85

عرفت مورين السيد سيديكاب شأنها شأن جميع الناس. اعتاد على العمل ضابطا لنغمات البيانو بمصنع آل دود. كان رجلا إنجليزيا يعلوه الوقار ويميل إلى السخرية، وكانت زوجته امرأة رائعة. كانا يعشقان قراءة الكتب من المكتبة، واشتهرا بحديقتهما، لا سيما لما يزرع فيها من فراولة وورود. وبعدها، منذ سنوات قلائل، بدأت الكوارث تنهال عليهما؛ خضع السيد سيديكاب لعملية جراحية في حنجرته - لا بد أن السبب إصابته بالسرطان - وبعدها عجز عن الكلام، ولم يصدر منه سوى صوت أزيز وهمهمة. وكان قد تقاعد بالفعل من عمله بمصنع آل دود؛ حيث أمست لديهم طريقة إلكترونية لضبط نغمات البيانو تتفوق على الأذن البشرية في دقتها. وفجأة توفيت زوجته، وبعدها حلت به سلسلة من التغيرات السريعة، فتدهور حاله من عجوز يعلوه الوقار إلى متشرد كالح الوجه مثير للاشمئزاز في غضون أشهر؛ لحية متسخة، ولعاب يسيل على ملابسه، ورائحة عفنة دخانية تفوح منه، ونظرة ريبة مستديمة في عينيه تتحول أحيانا إلى نظرة سخط. إذا لم يجد ما يبحث عنه في محل البقالة، أو إذا بدل أصحاب محل البقالة أماكن الأغراض، كان يطيح بالمعلبات وعلب الحبوب على الأرض عن عمد منه، ولم يعد محل ترحيب في المقهى، ولم يعد يقرب المكتبة مطلقا. واظب نسوة من رفقة زوجته بالكنيسة على زيارته لفترة؛ منهن من كانت تحمل له وجبة من اللحم، ومنهن من حملت بعض المخبوزات، لكن رائحة البيت كانت مؤسفة، والفوضى فيه عارمة - حتى بالنسبة إلى رجل يعيش بمفرده، لم يكن ثمة ما يبرر تلك الفوضى - ولم يكن يبدي أي امتنان لهن. كان يلقي ببقايا الفطائر وأطباق الطعام على الممشى الأمامي لبيته، فيكسر الأطباق. لم ترد أي امرأة أن يتندر الناس بأن السيد سيديكاب يأنف أن يتناول طعامها، فتركنه وشأنه. أو حتى ربما أثناء القيادة على الطريق، يمكن للمرء أن تقع عيناه عليه واقفا لا يحرك ساكنا في قناة الري، مختفيا بكامل جسمه تقريبا بين الأعشاب والحشائش الطويلة بينما تمر السيارات من أمامه مسرعة، ويحتمل أيضا أن يصادفه المرء في بلدة ما على بعد أميال من البيت، وحينئذ ثمة شيء غريب يحدث؛ كان وجهه يكتسي بمسحة من تعبيراته القديمة، جاهزا لمفاجأة ودية، فيلقي التحية على من يعيشون في مكان ويلقاهم في مكان آخر. وبدا أنه كان يعقد الآمال على أن تفتح له اللحظة ذراعيها، وأن تخترق الكلمات جدار العجز، بل ربما انمحت أيضا كل التغيرات التي طرأت عليه، هنا في مكان مختلف قد يسترد صوته وزوجته واستقراره القديم في الحياة.

كان الناس ودودين عادة، وصبورين إلى حد ما. قالت ماريان إنها لم تكن لتجبره على الابتعاد أبدا. قالت إنه بدا جامحا جدا هذه المرة، على عكس ما بدا عليه؛ إذ كان يحاول بيان ما يود أن يقوله فلا تخرج الألفاظ من فيه، أو عندما تثور ثائرته بسبب بعض الأطفال الذين كانوا يضايقونه. كان رأسه يتمايل للأمام والخلف، وبدا وجهه منتفخا كرضيع ينوح بصوت عال.

قالت له: «ما الخطب الآن، سيد سيديكاب؟ ما الذي تحاول أن تقوله لي؟ هل تريد سيجارة؟ هل تريد أن تقول إن اليوم الأحد، وإن السجائر نفدت منك؟»

ظل يهز رأسه للخلف والأمام، ثم لأعلى ولأسفل، ثم للخلف وللأمام مرة أخرى.

قالت ماريان: «هيا، احزم أمرك الآن.»

كل ما قاله هو: «آه، آه!» ووضع كفيه على رأسه فأطاح بقبعته، ثم ابتعد أكثر وطفق يمشي في مسار متعرج في الساحة بين المضخة وحبل الغسيل، مصدرا الأصوات نفسها: «آه، آه!» التي لم تستحل إلى كلمات مفهومة قط.

وهنالك دفعت ماريان كرسيها على حين غرة لدرجة أنه كاد يسقط. وقفت وبدأت تريهم كيف كان السيد سيديكاب يتصرف، فترنحت وربضت وضربت رأسها بكفيها، ولو أنهما لم يطيحا بقبعتها. هنالك استعرضت هذا المشهد أمام البوفيه، أمام طقم الشاي الفضي الذي أهدي للمحامي ستيفنز تقديرا لسنوات عمله الطويلة في مهنة المحاماة. أمسك زوجها قدح القهوة بكلتا يديه، وظل يراقبها بعينيه مراعاة لمشاعرها بكل ما أوتي من قوة إرادة. ثمة شيء ظهر على وجهه؛ تقلص لا إرادي أو عصب نفر في إحدى وجنتيه. كانت تراقبه هي الأخرى على الرغم من تصرفاتها الغريبة، وبدا أن نظرتها تملي عليه أن يتمهل وألا يحرك ساكنا.

لم يرفع المحامي ستيفنز عينيه قط حسبما تجلى لمورين.

قالت ماريان: «هكذا تصرف.» ثم جلست مجددا. هكذا تصرف، ولأنها كانت تشعر بتوعك حينئذ، خطر لها أنه ربما يعاني من ألم ما. «سيد سيديكاب، سيد سيديكاب، هل تحاول أن تخبرني أن رأسك يؤلمك؟ هل تريد أن أحضر لك قرصا مسكنا؟ هل تريد أن أصحبك إلى الطبيب؟»

لم يجبها ولم يتوقف لأجلها، بل واصل كلماته: «آه، آه!»

Unknown page