دقات قلبي تحطم زجاج العناية المركزة
... وكنت هناك، فوق ذلك الجبل، أنادي ولا أحد يرد. وكنت في ذات اللحظة في سجن على عمق 80 ألف فرسخ تحت الأرض، أرسل زفيري ولا يردون لي شهيقي. وكنت في ذات اللحظة على الحدود، تنغزني الأسلاك الشائكة، فيسيل دمي ويصنع جسرا إلى الضفة الأخرى. وكنت في ذات اللحظة، أعد من نافذة الطائرة البحور والمحيطات التي أعبرها، كطائر بجناح بلاستيكي وحيد، كطائرة بلا طيار، تقصف الذكريات ولا تعود، وكنت هناك، لكنني لم أكن قط هنا.
حين باغتتني الوحدة، ماتت يدي على الكيبورد، ولم ألحق الجنازة. ناديت بمائة ألف متجاورة هكذا «ياااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا» لكن لم يرد أحد من الضفة الأخرى؛ ربما لأني لم أعرف من أريد أن أنادي ، ربما لأنه ليس ثمة أحد على الضفة الأخرى، ربما لأنه ليس هناك ضفة أخرى، ربما لأنني لست هنا، ربما لأنني لست موجودا. لكنه صوتي نائما أسفل السور، وحيدا تماما مثل مدينة تحضن الغرباء ولا تعرف أحدا منهم، لا تلقي السلام ولا يردون التحية، يدحرجون الصمت على المناضد ككرة لا تجد من يصدها. مددت يدي لأسند الجدار الذي مال، رفعت رأسي لأثقب السقف وأعبر باحثا عن صوتي، حكيت للمارة فلم يسمع أحد، نمت، فنعست، ثم مت، حتى نمت الأشجار فوق جسدي، واستخرجوا من فمي البترول. لم أرد على إشارات السماء؛ لأنني لم تنبت لي يد بعد.
منذ ثلاث ساعات كنت طفلا، منذ ساعة واحدة كنت جنينا، قلت وقتها شيئا لا أذكره، فارتفعت حيطان الجامعة، وآلمني وجهي، وصدح الشيخ. كل الأنهار تجري إلى البحر وأنا أجري معها، لا أعرف من يسبق من، ولا من سيصل أولا، وكان الشعر طريقا يعبره المارة وهم يغمضون أعينهم، ثم يهللون في نهاية الممر. كل الأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن. صببت خمرا ولبنا وماء ودموعا وعطشا، صببت حزنا وموتا وفقدا، والبحر فارغ حتى النهاية، ألمس القاع بيدي وأصعد إلى السماء على درج من هواء. منذ ساعتين كنت في خريف العمر، أهز الأشجار كي تسقط ورقها وتصبح مثلي، بلا ذكريات، فقط أغصان مشرعة في الهواء، مثل نافذة بيت مهجور مفتوحة على مصراعيها، تخيف المارة والسكان، والريح التي تعوي في الخارج. الآن، ربما لا أكون موجودا، ربما ينفجر جسدي في غرفة العناية المركزة، فيقتل الأطباء ويشفي المرضى، ربما توقظ دقات قلبي المجرمين فيعترفون بذنوبهم، ربما لا أكون هنا. إذا ذهبتم إلى سريري، فعدلوا الأغطية، وضعوا الوسادات، لكن لا تلمسوا الهواء كثيرا؛ فربما تصيبونني دون أن تنتبهوا.
فتاة صغيرة، طفلة كبيرة، ترتعش الورقة، وتحرك جسدك الرياح جيئة وذهابا، فتتحرك الجدران والنجف والمقاعد والأشواك والسكاكين والملاعق والطعام في الأفواه. الصوت الخافت على وتيرة واحدة، كسيارة تعبر الطريق لأول مرة. فستان أبيض، احتفاء بموتى في زيهم الرسمي. أين كنت أنت ؟ وأين كنت أنا؟ وأين صرنا ؟ ولماذا أكتب على سطر وأترك الآخر؟ هل لأنني أخاف دوما أن تتعثر قدمي في السلمة المكسورة؟
لم نكن نحن وقتها. أقصد، لم تكن قد نمت لحيتي إلى الداخل، ولا أصبحت بأربع عيون. لم تكن جدتي تدربت على الموت، ولا قلت لسائق التاكسي: «طريق المقابر يا أسطى.» لم أكن أعرف شيئا، سوى أن هذا الطريق مبهر، ولم أبصر هذه الهاوية إلا الآن.
أنت أيضا، لم تكوني أنت، القلوب المعلقة في المدرج فقأتها دبابيس المارة، وسالت الدماء على الأرض، واحتار العامل ماذا يفعل. المدينة التي علقت القلوب ذاتها على الكورنيش بدبابيس شعر تتكلم الآن عن الكراهية. لم تكن هناك ورود في الكف، ولا نبت مول كبير في حديقة منزلك، لم يعلق دخان السجائر في الهواء، ليتعثر فيه الأطفال؛ فلماذا إذن نقول: «لماذا لم نقل: مرحبا؟»
في مكان ما، وزمن آخر، سنفعل ذلك؛ نسحب الموز من أفواه القردة وندعوها للجلوس بأدب على الطاولات، نكتشف مدينة الإسكندر الأكبر، ونمدد البحر على جنباتها كهرة نائمة تتمطى، نستعير المسرح الكبير من فيلم «المصارع» حتى يستريح «راسل كرو» من الهرولة في الصحراء، نشاهد أفلام «توم هانكس» و«ميج رايان» ونتحدث عن السحب وأقدامنا تغوص في البحر، ثم نقف كصديقين التقيا صدفة في قطار، نتقاذف المدن مثل كرات البنج بونج، حتى نبهر الجنود والملوك، وتصفق الطيور بأجنحتها لتسير أسرع. وقبل أن نغادر سنقول أهلا، ونبتسم ابتسامة النصر.
إذا وقفت على السطح، ومددت صوتي سلما، فهل سأصل إلى السماء؟ إذا أخرجت قلبي ورفعته لأعلى، فهل سيتحول إلى مظلة تقلني إلى وسط البلد؟ إذا ناديت بأعلى صوتي من الناحية الأخرى من الكرة الأرضية، فهل ستسمعونني؟
فمي المعطل
Unknown page