تصدير
إلمامة
إهداء الديوان
شعر الديوان
كلمة ختامية
تصدير
إلمامة
إهداء الديوان
شعر الديوان
كلمة ختامية
Unknown page
أطياف الربيع
أطياف الربيع
تأليف
أحمد زكي أبو شادي
تصدير
هذا النوع من الشعر يحتاج إلى شيء من البيان، وطريقة صديقي الدكتور أحمد زكي أبو شادي خليقة بإيضاح وإن قل.
فاجأ هذا الطبيب الشاعر الأديب السليقة العربية مفاجأة جاوز بها جرأة المجترئين على التجديد من قبل، لم يرع أن تلك السليقة بطيئة في تحولها، حريصة على مألوف يسرها ويرضيها، وما زالت متشبعة باقتناعها أن فيه الكفاية والغناء عن كل ما سواه. ورجل كأبي شادي خلق رقيق الشعور نهاية الرقة، نزوعا إلى الأدب بجماع جوانحه، حتى إن تعلمه الطب مع ما تتناوله فروعه الكثيرة من المزكونات الطبيعية، وتبحره في مدارسة الكيمياء ومفاعيلها العجيبة، وتوفره بلا انقطاع على البحث في العوالم الحسية الصغرى من حية وجامدة؛ تلك العوالم التي تستغرق ذهن إنسان وتشغل قلبه بعجائبها عن كل شغل آخر، هذا الرجل لم يصدفه انصراف عقله الواسع الأيد إلى تلك الكائنات يبلغ في إحاطته بدقائقها وجلائلها مبلغ الاجتهاد والاستنباط عن أن يجنح بقلبه جنوحا مطلقا من القيود إلى تلك العوالم المعنوية المتناهية في الصغر والكبر، المختلفة ضروب الاختلاف، المحيطة بألوان الجمال الشاملة مواقع الحقائق من الطرب واللذة في النفوس، كشمولها مواقع الأوهام الجميلة - أليمة كانت أو سارة - من الطرب واللذة في النفوس.
قرأ أبو شادي الشعر عربيا فأشجاه، وقرأه إفرنجيا فأشجاه، وطالع التواريخ ومنها بخاصة أصول الأدب الإغريقي، وقارن بين متباين المذاهب في البيان؛ سواء أكانت تلك المذاهب خيالية وجدانية لا تعدو حكايات حال عن النفس كما هي في لسان الضاد، أم خيالية وجدانية موضوعية أساس الجمال فيها بناؤها على الحق أو الواقع أو ما يتشبه بهما كما هي في اللغات الإفرنجية، وعلى أثر هذه المطالعات وجد أبو شادي في نفسه باعثا شديدا على وجهة فنية جديدة يوليها شطره؛ فأحدث في العربية شعرا سلسا بألفاظه، قريب المأخذ بسهولته، سليما بلغته جهد ما تسعه المعاني العصرية، متقيدا بأوزانه ، ولكن تقيد الموشك أن يعمد إلى الافتكاك من كل ثقيل الكلفة فيها، وعمر أبيات منظوماته بمعان تاريخية متشعبة المصادر، وصور جديدة من كل لون وضرب، وأفكار في الجمال آخذة من كل مأخذ شرقي أو غربي.
فهل كان لهذا الإحداث - وسليقتنا كما وصفناها - أن يمهد لشعره ممهدات القبول عندنا قبل أن تتسع دوائر العرفان وتتنوع المطالعات ويختلف الرأي عما هو عليه في الجمال ووسائل إظهاره وأساليب التعبير عنه؟
لم توجد تلك الممهدات فيما قبل إلا قليلا، ولكنها تتكاثر اليوم على قدر ما يتسع نطاق وقوفنا على المجهودات الفكرية، متأثرا بطغيان الأدب الفرنجي على أدبنا فيما نتصفح من الكتب الأصلية أو المترجمة، وبما تدفعنا إليه المستحدثات دفعا لا يقاوم من تفهم الطرائف الفنية والبيانية واستحبابها على وجوهها التي لم يكن لنا بها عهد فيما سلف.
Unknown page
وأبو شادي - بين أعماله الكثيرة الشاقة التي لا تضمها إلا رابطة شغفه بالعلم والأدب وأخذه بهما وتسخيره قواه الجمة لهما - يقول هذا الشعر في فضول من وقته، ولكنه يجمع له كل عزيمة رأيه وكل بواعث وجدانه. يقوله بحرارة واقتناع، يقوله على أن البداهة تتناوله، وأن الناس جدراء بأن يفهموه فهمه، يقوله مرسلا إرسالا، وفي كل قصيدة صورة مستكملة لا بد منها، وكل صورة لها طرافتها وغرابتها وجزئياتها، وفي هذه الجزئيات إشارات تاريخية ورموز اصطلاحية، وفي هذا كله - جملة وتفصيلا - لا يعنيه أن يكون من قرائه من لم يطالع الميثولوجيا أو لم يتتبع ما نحا به الغربيون نحوها من أساطير الإسرائيلية القديمة والمسيحية الأولى، ولا يعنيه أن تكون الأسماء الأعجمية في شعرنا مما تنبو به أسماعنا، ولا يعنيه أن تكون طائفة من الألفاظ التي اتخذها من العربية قد نيطت بها معان هي غير معانيها في الأصل؛ معان لا تدرك مراميها الحديثة إلا من طريق المقاربة أو المقارنة بالمواضعات الأجنبية، بل كل همه هو أن يبث بثه ويتقن مثاله ويبلغ شعوره إلى أدنى خلجة من خلجات الحس فيه.
ويضيف إلى ذلك أنه لا يرى عيبا في الوثبات يثبها في استعاراته إلى أبعد مدى، ولا يرى عيبا في بعض موازين الشعر يحرفها قليلا أو كثيرا؛ لتكون من الجزالة أو السهولة أو الرنة الموسيقية بحيث يريد، ولا في القوافي - وقد اتحد الحرف فيها - أن تلزم لزوما لصيقا ما أقره الجهابذة من مراعاة تجانس مخصوص فيها قبل الحرف؛ تجيش في نفسه أنشودة فينشدها، أو تتجلى لعينه صورة فينقلها، أو تتدفق في ذهنه خواطر فيشق لها الأنهار بشق قلمه السيال، وفي الكثير منها ابتكار عجيب وإبداع مدهش، وفي جوانب منها هنات من الإغراب في اللفظ أو المعنى يراها هينات بجانب مأربه السامي الكبير.
أمور قد بدا لي أن أشير إليها إشارة موجزة في هذا التصدير؛ ليتبين مطالعو شعر أبي شادي كنه طريقته فيه.
وإنها لطريقة يذهب بها مذهبا بعيدا في حرية القول، وغرضه أن يثير بها الحمية إلى الابتكار، ويسهل سبلا وعرة كانت تثبط الهمم دون الاستقلال في التفكير والخلق والتقدير.
فبارك الله في ذلك النابغة الذكي العامل، وفي الذرائع التي يقدم على اتخاذها؛ ليجتمع للأدب العربي من الإحاطة بكل شيء ما لم يجتمع من قبل.
خليل مطران
مصر في 15 أغسطس سنة 1933
إلمامة
الشعر الحديث
هل للشعر اليوم مدرسة حديثة؟ وهل هذه هي المدرسة المثالية المنشودة؟ نعم هي موجودة حقا.
Unknown page
والواقع أن الذي وضع الحجر الأول في بنائها هو الشاعر خليل مطران.
لقد كان الشاعر خليل مطران يكتب قصصه الشعرية «الجنين الشهيد» وغيرها حين كان حافظ وشوقي يقلدان البارودي أو يعارضان القدماء، وكنا نحن في صبانا نقرأ شعر مطران كما نقرأ حافظ وشوقي، وقد ترك الثلاثة في نفوسنا آثارا لا تمحى، ولكني أعتقد أن أثر مطران علينا كان قويا واضحا؛ فإذا كتبنا اليوم شعرا نسميه نحن حديثا أو جديدا، فمن فضل ذلك الرجل، وشد ما أخشى ألا تعرف له تلك اليد التي أسلفها، وتوارى كعادته مدعيا أنها ليست له، وأنها لغيره!
وسيوافقني صديقي أبو شادي الذي أسر كل السرور بكتابة هذه الإلمامة لديوانه البديع، على أننا مدينون لخليل مطران بكثير من التوجهات في شعرنا العصري؛ هو وضع البذور وفتح أعيننا للنور، ونحن إنما زدنا على ذلك بما عرفناه في مطالعاتنا المتعددة، ويساعدنا على ذلك عرفاننا باللغات المتباينة التي أوقفتنا على التيارات الجديدة للآداب والفنون، وأطلعتنا على الثقافات الحديثة في العالم المتحضر، وإذن ف «أطياف الربيع» التي نظمها شاعر من جمعية أبولو، هي تحية لمطران رئيس أبولو الذي كان يكتب قصيدته «المساء»، ويجلس إلى البحر يستعرض الطبيعة، ويتكلم إلى الكون، ويناجي الله، ويشرح عذاب الإنسانية، ويشعر بالفناء والعدم، ويحس في ساعة واحدة بالماضي والحاضر والمستقبل، بينما غيره كان يتكلم في «قفا نبك»، ويقلد «أمن أم أوفى دمنة».
إذن فالمدرسة الحديثة التي يتكلم بلسانها أبو شادي، وحسن الصيرفي، وصالح جودت، والشابي وغيرهم، هي رجع الصدى لذلك الصوت البعيد الذي ردده مطران في غير ضجة ولا ادعاء.
وماذا صنعت المدرسة الحديثة؟
لو لم تنشئ غير مجلة «أبولو» لكفاها فخرا. لينكر الناس على أبي شادي شعره إذا شاءوا، وليعجبوا بأطياف الربيع والشعلة وسواهما من دواوينه أو لا يعجبوا، ولكنهم لا يستطيعون أن ينكروا لحظة أنه بمجهوده الجبار، وبثباته الممتاز، خلق مدرسة، ورفع علما، وأخرج إلى النور شعراء كانوا بغير حق في الظلمات. لا يستطيعون أن ينكروا لحظة أنه وسع أفق الشعر العربي، وخرج عن قيود أثقلته وقعدت به أجيالا طوالا، وقد يكون في الخروج على هذه الأصول المرعية والتقاليد المتوارثة شيء من الصدمة التي لم تألفها النفوس بعد؛ وقد يكثر الخصوم والمعارضون والمنكرون، لا بد من هذا في كل تطور، وفي كل حركة جديدة يقصد منها إلى التحرير والخلاص. وطالما رأيت أبا شادي في وسط هذه الزوبعة من المعاول المتساقطة ساهما حزينا، ولكنه لم يكن يائسا ولا جبانا، فبينما كان يصدر الأعداد الممتازة الضخمة من أبولو، وتارة عن شوقي، ومرة عن حافظ، مهما كلفه ذلك من التضحية في سبيل نشر آثارهما، مخلدا ذكراهما وهو المنتقد لأساليبهما، الثائر على طريقتهما، إذا به يقول الشعر في كل شيء وعن كل شيء؛ يقوله واصفا الشارع والبيت، والزهرة والحقل، والنهر والبحر ، والمدينة العامرة والكوخ الحقير، لا يفوت إحساسه الدقيق شيء، شأن الفنان القوي الحواس، وهو بذلك يضرب مثلا للشعراء عما يجب أن يتناوله الشعر من المعاني، منبها إياهم لما يجب أن يكون عليه الشاعر من الإحاطة بالحياة.
وطالما انتقدت أنه يكتب بكثرة وإفراط، حيثما الشعر يحتاج إلى غربلة، ثم أعود فأعتذر إليه بين نفسي ونفسي، قائلا إنه كشاعر فنان شره يحب الحياة يريد أن يلتهمها التهاما؛ فمن الواضح أنه لا يستطيع التمهل، ما دام دائب التذوق، دائب الجري وراء مفاتن الكون ومحاسنه، وما دام يشعر في كل لحظة شعور ألف شاعر.
والواقع أن دواوينه معرض ممتاز لحياة مليئة بالفن والجمال وعبادة الفن والجمال، فياحة بشتى الصور والخوالج، غاصة بما يعتورها من السخط والرضا والهدوء والثورة. ومما يميزها ويرفعها في نظري أن أبا شادي ليس أنانيا؛ فليس شعره مقصورا على نفسه محيطا بها كدائرة مركزها انفعالاته الخاصة، كلا، بل هو حر طليق كالطائر الذي يسبح في جو فسيح مترامي الأطراف، يرى الكون من عل؛ فيبهجه جماله وتفتنه محاسنه، فيندمج الجزء في الكل، فتصير الأغنية الخاصة وصفا عاما، وصدحة شاملة للعوالم بأجمعها.
وهو يشبه الطائر أيضا في أنه يكره القيود، يكره أن يستقر في وكر واحد، أو يأوي إلى أيك واحد؛ فما تكاد القافية تقيده، حتى تشعر أنه ثار عليها ومضى إلى أخرى، ولعل هذا الطبع قد اكتسبه هو من كثرة مزاملته للنحل الذي لا يقنع بزهرة واحدة!
ويدرك القارئ بسرعة اقتناع أبي شادي بأن الشعر فن من الفنون الجميلة، وأن الشاعر يجب أن يعيش عيشة الفنان لا عيشة الكاتب الناظم، وما هي عيشة الفنان؟ هي أن يرهف أذنه للأصوات ويفتح عينه للألوان والصور، وأن يستدق شمه ولمسه، كذلك عاش ابن الرومي، وكذلك عاش الشاعر كيتس الذي كان ينام في الحقل ليشرب من ندى الطبيعة، وكذلك كان سيد درويش الذي كان يستقي أنغامه من جدول الكون، وكذلك يجب أن يعيش كل شاعر ملهم، وأن يستمد وحيه من لوحة الكون، لا من الكتب والدواوين الأخرى، وأن يغمس قلمه في مداد الحياة، وأن يكتب مما اكتسبه من التجارب والإحساسات، وما عرفه من مخالطة الناس، وألا يعبأ بما يصيبه منهم من خيبة وعثار، وألا يجزع لما يلقى من إنكار للجميل وعدم تقدير للمجهود والعبقرية؛ فكل هذه الآلام والمتاعب والأشجان لازمة للعبقري الفنان يستمد منها شعره ويغذي خياله.
Unknown page
في نظرة سريعة يدرك القارئ أن أبا شادي ساخط غير راض عن البيئة، اقرأ له مثلا قصيدة «منازل النيل»، وهي عزيزة عليه للظرف الذي قيلت فيه، كتبها بسرعة وهو منفعل متأثر بما يلقى أبناء النيل من النكران والغبن، أخبرني أنه نظمها في القطار وهو تحت تأثير الغضب من أجنبي ذكره بما نلقاه في مصر من الحيف والضيم، وتحت تأثير حسن سيدة فتانة بجواره، فكان الغضب والحسن يمليان القصيدة روحا وصياغة في وقت معا!
ومنها هذا الشعر الجميل:
منازل النيل كم في الناس ذي ظمأ
يكفيه ري فيمسي غير ظمآن
وكم شكاة على طرس وفي صحف
تتلى وتنسى كما ينسى الجديدان
وكم حوادث يمضي الخائضون بها
كأنها لم تقم يوما بأذهان
أما أنا فحياتي كلها ظمأ
وإن نسيت فما أحيا لنسيان
Unknown page
وعلى ذكر الظمأ، يتميز أبو شادي بأنه لا يرتوي أبدا، يقول مثلا:
أواه من ظمئي وهل من ظامئ
مثلي وهل ظمأ بغير حدود
لو كنت لي لعرفت عيشي ناضرا
خضلا كعيش البلبل الغريد
تقول: إنه يشكو البيئة، يشكو عدم إنصاف الناس له، وديوانه هذه المرة زاخر بأنة الشكوى:
قد مزقتني المآسي في معاركها
فما رثيت لعمري حين أبكيه
لكن بكيت على قوم وفيت لهم
فكافئوني بتعذيب وتسفيه
Unknown page
ثم تعاوده نفسه السمحة الكريمة فيغفر، كما غفر المسيح، قائلا: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، فيقول أبو شادي:
ما بال سخطي يستحيل محبة
كالنار ساعة تستحيل ضياء
ما بال أطياف الربيع تحولت
شجنا وعادت نشوة وصفاء
وأعيش في دنيا التفاؤل ناسيا
دنيا تفيض قساوة وعداء
وعندما يرجع إلى نفسه السمحة الكريمة، ويتجرد من غضبه وسخطه ترق قيثارته وينظم شعرا من أعذب الشعر وأحلاه، كما ترى في مقطوعة «النظر الجريء»:
لا ترهبي نظري الجريء
هو لن يسيء ولو أسيء
Unknown page
هو نشوة الحب الطهور
ووثبة الروح المضيء
روحي تطل عليك فيه
وتجتلي القدس الوضيء
وتعب من هذا الحنان
شراب كوثرها الهنيء
هو خلسة من نعمة
علوية ليست تفيء
فعلام نخشاها وما
فيها سوى السكر البريء
Unknown page
ولطالما جلست إليه فأصغيت إليه يقص ما يلاقيه من قسوة الناس وجحودهم، فأقول له: يا صديقي، نحن جنود في هذه الدنيا، نعمل لصالح الناس، ولا نبالي ما يقولون عنا، نعمل لخير الإنسانية ونترك الحكم علينا للتاريخ، ويبدو لي أنه كتب مقطوعة «الناس» تحت تأثير هذه الفكرة، وفيها يقول:
أسير فلا أرى في الناس ناسا
ولكني أرى صورا أمامي
فدعني في إبائي فهو عندي
أجل من انتقامك وانتقامي
وأبو شادي مشغوف جد الشغف بالمثل الأعلى، ولعل هذا هو سر شقائه الذي يفيض من صفحات ديوانه فيضا.
أذكر أني قرأت قصة لتوماس هاردي تدعى «الحبيبات» مؤداها أن رجلا فنانا عاش يطلب المثل الأعلى في الجمال، فصار المثل الأعلى يخذله، حتى بلغ المشيب ووجد نفسه يتهدم وينحدر إلى الفناء، فماذا صنع؟ مضى إلى تماثيله وأخذ معوله فهدمها كلها؛ لأنها أضاعت حياته هباء منثورا.
فأبو شادي مغرم بالمثل الأعلى يريده في الأخلاق، ويريده في الجمال - بدليل الصور التي يتخيرها لديوانه - ويريده في أمته بدليل إعجابه بغاندي: انظر قطعته الجميلة عنه، [في «صوم غاندي»]:
تصوم مكفرا عن إثم دنيا
يسير بها القوي على الضعيف
Unknown page
أتيت إلى الورى من قبل يوم
يقدس كل ما تعني ويوفي
وذنب المصلحين إذا عددنا
لهم ذنبا مناصرة الضعيف
ولعل غرامه بالمثل الأعلى هو الذي دفعه إلى الكتابة عن الشامل المجهول، وأغراه بلفظة الألوهية بين حين وآخر، وجعله كلفا بالتصوف والعبادة.
انظر قوله الجميلة [في] «لو كنت لي»:
لو كنت لي لرفعت كل نظيمي
لك واتخذتك نشوتي ونديمي
وجعلت مجلسك الشهي عبادة
تختص بالقربان والتكريم
Unknown page
ولعل غرامه بالمثل الأعلى أو نزوعه إليه هو الذي جعله يشعر بالغربة والانفراد في هذه الأرض، و«باليتم» الذي يتكرر في شعره في هاته الأيام:
الشيب أشعل عارضي ولم أزل
ذاك الصبي شرابه الأحلام
كنا نخاف من الرقيب فعلمت
دنيا الهموم الحب كيف يضام
وحييت مثلك كاليتيم وإنما
أنا وحدي البكاء والبسام
وما أمر هذا اليتم والانفراد الذي يشعره «بالأصفار» التي يراها حوله:
الأرض قد ملئت أحب شعابها
بمساوئ الحشرات والديدان
Unknown page
حتى أكاد أحس أن فجاجها
فقدت بشاشة حسنها الفتان
وغدت حراما للنبوغ ومرتعا
للعاجزين ووصمة الإنسان
ولعل غرامه بالمثل الأعلى هو الذي جعله يكره النفاق، ويثور حين يرى الذين يجب أن يأخذوا بيدنا إلى المثل الأعلى هم الذين يتمرغون في الحضيض.
خذ مثلا أبياته البديعة عن سبحة الفقيه:
كم من فقيه في ثياب منزه
ويطل من عينيه روح أثيم
تجري أنامله على خرزاته
جري اللئام على حساب كريم
Unknown page
وتلوح سبحته كثعبان بلا
روح سوى روح الفقيه العاتي
من ذا رأى الثعبان سبحة عابد
ورأى الصلاة مصاب كل صلاة
مسكين أنت أيها الصديق! أشقاك تعلقك بالمثل الأعلى، ولكنك تذكر أنك سابق زمنك فتقول:
لا تضحكوني بالمديح فإنني
متعثر خجلا على أمداحي
بل فانعتوني بالجنون لأنني
آمنت بالأخلاق والأرواح
ونسيت أني سابق زمني وما
Unknown page
زمني بدنيا اللؤم والأشباح
وأين تذهب في ضيقك ولمن تشكو؟ لا المنصورة تنسيك، ولا الإسكندرية بما فيها من جمال وفتنة، ولا بورسعيد التي تتخيل الحسن فيها متوثبا للزوال.
ما بال هذي الشمس ترسل وجدها
فوق اللهيب على المياه حيالي
ما بال هذا الموج يخفق هكذا
خفق الحياة توثبت لزوال
وعندما يبدو لك سخف الحياة، عندما تحس بالفناء والزوال تتصل بالله، وتقول في بيت رائع:
إن شئت صافحت الإله محدثا
وقرأت ما أوحى به الديان
فيا أخي الشاعر، هذه الشاعرية التي تتدفق، وهذه الإنسانية المعذبة الجياشة بالآلام والآمال والأحلام والأوهام، المحاطة بالصور والألوان والطيور والأشباح، المندمجة في الطبيعة، المتصلة بالخالق الفنان الأعظم عن سبيلها؛ هذه القوة التي تزخر بها نفسك فتنظمها شعرا جديدا ممتازا، لهي مظاهر جديرة بالإعجاب الكبير.
Unknown page
ولعل هذه الحيوية العجيبة هي التي جعلتك لا تعنى بالصياغة اللفظية؛ فإذا حضرك المعنى وساعفك الخيال حلقت بأي جناح تلقاه، ولعلك لهذا السبب كالشلال المنحدر لا يهمه إلا أن يبدو رائعا وجليلا، وأن يكون مظهرا من مظاهر القوة، من أمثلة نيتشه، ومن أبطال إبسن كبراند مثلا، تؤمن بالقوة، وتحتقر الضعف والضعفاء، وترثي لهم وتبكي عليهم.
وماذا يراد من الشاعر أكثر من أن يكون حيوية تتدفق؟ وما هو الفرق في الواقع بين الشعر وسواه؟ الفرق هو ذلك الاسترسال والتسلسل في الشعر، والتقطع والهدوء في غيره، وماذا يراد من الشاعر أكثر من أن يندمج في الحياة والكون اندماجا تاما؟
وأراك في الحق متصلا بالحياة والكون اتصالا عجيبا، وماذا يراد من الشاعر أكثر من أن يكون فنه ناضجا طليقا؟ وقد عبر شاعرنا عن هذه الروح في قصيدة «طلاقة الفن» أجمل تعبير. •••
لكي نضع أبا شادي ومريديه في مواضعهم، ولكي نحدد بالضبط مكانهم في الأدب المصري الحديث، يجب أن نعين بالضبط أغراضهم في الشعر، ويجب أن نتساءل: هل لهم طابع خاص؟ أم هم يكتبون الشعر جزافا؟ ويجب أن نحدد بالضبط صلتهم بالشعر العالمي الحديث، ويجب أن نعلم حقا مبلغ اتصالهم بالحركة الأدبية العامة، ويجب أن نفهم تماما مقدار ما كان للحرب العالمية من أثر في أذهانهم وأعصابهم.
إن الذي يريد أن يبحث هذا كله يجب عليه أن يحيط إحاطة واسعة بالأدب العالمي، قبل الحرب وبعدها؛ إذ من الثابت أن أهم ميزة للعصر الحاضر هي اتصال الأمم بعضها ببعض، وانحدار التيارات الفكرية وغيرها من بلد إلى آخر، فأصبحنا نرى كاتبا مثل أندريه موروا الفرنسي يغرم بالأدب الإنجليزي ويؤلف كتابا قيما عن الشاعر بيرون، ونرى كاتبا فرنسيا مثل ليجوي يكتب كتابا عن الأدب الإنجليزي يصير مرجعا عند الإنجليز. وبقدر ما تقترب الفوارق من الزوال، بقدر ما تكون التغيرات في الأمم شاملة ومتقاربة. فقد لاحظنا من اطلاعنا على الأدب الحديث في الأمم المختلفة، في إنجلترا وفرنسا وألمانيا مثلا، شبها غريبا في الاتجاهات الشعرية الجديدة: نرى أدباء الشباب يكونون أسرة متشابهة الأفراد وإن اختلفت ملامحهم قليلا، ويضربون على نغمة واحدة وإن تنوعت ألحانهم، ويمكن أن نصفهم وصفا عاما بما كتبه ليجوي عن أدباء الإنجليز الحديثين في كتابه «تاريخ الأدب الإنجليزي الحديث»، قال: «يتميزون بالرشاقة والإيمان، وأحيانا بالابتكار، وغالبا الصراحة التي تمزق كل المظاهر الخادعة التي تبرقع أوجه التقاليد، ونجد إحساسهم بالواقع ممتزجا بالظرف والحنان، وفي شعرهم استسلام دائم ومرارة وميل للرجوع بالروح إلى مواطن الذكريات الغالية.»
أما نحن في مصر فبين عاملين: عامل الأدب العربي بتقاليده المحفوظة وحرماته المتوارثة، وبين ما وصل إلينا من ثقافة أوروبا. وبينما نحن لا يمكننا مطلقا أن ننفصل عن مجد قوميتنا؛ فإنا كذلك لا يمكننا أن نهرب من تيار أوروبا الذي يغمرنا غمرا. يستحيل أن نعيش في عزلة، يستحيل ألا نقرأ باللغات التي تعلمناها، فإذن نحن لا نزال نقرأ المتنبي مثلا، ونحبه ونحفظ له، ولا يمنعنا ذلك من تناول ديوان للشاعر ت. س. إليوت فيه شعر عصري حديث، عليه طابع الزمن الحاضر بكل ما فيه من حركات اقتصادية واجتماعية، أو ديوان للشاعر إميل فارهارت مثلا فيه شعر عن الآلات والمعامل.
فماذا تصنع مدرسة أبولو إذن؟
ماذا يصنع أبو شادي؟ ولأي غرض يرمي حين يخرج ديوان «أطياف الربيع» أو «الشعلة» أو غيرهما من دواوينه؟
من هم هؤلاء - شعراء الشباب - ولأي فريق ينتمون؟ أرومانطيقيون هم؟ أم شعرهم واقعي؟ أم بين هذا وذاك؟
إن شعرهم جميعا له تلك الصفات التي سبق أن ذكرتها عن ليجوي: ويبدو أن شعراء الشباب عندنا شديدو الشبه بشعراء الشباب في إنجلترا وفرنسا، لا أدعي أنهم جودوا مثلهم أو بلغوا مبلغهم، وإنما أؤكد أنهم على آثارهم، وأن التغيرات العالمية لم تتناول بلدا دون آخر؛ فإني كلما طالعت لشاعر من هؤلاء الشباب خطر في بالي أن أقارنه بنظيره في مصر، أو بالذي روحه من روحه، أو بمن كان على غراره.
Unknown page
فالذي يقرأ شيئا لهارولد منرو أو همبرت وولف يذكر في الحال حسن الصيرفي والشاعر رامي، في الذكريات البعيدة، والتنويح الملازم لروح ظامئة تنتعش بما تشربه من العذاب.
ومن أي صنف أبو شادي؟
الحق أنه شيء قائم بذاته، وإن كان بلا شك من مدرسة الصوريين الذين تتألف مواد فنهم من حقائق الحياة، من صور مجتمعة، وكتل متماسكة، من الخوالج العقلية والعاطفية، ووظيفتهم أن يبرزوها لنا بدون أن تشوه، يبدونها بكل نضارتها وقوتها؛ فنحسها كما هي مباشرة قبل أن تعبث بها يد الحياة العملية الجبارة؛ ولذلك يقتصد الشاعر في لفظه فلا يزخرف ولا يبني.
ولكنه في كثير من الأحيان يجعلني أتذكر الشاعر والتر دلامار، وخصوصا عندما قرأت للصديق أبي شادي قصيدته «الأصداء»، فإن للشاعر أبي شادي كما للشاعر دلامار نظرة إلى الدنيا كنظرة الطفل الحائر، ولهما كذلك غرام باستثارة الأشباح على طريقة رمزية.
وعلى ذكر الشعر الرمزي أقول إن الشاعر الموهوب عبد الرحمن شكري هو رافع علم هذا النوع من الشعر، وإني أوجه نظر الذين يحبونه إلى أن د. ه. لورنس الشاعر والروائي المعروف، هو الذي حول الشعر الرمزي إلى عاطفة مركزة، بحيث تصير الكلمات العادية «حمما سائلة، مما قالته، ومما تركته بدون أن تقوله»، ومن البديهي أن المدرسة الحديثة التي يرفع علمها أبو شادي في مصر ويتزعمها بحق متأثرة بالثقافة الإنجليزية، أما في البلاد الأخرى كسوريا وشمال أفريقيا فالثقافة الفرنسية هي الغالبة، وإذا ذكر الشعر الفرنسي الحديث فأكيد ما قاله رينيه لالو من أن أثر بودلير وموسيه ولامارتين لا يزال حيا، وهو الذي يلون شعر شبان فرنسا، والبلاد المتأثرة بثقافة فرنسا؛ فعندما تقرأ شعرا لأندريه دوما وهنري دي رينييه في فرنسا يطالعك من ورائهما خيال موسيه وبودلير وفرلين، وعندما تطالع شعر الشابي بالعربية تقسم أنه متأثر كذلك بهؤلاء الشعراء، وعندما تقرأ لشعراء سوريا أو تعلم ما يطلقونه عليهم من الألقاب تؤكد في الحال أثر الثقافة الفرنسية في آدابهم.
ومهما يكن من أثر الثقافة الفرنسية؛ فإن شعراء الشباب في سوريا كعمر أبي ريشة وعلي الناصر (بودلير سوريا) والشابي في تونس، ينطبق عليهم من الوصف ما ينطبق على شعراء الشباب الإنجليز، وعلى شعراء الشباب في مصر، وهو الوصف الذي أطلقه ليجوي عليهم وسبق أن ذكرته.
وصفتان أخريان لاحظتهما في شعر الشباب على الإطلاق: الأولى القلق العميق وعدم الاستقرار، وديوان أبي شادي الجديد «أطياف الربيع» ناطق بذلك، زاخر بما فيه من آيات الخوف وقلة الأمان؛ فهو غير آمن على حبه، غير آمن على حياته، غير آمن على مستقبله، غير آمن على حاضره. هذا القلق الممزوج بالتشاؤم تارة وبالتفاؤل أخرى، هو ما عابه وسيعيبه عليه نقاد كثيرون، ولكنه في الحقيقة نتيجة لازمة لما يصطدم به من الحوائل ويعترضه من التثبيط، وما تقابل به جهوده من المعاول التي لا ترحم.
أما الصفة الثانية فهي الجرأة النادرة في إبداء الأفكار، وفي طرق المواضيع التي لم تطرق من قبل، وأمامنا من الأمثلة قصيدة للشاعر صالح جودت في أبولو يصف فيها نفسية امرأة عاهرة؛ فقد أخبرني أنه انتقد لطرق موضوع كهذا، فقيل له: كيف تطرق موضوعا كهذا وشعرك أجدر بشيء غيره؟ فأجاب مندهشا: وهل هذه المرأة خارجة عن الإنسانية؟ هل هي من الألى نبذهم الدهر:
وخلفهم وصد الباب عنهم
فناموا خلف أسوار الحياة
Unknown page
ولذلك أصبحت لا تليق بالشعر ولا أن يكتب عنها الشعراء؟ وإذا لم يكن الشعر العصري شعرا إنسانيا شاملا فما ميزته إذن؟ ولكن محرر أبولو رحب بها ونشرها في غير تردد. إن الإنسانية العميقة والشعور القوي بعذاب المضطهدين وحرمان الضعفاء، يجب أن يكونا مما يهتم له الشاعر الحديث إذا أراد أن يكون لشعره صبغة عالمية، أو إذا أريد أن يطمع في الخلود.
وأبو شادي متفرد في هذه الجرأة، اقرأ له مثلا «الجمال العربيد». إني لواثق أن أصدقاءنا المحافظين سيصدمون بما فيها من تصوير قوي جريء، وبما فيها مما يسمى نداء الجنس
Sex Appeal . وقد قرأت قصيدة فريدة في هذا الباب للشاعر لورنس تدعى «البرق» شبيهة كل الشبه في روحها الجريئة بقصيدة أبي شادي، وإني أحث الأدباء على قراءتها. •••
وميزة أخرى في شعر أدباء الشباب لا يجب أن تفوتني الإشارة إليها، ميزة سيجدها القارئ ظاهرة في شعر أبي شادي من أول ديوانه إلى آخره، ولو لم يكن فيه غيرها لكفاه فخرا، ولكان جديرا بالإشادة والذكر، تلك الميزة هي أن الأشياء المألوفة التي نراها كل يوم في حياتنا، الأشياء الأرضية البسيطة، إنما هي مواضيع لشعر الشاعر الذي يكسبها جلالا؛ ويغدق عليها من خياله، ويلبسها من ثياب الروعة، مما يجعل لها قيمة الظواهر العلوية، والروائع الكونية، فقطه «مشمش» له قصة، وكلبه «بنجو» له أخرى، والشجرة التي يراها أمام منزله يخاطبها، وفي هذا الشأن يقول الشاعر الأمريكي هويتمان: إن الناس يفقدون التمتع ببناء الأبراج الشامخة يوم يفقدون التمتع ببناء الحانوت المتواضع.
ولا جدال في أن مدرسة أبولو في اتصالها بالأدب العالمي، ومتابعتها للتيارات الفكرية الجديدة، وفي إيمانها برسالتها كمجددة للشعر العربي، موسعة لأغراضه، محددة لوظيفته كعمل إنساني شامل، وكجامعة تضم شباب أدباء الشرق في ندوة واحدة.
إن مدرسة أبولو بهذا قد استرعت الأنظار إليها؛ فهي تمثل طلاقة الفن، كما تمثل التجاوب الفني بين أعضائها، وهما الركنان الأصيلان لروعة الحياة الفنية التي هي عماد الشعر الحي في أي أمة، ومآل مثل هذه الحركة أن تنهض بالشعر العربي في غير حدود.
إبراهيم ناجي
إهداء الديوان
إلى الروح الجميل وكم إليه
أبث من التلهف روح ظامي
Unknown page
فلا يصغي لآلامي وينسى
فؤادا حسبه بعض ابتسام
أعيش ببسمة وأعد زادي
أشعتها وأشربها مدامي
حرمت جمالك المعبود حتى
غدا قلبي حطاما في حطام
كأن الذكريات به بقايا
من الأشلاء أشتات دوامي
وصارت مهجتي الثكلى بحبي
كعاصفة ترامت في الرغام
Unknown page
وعيشي خدعة لليل تترى
وهذا الشعر أطياف الظلام •••
وحين تنفس الإصباح شعرا
وتاه الحسن باللحن البديع
ورددت الصباحة أغنيات
تموج بنشوة الروح الوديع
وطوفني النسيم بكل عطف
وجفف ما ترقرق من دموعي
وحيتني الأزاهر وهي سكرى
بخمر الحب في أدب رفيع
Unknown page
وداعبت العصافير اللواتي
مرحن تأملاتي بل خشوعي
عرفت يد الألوهة منك تنضي
ظلام فؤادي القلق الصريع
فحال دجاي أضواء بشعري
وصار الشعر أطياف الربيع
أبو شادي
شعر الديوان
تحت الوسادة
خبأت أغاني الحب تحت وسادة بسريرها
Unknown page