قال آرثر بخشونة: «لم أكن أرى أن من اللائق تركه هكذا على الأرض!» خاب ظنه فيها، وشعر بالحرج لأجلها، لكنه حاول أن يتكلم دون أن تشي كلماته بأي انفعال، فخلا صوته من أي تأنيب. «ليس بإمكاني حتى أن أخبرك بلون شعره؛ فقد كان شعره مطموسا على نحو شبه كامل آنذاك.»
لم تنبس ببنت شفة للحظة أو اثنتين، ولم ينظر إليها، وبعدها قالت: «لا بد أنني أبدو كواحدة من هؤلاء اللائي يهيمن بمثل هذه الأمور.»
أصدر آرثر صوتا يعبر عن اعتراضه على ما قالت، لكن بدا له حقا أنها من هؤلاء.
قالت: «لم يكن ينبغي أن أسألك ... لم يكن ينبغي أن آتي على ذكر هذا الأمر. لا يمكنني أبدا أن أفسر لك علة سؤالي، كل ما أطلبه منك ألا تحسبني من هؤلاء أبدا إن كان في مقدورك ذلك.»
سمع آرثر كلمة «أبدا» لم يكن بوسعها أن تشرح له قط، يجب ألا يظن بها هذا أبدا. في خضم خيبة أمله، استشف اقتراحا ما، وهو أن تستمر حواراتهما، وربما على نحو أقل عشوائية. استشعر في نبرة صوتها تواضعا، لكنه كان تواضعا مستندا إلى ثقة من نوع ما، لا شك أنه كان جنسيا.
أم أن هذا ما حسبه لأن هذه الليلة الموعودة؟ كانت تلك ليلة السبت التي عادة ما كان يتوجه فيها إلى مدينة والي كل شهر. كان سيتوجه إلى هذه المنطقة تلك الليلة، وعرج على المكتبة في طريقه فحسب، لم يكن ينوي المكوث طويلا كما حدث. كانت تلك الليلة التي كان يزور فيها امرأة تدعى جين ماكفارلن . كانت جين ماكفارلن تعيش منفصلة عن زوجها، لكنها لم تكن تفكر في الطلاق منه. لم يكن لديها أطفال، وكانت تكسب قوت يومها من حياكة الملابس. التقاها آرثر أول مرة عندما زارت بيته لحياكة ملابس لزوجته. لم تكن علاقتهما قد بدأت آنذاك، ولم يخطر ببال أحدهما أن ثمة علاقة ستنشأ بينهما. كانت جين ماكفارلن أشبه بأمينة المكتبة من جوانب بعينها؛ كانت حسنة المنظر، وجريئة، وأنيقة، وبارعة في عملها مع أنها لم تكن شابة. ما عدا ذلك، لم يكن ثمة تشابه بينها وبين أمينة المكتبة، فهو لا يخطر بباله أبدا أن جين ماكفارلن قد تمثل لغزا لأي رجل، ثم تشعره بأنه لا سبيل لحل هذا اللغز. جين من النساء اللائي يشعرن الرجال بالسلام، والحوار المستتر الذي كان يدور بينه وبينها - الحوار المثير والمقتضب واللطيف - كان أشبه بالحوار الذي كان يدور بينه وبين زوجته.
ذهبت أمينة المكتبة باتجاه مفتاح المصباح الموجود بجانب الباب، وأطفأت المصباح الرئيسي، وأوصدت الباب، واختفت بين أرفف الكتب حيث أطفأت المصابيح هنالك أيضا على مهل؛ كانت ساعة المدينة تعلن تمام التاسعة. لا بد أنها اعتقدت أن ساعة المدينة كانت دقيقة؛ ساعته كانت تشير إلى التاسعة إلا ثلاث دقائق.
حان الوقت لأن ينهض من جلسته، حان وقت الرحيل، وقت الذهاب إلى منطقة والي. عندما انتهت من إطفاء المصابيح كلها، عادت وجلست إلى جواره.
قال لها: «لم أكن لأظن فيك ظن السوء قط، أو أفكر فيك بطريقة لا تسرك.»
لم يكن إطفاء المصابيح ليجعل المكان معتما إلى هذا الحد. صادف هذا الوقت منتصف الصيف، لكن بدا أن ثمة سحبا مطيرة تجمعت. عندما التفت آرثر للمرة الأخيرة إلى الشارع، وقعت عيناه على فيض من ضوء النهار: الناس يتسوقون، والصبية يرش بعضهم بعضا عند نافورة ماء الشرب، والفتيات يسرن في ملابسهن الصيفية الخفيفة الرخيصة المزخرفة بالورود، ما أتاح للشباب مراقبتهن من أي مكان يتجمعون فيه؛ سواء من على درج مكتب البريد، أم من أمام محل الأعلاف. والآن، وهو يتطلع مرة أخرى، رأى الشارع في حالة جلبة بسبب الريح الشديدة التي حملت في طياتها القليل من زخات المطر. كانت الفتيات يصحن ويضحكن ويضعن حقائبهن على رءوسهن وهن يهرعن إلى ملاذ آمن، في حين انشغل العاملون بالمحلات بفتح مظلات محلاتهم، وسحب سلال الفاكهة إلى الداخل، وكذا أرفف الأحذية الصيفية، وأدوات البستنة التي كانت معروضة على الأرصفة. سمع دوي صفق أبواب مبنى مجلس المدينة بعد أن هرعت المزارعات إلى الداخل ممسكات بأكياسهن وأطفالهن ليحتشدن في حمام السيدات. شخص ما حاول أن يفتح باب المكتبة. تطلعت أمينة المكتبة إلى الباب لكنها لم تتحرك. وسرعان ما هطلت الأمطار بغزارة في الشوارع، وضربت الريح سقف مبنى مجلس المدينة، وعصفت بقمم الأشجار. استمر هزيز الرياح والخطر المتعلق بها دقائق معدودة أثناء مرور العاصفة القوية بالمدينة، وبعدها لم يبق سوى صوت الأمطار التي كانت آنذاك تسقط رأسيا، بقوة شديدة جدا، وكأن المدينة تتعرض لشلال من المياه.
Unknown page