إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب .
إن هذا الحج لجدير أن يجرد المسلم من عصيانه وأهوائه، ويصفي نفسه، ويطهر قلبه، ثم يربطه صافيا طاهرا بأخواته، ويؤلف بينه وبين غيره في جماعة المسلمين المؤتلفة، وأخوة المؤمنين المحكمة، ولكن هذه الجموع المحتشدة من أقطار الأرض، وهذه الأفواج المجتمعة من آفاق البلاد لا ييسر لها التعارف والتعاون إلا نظام محكم، وخطة جامعة يتسنى بها التزاور والتعارف والاجتماع والتشاور في أمور المسلمين وأحوالهم.
فلا بد أن يعمل المسلمون لهذا، ولا بد أن يتهيأ لخاصتهم الاجتماع بعد الحج؛ لينظروا في أدواء المسلمين، ويطبوا لها، ويتعرفوا الصالح والفاسد من أمورها، فيتوسلوا إلى حفظ ما صلح، وإصلاح ما فسد، ويطلعوا على المسلمين كل عام بالرأي السديد، والدواء الناجع فيما يحزبهم في هذا العالم المضطرب التي تمتحن فيه العقائد والسنن الإسلامية بالآراء الفاتنة، والمذاهب الضالة، والفتنة الفاشية التي لا يثبت لها إلا من ثبته الله بعقل حكيم، وخلق قويم.
إن المسلمين اليوم في غمرة من الفتن المحيطة، والمكايد المحدقة، والأهواء المضللة، فلينظروا لأنفسهم، وليسارعوا إلى العمل لصون عقائد الإسلام وشرائعه وسننه وآدابه.
إن موسم الحج لأجدر المجامع أن ينتفع به المسلمون، وأنجع الوسائل للتشاور فيما يهمهم، والعمل لما ينجيهم؛ فليعملوا ثم ليعملوا، والله يهيئ لهم الرشد، ويهديهم سواء السبيل.
يوم عرفات
أترى الحجيج زرافات يهرعون إلى عرفات، بعثتهم الأرجاء البعيدة إلى ساحة القرب، وأرسلتهم البلاد المختلفة إلى أرض الوحدة؟ قد خلعوا ثيابهم فخلعوا الفرقة والخلاف، وطرحوا كل ما صنعوا لأنفسهم من عظمة وحقارة، وسيادة وعبودية، ونبذوا ما خاط عليهم الزمان من عداوة وبغضاء، ونزعوا ما في صدورهم من غل، وما في نفوسهم من شهوات، والتفوا في ثوب من المساواة واحد، وصيغوا جميعا صوغ إنسان فرد، عبيدا لله وإخوة في الله. هذه الإنسانية في أبهر حقائقها وأخفى أسرارها.
اتحد الفكر في رءوسهم، والشوق في ضمائرهم، تكاد تتفق خفقات قلوبهم، ويتحد تردد أنفاسهم، فهم نغمات موزونة، ولحون منظومة، وقصيدة موحدة الروي، مؤتلفة القري، بل هم واحد ذو أسماء متعددة، أو ظلال لحقيقة واحدة. ليس في أفئدتهم وعقولهم إلا الله الواحد، وليس في نزعاتهم إلا الأخوة الشاملة.
أتسمع التلبية يسيل بها كل واد، وتنزع بها الوهاد، وتدوي بها النجاد، ترفعها الأودية إلى الهضاب، وتسيلها الهضاب إلى الأودية؟ فما الهواء إلا نبرات هذه القلوب، وزفرات هذه الصدور، والأرض راجفة خاشعة كأنما اختلاج الناس على جلدتها، قشعريرتها ورعدتها.
أترى الناس على عرفات ألفاظا كثيرة من أحرف قليلة، أو كلمات عدة ترادفت على معنى واحد، وقد تجلى هنالك الله وحده، فلست ترى هنالك إلا عبده.
Unknown page