أرفعها إليك لأنك كتاب حي يرجع إليه الباحث في ساعة الحيرة والتردد، ولقد جرأني على إبداء فكري أني وجدت في خطبتك الجميلة ذكرا لوالدة فقيد مصر، وذكرت من أجلها جميع الأمهات القرويات الساذجات اللائي أعطين لمصر أعاظمها. لم تضرب صفحا عن جهلهن وبساطتهن، ومع ذلك فقد اعترفت بأنهن مهذبات فتحي زغلول وأمثاله، كأنك أردت أن تنبه السامع والقارئ أو الخواطر العظيمة - كما قال فو فيناج - تأتي من القلب، وأن على هذا القياس يكون ذكاء القلب أعظم ذكاء.
أما سؤالي، فها هو ذا: لماذا لم يكن للنساء نصيب في حضور حفلة التأبين؟!
حفلة جليلة أقامتها مصر لتأبين فتاها، ومصر كسائر بلاد الله - على ما أظن - تتألف من رجال ونساء. لم تكن الحفلة مقصورة على هيئة الحكومة، أو على طائفة المحامين والعلماء، بل كانت عمومية جامعة بين المحمدي والعيسوي، والشرقي والأجنبي على السواء، غير أنكم نبذتم منها جنسا واحدا، وهو الجنس الذي منه رفيقة مهد فتحي باشا، ورفيقة نعشه، والدته وزوجته.
نبذتم ذلك الجنس الذي يعيش بعيدا في ظل النصر الشامل يوم يكرم الرجل غالبا قاهرا، حتى إذا نهش اليأس نفسه وأدماها الألم، وخالطتها وحشة الموت، عاد إلى جنب الجنس الذي لم يخلق إلا ليكون شقيا، الجنس النسائي.»
وبعد أن تشير «مي» في هذا الخطاب إلى تقصير الرجال في التقريب بين أفهام الجنسين، وإلى تقصيرهم في مساعدة المرأة في ذلك الحين على حضور مثل هذه الاجتماعات الفكرية التي ترفع نفسها إلى أسمى درجات التأثر وتنبه عقلها إلى هيبة العلم وعظمة الفضل، مع أنهم يسمحون لها بالذهاب إلى الأوبرا لحضور الروايات التمثيلية. بعد ذلك تقول: «قد تقولون إن المرأة لا تفهم معاني التأبين كما يفهمها الرجل، فأجيب أننا اهتممنا بالخطب والقصائد اهتماما عظيما، واستعملنا عند قراءتها ملكتي النقد والاستحسان، وهذا ينم على استعداد فينا غير قليل. وإذا قلتم إن فتحي باشا كان عالما مفكرا، وإن العلم والتفكير من خصائص الرجال، أجبت إن العالم الحقيقي والمفكر المخلص هو ذاك الذي يكتب للرجال والنساء بلا تفريق، ويود أن تكون كتاباته هدى ووحيا لجميع أفراد الأمة، بل يود أن تكون لشعوب العالم أجمعين.
ولا شك أن فتحي زغلول هو ذلك الرجل، إذ ما رأيت أنا، ولا رأى أحد على غلاف كتبه كلمة كهذه «محظور على النساء» أو «حقوق المطالعة محفوظة للرجال!»»
وبعد أن تشير إلى بلاغة ما ألقي في هذا التأبين من خطب وقصائد، وإلى دموع سعد زغلول حين سماعه هذا التأبين، تقول في نهاية الخطاب: «لو حضر النساء هذا الاجتماع لأخذن عنه أمثولة طيبة، وحفظن منه في نفوسهن أثرا جليلا، هذا سؤال يا سيدي الأستاذ ألحقته بالحواشي الطويلات، لعلك تجده بعد مطالعته تقريرا لا سؤالا، وقد تحكم أن ما حسبته أنا إشارة استفهام ليس إلا علامة أسف!
لك أن تحكم بما تشاء، وكلمتي هذه هي ما تريد أن تكون.»
الخطاب السادس
قرأ لطفي السيد هذا الخطاب الذي عاتبته «مي» فيه ذلك العتاب الشديد، فأجاب عنه في صحيفة «الجريدة» باعتذار جاء فيه: «الحق مع حضرة الكاتبة الفاضلة، ولست أعرف للجنة التي أنا أحد أعضائها عذرا في نفي الإنسان عن ألواجهن العادية في الأوبرا في ذلك اليوم إلا لعادة درجنا عليها. ولو سئلت رأيي في اللجنة عن دعوة السيدات إلى هذا الاحتفال لترددت كثيرا، وربما كان جوابي الرفض، ولست قادرا على أن أقدم لهذا الرفض أسبابا يقبلها العقل، ولكن الأمر هو هذا: إن احتفال التأبين ضرب من مأتم عمومي، ومع ذلك فإن المآتم لا تقوم إلا بالرجال والنساء، فلا أعرف شيئا جديا أقوله في هذا المعنى إلا أننا لم نكسر حتى الآن قيود عادة لم تستحكم بعد.
Unknown page