فقالت راحيل: «كثار هم الذين يعيشون حسب العاطفة الخفية الكائنة في قلوبهم، وكثار هم الذين يعتقدون بأن هذه العاطفة هي ظل الناموس الذي سنه الله للإنسان. ولكنهم لا يفرحون قط بأيامهم بل يظلون تعساء حتى الموت.»
فأجابها خليل قائلا: «باطلة هي الاعتقادات والتعاليم التي تجعل الإنسان تعسا في حياته، وكذابة هي العواطف التي تقوده إلى اليأس والحزن والشقاء؛ لأن واجب الإنسان أن يكون سعيدا على الأرض وأن يعلم سبل السعادة ويكرز باسمها أينما كان، ومن لا يشاهد ملكوت السموات في هذه الحياة لن يراه في الحياة الآتية؛ لأننا لم نجئ هذا العالم كالمنفيين المرزولين بل جئنا كالأطفال الأغبياء لكي نتعلم من محاسن الحياة وأسرارها عبادة الروح الكلي الخالد واستطلاع خفايا نفوسنا. هذه هي الحقيقة التي عرفتها عندما قرأت تعاليم يسوع الناصري وهذا هو النور الذي انبثق من داخلي وأبان لي الدير ومن فيه كهوة مظلمة تنبعث من أعماقها الأشباح المخيفة لتميتني، هذا هو السر الخفي الذي أعلنته البرية الجميلة لنفسي عندما كنت أجلس جائعا باكيا متأوها في ظل الأشجار؛ ففي يوم وقد سكرت نفسي من هذه الخمرة السماوية تشجعت ووقفت بين الرهبان إذ كانوا جالسين في حديقة الدير مثلما تربض البهائم المتخومة وأخذت أبين لهم أفكاري وأتلو على مسامعهم آيات الكتاب التي تبين ضلالهم وكفرهم. قلت لهم: لماذا نصرف الأيام في هذه الخلوة متمتعين بخيرات الفقراء والمساكين مستطيبين الخبز المعجون بعرق جبينهم ودموع أجفانهم متلذذين بغلة الأرض المسلوبة منهم؟ لماذا نعيش في ظلال التواني والكسل مبتعدين عن الشعب المحتاج إلى المعرفة حارمين البلاد قوى نفوسنا وعزم سواعدنا؟ إن يسوع الناصري قد بعثكم كالخراف بين الذئاب فأي تعاليم جعلتكم تصيرون كالذئاب بين الخراف؟ لماذا تبتعدون عن البشر وقد خلقكم الله بشرا؟ إذا كنتم أفضل من الناس السائرين في موكب الحياة فعليكم أن تذهبوا إليهم وتعلموهم وإن كانوا أفضل منكم فامتزجوا بهم وتعلموا. كيف تنذرون الفقر وتعيشون كالأمراء وتنذرون الطاعة وتتمردون على الإنجيل وتنذرون العفة وقلوبكم مفعمة بالشهوات؟ أنتم تتظاهرون بقتل أجسادكم ولكنكم لا تقتلون غير نفوسكم، وتتظاهرون بالترفع عن العالميات وأنتم أكثر الناس طمعا. وتتظاهرون بالتنسك والتقشف وأنتم كالبهائم المشغولة عن المعرفة بطيب المرعى. تعالوا نعيد أراضي الدير الوسيعة إلى سكان هذه القرى المحتاجين ونرجع إلى جيوبهم الأموال التي أخذناها، تعالوا نتفرق إلى كل ناحية مثلما تتفرق أسراب الطيور فنخدم الشعب الضعيف الذي جعلنا أقوياء، ونصلح البلاد التي نعيش بخيراتها، ونعلم هذه الأمة التعسة أن تبتسم لنور الشمس وتفرح بمواهب السماء ومجد الحياة والحرية؛ لأن المتاعب التي نجدها بين الناس هي أجل وأجمل من الراحة التي نستسلم إليها في هذا المكان، والرأفة التي نلامس بها قلب القريب هي أسمى من الفضيلة المختبئة في قراني الدير، وكلمة التعزية التي نقولها على مسامع الضعيف والمجرم والساقطة هي أشرف من الصلاة الطويلة التي نرددها في الهيكل.»
وسكت خليل دقيقة مسترجعا أنفاسه ثم رفع عينيه نحو راحيل ومريم وقال بصوت هادئ: «كنت أتكلم بهذه الأشياء وما يشابهها أمام الرهبان وهم سامعون ودلائل الاستغراب بادية على وجوههم كأنهم لم يصدقوا بأن فتى مثلي يقف بينهم ويتكلم متجاسرا بمثل هذا الكلام حتى إذا ما انتهيت اقترب أحدهم وقال صارفا أسنانه: «أتتجرأ أيها الضعيف وتتلفظ أمامنا بمثل هذا الكلام؟» واقترب آخر وقال ضاحكا مستهزئا: «هل تعلمت هذه الحكمة من البقر والخنازير التي رافقتها كل أيام حياتك؟» وجاء آخر وقال متوعدا: «سوف ترى ما يحل بك أيها الخبيث الكافر.» ثم تفرقوا عني إلى كل ناحية مثلما يبتعد الأصحاء عن الأبرص، وذهب بعضهم وشكوني إلى الرئيس فاستدعاني عند غروب الشمس وبعد أن وبخني بقساوة على مسمع من الرهبان المبتهجين أمر بجلدي فجلدت بسياط من المرس، ثم حكم بسجني شهرا كاملا، فاقتادني الرهبان متقهقهين فرحين إلى غرفة رطبة مظلمة ... انقضى الشهر وأنا مطروح في ذلك القبر لا أرى النور ولا أشعر بغير دبيب الحشرات ولا ألمس سوى التراب ولا أعرف نهاية الليل من بدء النهار ولا أسمع سوى وطء أقدام أحد الرهبان عندما يجيء ويضع بقربي كسرة من الخبز اليابس العطن وطاسا من الماء الممزوج بالخل، ولما خرجت من ذلك السجن ورأى الرهبان نحول جسدي واصفرار وجهي توهموا بأن أميال نفسي قد ماتت في داخلي وأنهم بالجوع والعطش والعذاب قد قتلوا العاطفة التي أحياها الله في قلبي ... مرت الأيام أثر الليالي وأنا أجهد النفس مفكرا في ساعات انفرادي بما يجعل أولئك الرهبان يرون النور ويسمعون نغمة الحياة، ولكن باطلا كنت أفتكر وأفتكر، لأن الغشاء الكثيف الذي حاكته الأجيال الطويلة على بصائرهم لا تمزقه الأيام القليلة، والطينة التي طلت بها الغباوة آذانهم قد تحجرت فلا تزيلها ملامس الأصابع الناعمة.»
وبعد سكينة مملوءة بالتنهدات رفعت مريم رأسها والتفتت نحو والدتها كأنها تستأذنها بالكلام ثم نظرت بكآبة نحو خليل وسألته قائلة: «هل عدت وتكلمت ثانية أمام الرهبان فطردوك من الدير في هذه الليلة المخفية التي تعلم الإنسان أن يكون رؤوفا ورفوقا حتى بأعدائه؟»
فقال الشاب: «في هذا المساء عندما تعاظم هول العاصفة وابتدأت العناصر تتحارب في الفضاء جلست منفردا عن الرهبان المستدفئين حول النار والمشغولين بسرد الحوادث والحكايات المضحكة وفتحت الإنجيل متأملا بتلك الأقوال التي تستميل النفس وتنسيها غضب الطبيعة وقساوة العناصر، ولما رآني الرهبان بعيدا عنهم اتخذوا انفرادي سببا للسخرية بي، فجاء بعضهم ووقفوا بقربي وأخذوا يتغامزون ويضحكون ويشيرون نحوي مستهزئين، فلم أحفل بهم بل أطبقت الكتاب وبقيت ناظرا من النافذة، فتململوا لذاك غيظا ونظروا إلي شزرا لأن سكوتي قد أيبس عواطفهم ثم قال أحدهم ساخرا: «ماذا تقرأ أيها المصلح العظيم؟» فلم أرفع عيني نحو المتكلم بل فتحت الإنجيل وقرأت منه بصوت عال هذه الآية: «وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعتمدوا منه: يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟ فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة، ولا تبتدئوا تقولون في نفوسكم: إن لنا إبراهيم أبا؛ لأني أقول: لكم إن الله قادر على أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم، والآن وقد وضعت الفأس على أصل الشجرة فكل شجرة لا تعطي ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار. وسأله الجموع قائلين: فماذا نفعل؟ فأجاب وقال لهم من: له ثوبان فليعط من ليس له ومن له طعام فليفعل هكذا.» عندما قرأت هذه الكلمات التي قالها يوحنا المعمدان سكت الرهبان دقيقة كأن يدا خفية قد قبضت على أرواحهم ولكنهم عادوا وقهقهوا ضاحكين ثم قال أحدهم: «قد قرأنا هذا الكلام مرات عديدة ولسنا نحتاج لرعاة البقر أن يرددوه على مسامعنا.» فقلت: «لو كنتم تقرأون هذه الآيات وتفهمونها لما كان سكان هذه القرى المغمورة بالثلوج يتأففون بردا ويتضورون جوعا وأنتم ههنا تتمتعون بخيراتهم وتشربون عصير كرومهم وتأكلون لحوم مواشيهم.» لم تخرج هذه الألفاظ من بين شفتي حتى صفعني أحد الرهبان على وجهي كأني لم أتكلم بغير الحماقة، ثم رفسني آخر برجله وآخر انتزع الكتاب من يدي، وآخر نادى الرئيس فجاء مسرعا وإذ أخبروه بما جرى تعالت قامته وزوى ما بين عينيه وارتجف غضبا وصرخ بأعلى صوته: «اقبضوا على هذا الشرير المتمرد وجروه بعيدا عن الدير، ودعوا العناصر الغضوبة تعلمه الطاعة، أخرجوه إلى الظلمة الباردة لتفعل به الطبيعة مشيئة الله، ثم اغسلوا أكفكم خوفا من سموم الكفر المتعلقة بأثوابه وإن عاد متضرعا متظاهرا بالتوبة فلا تفتحوا له الأبواب؛ لأن الأفعى إذا سجنت في القفص لا تنقلب حمامة والعليقة إذا غرست في الكرم لا تثمر تينا».»
حينئذ قبض الرهبان علي وجروني بعنف إلى خارج الدير وعادوا ضاحكين وقبل أن يوصدوا الأبواب سمعت أحدهم يقول ساخرا: «كنت بالأمس ملكا وكانت رعيتك البقر والخنازير، وقد خلعناك اليوم أيها المصلح لأنك أسأت السياسة فاذهب الآن وكن ملكا على الذئاب الجائعة والغربان المتطايرة وعلمها كيف يجب أن تعيش في كهوفها وأوجرتها.»
وتنهد خليل تنهيدة عميقة ثم حول وجهه ونظر إلى النار المتأججة في الموقد، وبصوت جارح بحلاوته قال: «هكذا طردت من الدير، وهكذا سلمني الرهبان إلى يد الموت فسرت والضباب يحجب الطريق عن بصري والأرواح الشديدة تمزق أثوابي والثلوج المتراكمة تتمسك بركابي حتى وهنت قواي فسقطت مستغيثا صارخا صراخ يائس شعر بأنه لا يوجد من يسمعه سوى الموت المخيف والأودية المظلمة، ولكن من وراء الثلوج والأرياح، من وراء الظلمة والغيوم، من وراء الأثير والكواكب ومن وراء كل شيء قوة هي كل معرفة وكل رحمة قد سمعت صراخي وندائي فلم تشأ أن أموت قبل أن أتعلم ما بقي من سرائر الحياة فبعثتكما إلي لكي تسترجعاني من أعماق الهاوية والعدم.»
وسكت الشاب والمرأتان تنظران إليه بانعطاف وإعجاب وشفقة كأن نفسيهما قد فهمتا خفايا نفسه واشتركتا معها بالشعور والمعرفة، وبعد هنيهة مدت راحيل يدها أسر إرادتها ولمست يده بلطف وقالت والدموع تتلمع في عينيها: «إن من تختاره السماء نصيرا للحق لا تفنيه المظالم ولا تميته الثلوج والعواصف.»
وهمست مريم قائلة: «إن العواصف والثلوج تفني الزهور ولكنها لا تميت بذورها.»
فقال خليل وقد أنارت التعزية وجهه المصفر مثلما تنير أشعة الفجر خطوط الأفق: «إن كنتما لا تحسباني متمردا وكافرا كما يحسبني الرهبان يكون الاضطهاد الذي لقيته في الدير رمزا للشدة التي تعانيها الأمة قبل بلوغها المعرفة، وتكون هذه الليلة التي كادت تميتني شبيهة بالثورات التي تتقدم الحرية والمساواة؛ لأن من قلب الامرأة الحساس تنبثق سعادة البشر ومن عواطف نفسها الشريفة تتولد عواطف نفوسهم .»
Unknown page