وينبش عنه كلبه وهو ضاربه
قال أبو عبيدة: قيل هذا الشعر في رجل من أهل البصرة خرج إلى الجبان ينظر ركابه، فتبعه كلب له فضربه وطرده وكره أن يتبعه فرماه بحجر فأدماه، فأبى الكلب إلا أن يتبعه، فلما صار إلى الموضع وثب به قوم كانت له عندهم طائلة، وكان معه جار له وأخ فهربا عنه وتركاه وأسلماه، فجرح جراحات كثيرة ورمياه في بئر وحثي عليه التراب حتى واروه، ولم يشكوا في قلوبهم أنه قد مات، والكلب مع هذا يهر عليهم وهم يرجمونه، فلما انصرفوا أتى الكلب إلى رأس البئر، فلم يزل يعوي، ويبحث في التراب بمخالبه حتى ظهر رأسه، وفيه نفس يتردد، وقد كان أشرف على التلف، ولم يبق فيه إلا حشاشة نفسه ووصل إليه. فبينما هو كذلك إذ مر أناس فأنكروا مكان الكلب، ورأوه كأنه يحفر قبرا، فجاءوا، وإذا هم بالرجل على تلك الحال فاستخرجوه حيا، وحملوه إلى أهله، فزعم أبو عبيدة أن ذلك الموضع يدعى بئر الكلب، وهذا الأمر يدل على وفاء طبيعي وإلف غريزي ومحاماة شديدة، وعلى معرفة وصبر وكرم وغناء عجيب ومنفعة تفوق المنافع.
الكلب والسلطان
حدث عبيد الله بن محمد الكاتب؛ قال: مر رجل على بعض السلاطين، وكان معه عامل أرمينية منصرفا إلى منزله، فمر في طريقه بمقبرة، وإذا قبر عليه قبة مبنية مكتوب عليها: هذا قبر الكلب، فمن أحب أن يعلم خبره فليمض إلى قرية كذا وكذا؛ فإن فيها من يخبره. فسأل الرجل عن القرية، فدلوه عليها، فقصدها، وسأل أهلها فدلوه على شيخ، فبعث إليه وأحضره، وإذا شيخ قد جاز المائة سنة فسأله، فقال: نعم، كان في الناحية ملك عظيم الشأن، وكان مشتهرا بالنزهة والصيد والسفر، وكان له كلب قد رباه وسماه باسم، لا يفارقه حيث كان ، فإذا كان في وقت غدائه وعشائه أطعمه مما يأكل، فخرج يوما إلى بعض متنزهاته، وقال لبعض غلمانه: قل للطباخ يطبخ لنا ثردة لبن فقد اشتهيتها فأصلحوها، فمضى إلى متنزهه، فوجه الطباخ، فجاء بلبن وصنع له ثردة عظيمة، ونسي أن يغطيها بشيء، واشتغل بطبيخ أشياء أخر، فخرج من بعض شقوق الحيطان أفعى فكرع في ذلك اللبن، ومج في الثردة من سمه، والكلب رابض يرى ذلك كله، ولو كان له في الأفعى حيلة لمنعه، ولكن لا حيلة للكلب في الأفعى، وكان عند الملك جارية خرساء زمنة قد رأت ما صنع الأفعى، وأوفى الملك من الصيد في آخر النهار، فقال: يا غلمان، أول ما تقدمون لي الثردة. فلما وضعت بين يديه أومأت الخرساء إليه، فلم يفهم ما تقول، ونبح الكلب وصاح، فلم يلتفت إليه، ولج في الصياح، فلم يعلم مراده، ثم رمى إليه بما كان يرمى إليه في كل يوم، فلم يقتربه ولج في الصياح، فقال للغلمان: نحوه عنا فإن له قصة. ومد يده إلى اللبن، فلما رآه الكلب يريد أن يأكل طفر إلى وسط المائدة، وأدخل فمه في الغضارة، وكرع من اللبن فسقط ميتا وتناثر لحمه، وبقي الملك متعجبا منه ومن فعله، فأومأت الخرساء إليهم فعرفوا مرادها بما صنع الكلب، فقال الملك لندمائه وحاشيته: إن شيئا فداني بنفسه لحقيق بالمكافأة، وما يحمله ويدفنه غيري. ودفنه بين أبيه وأمه، وبنى عليه قبة، وكتب عليها ما قرأت. فهذا ما كان من خبره.
الطفل الرضيع وخلاصه على يد كلبة
ذكر أبو عبد الله بن أبي عبيدة النحوي وهو حديث مشهور: أن الطاعون الجارف أتى على أهل دار، فلم يشك أحد من أهل المحلة أنه لم يبق فيها صغير ولا كبير. وقد كان بقي في الدار صبي يرضع، يحبو ولا يقوم، فعمد من بقي من أهل تلك المحلة إلى باب الدار فسدوه، فلما كان بعد ذلك بأشهر تحول إليها بعض ورثة القوم، ففتح الباب، فلما أفضى إلى عرصة الدار إذا هو بصبي يلعب مع جري كلبة كانت لأصحاب الدار، فلما رآها الصبي حبا إليها فأمكنته من لبنها، فعلموا أن الصبي بقي في الدار وصار منسيا، واشتد جوعه ورأى جراء الكلبة ترضع فعطف عليها، فلما سقته مرة أدامت له، وأدام هو الطلب.
الأسير والكلب
حدث محمد بن حسين الشداد قال: ولاني القسم خلافة أحمد بن ميمون بشايرزان، فقصدت علي بن أحمد الراسبي إلى دور الراسبي، فنزلت في بعض منازلها، فوجدت في جواري جنديا من أصحابه يعرف بنسيم كان برسم لطيف غلامه، وإذا كلب يخرج بخروجه ويدخل بدخوله، وإذا جلس على باب قربه وغطاه بدواج كان عليه، فسألت الراسبي عن محل الغلام، وكيف يقنع الأمير منه بدخول الكلب عليه، ويرضى منه بذلك، وليس بكلب صيد زئتي، قال الوليد: سله عن حديثه، فإنه يخبرك بشأنه. فأحضرت الغلام فسألته عن السبب الذي استحق هذه المنزلة منه، فقال: هذا خلصني بعد الله - عز وجل - من أمر عظيم. فاستبشعت هذا القول وأنكرته عليه، فقال لي: اسمع حديثه فإنك تعذرني: كان يصحبني رجل من أهل البصرة يقال له محمد بن بكر لا يفارقني، ويؤاكلني ويعاشرني على النبيذ وغيره منذ سنين، فخرجنا نقاتل أهل الدينور، فلما رجعنا وقربنا من منزلنا كان في وسطي هميان فيه جملة دنانير، ومعي متاع كثير أفدته من الغنيمة قد وقف عليه بأسره، فنزلنا في موضع فأكلنا وشربنا، فلما عمل الشراب في عمد إلي فشد يدي إلى رجلي، وأوثقني كتافا ورمى بي في واد، وأخذ كل ما كان معي، وتركني ومضى، وأيست من الحياة، وقعد هذا الكلب معي، ثم تركني ومضى، فما كان بأسرع من أن وافاني ومعه رغيف فطرحه بين يدي فأكلته، ولم أزل أحبو إلى موضع فيه فشربت، ولم يزل الكلب معي باقي ليلتي يعوي إلى أن أصبحت فحملتني عيني، وفقدت الكلب، فما كان أسرع من أن وافاني ومعه رغيف أكلته، وفعلت فعلي في اليوم الأول. فلما كان في اليوم الثالث غاب عني، فقلت: مضى يجيئني بالرغيف. فلم ألبث أن جاء ومعه الرغيف، فرمى به إلي فلم أستتم أكله إلا وابني على رأسي يبكي ، وقال: ما تصنع ها هنا، وأيش قصتك؟ ونزل فحل كتافي وأخرجني، فقلت له: من أين علمت بمكاني، ومن دلك علي؟ قال: كان الكلب يأتينا في كل يوم فنطرح له رغيفا على رسمه فلا يأكله، وقد كان معك فأنكرنا رجوعه وليس أنت معه، فكان يحمل الرغيف في فيه ولا يذوقه ويخرج يعدو، فأنكرنا أمره، فاتبعته حتى وقفت عليك. فهذا ما كان من خبري وخبر الكلب، فهو عندي أعظم مقدارا من الأهل والقرابة. قال: ورأيت أثر الكتاف في يديه قد أثر أثرا قبيحا.
حديث اللص التائب مع كلب العجوز
وحدثني لص تائب قال: دخلت مدينة (قد ذكرها لي)، فجعلت أطلب شيئا أسرقه فلم أصب، فوقعت عيني على صيرفي موسر، فما زلت أحتال حتى سرقت كيسا له، وانسللت فما جزت غير بعيد، وإذا بعجوز معها كلب قد وقعت في صدري تبوسني وتلزمني، وتقول: يا بني، فديتك. والكلب يبصبص بي ويلوذ بي، ووقف الناس ينظرون إلينا، وجعلت المرأة تقول: بالله، انظروا إلى الكلب كيف قد عرفه! فعجب الناس من ذلك، وتشككت أنا في نفسي، وقلت: لعلها أرضعتني وأنا لا أعرفها. وقالت: «هلم» معي إلى البيت أقم عندي. فلم تفارقني حتى مضيت معها إلى بيتها، وإذا عندها جماعة أحداث يشربون، وبين أيديهم من جميع الفواكه والرياحين، فرحبوا بي وقربوني وأجلسوني معهم، ورأيت لهم بزة حسنة وضعت عيني عليها، فجعلت أسقيهم ويشربون وأرفق بنفسي إلى أن ناموا ونام كل من في الدار، فقمت وكورت ما عندهم وذهبت أخرج، فوثب علي الكلب وثبة الأسد، وصاح وجعل يتراجع وينبح إلى أن أنبه كل نائم، فخجلت واستحييت، ولما كان النهار فعلوا مثل فعلهم أمس، وفعلت أيضا أنا بهم مثل ذلك، وجعلت أوقع الحيلة في أمر الكلب إلى الليل فما أمكنتني فيه حيلة، فلما ناموا رمت الذي رمته، فإذا الكلب قد عارضني بمثل ما عارضني به، فجعلت أحتال ثلاث ليالي، فلما أيست طلبت الخلاص منهم بإذنهم وقلت: أتأذنون - أعزكم الله - فإني على وفاء؟ فقالوا : الأمر إلى العجوز. فاستأذنت، فقالت: هات ما معك الذي أخذته من الصيرفي وامض حيث شئت، ولا تقم في هذه المدينة، فإنه لا يتهيأ لأحد يعمل فيها لأحد معي عملا. فأخذت الكيس وأخرجتني، ووجدت أنا أيضا مناي أن أسلم من يدها، فكان قصاراي أن أطلب منها نفقة فدفعت إلي، وخرجت معي حتى أخرجتني عن المدينة، والكلب معها، حتى جزت حدود المدينة ووقفت ومضيت والكلب يتبعني حتى بعدت، ثم تراجع ينظر إلي وأنا أنظر إليه حتى غاب عني.
Unknown page