1 - فرار في دجى الليل
2 - طفولة روسية
3 - المجد والجوع
4 - الشباب في الجيش الأحمر
5 - قطع الصلة بالماضي
6 - طالب في خاركوف
7 - انتصار الآلات
8 - الرعب في القرية
9 - حصاد في جحيم
10 - أول ما رأيت من حركة التطهير
Unknown page
11 - سر إلينا
12 - مهندس في نيقوبول
13 - السرعة السرعة!
14 - التطهير الأعظم
15 - بداية محنتي
16 - بحث عن العدالة
17 - تعذيب بعد منتصف الليل
18 - العمال أحرارهم وعبيدهم
19 - بينما يدون التاريخ
20 - أكذوبة سيبيريا
Unknown page
21 - والقتال ناشب في أوروبا
22 - حرب لم تكن في الحسبان
23 - الذعر في موسكو
24 - الكرملن في أيام الحرب
25 - حقيقتان
26 - التأهب للسفر
27 - رعايا ستالين في الخارج
28 - الفرار من الظلم
حاشية
1 - فرار في دجى الليل
Unknown page
2 - طفولة روسية
3 - المجد والجوع
4 - الشباب في الجيش الأحمر
5 - قطع الصلة بالماضي
6 - طالب في خاركوف
7 - انتصار الآلات
8 - الرعب في القرية
9 - حصاد في جحيم
10 - أول ما رأيت من حركة التطهير
11 - سر إلينا
Unknown page
12 - مهندس في نيقوبول
13 - السرعة السرعة!
14 - التطهير الأعظم
15 - بداية محنتي
16 - بحث عن العدالة
17 - تعذيب بعد منتصف الليل
18 - العمال أحرارهم وعبيدهم
19 - بينما يدون التاريخ
20 - أكذوبة سيبيريا
21 - والقتال ناشب في أوروبا
Unknown page
22 - حرب لم تكن في الحسبان
23 - الذعر في موسكو
24 - الكرملن في أيام الحرب
25 - حقيقتان
26 - التأهب للسفر
27 - رعايا ستالين في الخارج
28 - الفرار من الظلم
حاشية
آثرت الحرية
آثرت الحرية
Unknown page
تأليف
فيكتور كرافتشنكو
ترجمة
زكي نجيب محمود
محمد بدران
الفصل الأول
فرار في دجى الليل
لقد كانت كل دقيقة قضيتها في السيارة من الحجرة المستأجرة إلى «محطة الاتحاد» في ليلة الأحد تبدو مفعمة بالأخطار، وبما لا أعرف مما تخبئه لي الأقدار، فلقد خيل إلي أن الشوارع نفسها والمباني المظلمة تعاديني وتتوعدني، وكنت قد قطعت هذا الطريق نفسه عشرات المرات في السبعة الشهور التي أقمتها بعاصمة الولايات المتحدة، قطعته وأنا جذل مرتاح النفس لا أكاد ألحظ ما يحيط بي فيه، أما في هذه المرة فقد كان كل شيء عكس ما تعودته؛ لأني كنت فيها هاربا.
وكانت الأسرة الأمريكية التي أقيم معها في واشنجتن تكرم الرجل الغريب المقيم بين ظهرانيها، وتعامله معاملة الصديق، فإذا مرضت أهمها أمري، وعنيت بي عناية غير متكلفة، وسرعان ما تطورت تلك العلاقة التي لم تكن في بداية أمرها إلا علاقة مالية محضة؛ فأصبحت علاقة إنسانية تربط قلوبنا، وكل ما كان لاختلاف لغتينا من أثر في هذه العلاقة أن أضاف إليها قليلا من الحماسة، وأحسست أن أولئك الأمريكيين الطيبين حين يشفقون على روسي بعيد عن وطنه إنما يعبرون عن شكرهم لجميع الروس، إلى حلفائهم البواسل الذين كانوا وقتئذ يصدون جحافل الألمان المغيرين في جبهة طولها ألف ميل، وكان أولئك الأمريكيون يعزون إلي أنا نفسي الفضل في كل نصر تناله الجيوش السوفيتية.
وكنت قبل فراري قد أديت أجر مسكني مدة أسبوع مقدما، ولكني مع هذا غادرت المنزل في الليلة الموعودة دون أن أودع من فيه بكلمة، وكل ما قلته لهم أني آذن لهم بتأجير حجرتي إذا اضطرتني ظروف رحلتي إلى البقاء في خارج المدينة إلى ما بعد يوم الثلاثاء؛ وذلك أني كنت أريد أن يبقى أصحاب المنزل على غير علم بمكان وجودي وبعزمي على ألا أعود إليهم إذا ما جاءهم رجال بعثة المشتريات السوفيتية يسألونهم عني.
Unknown page
وبقيت بضعة أيام في مكاتب تلك البعثة أتظاهر بأني أشكو الصداع واضطراب الصحة بوجه عام، وأشرت في صباح يوم فراري إشارة عابرة إلى عدد قليل من الزملاء أن من الخير لي «أن أبقى في المنزل طلبا للراحة»، وأني قد لا أجيء إليهم في يوم الإثنين؛ وقصدي من هذا أن أعمل جاهدا على أن أكسب يوما قبل أن يكشف أمر غيابي.
وبعد أن قبضت مرتبي عن شهر مارس أصررت على أن أسوي مستندات نفقات رحلتي الأخيرة إلى بلدة لنكستر من أعمال بنسلفانيا ورحلتي السابقة إلى تشكاجو، وتبين لي أن نحو ثلاثين ريالا لا تزال باقية لي من ذلك الحساب، وكنت أبغي من هذا ألا أترك ما يبرر اتهامي بأن المخالفات المالية هي سبب فراري، وعمدت فضلا عن هذا إلى ترتيب أوراقي جميعها على خير وجه حتى يستطيع من يخلفني أن يبدأ العمل من حيث تركته.
وما من شك في أن بعض أعضاء البعثة من رجال ونساء قد عاد إلى أذهانهم بعد فراري وبعد أن نشرت أنباء هذا الفرار جرائد واشنجتن ونيويورك في صفحاتها الأولى، أن حالهم قبل أن أفارقهم كان يمتاز بشيء من الحماسة والحرارة، وأن ضغط يدي وأنا أسلم عليهم وأقول «مع السلامة» كان أكثر من المعتاد. وما من شك كذلك في أنهم أدركوا أني كنت أودعهم الوداع الأخير في صمت وسكون، ذلك أن أحدا منهم لن يجرؤ بعد الآن على لقائي حتى ولو كان هذا اللقاء هنا في أمريكا بلاد الحرية. لقد تقاربنا أنا وبعض هؤلاء المواطنين في خلال الأشهر التي قضيناها في العمل معا، وفهم كل منا صاحبه وإن لم يتحدث إليه كثيرا، ولو أنني استطعت أن أفارقهم علنا وأظهر لهم عواطفي على الطريقة الروسية، لخف عني دون ريب بعض العبء الذي ينوء به الآن كاهلي.
وكانت ليلة الفرار ليلة ليلاء، خفيت نجومها، وبدا لي أن محطة السكة الحديدية ملأى بالإنذار والوعيد، فماذا يكون من أمري لو أنني التقيت بزميل لي فنبه من يجب تنبيههم؟ وما من شك في أن حقيبتي الملابس اللتين كانتا معي، وهذه الرحلة التي لم يصرح لي بها، ستثيران الريبة في نفسه من فوره، وماذا يحدث إذا كان الرفيق سيروف أو القائد رودنكو قد عرف خططي، وكأن الأقدار أرادت أن تحقق هذه المخاوف، فوقعت عيناي فجأة على إنسان يلبس حلة من حلل الجيش الأحمر، وما كدت أراها حتى جمد الدم في عروقي من شدة الرعب، فجذبت قبعتي حتى غطيت بها عيني، وخبأت رأسي بطوق معطفي أكثر من ذي قبل، وتسللت بجوار الجدار وظهري متجه على الدوام نحو مواطني.
واتخذت مكاني في القطار في عربة من التي يركب فيها عامة الشعب؛ وذلك لأن موظفي السوفيت كانوا يسافرون على الدوام في عربات بلمان الفاخرة، وكان في هذا ما يقيني إلى حد ما خطر لقاء أحد ممن يعرفونني، وفي هذه العربة المعتمة المزدحمة الساكنة استسلمت وحدي لأفكاري.
وكنت أدرك من زمن طويل أن هذه الساعة الحاسمة آتية لا ريب فيها؛ لذلك هيأت أسباب فراري من عدة شهور، وأخذت أترقبه وأنظر إليه على أنه خلاص لي مما كانت تعانيه نفسي من ضلالات النفاق والغيظ والاضطراب التي ألحت عليها سنين طوالا، وقدرت أن هذا الفرار سيكون وسيلتي التي أكفر بها عن تلك الآثام المروعة التي ارتكبتها مع زملائي من الطبقة الحاكمة في بلادي، والتي يؤنبني عليها ضميري.
أما الآن وقد أصبح هذا الفرار حقيقة واقعة فلم يكن فيه شيء من الحبور أو الابتهاج الذي يصحب الحرية في أول عهد المرء بها، بل شعرت من حولي بفراغ مؤلم ترددت فيه أصداء المخاوف وتبكيت الضمير بأصوات عالية، خيل إلي معها أن الجنود والبحارة المغفين في العربة الملأى بالدخان قد سمعوها بلا ريب.
وقلت في نفسي: إنني أجتث حياتي من أصولها اجتثاثا لا يبقي على شيء منها، وقد يكون اجتثاثا أبديا، وإنني من تلك الليلة أجعل من نفسي إنسانا شريدا لا وطن يؤويه ولا أسرة تضمه ولا أصدقاء يركن إليهم، وإنني لن أرى بعد هذه الليلة وجوه الأقارب والأصدقاء، وأمسك بأيديهم أو أسمع أصواتهم، وهم الذين لحمهم من لحمي وعظامهم من عظامي، كأن هؤلاء جميعا قد فارقوا الحياة، ومن أجل هذا فارقني شيء في دخيلة نفسي عظيم القيمة لي، وأيقنت أن سأحس في حياتي أبد الدهر بذلك الفراغ، ذلك الفراغ الرهيب، وذلك الموت الزؤام.
أما موقفي من البلاد التي ولدت فيها فسيكون موقف الرجل الطريد المنبوذ من حكومتها، وسيصدر النظام السياسي الذي قضيت فيه حياة كلها كدح وولاء حكما علي من تلقاء نفسه بالإعدام، ولن يفتأ عماله السريون ينغصون علي حياتي ويقتفون أثري أينما كنت، ويتتبعون خطواتي، ويراقبونني من تحت نوافذ حجراتي، وسيقضون على حياتي إذا أمرهم سادتهم بالقضاء عليها. أما هؤلاء الأمريكيون الذين أرجو أن ألقي بينهم عصا التسيار فهل يكون في وسعهم أن يدركوا ما في انشقاق شيوعي روسي على الدكتاتورية الروسية من معان وأخطار؟ ألا ما أطيب قلوب هؤلاء الأمريكيين!
وفي بلادي نفسها سيكون أصدقائي وزملائي في العمل، بله الذين يحبونني ويعطفون علي، سيكون هؤلاء جميعا موضع الشبهات وغرضا للمثالب والاتهامات، وإذا شاءوا أن يظلوا أحياء من بعدي كان عليهم أن يمحوا ذكراي من صدورهم، وإذا أرادوا أن ينجوا بأنفسهم من العذاب فعليهم أن ينكروني ويتبرءوا مني، كما كنت أتظاهر في أيامي الخالية بأني أنكرت من جروا على أنفسهم انتقام الدولة السوفيتية وتبرأت منهم.
Unknown page
ترى هل أنا على حق من الوجهة الأدبية في أن أعرض إلى الخطر حياة أولئك الرهائن الأبرياء في الروسيا إذا كان في هذه التضحية إراحة لضميري ووفاء ما علي من دين يقتضيه مني الحق كما أراه أنا؟ لقد كانت هذه أقسى مشكلة واجهتني، وماذا كان يرى في عملي هذا جدي التقي فيودور بنتليفتش ذلك الرجل الصالح الذي قضى حياته في طاعة الله وخدمة القيصر لو أنه كان وقتئذ حيا يرزق؟ وماذا كان يقول عني أبي ذلك الثائر الروسي المتعصب لآرائه لو أنه بقي على قيد الحياة بعد العامين اللذين قضاهما في ظل الاحتلال الألماني الوحشي؟
لقد كان لي في هذه الأفكار المتلاحقة شيء من التعزية على الأقل. إن جدي لم يكن يدرك قط سبب وقوف ابنه ووالدي أندراي في وجه القيصر وتقاليد الأجيال الطويلة، ولكن أندراي كان قوي الإيمان بعقيدته الجديدة الغريبة، وكان لا يتردد في الذهاب إلى السجن في سبيلها، ومن أجل ذلك كان جدي يختم ما يكيله له من عبارات اللوم بأن يدعو له بخير. أما أبي فكان يحب زوجته وأبناءه، ومع ذلك فإنه لم يتردد قط في أن يعرضنا جميعا للجوع والدموع ليخدم بذلك القضية التي كان يدافع عنها، ولم أكن أشك مطلقا في أنه هو كان يفهم موقفي ويرتضيه لو أنه طال به الأجل.
وكان من أسباب عزائي - وإن يكن عزاء شديد الوقع على نفسي - أن أفكر أن أخي قنسطنطين الذي كان طول حياته بالقرب مني قد مات، قد قتل وهو يدفع عن بلادنا الغزاة النازيين، وهو ضابط في جبهة القوقاز، وإذن فهل يصب رجالنا الرسميون جام غضبهم على عجوز مسكينة لا سند لها ولا معين قد خرجت توا من أحد معسكرات الاعتقال الألمانية، يصبون عليها جام غضبهم لأنها والدتي؟ أو هل يثأرون لأنفسهم مني في شخص المرأة التي ظلت زوجة لي ثلاث سنين لم تعرف في خلالها شيئا عن شكوكي السياسية ولا عن فراري؟
كانت هذه الأفكار لا تزال تتردد في خاطري، وكان وقعها مؤلما لنفسي، ولكن صداها ضعف بعض الشيء وإن لم يخفت كله حين وقف بي القطار في نيويورك في الساعة الثالثة من صباح يوم الأحد، ورأيت الضابط الروسي السالف الذكر مرة أخرى على طوار المحطة يحمل في يده حقيبة ملابس، ولا يعرف شيئا عن وجودي في ذلك المكان، غير أني تباطأت في سيري؛ لأطيل ما بيني وبينه من بعد.
واتخذت لنفسي اسما إيطاليا تسميت به حين نزلت في فندق حقير في أحد أطراف المدينة، من ذلك النوع الذي تؤدي فيه أجر حجرتك مقدما، وكأن هذه الحجرة قد أعدت خصيصى لمن يريد الانتحار، فقد كانت ضيقة، مقبضة الرائحة، وأغلقت بابها علي وأخذت أكتب في ضوء مصباحها الكهربائي الضئيل بيانا نشرت بعض الصحف الأمريكية بعض ما جاء فيه بعد يومين من ذلك الوقت.
ولو أن إنسانا شهد مسلكي الخفي في تلك الأيام العصيبة، وعرف ما قضيته من الليالي ساهدا مؤرقا، واطلع على فراري خفية من واشنجتن، واختفائي في نيويورك؛ لظن أني ارتكبت جريمة شنعاء، وأني أعمل على تضليل رجال الشرطة، ولكنني في واقع الأمر لم أسرق ولم أقتل، وكل ما فعلته أني اعتزمت التخلي عن عملي بوصفي مبعوثا اقتصاديا لحكومتي.
وما من شك في أن الأمريكيين على بكرة أبيهم لا يوجد بينهم من يعرف أن ليس بين الجرائم التي يرتكبها أحد أبناء الدولة الدكتاتورية جريمة أعظم شناعة وأوخم عاقبة من الفرار؛ ذلك أن هذا العمل هو الكفر بالدولة إلههم الدنيوي، وهو لا يؤدي إلى اعتبار «المجرم» خارجا على وطنه مهدر الدم وكفى، بل إنه يحرم عليه تبادل الرسائل مع أحبابه من أهل بلده ويجلله العار أينما حل، وإذا جرؤ مواطن سوفيتي على مقابلته أو إظهار العطف عليه كان في ذلك انتحاره السياسي، بل قد يكون فيه انتحاره الجسمي.
ولم يكن العمل الذي أقدمت عليه من الخطى التي يخطوها روسي سوفيتي، وخاصة إذا كان شيوعيا قديم العهد بالشيوعية وذا مركز ممتاز في صفوف البيروقراطية، وهو مستهتر أو مندفع بمؤثرات وقتية. لقد كان هذا عملا نبتت أصوله في أعماق عقله من زمن بعيد، ثم ترعرعت ولم يكن في الإمكان اجتثاثها، وليست أسباب العمل الذي أقدمت عليه مما يطفو على السطح، بل هي مما يجب البحث عنه في الأعماق البعيدة، وفي طيات حياتي كلها.
وتحدثت إلى عدد من الأصدقاء في يوم الإثنين الثالث من شهر أبريل سنة 1944م، وفي مساء ذلك اليوم نفسه نشر خبر فراري في الصفحة الأولى من جريدة نيويورك تيمس، وكان نشر الخبر في هذا الوقت من الأهمية بمكان، بل لعله كان السبب في نجاتي من الموت، فلو أن حراسي السوفيت علموا بفراري قبل أن يعرفه عامة الشعب لاتهمتني السفارة الروسية في واشنجتن لدى وزارة الخارجية الأمريكية بأني جاسوس ألماني، ولطلبت إليها أن تقبض علي فورا لأنقل إلى اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية، أما وقد كشفت الحقائق أمام الشعب الأمريكي وأخذ هذا الشعب يرقب فصول الرواية، فإن السفارة السوفيتية أصبحت عاجزة كل العجز عن عمل شيء، أو عاجزة عنه وقتا ما على الأقل.
ونشرت التيمس الخبر بالعنوان التالي: «موظف سوفيتي في هذه البلاد يعتزل عمله»، أما الخبر نفسه فقد بدأ على النحو الآتي:
Unknown page
بالأمس أعلن فكتور أ. كرافتشنكو أحد موظفي بعثة المشتريات الروسية في واشنجتن استقالته من عمله، ووضع نفسه «تحت حماية الرأي العام الأمريكي»، بعد أن اتهم الحكومة السوفيتية في هذه الاستقالة بأنها فيما تعلنه من رغبة في التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى إنما تجري على سياسة نفاق «ذات وجهين»، واتهم حكم ستالين بالعجز عن توفير الحريات السياسية والمدنية للشعب الروسي.
ويحمل مستر كرافتشنكو جواز سفر كتب فيه أنه «ممثل الحكومة السوفيتية» ... وهو ضابط في الجيش الأحمر، وكان قبل أن يرسل إلى الولايات المتحدة في شهر أغسطس الماضي مديرا لعدد من دور الصناعة الكبيرة في موسكو، ومن قبل هذا كان رئيسا لقسم الذخائر الملحق بمجلس وزراء الجمهورية الروسية الاشتراكية السوفيتية المتحدة، وهي أكبر الجمهوريات المنضمة إلى اتحاد الجمهوريات السوفيتية، وكان إلى وقت فراره عضوا في الحزب الشيوعي الروسي منذ عام 1929م، وشغل عدة مناصب هامة تحت الحكم السوفيتي.
ورفض مستر كرافتشنكو لأسباب وطنية أن يرد على الأسئلة الخاصة بمسلك الحكومة السوفيتية في الشئون العسكرية، أو أن يكشف عن شيء من التفاصيل المتعلقة بالأمور الاقتصادية، وبخاصة ما يتصل منها بتطبيق قانون الإعارة والتأجير على يد بعثة المشتريات السوفيتية، أو في بلاد الروسيا نفسها.
وتلت هذا النبأ فقرات من البيان الطويل الذي ظللت أكدح في إعداده طوال يوم الأحد. لقد حوى هذا البيان عصارة نفسي، ولكن شيئا من قوته لم يظهر من خلال المداد البارد الذي كتبه به الطابع؛ ذلك أن أبناء البلاد الحرة قلما يجدون في تجاربهم ما يحملهم على تصديق مشاعري ومسلكي، وهم لا يرون في أية مأساة مهما بلغت من الشناعة إلا أنها أمر شاذ خارج على المألوف.
وحاولت في هذا البيان أن أشرح للشعب الأمريكي، ولرفاقي في بلدي ولأصدقائي في بعثة واشنجتن، الأسباب التي دفعتني إلى أن أخطو هذه الخطوة الرهيبة، ولكني كنت كلما أمعنت في الكتابة، ومحوت ما كتبت، ثم أعدت كتابته من جديد، بدا لي العمل ميئوسا منه؛ ذلك أني لم أجد في لغة من اللغات التي يتكلمها البشر ألفاظا ألخص بها حياتي كلها.
ولم يكن عزمي على قطع صلاتي بالحكم السوفيتي - وهو يبلغ مبلغ إعلان الحرب إلى هذا الحكم وإلى كل دولة بوليسية - أمرا عارضا نشأ عفو الساعة، بل كانت أصوله متغلغلة في كل أطوار حياتي وأفكاري وتجاربي؛ وهو بهذا المعنى لم يكن قرارا اتخذته، ولا عملا من أعمال الإرادة، بقدر ما كان نتيجة منطقية وغاية محتومة، أدت إليها عملية طويلة متصلة الحلقات.
وإذا أردت أن أشرحها شرحا وافيا وجب علي أن أعود إلى الأيام الماضية، أيام الحماسة والغيرة على العدالة التي كانت تتأجج بين جوانحي منذ طفولتي على ضفاف الدنيبر، وإلى أيام الهيام بالحرية الذي كان يملأ قلبي وأنا غلام، حين كانت الثورة والحروب الأهلية تتأجج نيرانها في مدن أوكرانيا وسهوبها، وإلى حماسة الشباب الشيوعي، ثم إلى حياة العضو العامل في الحزب الشيوعي، وإلى الشكوك والإخفاق المتكرر، والمحاولات اليائسة التي توالت عاما بعد عام، والتي كانت تسند عقيدة منهارة مزعزعة بما تبثه في نفوس معتنقيها من أوهام خداعة قوية.
وقصارى القول أني إذا أردت أن أشرح هذا كله وجب علي أن أقص قصة حياتي من أولها إلى آخرها، وحياة الروسيا من حيث صلتها بحياتي نفسها.
الفصل الثاني
طفولة روسية
Unknown page
لقد كانت الثورة الروسية التي شبت نارها في عام 1905م أكثر من تجربة شخصية لأبناء أندراي فيودوروفتش كرافتشنكو الثلاثة، وكنت أنا ثاني أولئك الأبناء، إذ كنت أصغر من قنسطنطين وأكبر من يوجين. لقد كانت هذه الثورة بالنسبة إليهم حقيقة ذات معنى خاص عميق، تحيط بها في نظرهم هالة روائية لم تقلل الهزيمة من سناها، بل بدت لهم هذه الهزيمة نفسها شامخة متلألئة، وقد انطوت هذه الثورة على حوادث أوفت على الغاية في البسالة والرهبة والمثل العليا والتضحية، تعد هي المعيار الذي تقاس به هذه القيم فيما تلاها من عهود.
نعم، إنها كانت ثورة ضيقة النطاق، لم تقتصر على مدينة إيكترنوسلاف فحسب بل اقتصرت فضلا عن هذا على الاجتماعات والوقائع الحربية والاغتيالات التي كانت لأبي يد فيها، وأشرقت في سماء روسيا لأول مرة في عام 1905م أسماء عظيمة قدر لها أن تكون ذات أثر خالد في التاريخ؛ ولكن التاريخ وحده لم يكن ليضارع قط ما نعلمه نحن علم اليقين، وهو أن الزعيم الحق والبطل الذي قاد هذه الثورة هو والدنا الشديد البأس، البهي الطلعة، النحيف الجسم، المفتول العضلات، ذو الشعر الأسود الملتوي، والعينين الزرقاوين البراقتين.
والحق أن خيالنا هذا العزيز علينا كان ينطوي على شيء من الحقيقة، فقد كان النذير الأول للثورة إضراب عام بدأ بإضراب عمال السكك الحديدية، وظل هو المحور الذي يدور حوله الإضراب العام كله، وكان أبي، وهو موظف في مصانع السكك الحديدية في إيكترنوسلاف، عضوا في لجنة الإضراب، وظل يعمل وسط هذا الكفاح الميئوس منه، وجوزي بعد فشله على حماسته شر الجزاء.
وكثيرا ما سمعنا في عهد شبابنا تفاصيل هذه الثورة، حتى أضحت وكأنها قد نسج منها برد حياتنا لحمته وسداه، فلم نكن نعرف حوادثها فحسب، بل كنا نعرف فوق ذلك أسباب هذه الحوادث؛ ولذلك لم أكن في حاجة إلى أن ألقن كره الأوتوقراطية وحب الحرية والعدالة والمساواة، بل كنت أعد هذا الكره من الأمور الطبيعية البسيطة، كما يعد رفاقي في اللعب تعظيم ذوي الحلل الرسمية والسلطان.
وظلت أحداث ثورة 1905م التي قصها علي أبي وأصدقاؤه، والتي قوت أثرها في نفسي اتصالاتي بأمثالها من الحوادث فيما بعد، ظلت أحداث هذه الثورة منقوشة في عقلي، حتى لأستطيع الآن أن أحس حوافر خيل فرسان القوزاق، وكأنها قصف الرعد، تطأ أهل بلدتنا رجالا ونساء، وليس صوت مما سمعته في طفولتي أوضح من صلصلة السيوف الرهيبة، وإني لأتصور الآن أني واقف خلف المتاريس المقامة من عربات النقل المقلوبة، والأثاث المكدس في الطرقات والحجارة المقتلعة منها، وأخشاب الطرق الحديدية، وأرى بعين الخيال رفاقي يخرون صرعى من حولي وهم يئنون ويتوجعون، وجنود القوزاق يمرون بجثثهم كالموج المتلاطم، يصبون علينا جام غضهم وسخطهم، وأتصور نفسي في تيه الشوارع والأزقة الملتوية في حي العمال، يطاردني فرسان الجراكسة ورجال الشرطة في ظلام ليالي الشتاء.
ثم يخيم على المنظر سكون رهيب كسكون القبور، وتبدو جثث الموتى من حولي بمنظرها البشع الرهيب، والناس من حولي، ومناقع الدم تتسع فوق الثلج، كما كانت تتسع بقع الحبر على الورق الخشن الموضوع على مكتبي في المدرسة.
ولو أن أبي قد قبض عليه في تلك الليلة من ليالي شهر أكتوبر لشنق مع من شنق من زملائه أعضاء لجنة الإضراب كما يشنق العصاة المتمردون، لكنه فر، ولم تطاوعه نفسه على أن يفر من غير أن يلقي آخر نظرة على زوجته وعلى قنسطنطين وعلى بابشكا (جدتي لأمي) وكانت تقيم معنا دائما، ومن أجل ذلك تسلل في منتصف الليل وسط شوارع فرعية جانبية، مختفيا وسط الظلال الكثيفة، من بيت إلى بيت، حتى أقبل على منزلنا رقم 8 في شارع كانتناي بالقرب من طريق بشكين الكبير.
فلما وصله هاله ما رأى، وكاد يذهب الروع بلبه، فقد أبصر أنوار المنزل كلها مضاءة، وكان في وسعه أن يسمع ما فيه من حركة قائمة على قدم وساق، ولم يبق لديه شك في أن رجال الشرطة قد دهموا المنزل وأخذوا يفتشونه، ومع هذا فلم يكن في وسعه أن يعود أدراجه مهما يتعرض له من خطر، دون أن يلقي نظرة أخيرة على منزله وعلى أسرته اللذين قد لا يراهما قط بعد ذلك الوقت، فأخذ يتسلل خفية حتى وصل إلى النافذة، ورفع نفسه في حذر شديد وأطل منها إلى داخل الدار.
ثم أدرك أنه كان مخطئا في ظنه، وفتحت جدتي الباب حين سمعت طرقه الخفيف عليه، وأشارت إليه أن يظل صامتا، وأراد أن يذهب إلى حجرة النوم ولكنها أوقفته وقالت له: «إن تانيا نائم.» ثم تبسمت وقالت: «لقد رزقت ولدا آخر.» وذهبت هي نفسها إلى حجرة النوم ثم عادت من فورها وعلى ذراعيها حزمة صغيرة وضعتها بين ذراعيه.
وكانت هذه ليلة مولدي، ليلة الموت خلف المتاريس، ودوي البنادق وصلصلة السيوف الدامية، وصراخ الألم في الطرقات الرثة الملتوية.
Unknown page
وأخذت أصرخ فجأة صراخا عاليا أيقظ أمي من نومها، وقال أبي في حنو: «استمعوا إلى هذا الثائر!» وظل بعدئذ يسميني في ساعات حنانه وعطفه باسم الثائر، وبعد أن جاوزت سن الشباب وشغلتني أحداث الثورة الظافرة كان ينطق أحيانا بهذا الاسم التهكمي ويلوي به شدقيه التواء كان أشد وقعا علي مما يظن.
وقضيت بين أبي وأمي تلك الساعات الأولى من حياتي قبل أن يودع أبي زوجته، وليس في وسع إنسان كائنا من كان أن يقنعني بقوة المنطق وحده أنني لم أسمع ما نطق به وقتئذ من ألفاظ المعزة والحنان، أو أنني لم أره يطبع القبلات على يديها من أولهما إلى آخرهما، أو أنني لم أشهد بعيني أبي وجه الأم الشابة المصفر الجميل بين كومة الوسائد الناصعة البياض.
وكان أبي في أثناء التسع السنين الأولى من حياتي غريبا في بيتنا لا يغشاه إلا حينا بعد حين؛ ذلك أن فترات حريته لم تكن تطول حتى تجعله بيننا أبا عاديا مألوفا كما كان غيره من آباء سائر الأطفال في شارعنا، وكانت زياراته لنا في أثناء هربه تثير مشاعرنا إلى أقصى حد، وكنت أنا أنظر إلى هذه الزيارات كأنها جزء من دورة الفلك، مثلها في ذلك كمثل بيض عيد الفصح الملون، أو أشجار عيد الميلاد.
وصورت لنفسي صورة له من الإشارات العابرة والأقوال القصيرة، ومن عبارات العطف التي كنت أسمعها من أمي ومن بابشكا، ومما كان ينتابنا من روع مفاجئ وخوف على سلامته، ومن الهمسات المتفرقة التي كان ينطق بها رفاقه الثوار، وكثيرا ما كان بيتنا مأوى للرجال المطاردين، وللطلاب ذوي الوجوه الزاهدة المتقشفة والحلل الرسمية، والرجال ذوي اللحى الكثة القادمين من ذلك العالم الغريب المجهول المروع الذي يدعونه سيبيريا، وقد أصبح الزوار الذين يمرون بنا سراعا وما يروونه من قصص عن فرارهم من السجون، وعن الموظفين المرتشين، وكلمات السر وثياب التخفي، أصبحوا هم وقصصهم هذه جزءا من الصورة التي رسمتها لأبي في خيالي.
وكان قنسطنطين الذي يكبرني بثمانية عشر شهرا يأتيني بكل ما يعرفه من الأخبار مهما كانت صغيرة.
وكان يقول لي أحيانا وهو يتصنع الكبرياء: «يجب أن تذكر يا فيتيا أن بابا ليس لصا أو قاتلا بل هو رجل سياسي.»
فكنت أجيبه وأنا لا أفهم معنى ما يقول: «نعم، يا كوتيا.»
وثمة ليلة من ليالي عيد الميلاد - ثالث عيد ميلاد شهدته على هذه الأرض - لا تبرح ذكراها ماثلة في مخيلتي بكل ما حوته من تفاصيل، فهي صفحة من كتاب حياتي كثيرا ما أرجع إليها وأنا حزين، ولكنه نوع من الحزن اللذيذ.
فقد أيقظتنا بابشكا من نوم عميق بعد يوم من أيام العطلة، ولا أزال أرى بعين الخيال لعبنا الجديدة منثورة على أرض الحجرة العارية.
وقالت لنا وهي تنتحب: «تعاليا أيتها اليمامتان الصغيرتان وودعا أباكما المسكين.»
Unknown page
ثم أمسكت أنا بإحدى يدي جدتنا وأمسك قنسطنطين بالأخرى، ونحن بملابس النوم الطويلة لم نصح تماما من نومنا، وقد أخذت منا الحيرة كل مأخذ، وسارت بنا إلى حجرة الاستقبال، وعيناي لا تقويان على النظر إلى الضوء وإلى الجمع المحتشد فيها، وكان بين هذا الجمع أحد أصدقاء الأسرة، أما الباقون فكانوا غرباء في حلل رسمية.
وكانت الشموع لا تزال موقدة فوق شجرة عيد الميلاد، ولكن أمي أخذت تبكي في غير صوت وهي تضع الملابس في حقيبة، ثم تأخذ بابشكا بيدينا وتقودنا إلى حيث كان المصباح المقدس في الركن الذي كانت به صورة المسيح، فنخر معها راكعين، وتخافت هي بالصلاة ثم تسجد على الأرض، ويأتي رجل أعرف أنه أبي فيرفعني ويضمني إلى صدره بقوة، ويقبلني أكثر من مرة، ولكنه في هذه الليلة يبدو في نظري غريبا، فيخيل إلي أن وجهه عار قد أزيلت منه لحيته وشارباه التي تعودت أن أراها، ثم يرفع كوتيا من ذراعيه ويقبله، ثم تقودنا جدتنا إلى خارج الحجرة.
وأرى عند الباب - ولسبب لا أعلمه يبقى هذا الجزء من الصورة ماثلا أمامي أكثر من أي جزء آخر منها - شرطيا ضخما ملتحيا ذا أشرطة كثيرة على حلته يصرخ في غير حياء وتنحدر الدموع الكبيرة فوق شاربيه المرتجفين.
وعرفت فيما بعد أن أبي كان مختفيا، وأنه اعتزم أن يزور أسرته في ليلة عيد الميلاد، وكان رجال الشرطة يعرفون من تجاربهم الخاصة أن الفارين يعرضون أنفسهم في بعض الأحيان لخطر القبض عليهم باجتماعهم بأحبابهم في مثل هذه الأعياد الهامة، فانقضوا على بيتنا، ثم أخذوا يفتشون الدار، وأتاحوا للثائر ساعة من الزمان يحزم فيها متاعه قبل أن يرحلوا به.
وهناك صفحة أخرى في سجل طفولتي الخاص كثيرا ما أقلبها:
يقبل علينا ذات مساء ونحن جلوس حول مائدة العشاء طالب علم طويل القامة بهي الطلعة، وتملأ له أمي قدح شاي من الغلاية الكبيرة البراقة، وأدرك أنا من ارتجاف يدها واهتزاز قدح الشاي أن الشاب يحدثها عن شيء ذي بال.
فهو يقول لها إن كل شيء قد أعد للفرار من السجن في تلك الليلة، وإن أندراي فيودوروفتش سيكون في منزله قبل منتصف الليل إذا لم تحدث عراقيل ليست في الحسبان، ولكنه لن يقيم في المنزل أكثر من بضع دقائق، وإن من واجب والدتي أن تعد له بعض الأشياء اللازمة لرحلته، وإنه قد أعد له مخبأ في إيكترنوسلاف، وجهز له ما يحتاجه من أوراق تحقيق الشخصية.
وقد أسفنا كل الأسف لأنا ألقينا كلنا على فراش النوم قبل أن نعرف خاتمة هذه القصة المثيرة.
وأكثرت أمي هي وبابشكا من البكاء في اليوم الثاني، وأخذت كلتاهما تعزي الأخرى، ثم تعودان إلى البكاء، وجاء طالب العلم الطويل أكثر من مرة وهو ممتقع الوجه، مفعم القلب بالحزن، يحمل لهما آخر الأنباء.
وتبين أن المؤامرة المدبرة للفرار من سجن إيكترنوسلاف قد باءت بفشل ذريع، وكان سبب فشلها من غير شك أن كان بين مثيري الفتنة جاسوس، وأدى الاضطراب إلى قتل عدد من الحراس وكثير من المسجونين، وسرعان ما غلب المتمردون على أمرهم وإن كانوا قد استطاعوا أن يحصلوا على عدد قليل من الخناجر والمسدسات، هربت إليهم خلال الأسابيع الطويلة التي قضوها في إعداد عدتهم، وقد خلدت المذبحة التي وقعت في تلك الليلة هي وهزيمة المسجونين السياسيين في تاريخ الثورات الروسية.
Unknown page
ويبدو أن أبي جلد حتى كاد يقضى عليه، وقد ظل طول حياته يفخر بآثار الجراح التي أصابته في هذا الحادث، وأخذ إلى مستشفى السجن، وأكبر الظن أنه سيحاكم هو وعدد من زعماء الثورة إذا بقي على قيد الحياة، وقد يحكم عليه بالأشغال الشاقة في سيبيريا، وربما حكم عليه في هذه المرة بالإعدام.
وجاء الطالب مرة أخرى بعد عدة أشهر من ذلك الوقت، وجاءت معه في هذه المرة فتاة ممشوقة القد بارعة الجمال، وسرعان ما أخذت أمي وهي مضطربة مهتاجة تلفنا في معطفينا وتقول لنا: «إذا ظللتما صامتين وفعلتما ما تؤمران به فإنكما ستريان أباكما.»
ووقفت خارج بابنا عربتان، ركب الطالب والفتاة في إحداهما، وركبنا نحن كلنا في الأخرى، وتقدمت عربة الطالب، وسارت عربتنا من ورائها وعلى مسافة منها لا تترك مجالا للريبة في أمرها، واجتزنا على هذه الحال طريق بشكين الواسع، وسرعان ما كنا في قلب المدينة على مرأى من السجن القديم الكئيب، وتقف العربة لحظة أمام أحد أبراجه الأمامية، وكانت هذه هي الإشارة المتفق عليها، ثم تواصل سيرها، وحين تصل عربتنا إلى هذا المكان نفسه ينزل السائق ويعبث بجل الفرس.
وتبرق عينا والدتي وتلتهبان من شدة الاهتياج وتهمس في آذاننا: «ها هو ذا أبوكما، وتشير إلى نافذة في البرج، وأحاول جهدي أن أرى شيئا، ولكني لا أبصر إلا شبحا أسود خلف إحدى النوافذ ذات القضبان الحديدية يلوح بمنديل، وكان رأس الرجل الذي يشير إلينا حليقا براقا، وتنحدر الدموع على وجنتي والدتي ويصيح كوتيا قائلا: «بابا! بابا!» ثم يصعد السائق إلى مكانه ويضرب جواده بسوطه، فيعدو الجواد، وتنظر أمي إلى ورائها، وتلوح بيديها ما دام في وسعها أن ترى البرج.
ونجد الطالب والفتاة في انتظارنا عند مكان متفق عليه في البستان، ويقبل الطالب يد والدتي، ويحملنا بين ذراعيه القويتين، ويملأ جيوبنا بالحلوى، وكذلك تحنو علينا الفتاة الجميلة حنوا شديدا، وهكذا كان اليوم كله يوما خالدا، بما حواه من أحزان وخطر واهتياج، وكثيرا ما أفكر في ذلك اليوم حين أنفرد بنفسي، وتنتابني المخاوف فأشعر باطمئنان وهدوء لسبب لا أعرفه.
وكثيرا ما قالت بابشكا وهي تشير إلى المصباح القائم في ركن الصورة المقدسة وترسم على جسمها علامة الصليب: إن معجزة من المعجزات هي التي أنجت أبي من الشنق أو النفي إلى سيبيريا؛ ذلك أن المسجونين الذين ينتظرون حكم الإعدام كانوا يوضعون في ذلك البرج بالذات، ولا يؤذن لهم باستقبال الزوار، ولكن الحكم خفف على أبي لسبب لا نعلمه إلى الحبس مدة غير طويلة.
وكنت وقتئذ أصغر من أن أفكر كيف تستطيع أسرة كرافتشنكو أن تعيش، ورب الأسرة الذي يكسب لها أقواتها في داخل السجن، وخاصة بعد أن زادت شخصا بعد مولد أخي يوجين ، والواقع أن بعض رفاق أبي في القضية الوطنية كانوا يمدوننا ببعض العون، كما أن عددا قليلا من العمال في مصانع السكك الحديد كانوا يأتوننا ببعض الهدايا، وكانت تصل إلينا في بعض الأحيان هدايا من الدجاج والبط والفاكهة والخضر من ألكسندروفسك حيث يسكن جداي لأبي، ولم أر شيئا غير عادي في أن والدتي كانت تعمل على الدوام في خياطة الملابس لغيرها من الناس، حتى في الأوقات التي كانت فيها ملابسنا نحن في حاجة إلى الإصلاح.
وحدث ذات ليلة - وأنا بين الخامسة والسادسة من عمري - أن أرقت ولم أستطع النوم، فتسللت خفية على أطراف أصابع قدمي إلى باب حجرتي وفتحته في حذر شديد، فأبصرت أمي مكبة على الخياطة في ضوء مصباح الكيروسين، وكلما فكرت في أمي الآن بعد طول السنين عادت إلي أحيانا صورتها كما رأيتها في تلك الليلة، يغشاها الضوء بشعرها البراق ووجهها الحزين.
فسألتها: «لم لا تأوين إلى فراشك يا ممشكا؟»
فقالت وهي تبتسم: «لم أتعب بعد من العمل، ولكن لم لم تنم أنت؟ لا بأس تعال إلي يا ولدي؛ لأني أريد أن أتحدث إليك.»
Unknown page
وقطعت الخبز بأسنانها، وألقت بعملها إلى جانبها، وأجلستني في حجرها.
وقالت لي: «إنك ولد طيب ماهر، ولا شك عندي في أنك ستفهم ما أقول، إن لم يكن الآن ففي المستقبل حين تكبر، فاستمع إلي! ليس من السهل أن تطعم كل هذه الأفواه مهما طال عملي بالليل، هذا إلى أن أباك ترسل إليه أشياء من حين إلى حين.
وسيكون الأمر أسهل قليلا يا فيتيا حين تذهب للإقامة مع جدك فيودور بنتليفتش في مدينة ألكسندروفسك، فهو وجدتك الأخرى وعمتك شورا يحبونك حبا جما، وستذهب من عندهم إلى المدرسة، ونذهب نحن كثيرا لزيارتك، وستأتي إلينا غدا عمتك شورا لتأخذك معها، والآن اذهب إلى فراشك.»
وأبعدتني عن حجرها بغلظة، ولكني عرفت وقتئذ أنها تبكي.
وكانت ألكسندروفسك - التي سموها زبرزهي بعد الثورة - بلدة نظيفة هادئة من بلاد الريف، تجري الحياة فيها مطمئنة، وكأنها ستجري مطمئنة أبد الدهر، بين نهر الدنيبر المتسع الصافي الماء والغابات الكثيفة القريبة منها، وكانت حياة هذه البلدة لا تزال وثيقة الصلة بالتربة الأوكرانية وإن أقيمت فيها بضعة مصانع من الآجر والقرميد، وبضعة مصاهر للمعادن، وقليل من الأعمال الصناعية الأخرى في بدايتها، وكان في معظم بيوتها حدائق تنتج الخضر للأسواق، وبساتين كثيرة منزرعة، وكانت كل ذراع منها، كالمكان الذي أصبح الآن مركز حياتي الجديدة، تعج بالدجاج والبط والإوز والخنازير.
وبدا هذا المكان في عيني غلام نشط في السادسة من عمره، قضى حياته السابقة في مدينة إيكترنوسلاف الكبيرة، بدا هذا المكان مثيرا لعواطفه طوال إقامته فيه، وكان عطر التوابل يفوح شذاه من حوانيت البذور، وكان أي عطر منها كفيلا بأن ينسيني حنيني إلى مسقط رأسي، وكنت أقضي بعض الوقت أرقب الشرر يتطاير من حوانيت الحدادين، أو أشاهد الرجال والنساء يكدحون حول قمائن الآجر التي ينبعث منها الدخان.
وكان الشارع الرئيسي في البلدة يموج في أيام الأسواق بعربات النقل التي يمتلكها الزراع، وبالرجال يرتدون ملابس ملونة أو جلود الضأن، وبالنساء في أثواب فضفاضة كالتي تلبسها الدمى في بلدنا، وأبناء القرويين الحفاة ينظرون إلينا نحن أبناء الحضر على استحياء، وكانت تقوم على أطراف ألكسندروفسك ضياع الخضر الواسعة التي يمتلكها البلغاريون، ومن وراء هذه الضياع تمتد الأدغال التي ينشر فيها الغجر عربات نقلهم الزاهية المزخرفة، وينصبون فيها خيامهم، ويوقدون فيها نيران معسكراتهم في الليالي الطوال.
ولم يكن أهل ألكسندروفسك من ذوي الثراء الواسع أو الفقر المدقع، وإن يكن فيها أسر قليلة تعيش بالتسول وأسر قليلة أخرى موسرة كأسرة شتشيكتهين التي كانت تقيم في قصر كسي بالقرميد الأحمر، وكان في المدينة داران للخيالة تفخر بهما على كثير من المدن، وكان شيوخ الزراع إذا رأوا الأشباح تقفز على الشاشة لأول مرة يرسمون الصليب على صدورهم ليتقوا أذى هذه الشياطين، وأقبلت على البلدة من كيف أو أودسا في الخمس السنين التي أقمتها فيها فرقة من الممثلين لتقضي فيها أسبوعا تمثل فيه بعض المسرحيات، ولكن أكثر من كنت أشاهدهم فيها هم المشعوذون واللاعبون على الحبال وغيرهم من ذوي الملامح الأجنبية، ومعهم الدببة اللاعبة، وكثيرا ما كان هؤلاء يجتذبون الجماهير إلى البستان.
وكان آل كرافتشنكو يعيشون عيشة بسيطة ولكنها خالية من الضنك من معاش وسط يكمله أجر بيتين من بيوتهم الثلاثة الصغيرة، وكانت هذه الأسرة تتألف من جدي فيودور بنتليفتش وجدتي نتاليا مكسمفنا، ومن شورا التي أنجباها في شيخوختهما، وكانت الأسرة تحصل فوق هذا على قليل من المال في كل شهر نظير ما تمد به الجيران من الماء؛ ذلك أن أولئك الجيران كانوا يلقون من آن إلى آن قطعة من النقود الصغيرة في ثقب صندوق حديدي نظير أخذهم الماء من الفناء الخلفي لمنزلنا.
وكان جدي يحتفظ بمفتاح الصندوق، ولكن عمتي شورا حذقت بطول المران طريقة إخراج النقود الصغيرة منه لتؤدي بها ما لم يحسب حسابه من النفقات، دون أن يعلم بذلك والدها رغم شدته وحرصه، وسرعان ما شاركها في هذا السر ابن أخيها القادم من إيكترنوسلاف، وأحس بما تقترفه عمته من إثم، ولكن إحساسه هذا لم يكن من القوة بحيث يحول بينه وبين قسطه من الغنيمة، وكنت أتقاضى منها ثلاث كوبكات
Unknown page
1
كل أسبوع نظير معاونتي إياها في مسح البلاط، وهو قدر يكفي ثمن تذكرة لدار الخيالة ولشراء قطعة من الحلوى، وكانت تحبوني بقدر آخر من النقود في كل أسبوع نظير ابتعادي عنها إذا زارها خطيبها.
وكان بستاننا الضيق الرقعة وحديقتنا يمداننا بالخضر الطرية والمجففة، وبالفاكهة والبطيخ طوال العام، وبطائفة أخرى من المربيات الفتانة المختلفة الأنواع التي كانت بابشكا تفخر بها عن جدارة، وإن أنس لا أنس فصل عمل المربيات، فأنا أذكر على الدوام الأواني النحاسية تفيض على جانبها عصارة الفاكهة، وعبير السكر المغلي، والليالي العجيبة التي كنا نظل نجمع فيها الكرز حتى تتخضب أيدينا بالحمرة الداكنة.
وكان فيودور بنتليفتش في نحو الثمانين من عمره حين جئته لأقيم معه، وكان رجلا متوسط القامة قوي البنية عريض المنكبين معجبا بنفسه، ذا لحية صافية البياض وبطن كبير، وقد اشترك في الحرب التركية الروسية التي دارت رحاها في عام 1878م بقيادة شبليف، وظل بعدئذ في الخدمة عدة سنين تقاعد بعدها وهو برتبة ضابط صف، أما نتاليا مكسمفنا فكانت تصغر زوجها باثني عشر عاما، وكانت سيدة عجوزا وديعة أنيقة البزة، ذات عينين صافيتين براقتين، حلوة الفكاهة، إذا نطقت بفكاهاتها تركت جدي في حيرة من أمره، وكانت تعاملنا جميعا، ومن بيننا زوجها نفسه، كأننا أطفال في حاجة إلى التدليل والتهدئة.
وكان يسر فيودور بنتليفتش في ليالي الشتاء الطويلة، ونحن نستمع إلى طقطقة الكتل الخشبية في الأتون الضخم المطلي بالجير الأبيض، ونشهد لهيبها يخرج من بابه المفتوح، ويرسم صورا عجيبة على الأرض، كان يسر فيودور بنتليفتش أن يقص علينا قصص الأتراك والأكراد والوقائع الحربية والهجمات المفاجئة، وكان إذا حضر المجلس أصحاب له طاعنون في السن ينطلق يحدثهم عن أعمال الجرأة التي كان «الأب الصغير»
2
نفسه في سان بطرسبرج البعيدة ينزل من عليائه فيلحظها بعنايته، وكانت هذه الأعمال المجيدة تزداد غرابة كلما أعيدت قصتها.
وكانت بابشكا تقول في تهكم وازدراء: «ألا ما أعجب هذه الأعمال! ما أعجب ركوب الخيل وفتل الشوارب وإطلاق النار على الأتراك! كأن هذه أعمال تحتاج إلى شيء من العقل.»
وكان فيودور بنتليفتش في أيام المواسم والآحاد يرتدي حلته الرسمية، وهي حلة زرقاء اللون براقة، ذات أزرار نحاسية لامعة، وإطار أبيض حول طرفي سراويل الركوب الواسعة النازلة في حذاءيه المرتفعين، وكان من عادته أن يمسح حذاءيه هذين حتى يصبحا كالمرآتين، ويصف الأوسمة والصلبان على صدره، وينشر لحيته من فوقها كما ينشر العلم، فإذا ما جمل نفسه على هذا النحو أمسك بيدي الصغيرة في كفه الجاسية وسار بي إلى الكنيسة، ولم يكن في ألكسندروفسك كلها غلام أكثر مني إعجابا بنفسه، وكان يخيل إلي أن من حقه على أهل ذلك البلد - وهم أقل منه شأنا - أن يخلعوا قبعاتهم تعظيما له ويسألوه عن صحة بابشكا.
ولم يكن فخر الجد بحفيده أقل من فخر الحفيد نفسه بجده، وإن لم تكن القيود الشديدة التي فرضها على نفسه مما يجيز له أن يبالغ في إظهار هذه العواطف، فلم يكن ينطق بأكثر من قوله: «إنه ولد أبيه أندراي.» يقولها عرضا ولكنه عرض مقصود متصنع، ولم يكن خافيا على أحد أن أندراي ولد جدي البكر كان نزيل السجن، أو بعبارة أدق: كان حليف السجن، ولكن جيراننا لم يكونوا يذكرون هذا الأمر قط في حضرة جدي، وكان هو يرى أن هذه إحدى البلايا التي يمتحن بها الله عباده المتقين، وكان فيودور بنتليفتش يحب ولده أندراي، بل كان يعجب به إعجابا، وكل ما في الأمر أنه لم يكن يستطيع التوفيق بين حكمة أبي «والدم الزكي» الذي يجري في عروقه، وبين سخطه على القيصر، وكان يعزو هذا بطريقة غامضة إلى دراسة الكتب، وإلى انحطاط الروح الحربية في الروسيا انحطاطا يحزنه ويأسف له.
Unknown page
وكان يسره أن يقول على الدوام: «لقد كنت طوال حياتي جنديا شجاعا، وسأقضي حياتي كلها وأنا جندي شجاع، أؤدي واجبي وأعبد ربي ولا أشكو شيئا، وماذا يريد أندراي؟ ألا لعنة الله علي إن كنت أعرف!»
وكانت جدتي وشورا تعرفان أن هذا القول يؤلمني؛ ولذلك كانتا تعملان على إسكاته، وتقولان له: إن أندراي رجل متعلم، يعرف العالم على حقيقته، ولا يقتصر علمه على الأتراك والأكراد.
وكان فيودور بنتليفتش يقول وهو مكتئب حزين: «قد يكون هذا صحيحا، قد يكون هذا صحيحا.» ثم يضيف إلى قوله هذا تلك العبارة التي يبغي بها مجاملتي: «نعم، إن أندراي نزيل السجن، ولكنه لم يسجن لأنه سرق أو قتل، إنه سجين سياسي، وما أعظم الفرق بين هذا وذينك.»
وكنت أتلقى من والدتي رسائل تحتوى على الدوام نتفا من الأخبار عن أبي، وكانت عمتي شورا تقرأ هذه الرسائل بصوت عال قبل أن أعرف أنا القراءة، وكان يحدث أحيانا أن ينسى فيودور بنتليفتش نفسه، فيفوه بألفاظ شديدة قاسية طعنا على ابنه العنيد، وحدث في إحدى هذه المرات أن ثرت ثورة عنيفة صرخت في أثنائها صرخة قوية، وعضضت وأنا في سورة الغضب يد جدي ولكنه لم يضربني بالسوط كما كنت أتوقع، بل أخذ يهدئ من روعي، ويضمني بحنان إلى صدره، ويقول إنه يسره أن أدافع عن أبي و«إن هذا دمي يجري في عروقك، فنحن آل كرافتشنكو قوم أوفياء.»
وكنت بين الفينة والفينة أقضي عطلة آخر الأسبوع عند صديق من أصدقاء أبي، وهو رجل يعمل في صناعة المعادن كنت أدعوه عمي متيا، وكأني وأنا في بيته كنت أقضي الوقت مع أبي نفسه، بل إنه يفضله بما يبعثه من المتعة والحماسة وجودي مع ثلاث بنات صغيرات حسان خبيثات، وقد كبرن كلهن وأصبحن من أجمل النساء وأحبهن إلي، وكانت صلاتي بهن في مستقبل أيامي لا تقل عن صلاتي بأقاربي من دمي ولحمي.
وكان العم متيا يتحدث عن الحرية والعدالة، وعن ميلاد عالم جديد، كما كان يتحدث أبي عنها، وكثيرا ما كان يقرأ علينا موضوعات من مؤلفات هرزل وجوركي وتولستوي من صحائف ثنيت أطرافها، يقرؤها على مهل وبصوت ينم عن الإيمان والتقوى، شبيه بصوت جدي وهو يقرأ الكتاب المقدس، لكن أكثر ما كنت أحبه هو أن يوقظني عمي متيا قبل الفجر لنذهب سويا إلى الصيد، فكنا نقضي اليوم في الغابات في جهد متواصل ثم نعود وأنا أحمل على كتفي بندقيته وكيسا مملوءة بالأرانب والدجاج البري وأفاخر بها كأني أنا الذي صدتها.
أما جدي فكان يحب صيد السمك، فكان نهر الدنيبر بيته الثاني، يقضي فيه كثيرا من وقته، وبينا كان قارب الصيد يطفو فوق ماء النهر الهادئ، وبينا كنا نترقب ابتلاع السمك للشص، كان هو يعيد على سمعي قصصه المحبوبة عن الأتراك الذين قتلوا بالألوف، وعن الروس وبخاصة الأوكرانيين والقوزاق الذين كانوا يعودون على الدوام بجر الحقائب بالأسلاب، محلاة صدورهم بأوسمة الشرف، وكانت قصصه تزداد حماسة وإثارة لشعوري؛ لأن زوجته لم تكن إلى جانبه تكبح بفكاهتها جماح خياله.
فإذا علت الشمس في كبد السماء شددنا القارب إلى أيكة من الأشجار على شاطئ النهر وخلعنا ملابسنا وأخذنا نسبح في الماء نضربه بأيدينا وأرجلنا، ووجوهنا تطفح بالبشر، ولا نكاد نذكر أن بيني وبين جدي ما يقرب من ثلاثة أرباع قرن، فإذا حل بنا التعب وعضنا الجوع، عدنا إلى البيت ممتلئين نشاطا وقوة، نحمل صيد اليوم، فتأخذ جدتي نتاليا مكسمفنا بعضه لتقليه في فناء الدار، وكان ذلك الصيد يكفينا ويكفي بعض الأصدقاء الأعزاء، وتبقى منه بقية لليوم الثاني تطهيها جدتي وتصنع منها ذلك الصنف الذي انفردت هي بطهيه دون سائر النساء.
وكنا نحن آل كرافتشنكو نعيش في ألكسندروفسك معيشة شبه عسكرية لا يخفف من حدتها إلا رقة بابشكا المدنية، ولم يكن العمل الذي يقوم به زوجها مجرد ضرورة تحتمها الظروف، بل كان فوق هذا واجبا تأمره نفسه بأدائه، ولا يفترق في شيء عن أداء الصلاة وإضاءة المصباح طول الليل تحت الصورة المقدسة، والتصدق على السائلين. وكنا نأوي إلى فراشنا مبكرين، ونستيقظ وشروق الشمس؛ لنعمل في الحديقة وفي البستان ومع الماشية، وحتى في أيام الدراسة لم أكن أعفى من هذه الأعمال، فقد كان يطلب إلي أن أقوم بنصيبي منها قبل الفطور، وأما الدروس فلم تكن القواعد التي رسمها جدي تعدها عملا حقا مهما بذلت فيها من جهد، وكان يدربني على الاغتسال والاستحمام بالماء البارد في الهواء الطلق مهما تكن حالة الجو، كما يجب أن «يفعل الرجال والجنود»، ويعلمني أن أتحمل الألم دون شكوى أو تذمر، كما عودني من صغري ألا أتأثر بالحر أو البرد.
وكانت المرة الوحيدة التي عاقبني فيها جدي حين ذهبت وحدي في السابعة أو الثامنة من عمري إلى حلاق يقص لي ضفائر شعري، وكانت كوبيكات شورا هي التي أمكنتني من أن أثبت رجولتي بهذه الطريقة قبل أن يحل أوانها، وعدت إلى المنزل والعطور القوية تفوح من رأسي، وألقى علي جدي نظرة استشاط على أثرها غضبا، وكان العقاب الذي حل بي مناسبا لما ارتكبت من جرم، فقد جاء جدي بمقص من مقصات الضأن، وأخذ يفسد به ما صنعه الحلاق، على مرأى من جيرتي ورفاقي، ثم جاء بعدئذ بالماء والصابون وغسل بهما قحف رأسي المشوه ليمحو منه الروائح الخليقة بالبنات.
Unknown page
واتخذت لنفسي في المدرسة عدة أصدقاء ظلت صداقتي لكثيرين منهم قائمة إلى أيام كهولتي، وهو أمر يدعو إلى الدهشة في بلادنا وفي أيامنا هذه، وكانت أوقات الدراسة طويلة يعقبها في معظم الأيام واجبات نؤديها في منازلنا، وكانت العقوبات البدنية التي توقع علينا لتأخرنا وعدم التفاتنا للدرس من الأمور العادية، وكانت تعد من العناصر الضرورية التي لا غنى عنها في تربية الأولاد.
وكنت لحسن الحظ سريع الحفظ، ولم يكن يضايقني إلا دروس الدين التي يلقيها علينا الأب مكسيم العجوز ويتمتم بها من بين لحيته، كان يطلب إلينا أن نحفظ عن ظهر قلب أدعية طويلة لا نفقه لها معنى باللغة السلافونية القديمة، فإذا عجزنا عن أن نعيدها، وهو ما كان يحدث لنا كلنا تقريبا، عوقبنا على هذا عقابا صارما، وكان الذي يحدث وقتئذ أن يأتي كوزيا تلميذ الأب مكسيم المقرب إليه، والذي شوهت آثار الجدري وجهه، بعصا أعدها لهذا الغرض، ثم يركع المجرمون صفا ويأخذ كوزيا يجلدهم بالعصا على أعجازهم، والقسيس في هذه الأثناء يعد الضربات، وما من شك في أن الأب مكسيم كان يرى في هذا إصلاحا لأرواحنا، وإن لم نفد منه أقل فائدة في تعليم اللغة السلافونية، وكان الذي يحدث على الدوام بطبيعة الحال أن نكمن لكوزيا في الطريق بعد خروجنا من المدرسة ونكيل له الصاع صاعين، وكان هذا أيضا جزءا لا يتجزأ من منهج تعليمنا.
وكان ثمة هدف آخر نوجه إليه ضروب قسوتنا وهو الشاب شتشيكتهين ابن أغنى إنسان في البلدة ووارثه، ولم يكن نك هذا يأتي إلى المدرسة كما نأتي إليها نحن مشيا على الأقدام مسافات طويلة، بل كان يأتي إليها مستقلا عربة جميلة يحرسه الخدم، وكان يرتدي سترة من المخمل وطوقا مكويا منشى، وحذاءين ذوي أزرار براقة، وكان يسره فضلا عن هذا أن يصلصل بالنقود في جيبه، وكنا نحن نرى أن هذه جرائم لا يصح أن ينجو مقترفها من العقاب، على أنه كان يسعه أحيانا أن يرشونا بالنقود والحلوى فنتركه وشأنه، ولكني لا أنكر أننا كثيرا ما كنا نقبل منه الرشوة ثم نضربه على عمله ضربا شديدا.
وكنا على الرغم من شدة نظام المدرسة نلعب الهوكي ونرتكب الكثير من عبث الطفولة، وأذكر أني أنا ورفيقا لي اعتزمنا أن نغير على مزرعة للخضر في طرف المدينة، أذكر هذه الغارة أكثر مما أذكر أية مأساة حقة أصابتني في مستقبل حياتي، ولم نكد نملأ جيوبنا بالخيار الصغير ونتذوق البطيخ الحلو حتى داهمنا البلغاري الضخم، ولكنه لم يضربنا بل استعاض عن الضرب بمحاضرة ألقاها علينا عن ضرر السرقة، ثم أمرنا أن نخلع سروالينا، وأعطى كلا منا حفنة من الخيار، وأخلى سبيلنا وتركنا نعود من حيث جئنا من غير سروالين.
وانتظرنا عدة ساعات حتى جن الليل، فلما أظلمت الدنيا عدنا إلى بيتينا على هذه الحالة غير المشرفة بطرق ملتوية حتى لا يلتقي بنا أحد، وظل ما لحقنا من العار بسبب هذا العمل يلازمنا وقتا طويلا، وكان ما لقيناه من الألم بسبب السخرية التي أثارتها هذه الحادثة في المدينة أشد من كل ما كان يحدث لنا لو أن الرجل ألهب جلدنا بالعصي أو السياط.
وليس في وسعي أن أذكر الآن ما كنا نجلبه من البؤس والشقاء على المتكبرين المتغطرسين من المدرسين دون أن تصتك ركبتاي ويرتجف سائر جسمي من هول ما كنا نعمل، ولكن أفريشيف مدرس اللغة الروسية البائس الرقيق الحال ذا المنظارين، كان ينجو من عنتنا وعبثنا، ويكاد هذا الرجل أن يكون نموذجا متقدما لرجال الفكر الروس، فكان يتصف بالشدة والنزعة الشعرية والثرثرة وبعض المسكنة، وكانت عيناه غائرتين تبدو فيهما سمات التعصب، وكانت دروسه في الأدب الروسي تثير مشاعرنا جميعا، لا يستثنى منا الأولاد الصغار، وقد علمت بعد سنين من ذلك الوقت في أثناء زيارة لزبرزهي أن أفريشيف قتل في أثناء الثورة.
وكان صغار الأولاد من أبناء الأسر الكريمة ينهون عن الاختلاط بالغجر، ولكني كنت رغم هذا كثير الاختلاط بهم، فقد اتخذت لي صديقا منهم، وهو صبي يدعى سيدمان، وكانت نتيجة هذه الصداقة أن أصبحت وكأني من أفراد تلك العشيرة، وحدث مرة ونحن ننزلق على ماء نهر الدنيبر المتجمد أن هوى الجليد فجأة تحت قدمي، فما كان من سيدمان إلا أن غاص في الماء الثلجي وانتشلني، وقوى هذا الحادث ما كان بيننا من صداقة.
وكثيرا ما كنت أغادر البيت وأذهب إلى معسكر الغجر لأعذار أنتحلها، وكنت في هذه الزيارات أجلس إلى جوار نارهم، أصطليها معهم، وأصغي إلى قصصهم الشعبي، وأرقب أساليب أولئك القوم الأوداء الذين لا تفارقهم البهجة والمرح، وأنا مسرور بوجودي بينهم مفتتن بأساليبهم، وكانت نساء الغجر ينبئنني بمستقبلي نظير كوبك أو كوبكين أنقدهن إياهما، كن على الدوام يتنبأن لي بأني سأصبح رجلا سريا جميل المحيا ذائع الصيت، وأن حياتي ستكون حياة منعمة في جنان الخلد المرصعة بالجواهر، تجري فيها أنهار من عسل مصفى، وتشاركني فيها غادة حسناء شقراء اللون حينا، وسمراء حينا آخر.
وكان عرس هام سيحتفل به في معسكر الغجر في وقت قريب، وأخذوا يستعدون له في معسكرهم قبل يوم الزفاف بعدة أسابيع، وألح علي سيدمان أن أشهده، وصادف ذلك هوى في نفسي، فقد كنت شديد الحرص على حضوره، ولكن كيف السبيل إلى مغادرة المنزل في ليلة العرس؟ ولما أعيتني الحيل أفضيت بالسر إلى جدي، فغضب في أول الأمر، ولما أن نبأته كيف أنقذ سيدمان حياتي سمت دواعي النجدة والمروءة فوق الترفع العنصري، فلم يكتف بالإذن لي بالذهاب، بل رضي أن يرافقني بنفسه.
وارتدى جدي حلته الرسمية في هذه المناسبة، ومشط لحيته حتى جعلها أوسع مما كانت عادة، وجاء معه ببضع هدايا جعلته ضيفا مكرما في الحفل، وزاد ذلك من قدري في أعين الغجر، وكانوا كلهم صغارهم وكبارهم قد ارتدوا أبهى حللهم وازينوا بكل ما لديهم من حلى براقة، وأخذوا يعزفون على آلات الطرب من كمان وقيثارة حتى ذهب من الليل أكثره، وكان لهذا الحفل أعظم الأثر في نفسي، وجعلني طوال حياتي المقبلة أرثي لمن حرموا لذة الاستمتاع بحياة الغجر.
Unknown page
واندلعت نيران الحرب العالمية الأولى وأنا أجتاز السنة التاسعة من عمري، وأصبحت الحياة فجأة ثائرة مضطربة، كلها جنود وخطب ودموع ومجد، وأحسست كأن الوجود كله قد استحال إلى يوم عيد أبدي لا ينصرم، ونسي معلمونا دروسهم وأخذوا بدلا منها يشيدون بذكر الوطنية، أخذوا كلهم يشيدون بذكرها عدا أفريشيف، وقادنا الأب مكسيم إلى الصلاة؛ لندعو الله دعاء حارا أن ينصرنا على الأعداء، وأخذت النساء يبكين ويضربن أكفهن حين رأين الأبناء والأزواج يؤخذون إلى ميدان القتال.
وبكت بابشكا أيضا مشاركة لهؤلاء النسوة في عواطفهن، أما جدي فكأنه خلق خلقا جديدا، فقد أصبح جسمه أكثر مما كان اعتدالا، وأضحت أوامره لأسرته أكثر انطباقا على قواعد الجندية، وكان يرتدي حلته الموجهة
3
الزرقاء-البيضاء في كل يوم تقريبا، وكان يخيل إليه أن كل أسبوع يمر ولا تقوم فيه مظاهرة لتأييد الحرب أسبوع ضائع، وكان من أقواله المأثورة: «وا أسفاه! لو أن القائد اسكبليف لم يمت لألقى على الألمان درسا لا ينسونه أبدا، إن الأتراك أنفسهم لم يستطيعوا أن يصمدوا له!»
وطرق الباب طارق في يوم من أيام شهر أغسطس سنة 1914م على أثر عودتي أنا وجدي من رحلة لصيد السمك؛ وذهبت بابشكا لتفتح الباب وسمعناها نحن تصيح صيحة مضطربة تكاد الدموع تخنقها: «أندروشا! انظروا أيها الأطفال، ها هو ذا أندروشا نفسه!»
أجل، لقد كان أبي حقا، وكان أنيق الملبس، ولما أن خلع قبعته السوداء رأيت شعره مرجلا إلى الوراء على الطراز الحديث، وقد سوى لحيته فأصبحت كلحية الطبيب لا لحية الصانع، وكانت أقل سوادا من شعر رأسه، وبدا لي أنه أقصر قامة وأقل بهجة من الصورة التي احتفظت له بها في ذاكرتي، ولكنه كان إلى هذا أسهل منالا مني وأقرب إلى الآباء مما كان قبل، وسرني ذلك كل السرور، وأخذني أولا بيديه، وأمسكني على قيد ذراع منه، وأحدق بصره في وجهي وهو عابس، ولعله بذلك كان يختبرني، ولعلي نجحت في الاختبار، فلقد رفعني بيديه وأخذ يعانقني ويشهد العالم كله على أن ولده كان يشب قوي الجسم وسيم الوجه، وكان من حوله ينظرون إلينا والغبطة بادية على وجوههم كأني كنت من صنع أيديهم.
وكان سبب مجيئه أن القيصر أصدر عفوا عمن ارتكبوا جرائم سياسية من أنواع معينة ، وكان من بينهم أبي لحسن الحظ؛ فلما أطلق سراحه جاء ليرى أبويه وولده، واغتبط فيودور بنتليفتش وتاه عجبا بهذه الزيارة؛ وكانت غبطته حقيقية لا تصنع فيها، ولكنا لم نكد نجلس لتناول العشاء حتى عاد غضبه القديم على ولده الذي سبب للأسرة كثيرا من العناء، وطغى هذا الغضب على كل ما عداه.
وشرب جدي كوبا من الماء البارد، ورسم إشارة الصليب على صدره ثم بدأ يتناول الطعام، وكان هذا إيذانا لنا جميعا بأن نمد ملاعقنا إلى طبق السمك، وأخذنا نتحدث، واستطاع جدي أن يمسك لسانه برهة قصيرة يصغي فيها إلى أنباء الأسرة التي كان يلقيها أفرادها بالتناوب، ثم انطلق أخيرا يتحدث ويصارحنا برأيه فقال: «بالله قل لي يا أندراي، ما الداعي إلى هذا السخف كله؟ ولم تظل نزيل السجون كالمجرمين؟ أي شيء تريد؟ ألا تشعر بأن عليك واجبا لزوجك وأبنائك؟»
وأصغى أبي إلى هذا القول وهو صابر، ثم تجهم وجهه وأبرقت عيناه، ونفذت ألفاظه إلى قلبي، وزادها قوة على قوتها ما كان يصحبها من جد وحماسة، قال: «سأحدثك عما أريده يا أبي، وأرجو أن تفهم قولي؛ لأني أعرف فيك أصالة الرأي وأقدرها، إني أريد أن يعيش الناس أحرارا سعداء، وأريد أن يعيش الناس جميعا كما يجب أن يعيش الآدميون، وأريد أن أقضي على الاستبداد السياسي والاستعباد الاقتصادي، وثق يا أبي أني أتألم أشد الألم لما يقاسيه أبنائي الأعزاء، ولكن هذه الآلام التي يقاسيها جيل واحد ستجعل الأجيال المقبلة أعظم سعادة وأكثر مدنية من هذا الجيل.
لست أشك في أنك يا أبت ستفهم قولي هذا؛ لأنك رجل قوي الإيمان، توقد الشموع تكريما للشهداء والقديسين، فهل كان هؤلاء يسمحون لأزواجهم وأبنائهم أن يؤثروا فيهم، فيشتروا الضلالة بالهدى والرذيلة بالفضيلة؟ إن روسيا بلادنا المحبوبة تعيش في ظلام حالك، يستغل أبناؤها ويعمهون في ظلمات الجهالة، ولكن في وسعها أن تخرج من الظلمات إلى النور، ولا يكون فيها سادة وعبيد.»
Unknown page
وكان يتجه بحديثه إلى أبيه، ولكني كنت أحس أن ألفاظه موجهة إلي، فيقشعر لها بدني كما كان يقشعر لصوت القس في وقت الصلاة .
وختم أبي حديثه بأن قال وهو يحدق بعينيه في وجهي: «أما أبنائي فإنا نعمل لسعادتهم وسعادة جميع الأطفال في هذه البلاد ونسفك دماءنا لنحقق لهم هذه السعادة.»
وفكر جدي طويلا ثم قال: «ليس فيما تقوله شيء تلام عليه، ولكن فيه كثيرا مما يحيرني، لقد ظللت طول حياتي أخدم القيصر، كما كان يخدمه أبي وجدي من قبلي، ولكنك يا أندراي تختلف عني وعنهم، إنك تنظر إلى الأمور بغير العين التي ننظر نحن بها إليها، وكأنك تنظر إليها من تحتها، فليسامحك الله يا ولدي إن كنت مخطئا، أما وأنت تعتقد مخلصا في عدالة قضيتك فلتعمل بما يمليه عليك إيمانك، وسأبذل أنا كل ما أوتيت من جهد لأعول أبناءك ما دمت حيا.»
وظلت ألفاظ أبي زمنا طويلا تتردد أصداؤها في عقلي قبل أن أستغرق في نومي تلك الليلة.
وخرجنا في صباح اليوم الثاني في مظاهرة وطنية، اصطفت فيها الجماهير وصدحت الموسيقى، وخرج القساوسة في ملابسهم الفضفاضة يباركون الشعب، وأخذ الباعة الجائلون يبيعون المثلجات والشراب المحلى والفطائر المحشوة باللحوم؛ ولكن أبي ما لبث أن أمسك بيدي وقادني إلى دكة في بستان، جلسنا عليها نأكل المثلجات ونتجاذب أطراف الحديث.
وقال لي: «ها نحن أولاء يا ولدي نلتقي مرة أخرى، فهل تذكر يوم جئت أنت وأمك وقنسطنطين إلى السجن، فأشرت إليكم بيدي من برج الموت؟»
وأخذ يحدثني عن الحياة في السجن، وخيل إلي من وصفه إياها أنها حياة عظيمة فيها العذاب، ولكن الألفة والزمالة والتضحية في سبيل المبدأ العظيم تبدله وتخرج به عن طبيعته. «وأريد منك يا بني أن تذكر هذه الأشياء وألا تنساها ما حييت، لا تنس قط حقيقة أمرك، وكن على الدوام مخلصا صادق الدفاع عن الحرية؛ ذلك أن الحياة بلا حرية هي الفناء بعينه، ومهما يكن من أمري فإن عليك أن تواصل الدرس والعمل والكفاح بكل ما تستطيع من وسائل في سبيل المثل الأعلى، فإما أن نكون خنازير نضع أنوفنا في الوحل، وإما أن نكون آدميين نرفع رءوسنا إلى السماء، فإذا كنا آدميين فليس في مقدورنا أن نكون عبيدا أذلاء، وإذا سقطت أنا ورفاقي في ميدان الجهاد فسيحل محلنا فيه أبناؤنا من بعدنا.»
وسافر في تلك الليلة نفسها إلى إيكترنوسلاف بعد أن أهدى إلي بعض الهدايا، ووعدني أن أقضي عيد الميلاد في بيتنا.
وخيل إلي في الأشهر التي أعقبت هذا اللقاء أن الأيام تمضي على مهل، فقد كنت شديد الرغبة في أن أرى أبوي وأخوي، وكتبت إلي والدتي رسائل تفيض بهجة وانشراحا، ومما قالته فيها أنها لم تكن في هذه الأيام تواصل العمل في خياطة الملابس للناس بعد أن عاد أبي إلى العمل، وأنها تقضى وقتها في الكتابة، وأن أحوالنا كلها سارة ممتعة تنسيني أيامنا الماضية، وأن بيتنا قد تبدل حتى لا أكاد أعرفه.
وزادت عواطفنا اهتياجا كلما قرب موعد العطلة والزيارة المرتقبة، وأخذت جدتي تكد في عمل المربيات والفطائر، وذبح الخنزير الكبير الذي كان يسمن لهذا الغرض خاصة، وشغل كل من في الدار أسابيع عدة في سلق اللحم، وتدخين الأفخاذ، وفرم اللحم والخضر وخلطها بالأفاويه وحشوها في الأمعاء، ثم أقبل اليوم العظيم وكدس آل كرافتشنكو ومعهم حقائب ملابسهم وسائر أمتعتهم في عربة أقلتهم إلى محطة السكة الحديدية، وركبت القطار أنا وعمتي شورا، وأخذ من بقي من أفراد الأسرة يلوحون إلينا بأيديهم وهم على الإفريز، وقد غلبتهم عواطفهم فانحدرت الدموع من أعينهم كأننا نغادر البلاد إلى أمريكا.
Unknown page