173

Athartu Hurriyya

آثرت الحرية

Genres

ولم ينتظر حتى أخرج، بل تلفن من فوره الرفيق «هاتايفتش» أمين اللجنة الإقليمية في دنيبروبتروفسك، الذي تقع منطقة نيقوبول تحت إشرافه، وأخذ - على مسمع مني - يعنف «هاتايفتش» تعنيفا قاسيا، وأمره بأن يكف القسم السياسي في نيقوبول عن مضايقة الرفيق «كرافتشنكو» وإلا فلتبلغ له أسباب ما يصنعون.

ووضع السماعة مبتسما وقال: «هل يرضيك هذا؟» - «أشكرك شكرا جزيلا، لكن ذلك لا يكاد يزيل من الإشكال الأكبر شيئا، إذ لا يزال هذا النظام المخيف قائما.»

ولم يحدث قط منذ ذلك اليوم حتى مات «أورزنكدز» فجاءة أن دعاني القسم السياسي أو استجوبني شيئا، نعم ظل المخبرون حولي يعملون في نشاطهم المعهود - «ماكاروف» و«رومانوف» و«يودافين» ومئات غيرهم - لكني لم أمس منهم بسوء، فمهما ثارت في نفوس رجال الشرطة السرية من شكوك وامتعاض فيما يخصني، فقد كتموها في صدورهم مؤقتا بناء على أوامر ظهيري في موسكو، وقد يجيء اليوم الذي يتيح لهم أن يفلتوا فجأة من هذه القيود، فيغرقوني في خضم مخيف.

عدت إلى نيقوبول فجمعت كبار رجال المصنع والإدارات الفنية فيه، وبسطت أمامهم المهمة التي عهد بها إلي «أورزنكدز»، وكلفت عددا منهم بواجبات معينة، وجاءتنا العدد والمواد كما وعد الوزير، وسرعان ما أخذت عجلة العمل في دورانها، وظللت بعد ذلك أسابيع أنام في مكتبي أكثر مما أنام في منزلي، حتى استطعت أن أنتج من الأنابيب اللازمة ل «باكو» بنسبة أسرع مما وضعت الخطة على أساسه، فجاءت التهاني من جديد منهالة على المصنع من «خاركوف» و«موسكو» ونشرت صورتي في الصحف، وطار إلي «إيفانتشنكو» من «خاركوف» ليشكرني بنفسه.

وقد اهتزت نفوسنا هزة الغبطة الحقيقية حين استطعنا أن نقهر ما قام في سبيل هذا المشروع الصناعي العسير من صعاب، وكانت فرحتنا بتغلبنا على ما اعترض سبيلنا من ألوف المشكلات أعظم من غبطتنا بما اعترفت لنا به الهيئات الرسمية من تقدير ، وما منحته من مكافآت مالية.

ولما كان «إيفانتشنكو» في نيقوبول دعاني ذات ليلة لعشاء، فقد تعارفنا منذ سنوات، وكنت أثق في إخلاصه، وإني وإن كنت خلال الفترة التي قضيتها عندئذ في المصنع - وهي تزيد على عام - قد ارتفعت منزلة بفضل تأييد الوزير فإنني كنت أتلوى من عذاب في فخاخ الجاسوسية، وجعلت أروي ل «إيفانتشنكو» مثلا في إثر مثل لأبين له كيف يؤدي تدخل الشرطة وتوهم وجود مؤامرات على التخريب، إلى قتل روح الابتكار وتعطيل الإنتاج.

فأجابني في نغمة حزينة: «أدرك هذا الذي تشعر به يا «فكتور أندريفتش» ولا تحسبن أن الأعلين من الرجال أوفر من ذلك حظا، فها أنا ذا رئيس لمنطقة صناعية من أكبر المناطق، وعضو في الحكومة، وشيوعي قديم، ورجل ساهم في تقويض بناء «ونتر بالاس» في ثورة أكتوبر، فقد يسبق إلى وهمك إزاء هذا أنني محل للثقة، لكن لا! فهذه الجموع من النمل والحشرات قد تكاثرت بحيث تشيع في نفسي الفزع، أنا الذي لم يعرف ما الفزع في حومات الوغى حين تتعرض الحياة للخطر، لقد حيروني بتحقيقاتهم وشكوكهم حتى لم أعد أعلم من أين أسير وإلى أين، ففيم هذا كله؟ ما أظن أحدا من الناس يعلم مجرى الأمور إلا «الرئيس».»

لما انزاح عن صدري مؤقتا كابوس الشرطة، أحسست باستقلال لشخصي إحساسا موهوما لم يدم طويلا، فتهيأ لي بفعل هذا الوهم أن أنظر بعين المتفائل إلى «دستور ستالين» الذي كان قد أذيع حديثا، فقد بدا لي أن بقاء السلطة مركزة في أيدي حزب واحد أقل خطرا وأهمية من الضمانات التي نص عليها نصا صريحا بحيث تكفل للناس حقوقهم المدنية، بل تكفل لهم ما هو أهم من هذا، وهو تقييد أنواع السجن والقبض، فلو كان هذا الدستور الجديد دليلا على اتجاه التفكير في الدوائر العليا، إذن فلا شك أننا قد اجتزنا أخبث مراحل الإرهاب.

فلا بد لحياة الإنسان من رجاء يتعلق به كما لا بد له من هواء يتنفسه، ولقد تحسست الطريق التي قد تؤدي إلى الزيادة من الحقوق الإنسانية التي يتمتع بها المواطنون السوفيت، كما تحسس الطريق إلى ذلك ألوف الألوف من الناس، وكنا في ذلك نلتمس النجاة لأنفسنا من غرق قد يغوص بنا إلى أعماق أعماق اليأس، كنا في ذلك نلتمس النجاة بكل بادرة من بوادر الأمل تبدو أمامنا مهما قل شأنها، وإذن فلو استثنينا عددا قليلا ممن رانت على قلوبهم غشاوة كثيفة من تشاؤم، فلم يروا في الدستور الجديد إلا خدعة جديدة، أقول: لو استثنينا هذا النفر القليل لصح لنا أن نقول: إن الشيوعيين تقبلوا الدستور تقبل من تتوق نفسه إلى تحقيق ما فيه.

فقد كان إحياء الأمل في نفوسنا حينا بعد حين شرطا لازما لبقائنا أحياء، لقد كنا نريد أن نسلم أنفسنا إلى إيمان مهما يكن فيه من إسراف، كنا نريد أن نخدع عقولنا ونغالط حواسنا، فكنا نحارب شكوك المتشككين في إخلاص، وكنا نلتمس المعاذير، ويمني بعضنا بعضا بما يصوره لنا التفاؤل من آمال لم نكن نؤمن بإمكان تحقيقها إذا ما خلا كل منا إلى نفسه، «فخير ما على الأرض من دساتير ديمقراطية» لم يخلق في صحرائنا السياسية إلا سرابا.

Unknown page