148

Athartu Hurriyya

آثرت الحرية

Genres

وبعد ذلك بأسابيع قليلة ذهبت «إلينا» إلى «كيف» لزيارة أمها حيث لحقت بها، وذات نهار مشمس قصدنا معا إلى المقابر، وهنالك اقتلعت الأعشاب عن قبر أبيها وزينته بالورود، وكنت قد أحضرت معي علبة من الطلاء فطليت الحاجز الذي يحيط بالقبر والصليب الحديدي الذي يقوم عند طرفه، وأما «إلينا» فلم تبك بل أخذت تقص لي عن أبيها وعن طفولتها السعيدة بينا كنت أنا أقوم بعملية الطلاء.

قالت لي إذ نحن في الطريق عائدين إلى الدار: «لو علمت الشرطة السرية يا فيتيا أنك زينت القبر لألقت عليك القبض، فإنه من الخطر أن تبدي شعورا طيبا نحو أبي المسكين البريء حتى بعد موته، لكن هذا العمل الإنساني الذي قمت به على ضآلته قد زادني شغفا بك.»

فقلت: «إذن فالعمل جدير بأن أخاطر في سبيله.» - «لكن ألا يقلقك مثل هذا العمل باعتبارك شيوعيا مخلصا؟» - «كلا، إنه لا يثير في نفسي قلقا، وربما كنت شيوعيا مخلصا بغير هذا المعنى.»

وذهبنا معا إلى متنزه في «كيف»، وكانت هنالك جوقة موسيقية تعزف في الحديقة التي كانت تسمى فيما مضى بحديقة القيصر، وكانت الأغنية الشائعة عندئذ نغمة سخيفة تمجد «الحياة المرحة السعيدة» التي يحياها أبناء السوفيت، ونظر كلانا - إلينا وأنا - كل إلى عيني زميله، وكان حسبنا النظرة عن كلمات نتبادل بها ما يدور في رأسينا من خواطر.

الفصل الثاني عشر

مهندس في نيقوبول

كانت الفرقة النهائية في معهدنا تعد نفسها للامتحان الختامي في شيء من القلق، وكان من شروط الحصول على الإجازة الدراسية أن يتقدم الطالب بمشروع هندسي توافق عليه لجنة حكومية، وقد بذلت مجهودا لا يعرف التراخي حتى أعددت مشروعي، وكان علينا بالإضافة إلى ذلك أن ننفق بعض الوقت في مصانع صهر المعادن على سبيل التدريب، وأكثر ما كنا في حاجة إليه هو قليل من طمأنينة النفس، وراحة مؤقتة من شئون السياسة، لكن أبى علينا القدر هذا المطلب؛ فجاءت تلك الأشهر الأخيرة مليئة بالأحداث السياسية.

فلم تعرف حياتنا العلمية في المعهد إلا قليلا من الهدوء، ذلك على أحسن الفروض، فما كنا نكلف به من أعمال خارج المعهد، وما كانت تفعله بنا حركات التطهير، قد امتص نشاطنا امتصاصا، حتى لقد كان يبدو لنا أحيانا أن الدراسة لم تكن إلا وجها إضافيا من أوجه النشاط التي نقوم بها ، وها نحن أولاء نحرم حتى هذا الهدوء القليل الذي بقي لنا بعد ذلك كله، وذلك أنه في مستهل ديسمبر عام 1934م أطلقت رصاصة من مسدس في «لننجراد» البعيدة عنا، لكنها أصابت حياتنا في «دنيبروبتروفسك» إصابة زلزلتها من أساسها.

أطلقت تلك الرصاصة في دهليز البناء الذي كان فيما مضى «معهد سمولني» والذي هو الآن مقر رياسة الحزب في لننجراد، وأطلق الرصاصة شاب شيوعي يدعى «نيقولاييف»؛ فأصابت «سرجي كيروف» الذي كان عضوا في الهيئة السياسية العليا والمشرف الحقيقي على الجزء الشمالي من روسيا، فسقط صريعا عند قدمي «نيقولاييف»، ولبثت أصداء تلك الطلقة تتردد في الأرجاء أعواما طوالا، وقبل أن تسكن تلك الأصداء لاقى مئات الألوف من الناس ما لاقوا من عناء وموت، وشقيت أنا أعواما دفعتها ثمنا لتلك الفعلة الإرهابية التي اقترفتها يد شاب مجهول.

جاء «ستالين» ومعه «فوروشيلوف» مسرعين إلى لننجراد، وشاعت في دوائر الحزب أخبار تنبئ بأن «ستالين» أشرف بنفسه على استجواب «نيقولاييف» استجوابا بلغ من الدقة حدا بعيدا، وبالطبع لم يعلم أحد خارج هيئة المحاكمة بما علمه «ستالين» من المتهم، لكن سلوكه فيما بعد نهض دليلا على أن «ستالين» فزع لما سمع فزعا بلغ به حد الجزع.

Unknown page