Attitudes of Heretics and Sects towards the Prophetic Sunnah and its Narrators: Their Roots, Methods, and Objectives in the Past and Present
موقف أصحاب الأهواء والفرق من السنة النبوية ورواتها جذورهم ووسائلهم وأهدافهم قديما وحديثا
Investigator
-
Publisher
مكتبة الصديق للنشر والتوزيع
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤١١هـ
Genres
"جذور وأصول المبتدعة وتطورها التاريخي "
وقد أخبر الصادق المصدوق ﷺ فيما صح عنه- "أن أهل الكتابين- اليهود والنصارى- افترقوا على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين ملة، وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟، قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي ... ". ١ أو كما قال ﷺ.
قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية- ﵀: (وأما تعيين الفرق الهالكة، فأقدم من بلغنا أنه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط ثم عبد الله بن المبارك- وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين- قالا: أصول البدع أربعة: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، فقيل لابن المبارك: والجهمية؟، فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد ﷺ، وكان يقول- ابن المبارك-: إنّا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية) .
قال ابن تيمية- ﵀: (وهذا الذي قاله اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا: الجهمية كفار، فلا يدخلون في الاثنتين وسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون
_________
١ رواه الترمذي في كتاب الإيمان باب إفتراق هذه الأمة، وابن ماجة في الفتن باب إفتراق الأمم، ورواه الدارمي في السير باب إفتراق هذه الأمة.
1 / 12
الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام وهم الزنادقة) .أ. هـ١.
وهذه الطوائف الخمس هي أصول المبتدعة والطوائف والفرق المنحرفة في تاريخ أمتنا الإسلامية إذ عنها تفرع كل شر وكل انحراف عن دين الإسلام.
والمتأمل لتاريخ تلك الطوائف والفرق الضالة التي نشأت بين المسلمين يجد أن طائفة من رؤسائها ينتمون إلى تلك الطوائف والأديان التي كانت قبل الإسلام مثل اليهودية والنصرانية والمجوسية، والصابئة وغيرها من الأديان والفلسفات التي سحقها الإسلام وحرر منها العباد.
وهذه أمثلة على ذلك:
ا- عبد الله بن سبأ اليهودي الصنعاني، وأمره متواتر ومشهور في التاريخ، وهو أس ورأس الفتن التي حدثت في صدر الإسلام وما بعد ذلك٢.
٢- بشر بن غيَّاث المريسي، كان يهوديًا ثم صار بعد إظهاره الإسلام رأسًا في الزندقة٣.
٣- عبد الله بن المقفَّع، كان مجوسيًا وكتبه شاهدة على مجوسيته، اتهم بالزندقة فقتله والي البصرة سفيان بن معاوية المهلبي٤.
_________
١ مجموع الفتاوى: ٣/ ٣٥٠.
٢ انظر كتاب: عبد الله بن سبأ وأثره في الفتنة في صدر الإسلام للدكتور سليمان الحمد العودة.
٣ راجع ترجمته في تاريخ بغداد للخطيب: ٧/ ٥٦، وما بعدها، خلق أفعال العباد اللبخاري:٢١.
٤ انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء: ٦/٢٠٨.
1 / 13
٤- إبراهيم بن سيار النَّظَّام، كان برهميًا، ذكر الذهبي عن بعض السلف أنه قال: كان النظام يخفي برهميته بالاعتزال ليفسد دين الإسلام١.
٥- سوسن النصراني، الذي أخذ عنه معبد الجهني القدري مقالته - في القدر، وقد تظاهر سوسن بالإسلام ثم عاد إلى نصرانيته٢.
٦- الجهم بن صفوان، رأس كل الضلالات وأُسُّ كل البليات، وحسبنا أن نعلم أن هذا الرجل الذي كان من شواذ المبتدعة في مطلع القرن الثاني الهجري قد ترك من الأثر في الفرق الإسلامية الثنتين وسبعين مالا يعادله أثر أحد غيره، حتى أن الشيعة والخوارج والقدرية كلها قد تأثرت به في قليل أو كثير ولاسيما في صفات الله تعالى.
أما المنتسبون للسنة وأهمهم الأشعرية والماتريدية، فهم على أصوله في كثير من أصول الاعتقاد، ولو لم يكن إلا متابعتهم له في الإيمان.
هذا مع أنه ليس بإمام يحتج بقوله، ولا عالم يعتد بخلافه ولا شهد له أحد بخير، بل شهد عليه بعض من عاصره بالجهل البالغ في أحكام الشريعة حتى الجليُّ منها وذكروا أنه لم يحج البيت، ولم
_________
١ انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء: ١٠/٥٤٢.
٢ انظر ترجمة معبد الجهني في تهذيب الكمال للمزي وتهذيب التهذيب لابن حجر وميزان الاعتدال للذهبي.
1 / 14
يجالس العلماء قط، وإنما جالس جهم أصحاب الأهواء وعلى" رأسهم شيخه الجعد بن درهم الذي قتله الوالي الأموي خالد بن عبد الله القسري من أجل زندقته وقوله: (لم يتخذ الله إبراهيم خليلًا ولم يكلم موسى تكليمًا) ....
وجالس جهم أيضًا بعض الملاحدة من المنتسبين إلى فلسفات الأمم الجاهلية الموتورة، ولما أراد الله فتنته اتصل بطائفة من الزنادقة الهنود يقال لهم السمنيِّة ودخل معهم في جدال بغير علم ولا بصيرة من عقل وأدى به نقاشه معهم إلى ترك الصلاة مدة ثم خرج بنظريته للإله بأنه هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء١.
أما تاريخ ظهور هذه الفرق وتطورها تاريخيًا وعقديًا، فيلخص ذلك شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية ﵀، فيقول٢:
(... أولها ظهورًا الخوارج، فان التكلم ببدعتهم ظهر في زمانه ﷺ، ولكن لم يجتمعوا وتصير لهم قوة إلا في خلافة أمير المؤمنين علي ﵁.... ثم قال: وفي الصحيحين عن أبي سعيد٣ ﵁ قال: بينما رسول الله ﷺ يقسم الفيء جاء عبد الله ذو
_________
١ انظر الرد على الجهمية للإمام أحمد: ١٠١-١٠٥، خلق أفعال العباد للبخاري: ١٢-١٣، ١٦-١٧، ٢٦، وفتح الباري: ١٣/ ٣٤٥.
٢ مجموع الفتاوى: ٢٨/ ٤٨٩- ٥٠١.
٣ في البخاري كتاب المناقب، باب علامات النبوة: (ح: ٣٦١٠) بترقيم عبد الباقي، وفي مسلم كتاب الزكاة، (ح: ١٤٧، ١٤٨) .
1 / 15
الخويصرة التميمي- في رواية أتاه ذو الخويصرة رجل من تميم- فقال: أعدل يا رسول الله، فقال: "ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟، قد خبت وخسرت إن اأعدل ".
فقال عمر بن الخطاب ﵁: ائذن لي فأضرب عنقه، قال: "دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية..... " الحديث.
وفي مسلم١ عن علي بن أبي طالب ﵁ أنه قال- عن الحرورية لما خرجوا عليه وقالوا: لا حكم إلا لله-: كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله ﷺ وصف ناسًا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم- وأشار إلى حلقه- من أبغض خلق الله اليه، منهم رجل أسود احدى يديه طبي٢ شاة أوحلمة ثدي.
فلما قتلهم علي ﵁، قال: انظروا فنظروا فلم يجدوا شيئًا، قال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كُذيِتُ- مرتين أو ثلاث-، ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه.... " الحديث.
وهذه العلامة التي ذكرها رسول الله ﷺ هي علامة أول من يخرج منهم وليسوا مخصوصين بأولئك القوم، فإنه قد أخبر في غير هذا
_________
١ كتاب الزكاة من صحيحه، (ح: ١٥٦، ١٥٧) .
٢ هو ثدي الشاة والأصل إطلاقه على ثدي السباع (النووي في شرح مسلم) .
1 / 16
الحديث، أنهم لا يزالون يخرجون إلى زمان الدجال، وقد اتفق المسلمون على أن الخوارج ليسوا مختصين بذلك العسكر.
وهؤلاء أصل ضلالهم إعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل وأنهم ضالون، وهذا هو ما أخذ الخارجين عن السنة من الروافض ونحوهم.
ثم قال الشيخ ﵀:
ثم ظهر في زمن علي ﵁ التكلم بالرفض، ولكن لم يجتمعوا ويصير لهم قوة إلا بعد مقتل الحسين ﵁، بل لم يظهر اسم الرفض ويعلن إلا حين خروج زيد بن علي بن الحسين بعد المائة الأولى، وذلك أنه لما أظهر الترحم على أبي بكر وعمر ﵄ رفضه الرافضة، فسموا رافضة، واعتقدوا أن أبا جعفر- محمد بن علي الباقر- هو الإمام المعصوم، واتبعه- زيد- آخرون فسموا (زيدية) نسبة إليه.
ثم في أواخر عصر الصحابة نبغ التكلم ببدعة القدر والإرجاء، فردَّها من كان حيا من الصحابة حينئذ، كابن عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد وواثلة بن الأسقع وغيرهم.
ولم يصر لهم سلطان واجتماع حتى كثرت المعتزلة والمرجئة بعد ذلك.
ثم في أواخر عصر التابعين ظهر القول ببدعة الجهمية نفاة الصفات، ولم يكن لهم اجتماع وسلطان إلا بعد المائة الثانية في إمارة أبي العباس الملقب بالمأمون، فإنه أظهر التجهُّم وامتحن الناس
1 / 17
عليه وعرَّب كتب الأعاجم من الروم واليونانيين وغيرهم،..... وفي زمنه ظهرت (الخرمية) ١ وهم زنادقة منافقون يظهرون الإسلام ويبطنون خلافه، وأصل مذهبهم المزدكية الإباحية التي ظهرت قبل الإسلام، وتفرع الخرمية بعد ذلك إلى القرامطة والباطنية والإسماعيلية وأكثر هؤلاء ينتحلون الرفض في الظاهر، وصارت الرافضة الإمامية في زمن بني بويه بعد المائة الثالثة فيهم عامة، هذه الأهواء المضلة.. فيهم الخروج والرفض والقدر والتجهُّم. أ. هـ. ٢
_________
١ نسبة إلى بابك الخرمي، وكان يقول لمن استغواه، أنه إله. انظر: الفهرست لابن النديم: ٤٠٦-٤٠٧.
وكما أشار شيخ الإسلام ابن تيمية أصل مذهبهم المزدكية الإباحية التي ظهرت قبل الإسلام. والتي هي أصل الشيوعية الماركسية اليوم مع بعض التطوير اليسير الذي أحدثه كارل ماركس وفريدريك إنجلز في الشيوعية الحديثة.
وكذلك أشار شيخ الإسلام أيضًا إلى تفرع الإسماعيلية والقرامطة من الخرمية المزدكية، وقد عبر أحد الشيوعيين العرب عندما تسلم السلطة في بلاده- التي نكبت به وبرفاقه- عن ارتباط الشيوعيتين القديمة والحديثة فقال: نحن نسير على خطى القرامطة الثوريين الأحرار، ولم يكتفي بهذا التصريح، بل جعل تاريخ وعقائد القرامطة مادة تدرس في بلاده في المراحل ما قبل الجامعية جنبًا إلى جنب مع دراسة تاريخ وعقائد الشيوعية الماركسية، وما ذلك إلا لاتحاد الجذور والأهداف، ومن يطالع كتب الطائفتين يجد ذلك واضحًا. انظر مثلًا كتاب "بيان عقائد الباطنية وبطلانها" لمحمد بن حسن الديلمي، ت: ٧٠٧ هـ، وقارنه مثلًا بكتاب "الاشتراكية العلمية لكارل ماركس".
٢ ملخص بتصرف من مجموع الفتاوى: ٢٨/ ٤٨٩-٥٠١.
1 / 18
هذه نبذة مختصرة عن نشأت وتطور أصول الفرق المنحرفة المتلبسة بالإسلام، وقد اكتفيت بذكر تطورها تاريخيًا وعقديًا خلال الثلاثة قرون الأولى لأمرين:
الأول: أن ما بعد ذلك امتداد لذلك التطور في تلك الفترة، إذ أن تلك الفترة هي فترة التأسيس والتقعيد لتلك الفرق وغيرها.
والثاني: أن المراد من هذه الدراسة الموجزة الوقوف على جذورها التاريخية وأصولها الإعتقادية، وهذا يكفي فيه معرفة نشأتها وتطورها في تلك القرون الثلاثة.
ومن أراد مزيدًا من التفصيل فليرجع إلى الكتب التالية:
١- الفصل في الملل والأهواء والنحل لأبي محمد بن حزم.
٢- الملل والنحل للشهرستاني.
٣- الفرق بين الفرق للقاضي عبد القاهر البغدادي.
٤- منهاج السنة النبوية ومجموع الفتاوى للحافظ شيخ الإسلام ابن تيمية، وغير ذلك من كتبه وكتب غيره.
1 / 19
" موقف الطوائف والفرق من السنة النبوية ورواتها "
وإذا تأملنا المنهج الذي نهجته تلك الطوائف والفرق في خط سيرها التاريخي والاعتقادي، تأملنا موقفها من السنة النبوية وحملتها من أهل السنة والجماعة، الذين كانوا على ما كان عليه الرسول ﷺ وأصحابه، إذا تأملنا كل ذلك أدركنا مدى الربط بين تلك الفرق الضالة- التي تسترت بالإسلام لإفساده- وبين أصولها التي نشأت منها وقد سبق القول أن أصولها راجع إما إلى اليهود والنصارى، وإما إلى المجوس والصابئة الفلاسفة أو غيرها من أعداء الإسلام الذين أضرمت نار الحقد قلوبهم على هذا الدين الذي نسخ تلك الأديان وبين بطلانها نقلًا وعقلًا. وعندما لم يجد هؤلاء الأعداء حيلة للقضاء على هذا الدين الخاتم، لجأوا إلى الحيلة والدس على الإسلام وأهله، فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا ضعاف الإيمان وغوغاء الناس وجهلتهم إلى ما أحدثوا لهم من آراء وعقائد منحرفة.
ولما كان هذا الدين هو الكتاب والسنة، والكتاب لم يمكنهم تحريفه، وكانت السنة هي المبينة للكتاب ولا يمكن فهمه والعمل به إلا بالسنة الموضحة والمبينة له كما قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ الآية.
عند ذلك لجأ هؤلاء الأعداء إلى الطعن في السنة النبوية ونقلتها وذلك من خلال ما أحدثوه من مقولات وقذفوا بها إلى من اغتر بظاهر إسلامهم وما زينوه من الأهواء والآراء المنحرفة، ويمكن تلخيص تلك المقولات فيما يلي:
1 / 20
١- رد السنة مطلقًا كما هو رأى الجهمية والرافضة والباطنية وأتباع النَّظَّام وأبي الهذيل العلاّف، من المعتزلة وغيرهم.
٢- رد غير المتواتر من السنة كما هو رأى جمهور المعتزلة ووافقهم متكلموا الأشاعرة في رده في العقائد وقبوله في الأحكام وهذا تناقض صريح.
وحجة هذين القولين: أن السنة لم تدون في حياته ﷺ كما دوِّن القرآن، مما يدل على أنها ليست بحجَّة، أو أن كثيرًا منها يخالف عقولهم، وأنه دخلها ما ليس منها لأن الرواة لا يأمن عليهم الكذب والغلط والخطأ والنسيان.
ومن زعم منهم قبوله للمتواتر فقط أو قبول غيره في الأحكام دون العقائد مجمعون على ردَّ ما خالف عقولهم من السنة أو تأويله على وفق أهوائهم.
وما أدري أيُّ عقل يحاكمون السنة إليه-، فعقولهم القاصرة المتناقضة مختلفة وغير متفقة، وإذا اتفق اثنان خالفهم الثالث، وإذا اتفق ثلاثة خالفهم الباقون.
٣- الطعن في رواة السنة عمومًا كما هو رأى الروافض الذين لا يستثنون من الصحابة إلى نفرًا يسيرًا، أو في بعضهم كمن اشترك في الفتنة كما هو معروف عن الخوارج والمعتزلة ومن نحى نحوهم.
والحق أن مراد أكثر مؤسسي هذه المذاهب ردُّ دين الإسلام فلم يجدوا حيلة إلا ردَّ السنة بعقولهم أو الطعن في رواتها بأهوائهم.
إذ بالطعن في رواة السنة تردُّ السنة وبردُّ السنة بالعقل والطعن في نقلتها يردُّ الكتاب الذي لا يمكن فهمه والعمل به إلا بالسنة، وبذلك يحصل مقصود أعداء الإسلام من ردِّ دين الإسلام أو إفساده وتحريفه،
1 / 21
وهذا ما نفَّذه فعلًا كثير من تلك الطوائف المنحرفة كالرافضة والباطنية والجهمية والمعتزلة وغيرهم.
قال الإمام أبو زرعة- فيما رواه عنه الحافظ أبو بكر الخطيب بسنده-: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ، فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله ﷺ عندنا حق والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله ﷺ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبلطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة) ١.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية- ﵀ عن الإمام مالك إمام دار الهجرة قوله ﵁: (إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي ﷺ فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه حتى يقال رجل سوء ولو كان رجلًا صالحًا لكان أصحابه صالحين) ٢.
والناظر بعين البصيرة فيما أثير من شبه وشكوك حول السنة النبوية ورواتها، قديمًا وحديثًا لا يكاد يجد شيئًا من تلك الشبه والشكوك يخرج عن هذين الأمرين- أعني- رد السنة بالعقل والطعن في رواتها بالهوى.
ومن أمعن النظر في تاريخ الصراع بين الإسلام وأعدائه لا يجد فيما ذكره الأعداء المعاصرون- خلال القرنين الماضيين- شيئًا جديدًا من الشبه والشكوك التي لم يكن لها أصل عند تلك الطوائف المنحرفة
_________
١ الخطيب البغدادي، الكفاية في علم الرواية، ص: ٩٧.
٢ ابن تيمية: الصارم المسلول على شاتم الرسول، ص: ٥٨٥.
1 / 22
التي نشأت في تاريخ أمتنا الإسلامية برعاية وعناية أسلاف هؤلاء الأعداء المعاصرين من يهود ونصارى ومجوس وصابئة وفلاسفة.
وإنما يجد أن هؤلاء الأعداء المعاصرين يؤكدون على تلك الشبه والشكوك وقد يصوغونها بأساليب جديدة ويلبسونها أثوابًا عصرية لكي تروج علينا مرة أخرى.
ومما يؤكد ذلك أننا نلحظ عناية المبشرين والمستشرقين- يهود ونصارى- بإحياء تراث تلك الطوائف الضالة المنتسبة إلى الإسلام، فطبعوا ونشروا الكثير من كتب المعتزلة والجهمية والصوفية والمتكلمين والباطنيين من رافضة وقرامطة ونصيرية ودروز وغيرهم١.
ومن أراد التأكد من أن الشبه والشكوك التي يثيرها أعداء الإسلام اليوم هي نفس الشبه والشكوك التي أثارها أسلافهم فليراجع المصادر التالية:
أولًا: مصادر قديمة، منها:
ا- الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد والدارمي.
٢- خلق أفعال العباد للإمام البخاري صاحب الجامع الصحيح.
٣- تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة.
_________
١ سيأتي مزيد من التفصيل عن دور المبشرين والمستشرقين في إحياء هذه الطوائف وغيرها من الطوائف غير الإسلامية الموجودة في ديار الإسلام والمسلمين ودورهم في إحياء الطوائف والقوميات العرقية المندثرة، وإستغلال جميع ذلك في حرب الإسلام وأهله من خلال الطعن في السنة النبوية ورواتها.
1 / 23
٤- منهاج السنة النبوية، لشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من كتبه ...
٥- العواصم والقواصم لمحمد بن إبراهيم الوزير اليماني المتوفى سنة ٨٤٠ هـ.
٦- الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم، للمؤلف. نفسه.
وغيرها..
ثانيًا: مصادر حديثة، وهي على أنواع:
أ- الردود عليهم ومنها:
١- كتاب السنة ومكانتها في الإسلام للدكتور مصطفى السباعي.
٢- الإستشراق والمستشرقون له أيضًا.
٣- دراسات في الحديث النبوي للدكتور محمد مصطفى الأعظمي.
٤- منهج النقد عند المحدثين له أيضًا.
ب- كتب صنائعهم وأذنابهم من أبناء جلدتنا، مثل كتب طه حسين وأحمد أمين وأبي ريَّة وغيرهم.
ج- كتب المستشرقين أنفسهم، مثل كتب جلدتسيهر ومرغليوث وشاخت وربسون وكايتاني وغيرهم.
1 / 24
"أمثلة من كيد الأعداء. قديمًا وحديثًا"
لكي تتضح الصورة أكثر للمخطط الإفسادي اليهودي النصبراني المجوسي أورد مثالين من دسائس أعداء هذا الدين لنرى مدى الترابط الوثيق بين أعداء هذا الدين بالأمس وأعدائه اليوم، وأن جذورهم واحدة كما أن أهدافهم ووسائلهم واحدة أيضًا، وإن عرضت بأشكال وألوان مختلفة، وأن اختلاف تلك الوسائل إنما هو اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد.
وهذان المثالان هما:
الأول: فتنة ابن سبأ في صدر الإسلام.
الثاني: التخطيط الصهيوني الصليبي الحديث.
أما الأول فمهندسه عبد الله بن سبأ اليهودي الصنعاني، ويعرف بابن السوداء، لأن أمه كانت حبشية سوداء، وقد استفاد ابن سبأ من التقاء المخططين المجوسي والصليبي من قبل الذي نتج عنه مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁.
وتاريخ اليهود الأسود المشبوه معروف في حرب الله ورسله، وهم الذين قتلوا يحيي وزكريا وغيرهما وحاولوا صلب المسيح ابن مريم ﵊.
ولما لم يفلحوا في إيقاف زحف دعوة المسيح عيسى بن مريم ﵇ رغم مقاومتهم لها، عند ذلك لجأوا إلى الكيد والدس حيث أمروا شاؤول اليهودي- الذي تسمى فيما بعد ببولس الأول- أن
1 / 25
يتظاهر بالدخول في دين المسيح ثم يبدأ يفسر ويحرف ما جاء به عيسى، وقد تم لهم ما أرادوا، حيث قام شاؤول بدوره خير قيام، فأفسد في النصرانية بما عجز عنه اليهود كلهم في مقاومتها بالقوة.
وعندما جاء رسول الله ﷺ بالرسالة الخاتمة قاومه اليهود بالكيد والدس، فأخذوا يلقون الشكوك والشبهات حول رسالته ﷺ في المدينة وبين القبائل العربية خارج المدينة، ثم دخلوا معه في القتال بالسلاح- بعد نقضهم العهد الذي بينه وبينهم- كما حصل في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، ثم أخيرًا معركة خيبر، وفي تلك المعارك كلها كان النصر لرسول الله ﷺ عليهم وكانت الهزيمة حليفهم.
وعندما لم يفلحوا في التشكيك في هذا الدين الذي نسخ ما قبله من الأديان بما في ذلك اليهودية، وعندما رأوا تلك الفتوحات العظيمة وذلك التوسع الهائل في انتشار دين الإسلام وإقبال الناس عليه.
عند ذلك تداعى شياطين اليهود مرة أخرى في صنعاء اليمن فخططوا ودبروا أمرهم واستلهموا من تاريخهم الأسود في حرب الله ورسله تلك الفعلة التي قام بها شاؤول اليهود مع دعوة المسيح بن مريم عليه وعلى أمه الصلاة والسلام، فرشَّح المجتمعون لهذه المهمة مع رسالة خاتم الأنبياء شاؤول الجديد عبد اللة بن سبأ١،
_________
١ نص شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية على تشبيه أثر ابن سبأ في الإسلام بأثر شاؤول اليهودي- بولس الأول- في النصرانية، فكما أظهر بولس النصرانية مع إبطانه يهوديته كذلك ابن سبأ أظهر الإسلام مع بقائه على يهوديته في السر. مجموع الفتاوى: ٢٨ /٤٨٣.
1 / 26
فتظاهر بالإسلام، وذلك في أول خلافة عثمان ﵁ وقيل في آخر خلافة عمر ﵁، وأخذ ينتقل بين الأمصار الإسلامية لبث سمومه وأفكاره المنحرفة.
وقد ساق الإمام ابن جرير الطبري قصة فتنة ابن سبأ في تاريخه من عدة طرق وهي طويلة أقتطف منها ما يهمنا فيما نحن بصدده، وهو معرفة جذور أعدائنا ووسائلهم وأهدافهم مع الربط بين القديم منها والحديث.
.... قال- بعد ذكر الأسانيد- كان عبد الله بن سبأ يهوديًا من أهل صنعاء، فأسلم زمن عثمان، ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام فأخرجوه، حتى أتى
مصر فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول؟ لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب بأن محمدًا يرجع، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ فمحمد أحق بالرجوع من عيسى، قال: فَقُبِل ذلك عنه، فوضع لهم الرجعة فتكلموا فيها، ثم قال لهم بعد ذلك: إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصي وكان علي وصي محمد، ثم قال: فمحمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء، ثم قال بعد ذلك: ومن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله ﷺ، ووثب على وصي رسول الله ﷺ، وتناول أمر الأمة ...، ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق وهذا وصي لرسول الله ﷺ فانهضوا في هذا الأمر فحركوه،
1 / 27
ابدأوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر١ تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر فبث دعاته وكاتب من كان قد استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يضعون، فيقرؤه أولئك في أمصارهم، وهؤلاء في أمصارهم، حتى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة وهم يريدون غير ما يظهرون ويسِّرون غير ما يبدون، فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافية مما ابتلي به هؤلاء إلا أهل المدينة، فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار، فقالوا: إنا في عافية مما فيه الناس.... الخ٢ القصة ...
ولم يقف ابن سبأ عند هذا الحد، بل صعد الفتنة ضد خليفة المسلمين عثمان حتى تمكن من جمع أتباعه من العراق ومصر فحاصر بهم المدينة، ودخلوا على عثمان خليفة المسلمين، فقتلوه رضي الله
_________
١ هكذا تستر هذا اليهودي وأتباعه بقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد سلك هذا المبدأ من بعده كثير من أصحاب الأهواء كالخوارج والمعتزلة العقلانيين والروافض، والباطنيين جميعًا.
وكذلك اليوم نشاهد بقايا فلول المعتزلة العقلانيين المعاصرين يلبسون العلمانية ثوبًا إسلاميًا تحت شعار تقديم الإسلام للغرب بلغة العصر ليرافق روح العصر فيقبله الغربيون، فصدق فيهم قول الشاعر:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا
فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
٢ تاريخ الطبري: ٤/ ٣٤٠.
1 / 28
عنه وأرضاه وهو صائم يتلو كتاب الله، وذلك في شهر ذي الحجة من سنة خمس وثلاثين للهجرة.
وهنا نقف وقفة لنرى أن هذا الهدف الذي كان قد حدده ابن سبأ لأتباعه إنما هو هدف مرحلي، وأن هدفه الأعظم لم يتحقق بعد، لكنه قطع شوطًا كبيرًا للوصول إلى هدفه ذلك، ومن هنا بدأ ابن سبأ يخطط لإكمال مهمته الشاؤولية الإبليسية، فهو لم يكن هدفه كما كان يظهر للناس أن يتولى علي بن أبي طالب ﵁ الخلافة إنفاذًا للوصية كما زعم، وإنما كان يعمل لإفساد هذا الدين وتحريفه، ولمّا يكتمل له ذلك.
ولذلك نجده يستغل أول فرصة سانحة عند خروج عائشة ﵂ ومعها جمع من المسلمين وعلى رأسهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام إلى البصرة للمطالبة بدم عثمان من القتلة، الذين كان أكثرهم من أهل العراق نجد أن ابن سبأ وأتباعه يستغلون هذه المناسبة لإشعال نار الفتنة مرة أخرى، وذلك لما علم باتفاق الفريقين على الصلح، وعرف أن الاتفاق سيكون على رأسه هو وأتباعه، لمّا علم بذلك دبَّر مكيدته مع أتباعه، حيث أرسل مجموعتين من أتباعه تخرج تحت جنح الظلام فتضرب إحداهما معسكر طلحة والزبير ومن معهما، والأخرى تضرب معسكر علي ﵁ ومن معه، وهنا ظن كل فريق أن الآخر غدر به فنشبت الحرب بين الفريقين ووقعت موقعة الجمل ولله فيما قدر وقضى حكمة بالغة.
1 / 29
ولم يزل أمر السبئية يتطور ويستفحل حتى قالوا بألوهية علي ﵁، ثم تقعَّد مذهبهم وتأسس على تلك المبادئ التي أسسها ابن سبأ، والمتفحص فيها يجد أنها دين آخر اختلقه ابن سبأ وألصقه بآل البيت ظلمًا وزورًا.
وحتى يقبل ما جاء به من الضلال، أسس في مذهبه وأتباعه الطعن على الصحابة ﵃ بالردة والكفر وكتم الوصية وتسعة أعشار القرآن إلى آخر ما أحدثوه في سب أصحاب رسول الله ﷺ الذين هم صفوة خلق الله بعد الأنبياء والرسل.
ولا زالت الأمة الإسلامية تعاني من آثار تلك الفتنة السبئية إلى يومنا هذا وإلى أن يشاء الله سبحانه لأن الحركات الباطنية والرافضية كلها من نتاج تلك السبئية البغيضة ولا زالت معاول هدمها عاملة في الأمة الإسلامية، نسأل الله أن يريح الأمة من شرهم وفتنتهم، ونخلص في هذا المثال الذي ضربناه مثلًا لتلك الفرق والطوائف الضالة قديمًا بما يلي:
ا- الجذور يهودية..
٢- التخطيط سري ومنظم ومبرمج في مراحل....
٣- الوسائل إلقاء الشكوك وإثارة الشبهات وتحريف الكلم عن مواضعه.
٤ - الهدف: إفساد دين الإسلام وتحريفه.
المثال الثاني: التخطيط الصهيوني الصليبي الحديث:
بعد أن رأينا ذلك المثال القديم وعرفنا من خلال دراسته الموجزة
1 / 30
جدًا ذلك التخطيط الرهيب من قبل أعداء هذا الدين الذين ركزوا خططهم فيما أثاروه من شكوك وشبهات حول السنة النبوية المطهرة ورواتها الذين هم واسطة الأمة إلى نبيها في تبليغ رسالته إليهم، وذلك لينفذوا من خلال ذلك إلى رد دين الإسلام أو إفساده وتحريفه، ولكن الله ﷿ تكفل بحفظ دينه الذي جعله خاتم الأديان وناسخًا لها، فقال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ١.
وقال سبحانه: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ ٢.
أنتقل إلى المثال الثاني وهو مثال حي لا زالت الأمة منذ قرنين تقريبًا تعايشه وتصطلي بناره، لنرى أن الجذور واحدة والوسائل والتخطيط متشابهة بل ومتطابقة أحيانًا، ثم نجد أن الهدف لهؤلاء الأعداء قديمًا وحديثًا هو إفساد دين الإسلام وتحريفه.
_________
١ آية ٩ من سورة الحجر.
٢ آية ٨ من سورة الصف.
1 / 31