فأرسلت إليه خطابا مستعجلا على أثر هذه الرسالة تقول فيها:
الأستاذ الجليل العقاد «وصلتني رسالتك، وقصدت أن أكتب هذه على وجه السرعة قبل رحيلك من أسوان لكيلا تنسى ما وعدتني به وأنت معي بالقاهرة، وأعتقد أنه سيكون في ذاكرتك.
لا تنس حين الوقوف على أطلال «معبد فيلا» إبلاغ تحياتي إلى النيل الخالد بأسوان، في هذا المكان الساحر الذي كنت أتمنى أن أكون بجوارك أثناء تسريحك الطرف في مياهه الذهبية الهادئة، وسأكون في انتظار عودتك، وأرجو أن أراك يوم وصولك مساء.»
مي
سهام الحب
مضت مدة بلا رسائل بين الأستاذ العقاد والآنسة مي، وكانت هو قد شغل بالمعارك السياسية بين الوفد برياسة سعد زغلول، وخصوم الوفد وعلى رأسهم عدلي يكن وعبد الخالق ثروت وإسماعيل صدقي، وكان هو كاتب الوفد الأول. وحدث أن سافرت في صيف سنة 1925 إلى إيطاليا، ثم غادرتها إلى ألمانيا للزيارة، فبينما هو جالس في مكتبه هبطت عليه رسالة طويلة تصف فيها رحلتها إلى روما، وتحدثه عن أهم شيء في نظره، وهو «المكتبات». وأخبرته عن كتاب للأديب الإيطالي «أمانولي» عثرت عليه، وقالت: «إن رأيت أن أرسله لك أو يكون معي إلى حين عودتي.» وسألته عن أخبار القاهرة، وأسفت لحرمانها من مناظر النيل الجميلة وقت الأصيل، ولكنها تتعزى عنها بمناظر الحدائق التي تطل عليها من نافذة الفندق، وقالت له: «سأحضر لك مجموعة من صور روما العريقة في الفن والجمال والمدنية.» ثم كتبت وصفا لينابيع روما في أربع صفحات منفصلة عن الرسالة جعلت عنوانه «نشيد إلى ينابيع روما»، أودعت فيه عواطفها الشابة المشبوبة التي تنم عن الحب المكبوت، وثورة القلب المحروم، وقد قالت في هذا النشيد الذي لم تنشره في كتاب من كتبها: «تفيضين من كل صوب - يا ينابيع المدينة الخالدة - وتهزجين من كل ناحية، وتنادين بالنابه والخامل على السواء ، ولك مساجلة مع المحروب والمحبور ... وصوتك يأبى إلا المضي في اصطحاب محكم مع جوق الأجيال التي تمر وتنقضي، ومع البيان الناطق في آثار التاريخ وأطلال الحدثان.
على مقربة من المعابد والبيع والمحاريب، وفي الساحات والميادين والحدائق، عند أبواب المتاحف وتحت أروقة القصور، في جانب مدافن العامة والدهماء كما لدى ضرائح الآلهة والقياصرة والأبطال ومضاجع البابوات والقديسين والشهداء.
على ضفتي نهر التيبر الأشهب، كما في غياض الهضاب السبع المحدقة بواديه، في جوار أنقاض الماضي وعلى مشهد من الأعمدة والرتائج والأفاريز وأقواس النصر، التي يزعم شاعرها أنك ما زلت في كل مكان، منتصبة في انتظار مواكب ظفر جديد، أنت يا نوافر رومة حاضرة في كل مكان متفجرة منبجسة في كل زمان شادية في كل أين وآن!
للإشادة بصنيعك، وتمجيد حسنك، وتضخيم قدرتك، عمدت يد الفن إلى مقالع الرخام الملون، ومناجم المرمر الشفاف، ودرست عبقريات العصور خصائص الجمال والحب والحزن والحماسة والبطولة والطغيان وأحكام القدر ومظاهر الطبيعة، واحتجاب الروح الشاملة، فصاغت لها جميعا نفيس الشخوص والدمى والكواسر والضواري والأنصاب، وأقامتها عند فوهاتك وعلى حفافيك تمثل للأجيال اختلاج الكائنات ونزعات الأرواح.»
ثم تقول في هذا النشيد: «كم ذا طلب عطشي الارتواء من المثول لديك، يا عيون روما، وكم ذا سألت خريرك أن ينسيني نفسي الجريحة!
Unknown page