أنا ضباب يا مي، أنا ضباب يغمر الأشياء، ولكنه لا يتحد وإياها، أنا ضباب لم ينعقد قطرا، أنا ضباب وفي الضباب وحدتي، وفيه هو انفرادي ووحشتي، وفيه جوعي وعطشي، ومصيبتي هل أن الضباب - وهو حقيقتي - يشوق إلى لقاء ضباب آخر في الفضاء، ويشوق إلى استماع قائل يقول: لست وحدك، نحن اثنان، أنا أعرف من أنت!
أخبريني يا مي، أفي ربوعكم من يقدر ويريد أن يقول لي: أنا ضباب آخر أيها الضباب، فتعال نخيم على الجبال وفي الأودية، تعال نسير نسير بين الأشجار وفوقها، تعال نغمر الصخور المتعالية، تعال ندخل معا إلى قلوب المخلوقات وخلاياها، تعال نطوف في تلك الأماكن البعيدة المنيعة غير المعروفة!
قولي يا مي، أيوجد في ربوعكم من يريد ويقدر أن يقول لي ولو كلمة واحدة من هذه الكلمات؟»
قرأت مي رسالته، فاهتزت عواطفها، وردت عليه برسالة رحبت فيها بشوقه إليها وعاطفته النبيلة نحوها، وطلبت منه أن يعفو عما فرط منها في نقدها لبعض كتبه، وقد قست عليه قسوة شديدة. ثم أخذت تسأله أسئلة توحي باهتمامها به كما تهتم الفتاة المحبة بفتاها الحبيب، سألته عن جوه المعنوي، وعن بيئته وصحته، وماذا يلبس من ملابس، وكم سيجارة يدخن في اليوم، وعن حياته اليومية كيف يقضيها؟
وسألته عن مكتبه، وهل هو بسقف يحجبه عن السماء أو بلا سقف، فيتصل مباشرة بالسماء وبالعالم العلوي بنفسه وفكره، وتأملاته ونظراته بلا حاجز أو حجاب؟
وقد أرسلت مع هذه الرسالة نسخة من كتابها الجديد «باحثة البادية» الذي صدر في ذلك الحين، فكتب إليها هذه الرسالة:
عزيزتي مي «ماذا أقول عن جوي المعنوي؟ لقد كانت حياتي منذ عام أو عامين لا تخلو من الهدوء والسلام، أما اليوم فقد تبدل الهدوء بالضجيج، والسلام بالنزاع. إن البشر يلتهمون أيامي وليالي، ويغمرون حياتي بمنازعهم ومراميهم. لكم مرة هربت من هذه المدينة الهائلة إلى مكان قصي لأتخلص من الناس، ومن أشباح نفسي أيضا، إن الشعب الأمريكي جبار، لا يكل ولا يمل، ولا يتعب ولا ينام ولا يحلم، فإذا أبغض هذا الشعب رجلا قتله بالإهمال، وإذا أحبه قتله بالحب والانعطاف. فمن شاء أن يحيا في نيويورك عليه أن يكون سيفا قاطعا، ولكن في غمد من عسل، السيف لردع الراغبين في قتل الوقت، والعسل لإرضاء الجائعين، وسوف يجيء يوم أهرب فيه إلى الشرق.
إن شوقي إلى وطني يكاد يذيبني، ولولا هذا القفص - هذا القفص الذي حبكت قضبانه بيدي - لاعتليت متن أول سفينة سائرة شرقا. ولكن أي رجل يستطيع أن يترك بناء صرف عمره ينحت حجارة وصفها، حتى وإن كان ذلك البناء سجنا له؟ فهو لا يقدر، أو لا يريد أن يتخلص منه في يوم واحد.
إن صحتي الآن أردأ نوعا مما كانت عليه في بدء الصيف؛ فالشهور الطويلة التي صرفتها بين البحر والغاب قد وسعت المجال بين روحي وجسدي. أما هذا الطائر الغريب (يعني قلبه) الذي كان يختلج أكثر من مائة مرة في الدقيقة، فقد أبطأ قليلا، بل أخذ يعود إلى نظامه العادي، غير أنه لم يتمهل إلا بعد أن هد أركاني وقطع أوصالي!
وأنت يا مي تريدين أن أبتسم وأعفو، لقد ابتسمت كثيرا منذ الصباح، وها أنا ذا أبتسم من أعماقي، وأبتسم بكليتي، وأبتسم طويلا، وأبتسم كأنني لم أخلق إلا للابتسام!
Unknown page