثالث أن نستخدم استقراء صحيحا ومشروعا يكون هو المفتاح نفسه للتفسير، وإنما علي أن أبدأ بالحديث عن هذا الأخير، ثم أعود أدراجي إلى البقية. (15) أطلقت على مهمة ووظيفة هذه القوائم الثلاث «عرض الشواهد أمام الذهن». وبعد أن تم العرض يجب أن يبدأ «الاستقراء» نفسه في العمل؛ فبالإضافة إلى «عرض» كل مثال يجب أن نكتشف أية طبيعة تظهر دائما مع الطبيعة المعنية أو لا تظهر، أيها تزيد معها أو تقل، وأيها تعد حدا (كما قلنا آنفا) لطبيعة أعم. «إذا حاول العقل أن يفعل ذلك على نحو إيجابي
86 (وهو ما سيفعله دائما إذا ترك لحاله)، هنالك ستبرز أوهام وتخمينات وأفكار غير محددة ومبادئ تحتاج إلى تصحيح كل يوم، ما لم يؤثر المرء أن ينافح عن الباطل (كشأن المدرسيين)، وإن كانت هذه - بغير شك - ستكون أفضل أو أسوأ بحسب قدرة وذكاء الفكر الذي يعمل، غير أن الله وحده (خالق الصور وبارئها) - أو ربما الملائكة والعقول العليا - من يملك معرفة مباشرة بالصور بالإيجاب ومنذ بداية التفكير. من المتيقن أن هذا فوق قدرة الإنسان، الذي قدر عليه ألا ينطلق إلا من خلال «الأمثلة السالبة»، فلا يخلص إلى «الأمثلة الإيجابية» إلا بعد أن يستنفد كل ما هو مستبعد.» (39) في المرتبة السادسة عشرة بين «شواهد الامتياز» سأضع «شواهد الباب أو البوابة»
87 (الشواهد التي تفتح الأبواب أو البوابات
instances that open doors or gates )، هذا هو الاسم الذي أعطيه لتلك الشواهد التي تساعد الأفعال المباشرة للحواس. من الواضح أن البصر يحتل المكان الأول بين الحواس فيما يتعلق بالمعلومات؛ ومن ثم فهذه هي الحماسة التي ينبغي أن نجتهد في المقام الأول لكي ندبر لها معينا، ويظهر أن هناك ثلاثة أنواع من المعينات؛ فإما أن نمكن البصر أن يدرك ما لا يدركه، أو أن يدرك أبعد مما يدركه، أو أن يدرك على نحو أكثر دقة وتحديدا.
إذا ضربنا صفحا عن النظارات وما إليها، التي تنحصر وظيفتها في تصحيح وإزالة الضعف في النظر الضعيف؛ ومن ثم لا تقدم معلومات جديدة، فإن من شواهد النوع الأول الميكروسكوبات - التي اخترعت أخيرا - التي تكشف الأجزاء الدقيقة الخفية وغير المرئية للأجسام وتراكيبها الكامنة بتكبير حجمها بدرجة مدهشة، وبواسطتها نشاهد باندهاش عظيم الشكل والتكوين الدقيق لدى البرغوث والذبابة والديدان، وكذلك ألوانها وحركاتها التي كانت في السابق غير مرئية، ويقال أيضا: إن الخط المرسوم بقلم الحبر أو الرصاص يرى خلال هذه العدسات شديد الاعوجاج والتموج، وتأويل ذلك أنها لا حركة اليد مهما استعانت بمسطرة ولا انطباع الحبر أو اللون بالشيء المستوي في حقيقة الأمر، رغم أن عدم الاستواء هو من الدقة بحيث لا يمكن كشفه بدون هذه العدسات، هنا أيضا قدم الناس نوعا من الملاحظة الخرافية (كشأنهم مع كل شيء جديد ومدهش)، وهو أن مثل هذه الميكروسكوبات تشيد بأعمال الطبيعة وتهين أعمال الفن، ولكن هذا يعود ببساطة إلى أن نسيج الطبيعة أدق بكثير من النسيج الصناعي، فهذا الميكروسكوب لا يصلح إلا للأشياء الدقيقة، فلو أن ديمقريطس قد شهد عدسة مكبرة لقد كان قمينا ربما أن يثب فرحا؛ ظنا منه أن قد اخترعت وسيلة لرؤية الذرة (التي أكد أنها غير قابلة للرؤية على الإطلاق)، ولكن قصور هذه الميكروسكوبات في ملاحظة أي شيء عدا الأجسام البالغة الدقة (بل قصورها حتى في هذه الأخيرة حين تكون جزءا من جسم أكبر) يدمر فائدتها؛ ذلك أن هذا الاختراع لو أمكن أن يمتد إلى الأجسام الأكبر أو الأجزاء الدقيقة للأجسام الكبيرة، بحيث تبدو قطعة القماش أشبه بشبكة، وبحيث تشاهد وتميز الملامح والتعاريج الخفية للجواهر والسوائل والبول والدم والجروح والكثير من الأشياء الأخرى؛ لأمكننا - بغير شك - أن نجني فوائد عظيمة من هذا الاختراع.
ومن شواهد النوع الثاني: الإنجاز العظيم لجاليليو - التلسكوب، الذي يفتح اتصالا أقرب، وكأن بقوارب أو بسفن بيننا وبين أجرام السماء؛ فبفضل مساعدة التلسكوب تأكدنا أن درب التبانة هو مجرد عقدة أو كوكبة من النجوم الصغيرة منمازة ومنفصلة بشكل واضح، وهو ما لم يكن يعرفه القدامى إلا ظنا وتخمينا، ويبدو أيضا أنه يثبت أن الفضاءات فيما بين ما يسمى أفلاك الكواكب ليست خلوا تماما من نجوم أخرى، بل إن السماء يبدأ التماعها بالنجوم من قبل أن تصل إلى الكرة السماوية النجمية نفسها، وإن كانت تلك نجوما أصغر من أن تشاهدها بغير مساعدة التلسكوب. يمكن للمرء بهذا التلسكوب أن يشاهد مجموعات النجوم الصغيرة حول كوكب المشتري (وقد يحدس من هذا أن هناك أكثر من مركز واحد في حركات النجوم)، وبه ترى تفاوتات النور والظل على سطح القمر وتحدد على نحو أوضح، بحيث يمكن عمل نوع من الخريطة للقمر، وبه يمكن للمرء أن يرى البقع في الشمس، وما إلى ذلك، وكلها بالتأكيد كشوف جليلة إذا أمن المرء لصدق هذا الضرب من البراهين. غير أننا في شك كبير من مثل هذه الأشياء؛ لأن الخبرة تتوقف عند هذه الأشياء القليلة، ولأن أشياء أخرى كثيرة تستحق الدراسة بالمثل لم يتم اكتشافها بنفس الوسيلة.
88
ومن شواهد النوع الثالث: قضب قياس الأرض - الأسطرلاب وما شابهه - التي لا تكبر حاسة البصر بل تصححها وتركزها. وإذا كان ثمة شواهد أخرى تساعد الحواس الأخرى في أعمالها الفردية المباشرة، فإنها بعد لا تسهم في مشروعنا ما لم يكن من شأنها أن تضيف إلى الرصيد الفعلي من المعلومات التي بحوزتنا الآن؛ ولذلك لم أتطرق إليها. (41) وفي المرتبة الثامنة عشرة بين شواهد الامتياز سأضع «شواهد الطريق»
instances of the road ،
89
Unknown page