177

والرافعي كاتب الإسلام والعروبة يتناول الحديث الصغير في تاريخ الإسلام ومآثر العرب، فيجعله عنوان فصل بليغ من الحكمة والموعظة، يسايره فيه القارئ متعجبا: كيف ولدت الواقعة الصغيرة هذه المعاني التي تحاول أن تكون تاريخ جيل. اقرأ «زوجة إمام» و«السمكة»، واقرأ «يا شباب العرب»، و«يأيها المسلمون».

وهذا الكاتب السماوي أبرع الناس تحليقا بالحب الطاهر، وأعظمهم ترفعا به، وأبصرهم بالمهاوي والمهالك التي يحلق عنها هذا الحب العلي الأبي. نظرة إلى السماء تصف العلاء والمضاء والطهر والسمو الروحي الذي لا يحد، ونظرة إلى الأرض تصف السقوط الحيواني والهوى الشيطاني، فترى القارئ مدعوا إلى السماء، ومطرودا عن الأرض، طائرا إلى الخير، نافرا عن الشر.

وإذا وصف صاحبنا الجمال بث في العالم معانيه، ونفض عليه ألوانه، فكأنما خلق العالم خلقا جديدا: يخلق من الشعاع شمسا، ومن القطرة نهرا، ومن الوردة حديقة، ثم يغرد فلا يدرى: أهذا التغريد تفسير هذا الجمال، أم هذا الجمال تصوير هذا التغريد، ولا يدري القارئ: أهو في ربيع باهر، أم في بيان ساحر؟ وما أشبه قلمه وهو يشقق المنظر الغفل عن سرائر الجمال بإبرة الحاكية تسلط على الصفحة الجامدة السوداء، فتردها كلاما وأنغاما وألحانا. اقرأ «عرش الورد» تر كيف جعل ابنته على عرشها مركزا يحيط بها الجمال فلكا دائرا.

3

ولله مصطفى حين يتغلغل في الجماعات، فيحس آلامها ويصف أسقامها، ويعرب عما في ضمائر البائسين، وعما في رءوس المتكبرين! ولا يزال بالمعنى الذي يراه الناس جمادا يقدحه حتى يخرج منه النار والنور. يأخذ الحادثة الصغيرة ينطقها بما وراءها، ويكشفها عما انطوت عليه، حتى يقيم بها للإنسانية عرسا أو مأتما. اقرأ «أحلام الشارع» تسمع أنات البشرية، وتر عبراتها، وتلمس مصائبها مصورة ملونة بدم المهج، وماء العيون، ونار الزفرات، وحز الحسرات، وواد الفاقة والذلة، ثم تسمع لغة الإنسانية على لسان ما سنت من قوانين.

والعجب أنك كلما أسال الحزن عبراتك طبع البيان الساحر على شفتيك بسمة إعجاب لا تملك نفيها. اقرأ «عربة اللقطاء» تر أنه صاغ من أساريرهم حروفا للهجاء تسع كل معنى، وتتمثل الآثام التي ولدت هؤلاء، والمصائب التي يحملها هؤلاء، والمفاسد التي سيلدها هؤلاء، وتقرأ «لحوم البحر» فتستمع إلى الشيطان والملك كل ينشد أناشيده، ويستخرج الرافعي منها دعوة إلى الفضيلة، ولعنة للرذيلة، وهو قادر على تسخير الشيطان لبيانه؛ فقد أعطي في البيان ملك سليمان.

وإذا وعظ «الصادق» نفذ إلى السرائر، وصور للإنسان فضائله ورذائله تصويرا لا يدع له أن يختار إلا الأولى، وأن يهجر إلا الثانية. وهو لا يعمد إلى النذر يصبها على النفس صب السياط، يألم لها الجسم، ويموت القلب، بل يعمد إلى الحياة يصورها على حقائقها، نافيا عنها تلبيس إبليس، وإلى القلب ينفخ فيه العظمة، ويبث فيه الفضيلة والطهارة، والطموح إلى كل خير، والنفور من كل شر. اقرأ له «وحي القبور».

4

وهذه المقاصد الجليلة، والنزعات السامية تخالطها دعابة رقيقة وسخرية نافذة، ترى الكاتب يرتفع فوق العالم، ثم يسخر مما عبد الناس من أباطيل وأهواء، فإذا التماثيل التي يسجدون لها تهاويل، وإذا الهول الذي يفزعون منه تهويل، وإذا العظمة والكبرياء والسلطان والجاه والغنى وكل ما عده الاجتماع عظمة لقوم وحقارة لآخرين أضاحيك يخلقها الجهل، ويهدمها العقل، ويقدسها الإنسان حيوانا، ويحطمها الإنسان إنسانا. وأعوذ بالله من الرافعي إذا انطلق ساخرا، يرسل بيانه طعنات دراكا وهو يضحك ضحك البرق في السحاب الراعد، أو لمع السيف في يد الضارب. •••

وبعد، فهذا وصف الروض في كلمات لو كانت أزهارا ما مثلته، ونعت البحر في سطور لو كانت أمواجا ما صورته، فأما الروض في بهجة جماله، والبحر في روعة جلاله، فهما ما خطه الرافعي، فإن شئت فقل : جنات في صفحات، وعباب في كتاب، وإن شئت فقل: إنه العالم في سطور قد انتظم، ووحي إلهي سماه الرافعي «وحي القلم». ذلك الفضل من الله.

Unknown page