214

Al-Tawḍīḥ al-Rashīd fī sharḥ al-tawḥīd

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

Genres

- الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) قَالُوا: وَلَيْسَ لِلقَاتِلِ تَوْبَةٌ - اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵁ فَعَنْ سَعِيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ ﵄ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ (قَالَ: لَا تَوْبَةَ لَهُ)؛ وَعَنْ قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ ﴿لَا يَدْعُوْنَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ (الفُرْقَان:٧٠) (١) قَالَ: (كَانَتْ هَذِهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ) البُخَارِيُّ؟ (٢) (٣)
وَالجَوَابُ هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أ) أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الآيَتِيْنِ أَصْلًا، لِأَنَّ الأُوْلَى أَثْبَتَتْ لَهُ الجَزَاءَ، وَالثَّانِيَةَ أَثْبَتَتْ لَهُ قَبُوْلَ التَّوْبَةِ إِنْ تَابَ.
قَالَ المُنَاوِيُّ ﵀ فِي كِتَابِهِ (فَيْضُ القَدِيْرِ) (٤): (وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا يَمُوْتُ أَحَدٌ إِلَّا بِأَجَلِهِ، وَأَنَّ القَاتِلَ لَا يَكْفُرُ وَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ - وَإِنْ مَاتَ مُصِرًّا -، وَأَنَّ لَهُ تَوْبَةً).
ب) أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيْعُ اسْتِدْرَاكَ مَا فَاتَهُ؛ فَهُوَ لَا يَمْلِكُ إِرْجَاعَ الحَيَاةِ لِلمَيِّتِ؛ كَمَا يَمْلِكُ إِرْجَاعَ الحَقُوقِ المَالِيَّةِ.
وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيْثُ النَّسَائِيِّ؛ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَمَّنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ثُمَّ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ؟ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ يَقُوْلُ: (يَجِيءُ مُتَعَلِّقًا بِالقَاتِلِ تَشْخُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا، فَيَقُوْلُ: أَيْ: رَبِّ سَلْ هَذَا فِيْمَ قَتَلَنِي؟). ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ؛ لَقَدْ أَنْزَلَهَا اللهُ ثُمَّ مَا نَسَخَهَا).
فَهُوَ ظَاهِرٌ أَنَّ عَدَمَ القَبُوْلِ هُوَ بِاعْتِبَارِ حَقِّ المَقْتُوْلِ الَّذِيْ لَا يُمْكِنُ إِرْجَاعُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ (وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ؟) (٥)، وَلَيْسَ أَنَّهُ إِنْ تَابَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ. (٦)
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵁ فَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ - عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُ مُطْلَقًا -. (٧)
قَالَ النَّوَوِيُّ ﵀ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: (هَذَا هُوَ المَشْهُوْرُ عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ ﵄، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ لَهُ تَوْبَةً؛ وَجَوَازُ المَغْفِرَةِ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوْءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوْرًا رَحِيْمًا﴾ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَذْهَبُ جَمِيْعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ - مِمَّا يُخَالِفُ هَذَا - مَحْمُوْلٌ عَلَى التَّغْلِيْظِ وَالتَّحْذِيْرِ مِنَ القَتْل؛ وَالتَّوْرِيَةِ فِي المَنْعِ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الآيَةِ الَّتِيْ اِحْتَجَّ بِهَا اِبْنُ عَبَّاسٍ تَصْرِيْحٌ بِأَنَّهُ يُخَلَّدُ، وَإِنَّمَا فِيْهَا أَنَّهُ جَزَاؤُهُ، وَلَا يَلْزَم مِنْهُ أَنَّهُ يُجَازَى). (٨)

(١) قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِيْنَ لَا يَدْعُوْنَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُوْنَ النَّفْسَ الَّتِيْ حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزْنُوْنَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيْهِ مُهَانًا، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوْرًا رَحِيْمًا﴾ (الفُرْقَان:٧٠).
(٢) البُخَارِيُّ (٤٧٦٤).
(٣) وَفِي نَفْسِ البَابِ قَالَ ابْنُ عُبَّاسٍ ﵁: هَذِهِ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ الَّتِيْ فِي سُوْرَةِ النِّسَاءِ.
وَأَيْضًا فِي الحَدِيْثِ (أَبَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ لِقَاتِلِ المُؤمِنِ تَوْبَةً). صَحِيْحٌ. المَقْدِسِيُّ فِي المُخْتَارَةِ (١٦٣/ ٦) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (٦٨٩).
(٤) (فَيْضُ القَدِيْرِ) (٧١/ ١).
(٥) صَحِيْحٌ. النَّسَائِيُّ (٣٩٩٩). صَحِيْحُ النَّسائيِّ (٣٩٩٩).
(٦) قَالَ الشَّيْخُ الغُنَيْمَانُ حَفِظَهُ اللهُ: (وَالتَّحْقِيْقُ فِي هَذَا: أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ تَتَعَلَّقُ فِيْهِ ثَلَاثَةُ حُقُوْقٍ: حَقٌّ لِأَوْلِيَاءِ المَقْتُوْلِ، وَحَقٌّ للهِ جَلَّ وَعَلَا، وَحَقٌّ لِلمَقْتُولِ نَفْسِهِ. فَأَمَّا حَقُّ أَوْلِيَاءِ المَقتولِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِالقِصَاصِ أَوْ بِدَفْعِ الدِّيَةِ، وَأَمَّا حَقُّ اللهِ جَلَّ وعَلَا فَإِنَّه يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ (قُلْتُ: كَمَا فِي آيَةِ سُوْرَةِ الفُرْقَانِ)، وَيَبْقَى حَقُّ المَقْتُوْلِ لَابُدَّ مِنْ أَدَائِهِ، وَلَابُدَّ أَنْ تُؤَدَّى الحُقُوْقُ إِلَى أَصْحَابِهَا، لِأَنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مُمْسِكًا قَاتِلَهُ فَيَقُوْلُ: (يَا رَبِّ! اسْأَلْ هَذَا فِيْمَ قَتَلَنِي؟) فَهَلْ يَضِيْعُ حَقُّهُ؟ لَا؛ لَنْ يَضِيْعَ حَقُّهُ. وَهَذَا وَجْهٌ اسْتَدَلَّ بِهِ الَّذِيْنَ يَقُوْلُوْنَ: إِنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُ، وَيَجُوْزُ أَنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلَا يُرْضِي المَقْتُوْلَ عَنِ القَاتِلِ فِي ذَلِكَ المَوقِفِ إِذَا شَاءَ). مُسْتَفَادٌ مِنْ شَرْحِ الشَّيْخِ الغُنَيْمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيْدِ)، شَرِيْطُ رَقَم (٧٥)، شَرْحُ البَابِ.
قُلْتُ: وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِلأَخِيْرِ بحَدِيْثِ (إِنَّ اللهَ ﷿ غَفَرَ لِأَهْلِ عَرفَات وَأَهْلِ المَشْعَرِ؛ وَضَمِنَ عَنْهُم التَّبِعَاتَ). صَحِيْحٌ. أَوْرَدَهُ الحَافِظُ المُنْذِرِيُّ ﵀ فِي التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (١٧٩٦) عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ التَّرْغِيْبِ وَالتَّرْهِيْبِ (١١٥١).
(٧) قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ ﵀ فِي الصَّحِيْحَةِ عِنْدَ حَدِيْث رَقَم (٢٧٩٩) - فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ فِي ذَلِكَ -:
(الأُوْلَى: مَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْهُ: أَنَّهُ أَتَاهُ رَجَلٌ؛ فَقَالَ: إنِّي خَطَبْتُ امْرَأَةً فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَنِي؛ وخَطَبَهَا غَيْرِي فَأَحَبَّتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَغِرْتُ عَلَيْهَا فَقَتَلْتُهَا! فَهَلْ لِيْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: (أُمُّكَ حَيَّةٌ؟) قَالَ: لَا. قَالَ: (تُبْ إِلَى اللهِ ﷿، وَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ مَا اسْتَطَعْتَ). فَذَهَبْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: لِمَ سَأَلْتَهُ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ؟ فَقَالَ: (إنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللهِ ﷿ مِنْ بِرِّ الوَالِدَةِ). أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيْحٍ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيْحَيْنِ.
الثَّانِيَةُ: مَا رَوَاهُ سَعِيْدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ قَالَ: (لَيْسَ لِقَاتِلٍ تَوْبَةٌ؛ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْفِرِ اللهَ). أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيْرٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُغْفَرُ لَهُ - عَلَى قَوْلِهِ الأَوَّلِ - ثُمَّ اسْتَدْرَكَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: (إِلَّا أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ). وَاللهُ أَعْلَمُ).
(٨) شَرْحُ مُسْلِمٍ (١٥٩/ ١٨).

1 / 214