Asrar Qusur
أسرار القصور: سياسية، تاريخية، غرامية، أدبية
Genres
فسار الخصي صاعدا السلم الرخامية يتبعه رديف وضباطه الثلاثة، فاجتازوا رواقات وقاعات كبيرة فارغة حتى وصلوا غرفة السلطان، ولم يتجاسر الخصي على فتح الباب، فوقف وأخذ يتوسل إلى رديف باشا بإعفائه من هذه المهمة فصوب رديف المسدس إلى صدره وقال: إذا لم تمتثل أخمد أنفاسك هذه الساعة. فطار قلب الخصي ذعرا وهلعا، وقال: انتظرني هنا على الأقل؛ لأن السلطان ليس وحده. فقال رديف: لا بأس فأنا بانتظاره.
وهكذا دخل الخصي وقام رديف باشا بكل رباطة جأش يشعل قناديل الغرفة وشموعها، ولم يكد يفرغ منها حتى أطل السلطان على عتبة باب غرفته، فتقدم إلى وزيره بوجه عابس، وقال له بصوت يرتجف غضبا: ماذا تريد الساعة مني حتى تجرأت على إيقاظي. فانحنى رديف باشا بكل احترام ووقار مسلما، وقال: أمرت جلالتك يا مولاي، باستدعاء السر عسكر ولما كان منهمكا في شئون الدولة والأمة لم يتمكن من الامتثال لأمرك الكريم. - أو هذا كل ما تريده؟ وهل جئت لتعتذر عن ذلك المجنون الذي تجاسر على إنفاذك إلي في مثل هذه الساعة؟ - لا يا صاحب الجلالة، لو كان الأمر كذلك فقط ما كنت أقلقت راحة جلالتك، وإنما هنالك أمر أهم وكل دقيقة تمر تزيده خطرا. - قل إذن ماذا تريد؟ أمن مؤامرة علي؟ - نعم، لقد أصبت.
فصاح السلطان: من وأين وكيف، وماذا جرى؟
فانحنى رديف باشا قائلا: هذا الكتاب المنفذ إليك من جلالة ابن أخيك ينبئك ما تريد؟
فتناول السلطان الكتاب وهو يظن نفسه في منام، ولم يكد يتصفح العبارة الأولى منه حتى امتقع لونه، وطار صوابه، وصاح أيها الخونة اللئام والأدنياء الطغام، أظننتموني أخشى وعيدكم أو يروعني تهديدكم، أتطلبون مني الرضوخ لسلطان جديد، فمن ذا الذي تجاسر على خلعي من عرشي؟
فأجابه رديف باشا بسكون جأش: الشعب والجند والعلماء والأئمة، وإذا كنت جلالتك في ريب من ذلك، فما عليك إلا أن تشرف من نوافذ قصرك فترى جند البر والبحر قد انصاعوا لأوامرنا، وأن ليس لك من مهرب أو مغيث، ولا لديك حيلة إلا التسليم للقضاء والطاعة للسلطان الجديد، فضج السلطان وصخب لما رأى الجنود محيقة به، وأخذ يصيح كذي جنة يا للخيانة يا للسفالة ... يا لقومي يا لجنودي ... فقال له رديف باشا: مولاي الفرصة أثمن من أن تضاعظن أرجوك ألا تعرض حياتك للخطر، فإن حراسك وقوادك موضع ثقتك وركن اعتمادك هم الآن على بعد عشرين ميلا في بحر مرمرا. فعرف السلطان حينئذ أن لا خلاص ولا مناص ولا حيلة إلا بالرضوخ والامتثال، فقال: العزل خير من تولي شعب خائن وجيش عاق.
وكانت السلطانة مهرى قد استطالت غيبة السلطان فقلقت، ثم سمعت الجلبة فضجت وأعولت، وأخذت تنادي بالويل والثبور وعظائم الأمور. فصاح بها السلطان أن تصمت فصمتت. وطفقت تبكي وتنوح، وتراءت لديها عمته السلطانة علية وميتتها، فازداد رعبها ونحيبها.
ووقف السلطان برهة يتأمل في تلك الساعة الهائلة، ثم التفت إلى الخصي، وأمره أن يأتيه بردائه فألقاه على كتفيه، وعهد إليه بالسلطانة مهرى خاصة، والتفت إلى وزيره قائلا: هيا بنا إلى أين المسير. فأجابه رديف: إن على الباب زورقا، وإذا بامرأة هجمت على الحاضرين، واعترضت خروج السلطان، وصاحت أيها الخونة اللئام إلى أين تسيرون بسلطانكم وولي نعمتكم؟ فقال لها السلطان: أي مهرى العزيزة، دعينا نسير على خيرة الله، ولا تزيدي قلقي ومصابي، ولا تعرضي حياتك وحياتي للخطر. سلمي أمرك لله كما سلمته أنا نفسي، فإنه ولا شك سيجازي الخونة على خيانتهم، وهو على كل شيء قدير.
فأجهشت مهرى بالبكاء قائلة: وهل أراك بعد الآن؟
فأجابها رديف: نعم بعد ساعة تجتمعين به فلا يفرقكما أحد بعد ذلك.
Unknown page