القاهرة
القاهرة عاصمة الديار المصرية، بناها الخلفاء الفاطميون في منتصف القرن الرابع للهجرة في مكان أناخوا فيه جمالهم يوم جاءوا لافتتاح الفسطاط؛ عاصمة القطر إذ ذاك. وفي ذلك المكان الآن حي الجمالية والجامع الأزهر وما جاورهما من الجوامع القديمة. وما زالت القاهرة منذ بنيت تتسع عمارتها، ولا سيما منذ حكمت العائلة المحمدية العلوية، وعلى نوع خاص في عهد الخديوي إسماعيل باشا؛ لأنه كان مغرما بفتح الشوارع، وتنظيم المدينة وتزيينها، فكثرت الشوارع الحديثة، وأنشئت المنازل والقصور خارج المدينة الأصلية، فكان لنا بذلك أحياء الإسماعيلية والفجالة، وشوارع الدواوين والعباسية وشبرا وغيرها. وجميع هذه الشوارع متسعة، والأشجار محدقة بها من الجانبين. وقد أنار الخديوي المشار إليه المدينة بالغاز، فأصبح ليلها كنهارها، وازدادت بهجة ورونقا، واستأنس الناس بالأنوار، واتساع الشوارع، وزخرفة الحدائق والمنازل والقصور، فأحبوا الطواف في المدينة في ليالي الصيف، فكثرت بسبب ذلك الأماكن العمومية، ولا سيما حول حديقة الأزبكية التي أصبحت الآن في منتصف المدينة، بعد أن كانت خارجها؛ لتكاثر العمارة هناك. وقد بنى الخديوي إسماعيل باشا حول الحديقة سورا محاطا بشبك الحديد تحدق به هالة من الأنوار الغازية، ورتب لها الموسيقى العسكرية تعزف كل مساء بالقرب من بحيراتها المستديرة.
فإذا دخلت الحديقة في المساء وأتيت الدكة المستديرة المزينة بالأنوار الغازية؛ حيث تعزف الموسيقى، ترى الناس محدقين بها أفواجا على اختلاف أجناسهم ونزعاتهم ومراتبهم ولغاتهم وألوانهم؛ من القوقاسي الأبيض الناصع إلى الزنجي الأسود الحالك، وترى في اختلاف لباسهم من العمامة العربية، والطربوش العثماني، والقاووق الفارسي، والبرنيطة الإفرنجية، والخمار المغربي، والحبرة المصرية، والإزار والبنطلون والقفطان والسراويل وغير ذلك. وقس عليه سائر ما يخطر كل من امتزاج الأنواع والأشكال، مما لا يتفق وجوده في غير مصر من الأمصار.
أما المدينة الأصلية، فبعكس كل ذلك؛ إذ لا يزال معظم أسواقها على النمط القديم مع الضيق وعدم الانتظام، وأما حاراتها فلم تنجع فيها وسائل التنظيف مع ما أراده الخديوي من الترتيب، وما تحداه من التنظيم، فهي لا تزال ضيقة الطرق، معوجة الدروب، وكأن الأقدمين أرادوا بتضييق الطرق استجلاب البرودة بحجب أشعة الشمس عنها. وأما الخديوي فعوض عن ذلك في الشوارع الحديثة بغرس الأشجار التي تظلل الطرق، وترطب الهواء بما يتصاعد عنها وعن الطرق المرشوشة بالماء من البخار.
الفصل الثاني
شفيق
ففي سنة 1878 كان في شارع العباسية في القاهرة منزل مبني على النمط الحديث كسائر المنازل الحديثة هناك، ومن أقلها بهجة وكبرا، تحدق به حديقة صغيرة بسيطة. والمنزل مشرف على الشارع العمومي المظلل بأشجار اللبخ المغروسة على جانبيه كسائر الشوارع الحديثة.
والبيت مؤلف من غرف قليلة مفروشة بالأثاث البسيط غير الثمين، ولكنه في غاية النظافة والترتيب، وفي جملة هذه الغرف غرفة أثمن ما فيها خزانتان ملآنتان كتبا في لغات مختلفة، وفي أحد أركانها طاولة عليها بعض الكتب، وبجانبها رجل بين الأربعين والخمسين من العمر، عليه لباس إفرنجي، وليس على رأسه شيء على أنه لم يكن إفرنجي النزعة، وكان جالسا على كرسي ساندا يده الواحدة إلى الطاولة، وفي يده الأخرى كتاب يطالع فيه، وليس في الغرفة غيره، والباب مغلق عليه.
أما الرجل فكان قمحي اللون، أسود الشعر، واسع الجبهة، حليق اللحية، في شعره شيب، وفي وجهه تجعد، وفي عينيه ذكاء، وفي أسرته عبوس؛ كأنه ناقم على الدهر الذي قضى عليه بالاكتفاء من الدنيا بولد ذكر قد أنفق كل حياته في تربيته وتثقيفه، فضلا عن أنه ما انفك منذ سنين كاسف البال، مرتبك الأفكار، منقبض النفس كأنه أصيب بنكبة من نكبات الزمان. ولم يكن أحد يعلم سبب ذلك الارتباك حتى ولا امرأته، مع أنها حاولت استطلاع ذلك مرارا، وكان ينكر عليها تارة ويعدها أخرى.
فمر عليها منذ تزوجها نحو العشرين سنة وهي حائرة في أمره لا يهدأ لها بال إلا بمعرفة سبب ذلك الانقباض.
Unknown page