214

الغريق1

بينما يسير بنا زورق في النيل رأينا من بعد على شاطئ قريتنا أسودة تضطرب، تتقارب وتتباعد، وتفترق وتجتمع، ثم يقترب بنا الزورق فنرى رجالا يموج بعضهم في بعض، وإذا ضوضاء وجلبة، وإذا الناس في أمر مريج، بين جالس قد رمى ببصره إلى النهر حائرا، وواقف يشير إلى الماء صائحا، ومسرع يساير النهر يتبين الأشياء الطافية على الماء، ومناد: انظروا، ما هذا الذي يضطرب به الموج؟ وآخرون أخذوا الشباك واستقلوا زورقا، يرمون بشباكهم في كل مكان، وغواص يطفو ويرسب وقد أخذه الصياح من كل جانب: إلى الأمام، إلى الوراء، اقترب، ابتعد، ألم تجد شيئا؟ غص مرة أخرى. والناس من القرية إلى الشاطئ أفواج متتابعة، والنساء على بعد صارخات معولات، والنيل متدافع اللج، مصطخب الآذي، يسير سيرته متدفقا زاخرا، لا يعي ما يقولون، ولا يأبه لما يفعلون!

عرفت أنا ههنا إنسانا غرق، وتمثل لي عجز الإنسان، وانقطاع حيلته في هذه الخليقة العظيمة! التهم النيل الرجاء، وطواه في جوفه، ومر في عظمته وجبروته، كدأبه في الحقب المتطاولة، منذ انبثق من عالم الغيب في فجر التاريخ، وكم نفس طواها صدره الواسع! وكم أمم تراءت صورها في صفحته، ثم كانت كالخيال في المرآة، لا بقاء ولا خلود! والناس على كثرة زحامهم وزياطهم دهشون، لا يدرون ماذا يفعلون! كذلك عظمة هذا العالم، وكذلك عجز هذا الإنسان الكبير!

دنوت من الجمع المحتشد، فقلت لأحدهم: ما خطبكم؟ قال: فلان بن فلان غرق. فتركته قائلا في نفسي: وماذا عسى أن يقع في السماء والأرض إن غرق فلان بن فلان؟ إن الناس والحيوان والأشجار والأنهار خلائق متصادمة في هذا العالم، يهلك أقواها أضعفها، ولا تبالي الخليقة إذا اصطدم إنسان وحجر، أيهما الكاسر وأيهما المكسور! وهذا رجل سقط في الماء فرسب.

ابتعدت من الناس مفكرا، فكأني أسمع في هذا الاضطراب وهذا الصخب ثلاثة أصوات تدوي في أذني: صوت الإنسان الضعيف يقول: وا أسفاه! وا رحمتاه! غرق فلان بن فلان، فيا حسرتاه على فلان وأهل فلان!

وصوت القضاء الرهيب يصيح: أصاب إنسانا ما قدر له.

وصوت الطبيعة القاسية يقول في غير اكتراث: جسم ثقيل سقط على الماء فرسب ...!

مدرسة الصحراء1

قرية ذات نخيل قامت في الصحراء كالأمن بين الخوف، والأمل بين اليأس، والحياة بين الموت، تهوي إليها أفئدة سالكي الصحارى، فيجدون من الظلال والمياه ما يمسح عنهم الجهد والنصب، ويطفئ فيهم العطش والصدى.

لمن هذه القرية المباركة؟ من القوم قد اجتمعوا فيها على أمر جلل، وأمل بعيد، وغاية سحيقة، قد اعتزموا اقتحام الصعاب، ومجالدة الأهوال، وتحدثوا بقلب العالم رأسا على عقب؟

Unknown page