66

قالت المحاسبة وكأنها خمنت الانتقادات التي وجهت إليها وفندتها بشجاعة: «شعرت أنه شخص سطحي إلى حد ما.»

راسلت دونالد قائلة: «إنني أخفقت في محاولاتي التوفيق بين الناس. ومن أنا لأحاول على أية حال؟» اعتدت على مراسلة دونالد بانتظام واصفة بقدر الإمكان المكتبة والمدينة وحتى مشاعري التي لا تفسير لها. كان يعيش مع هيلين سكرتيرته. وراسلت نيلسون أيضا الذي ربما يعيش وحيدا، وربما لا، وربما عاد إلى سيلفيا. لا أحسبه عاد إليها؛ ظننت أنها ستؤمن بالسلوك الذي لا يغتفر والنهايات الحاسمة. أمسى له عنوان جديد. بحثت عنه في دليل هاتف لندن بالمكتبة العامة، وبعد بداية محملة بالسخط، استأنف دونالد الرد على رسائلي. كتب لي رسائل عادية بعيدة عن الأمور الشخصية، وممتعة نوعا ما عن أناس كنا نعرفهم، ومواقف وقعت في العيادة. ولم يراسلني نيلسون قط، فبدأت في إرسال خطابات مسجلة؛ حينئذ علمت أنه يستلمها على الأقل.

لا بد أن شارلوت وجوردي دلفا إلى المكتبة معا، لكنني لم أعلم أنهما زوجان حتى حان وقت رحيلهما. كانت شارلوت بدينة وغير متناسقة القوام، لكنها كانت سريعة الحركة، وردية البشرة، زرقاء العينين، يغطي رأسها كثير من الشعر الأبيض اللامع، وكانت تصففه كما تفعل الفتيات؛ حيث تدلى متموجا على كتفيها. وعلى الرغم من دفء الجو نوعا ما، كانت ترتدي رداء خارجيا رماديا داكنا بلا أكمام من القطيفة يحيط بحوافه فرو رمادي؛ رداء بدا وكأنه يستعمل أو كان يستعمل في فترة من الفترات كثوب مسرحي. تحت هذا الرداء، كانت ترتدي قميصا فضفاضا وبنطالا صوفيا مربع النقش، وفي قدميها العريضتين العاريتين المغبرتين كانت تنتعل صندلا مفتوحا. كان يصدر عنها صوت صليل كأنها ترتدي درعا مخبوءا. وعندما كانت تمد ذراعها لأعلى كي تجلب كتابا، كان يظهر هذا الشيء الذي يصدر الصليل. لقد كان ذلك صوت أساور كثيرة لا حصر لها، منها الثقيل ومنها الخفيف، منها اللامع ومنها ما فقد بريقه، وبعضها ازدان بمجموعة من الأحجار الكبيرة المربعة الملونة بلون حلوى الطوفي أو بلون الدم.

قالت لي وكأنها تستكمل حوارا عارضا وممتعا: «تخيلي ذلك المخلوق المحتال العجوز ما زال يتحرك.» التقطت كتابا لأناييز نين.

قالت: «لا تهتمي؛ فأنا أقول أشياء مريعة. إنني أحب هذه المرأة كثيرا، ولكن ذاك الرجل هو الذي لا أطيقه.» سألتها وقد بدأت تمسك بطرف الخيط: «هنري ميلر؟»

تابعت حديثها عن هنري ميلر وباريس وكاليفورنيا بنبرة تخللها التهكم والحماس ومسحة من التعاطف: «هذا صحيح.» بدا أنها كانت تعيش، على الأقل، إلى جوار الناس الذين كانت تتحدث عنهم. وأخيرا، وبسذاجة ، سألتها ما إذا كان هذا هو الحال.

فأجابتني قائلة: «لا، لا. أشعر وكأنني أعرفهم فحسب. ليس على المستوى الشخصي. حسن، بل على المستوى الشخصي. نعم، على المستوى الشخصي. هل هناك من مستوى آخر أعرفهم على أساسه؟ أعني أنني لم ألتق بهم وجها لوجه، ولكن في كتبهم؟ بالتأكيد هذا ما كانوا يقصدونه؟ أنا أعرفهم، أعرفهم لدرجة أنهم يصيبونني بالضجر؛ شأنهم شأن أي شخص تعرفينه. ألا تشعرين بذلك؟»

تحركت باتجاه الطاولة حيث وضعت مجموعة كتب أدبية صادرة عن مؤسسة «نيو دايريكشنز». قالت: «هذه هي المجموعة الجديدة إذن.» وأردفت وقد اتسعت عيناها إذ رأت صور جينزبرج وكورسو وفيرلينجتي: «يا للعجب!» وشرعت في القراءة باهتمام شديد جدا، لدرجة أنني حسبت أن أول شيء ستقوله سيكون جزءا من قصيدة ما.

قالت: «كنت مارة بالجوار ورأيتك هنا.» ثم وضعت الكتاب جانبا، وأدركت أنها تقصدني بكلامها. «رأيتك جالسة هنا، وحدثت نفسي أن أي امرأة شابة سيطيب لها - على الأرجح - أن تخرج لتقضي بعض الوقت في الخلاء، تحت ضوء الشمس. هل فكرت في تعييني هنا بحيث يتسنى لك الخروج؟»

قلت لها: «حسن، يسعدني أن ...» «إنني لست بلهاء بالمرة؛ فلدي قدر من المعرفة حقا. سليني عن مؤلف قصيدة «التحولات» للشاعر أوفيديوس. لا بأس، لا داعي للضحك.» «يسعدني ذلك حقا، ولكنني لا أستطيع أن أتحمل تكلفة تعيينك.» «آه، حسن! لعلك على حق؛ فأنا لست أنيقة بالقدر الكافي. الأرجح أنني سأتسبب في إحداث حالة من الفوضى هنا. الأرجح أنني سأجادل الناس إن أرادوا أن يشتروا كتبا أراها مخيفة.» لم يبد عليها الإحباط. أمسكت بنسخة من كتاب «نبتة الأفوكادو الفاسدة» وقالت: «ها هو! يجب أن أشتري هذا الكتاب لعنوانه المثير.»

Unknown page