Awail Kharif
أوائل الخريف: قصة سيدة راقية
Genres
أجابت: «أجل»، وابتسمت له، ولكن عندما استدارت مرة أخرى لتنصرف، طرأت على ذهنها فكرة غريبة ومخيفة بعض الشيء. «ليت جاك يعيش حتى وفاة جده، حينئذ سيموت الرجل المسن سعيدا. ليته يبقى على قيد الحياة حتى ذلك الحين ...»
كانت لديها طريقة غريبة في رؤية الأمور في ضوء الحقيقة القاسية، ولقد عززت طفولتها البائسة والوحيدة هذه السمة الشخصية فيها. كانت قد جبلت على هذا، والآن بعدما صارت امرأة ناضجة وجدت أن الأمر بطريقة ما لم يكن نقمة بقدر ما هو نعمة. ففي عالم اعتمد على خداع أفراده لأنفسهم، اكتشفت أن رؤية الحقيقة ومعرفتها جعلتها قوية. وربما لهذا السبب أصبحوا جميعا يعتمدون عليها. ولكن مرت عليها أيضا أوقات رغبت فيها بشدة أن تكون أنثى ضعيفة ومسكينة، امرأة ربما تلجأ إلى زوجها وتجد فيه شخصا أقوى منها. انتابها شعور غريب بالحسد تجاه سافينا بينتلاند، التي ماتت قبل أن تولد ... سافينا بينتلاند التي كانت أيقونة الجمال في هذه العائلة، الأنثى المبذرة الطائشة، التي اشترت عقودا من اللؤلؤ واستسلمت لنوبات البكاء والإغماء.
ولكن لم يكن لديها (أوليفيا) أحد لتعتمد عليه سوى آنسون. •••
وبعدما انصرفت جلس الرجل المسن مدة طويلة يدخن ويشرب البراندي، تكتنفه وحدة صارت أشد قليلا مما كانت عليه قبيل أن يجلس ليتحدث مع أوليفيا. كان من عادته أن يجلس هكذا أحيانا لمدة ساعة، غافلا، على ما يبدو، عن العالم من حوله؛ لقد دخلت أوليفيا أكثر من مرة في مثل تلك اللحظات وانصرفت مرة أخرى، غير راغبة في فك التعويذة ولو حتى بكلمة واحدة.
وأخيرا، عندما احترق السيجار حتى نهايته، سحق العقب المشتعل بحركة مقتضبة وعنيفة، ثم هب واقفا وخرج من الغرفة العالية السقف الضيقة ومنها إلى الردهة المؤدية إلى الدرج المظلم المفضي إلى الجناح الشمالي العتيق. كان قد اعتاد صعود هذه الدرجات كل يوم منذ أن صار من الضروري إبقاء زوجته في الريف طوال العام ... كل يوم، في الساعة نفسها، درجة تلو الأخرى، وطئ بحذائه الثقيل الضخم نفس السجادة البالية التي كانت تكسو السلالم. كانت الرحلة قد بدأت قبل عام مضى كنوع من المتعة المفعمة بالأمل، والتي صارت الآن بعد فترة طويلة، مجردة من الأمل تماما، وصارت مجرد مهمة كئيبة ومملة. كانت أشبه برحلة تكفير عن الذنوب يقطعها حاج زحفا على ركبتيه صاعدا درجات لا تحصى من السلالم.
وعلى مدار أكثر من عشرين عاما، وبقدر ما بوسع أوليفيا أن تتذكر، لم يتغيب جون بينتلاند عن المنزل ليلة إلا مرتين فقط، وحينها كانت في ظرف حياة أو موت. وطيلة ذلك الوقت، سافر إلى نيويورك مرتين ولم يسافر مطلقا إلى أوروبا منذ أن كان صبيا حين قام بالجولة الكبرى التي وضع خطتها الجنرال كورتيس العجوز ... منذ فترة بعيدة للغاية لدرجة أنها بدت حتما جزءا من حياة أخرى. وطوال كل هذه السنوات، لم يهرب مطلقا ولو لمرة واحدة من العالم الذي اعتبرته عائلته مثاليا وكاملا، والذي حتما بدا له دوما عالما مقيدا وغير كاف بعض الشيء. وربما يقول المرء إن القدر وصلة الدم والظروف أنهكته شيئا فشيئا حتى صار في النهاية يعبد الآلهة نفسها التي كانوا يعبدونها. ومن حين إلى آخر، كان يخطط للهروب منهم قليلا من خلال الاستغراق في الشرب إلى حد فقدان الوعي، ولكنه دائما ما كان يستفيق مرة أخرى ليجد أن شيئا لم يتغير، وليكتشف أن سجنه كان كما هو. وهكذا، لا بد أن الأمل مات تدريجيا.
ولكن لا أحد، ولا حتى أوليفيا، كان يعرف إن كان سعيدا أم تعيسا؛ ولن يعرف أحد حقا ما كان يدور بداخله، في أعماق نفسه، وراء الوجه المسن الأشيب المتغضن.
حين يأتي ذكره، كان الناس يقولون: «لم يوجد مطلقا زوج مخلص مثل جون بينتلاند.»
بتمهل وحزم سار عبر الردهة الضيقة حتى وصل إلى نهايتها، وهناك وقف ليطرق الباب الأبيض. اعتاد دوما أن يطرق الباب؛ لأنه حدث في مرات، عندما دخل فجأة، أن رؤيته أثرت عليها بشدة لدرجة أنها دخلت في حالة هيسترية وصارت خارج حدود السيطرة تماما.
واستجابة للطرق، فتح الباب برفق واحترافية من جانب الآنسة إيجان، وهي ممرضة أنيقة وبارعة ومنعدمة المشاعر ومتيبسة للغاية؛ وبدا أن ابتسامتها كانت تظهر وتختفي بطريقة ميكانيكية، مثل الأصوات التي تصدر عند الضغط على دمية آلية. ولكن كان من المستحيل أن يتخيل المرء الضغط على أي شيء متيبس وخشن للغاية كالآنسة إيجان ذات الوجه المتورد. كانت ابتسامة تظهر فجأة بمجرد رؤية أي فرد من أفراد العائلة، ابتسامة تواضع زائف مفادها: «أعلم جيدا أنكم لا تستطيعون الاستغناء عني»؛ ابتسامة امرأة راضية جدا بتقاضي أجر ثلاثة أضعاف ما تتقاضاه ممرضة عادية. وفي غضون ثلاث أو أربع سنوات، سيكون لديها ما يكفي من المدخرات لتفتتح مصحتها الخاصة.
Unknown page