وأعلنت أيام نيسان لسكان تلك القرية سرائر الحب الخفية الكائنة بين روح خليل وروح مريم ابنة راحيل فتهللت وجوههم فرحا، ورقصت قلوبهم ابتهاجا، ولم يعودوا يخشون ذهاب الشاب الذي أيقظ قلوبهم إلى محيط أوسع وأرقى من وسطهم فطافوا يبشرون بعضهم بعضا بصيرورته جارا قريبا وصهرا محبوبا لكل واحد منهم.
ولما جاءت أيام الحصاد خرج الفلاحون إلى الحقول وجمعوا الأغمار على البيادر ولم يكن الشيخ عباس هناك ليغتصب الغلة ويحملها إلى أهرائه ومخازنه بل كان كل من الفلاحين يستغل الحقل الذي فلحه وزرعه فامتلأت تلك الأكواخ من القمح والذرة والخمر والزيت.
أما خليل فكان يشاطرهم الأتعاب والمسرات ويساعدهم بجمع الغلة وعصر العنب واجتناء الأثمار، ولم يكن يميز نفسه عن الواحد منهم إلا بمحبته ونشاطه.
منذ تلك السنة إلى أيامنا هذه أصبح كل فلاح في تلك القرية يستغل بالفرح الحقل الذي زرعه بالأتعاب، ويجمع بالمسرة ثمار البستان الذي غرسه بالمشقة، فصارت الأرض ملكا لمن يفلحها، والكروم نصيبا لمن ينقبها ويحرثها.
والآن وقد انقضى نصف قرن على هذه الحادثة، وراودت اليقظة أجفان اللبنانيين، يمر المسافر على طريقه إلى غابة الأرز ويقف متأملا بمحاسن تلك القرية الجالسة كالعروس على كتف الوادي فيرى أكواخها قد صارت بيوتا جميلة مكتنفة بالحقول الخصبة والحدائق الناضرة، وإن سأل أحد سكانها عن تاريخ الشيخ عباس يجبه مشيرا نحو حجارة متقوضة وجدران مهدومة مرتمية قائلا: «هذا قصر الشيخ عباس وهذا هو تاريخ حياته.» وإن سأله عن خليل يرفع يده إلى العلاء قائلا: «هناك يسكن خليلنا الصالح، أما تاريخ حياته فقد كتبه آباؤنا بأحرف من شعاع على صفحات قلوبنا فلن تمحوه الأيام والليالي.»
Unknown page