ولزت العروس إلى حبيبها وألقت شفتيها على شفتيه الباردتين وخرجت هذه الكلمات المتقطعة مع أنفاسها الأخيرة: «انظر يا حبيبي، انظر يا عريس نفسي كيف وقف الحساد حول مضجعنا، انظر عيونهم المحدقة بنا، واسمع صرير أسنانهم وتكسير ضلوعهم، قد انتظرتني طويلا يا سليم فها أنذا. قد كسرت القيود وفككت السلاسل فلنسرعن نحو الشمس فقد طال وقوفنا في الظل، ها قد امحت الرسوم وانحجبت الأشياء فلم أعد أرى سواك يا حبيبي، ها شفتاي فاقتبل أنفاسي الأخيرة، هلم نذهب يا سليم فقد رفع الحب أجنحته وسبح أمامنا نحو دائرة النور.»
وألقت العروس صدرها على صدر حبيبها فامتزجت دماؤها بدمائه وأحنت رأسها على عنقه وظلت عيناها محدقتين بعينيه.
ولبث الناس صامتين هنيهة وقد اصفرت وجوههم وتراخت ركابهم كأن هيبة الموت قد سلبتهم القوة والحراك.
فتقدم إذ ذاك الكاهن الذي ضفر بتعاليمه أكاليل ذلك العرس وأشار بيمينه نحو القتيلين ونظر نحو القوم المذهولين وخاطبهم بصوت خشن قائلا: «معلونة هي الأيدي التي تمد إلى هذين الجسدين الملطخين بدماء الجريمة والعار، وملعونة هي الأعين التي تذرف دموع الحزن على هالكين قد حملت الأبالسة روحيهما إلى الجحيم، لتبق جثة ابن سادوم وجثة ابنة عمورة مطروحتين على هذا التراب الدنس المجبول بدمائهما حتى تتقاسم لحمانهما الكلاب وتذري عظامهما الرياح. اذهبوا إلى مساكنكم أيها الناس واهربوا من الرائحة المنتنة المتصاعدة من داخل قلبين جبلتهما الخطيئة وسحقتهما الرذيلة، تفرقوا أيها الواقفون بقرب هاتين الجيفتين، وانصرفوا مسرعين قبل أن تلسعكم ألسنة النار الجهنمية ومن يبق منكم ههنا يكن محروما ومرذولا فلا يدخل الهيكل الذي يركع فيه المؤمنون ولا يشترك بالصلاة التي يقدمها المسيحيون!»
فتقدمت سوسان، تلك الصبية التي بعثتها العروس رسولا إلى حبيبها، ووقفت أمام الكاهن ونظرت إليه بعينين مغرورقتين بالدموع وقالت بشجاعة: «أنا أبقى هنا أيها الكافر الأعمى وانا أحرسهما حتى يجيء الفجر وأنا أحفر لهما قبرا تحت هذه الأغصان المتدلية، فإن منعتم عني محفرا مزقت صدر الأرض بأصابعي، وإن ربطتم ساعدي حفرته بأسناني، أسرعوا من هذا المكان المملوء برائحة البخور واللبان فالخنازير تأبى استنشاق العطور الزكية، واللصوص الخاطفة تهاب رب البيت وتخشى قدوم الصباح، أسرعوا إلى مضاجعكم المظلمة لأن أغاني الملائكة المتموجة فوق شهيدي الحب لا تدخل آذانكم المسدودة بالتراب.»
وتفرق الناس من أمام وجه الكاهن العبوس ولبثت تلك الصبية واقفة بقرب الجثتين الهامدتين كأنها أم رقوب تحرس طفليها في سكينة الليل ولما توارى الجمع وخلا ذلك المكان استسلمت للبكاء والنحيب.
خليل الكافر
1
كان الشيخ عباس بين سكان تلك القرية المنزوية في شمال لبنان كالأمير بين الرعية، وكان منزله القائم بين أكواخهم الحقيرة يشابه الجبار الواقف بين الأقزام. وكانت معيشته ممتازة عن معيشتهم بميزة السعة عن العوز وأخلاقه مختلفة عن أخلاقهم باختلاف القوة عن الضعف.
إن تكلم الشيخ عباس بين أولئك الفلاحين أحنوا رؤوسهم إعجابا كأن القوى العقلية قد انتدبته ممثلا لها واتخذت لسانه ترجمانا عنها، وإن غضب ارتجفوا جزعا وتبددوا من أمام وجهه مثلما تتراكض أوراق الخريف أمام الأرياح وإن صفع خد رجل منهم ظل ذلك الرجل جامدا صامتا كأن الضربة قد أتت من السماء؛ فمن الكفر أن يتجاسر أو يرفع عينيه ليرى من أنزلها. وإن تبسم لرجل آخر قال الجميع: ما أسعده فتى رضي عنه الشيخ عباس.
Unknown page