لا يلتزم الأطفال بقواعد أية لعبة؛ هم في سعي دائم لكسرها، لخلق قواعد مختلقة تخلق بدورها ألعابا جديدة. في كرة القدم مثلا ثمة طفل اكتشف أننا إذا غيرنا عدد اللاعبين إلى خمسة فستصير كرة خماسية، وإذا لعبناها باليد فستصير كرة يد، وإذا ألقيناها في السلة فستصبح كرة سلة، وهكذا ... في كل تغيير لعبة جديدة. الأطفال يصنعون الألعاب الجديدة، والحكام/النقاد يضعون القواعد التي يجب على الأطفال/الكتاب كسرها على التوالي؛ فالكاتب الذي يظل طوال الوقت يحتفظ بالشكل التقليدي وبالقواعد المعتادة للنص (بداية - وسط - نقطة تنوير) لن يقدم شيئا مختلفا، سيظل أسيرا لهذه القواعد، في حين أنه لو أعاد فقط ترتيب بعض أدواته لوجد أنه يقدم شيئا مختلفا. في الشعر تم تغيير قواعد اللعبة باستبعاد القافية، فاكتشفنا قصيدة التفعيلة، ثم تم تغيير القواعد مرة أخرى باستبعاد الوزن، فاكتشفنا قصيدة النثر. يعلق بورخيس على مجموعته القصصية «تاريخ عالمي للخزي» التي تحكي سير أشخاص حقيقيين أعاد تشكيل حيواتهم، بقوله: «إنها ألعاب غير مسئولة لشاب خجول لم يجرؤ على كتابة قصص؛ ولذا راح يسلي نفسه بتزييف وتشويه حكايات الآخرين دون أي مبرر جمالي.» (3) لماذا يلعب الأطفال؟
أعتقد أن إجابة هذا السؤال مشابهة لإجابة سؤال «لماذا تكتب؟» عند الكثيرين. الطفل يلعب لأنه يشعر بالمتعة في ذلك، وأعتقد أن على الكاتب أن يفعل ذلك؛ فإذا لم يكن يشعر بمتعة عندما يكتب، فلماذا يفعل ذلك؟ المتعة هي شرط اللعب الأول؛ أي لعب. وهذه المتعة تنطبق على طرفي اللعبة؛ القارئ والكاتب. في مقدمة مجموعته القصصية «12 حكاية عجيبة» التي كتبها في أبريل 1992، يعترف «ماركيز» بأن: «متعة الكتابة أعظم المتع حميمية ووحدة على الإطلاق.» ويكتب أيضا في المقدمة نفسها: «أحس بأنني أكتب لمتعة القص وحدها، والتي ربما كانت أشبه بانعدام الوزن». ويقول نجيب محفوظ: «أكتب للمتعة، ولكي أرضي قوة غامضة بداخلي.» (4) الحماس
إذا لم يتحمس الطفل للعبة فلن يهتم بها. إذا لم يتحمس الجمهور لأية مباراة فلن يتابعها. الحماس هو شرط اللعب الأساسي. توقف ماركيز عن الكتابة في عام 2005 ولمدة عامين، واعترف بأن مشكلته كانت فقدانه الحماس، واعتبر أيامه التي مضت دون كتابة «إجازة من الكتابة». والأمر نفسه ينطبق على نجيب محفوظ عندما توقف عن الكتابة بعد ثورة يوليو 1952 لسنوات؛ لأنه لم يجد دافعا للكتابة. (5) التواطؤ
أحيانا يجب على أحد طرفي اللعبة التواطؤ مع الطرف الآخر لاكتشاف مسارات جديدة لها. وهو ما ينطبق على الكتابة أيضا؛ فعلى القارئ في بعض الأحيان أن يغض الطرف عند القراءة عن أمر غير اعتيادي، أن يتواطأ مع الكاتب في لعبته حتى يصل إلى النهاية المختلفة التي يخطط لها؛ لأنه لو توقف وتساءل: «لماذا؟»، أو قال: «هذا غير مبرر» أو «غير منطقي»؛ لفسدت اللعبة كلها. التواطؤ يعني أن تدخل اللعبة بجسدك وروحك، أن تصبح شريكا فيها، أن تعلن الاستسلام أمام قواعدها الجديدة. (6) صندوق المفاجآت
أكثر ما يسعد الطفل هو صندوق الهدايا الذي يخبئ داخله ما لا يعرفه ويتشوق إلى معرفته. يحب الأطفال العلب المغلقة حتى يستكشفوا ما تخفيه داخلها. الكتابة هي صندوق المفاجآت، إذا عرفت ما بداخله فسدت المفاجأة، إذا عرفت ما الذي سيقوله الكاتب في الصفحة التالية فلن تقرأ بقية الكتاب، إذا توقعت النهاية فلن تكمل النص. على الكاتب أن يحول كتابه إلى صندوق مفاجآت إذن - حتى لو كان نصا اعتياديا - بابتكارات على مستوى اللغة والسرد والصورة. أتذكر هنا الجملة الأولى في فيلم «فورست جامب» لتوم هانكس: «تقول أمي دائما إن الحياة كعلبة من الشوكولاتة، أنت لا تعرف أي واحدة تأخذ.» (7) لا تبحث عن هدف كبير
لا يقول طفل: «أريد أن ألعب من أجل كذا وكذا»، لا يبحث عن مبرر لحبه للعبة دون الأخرى، لا يبحث في جماليات لعبة «الاستغماية». وأعتقد أن على الكاتب أن يفعل ذلك. كل الروايات التي تضع لنفسها هدفا كبيرا، أو التي كتبت لخدمة قضية سياسية، مصيرها النسيان. أجمل ما في الكتابة هو أن تترك نفسك لها، لا أن تقودها. إذا فعلت، فأنت هنا تعود للفكرة الأولى التي تحدثنا عنها؛ وهي وضع قواعد للعبة التي همها الأساسي كسر القواعد. يقول فرناندو بيسوا: «لقد حلمت بأكثر مما حلم به «نابليون» نفسه، ضممت إلى صدري المفترض إنسانيات أكثر مما ضم المسيح، شيدت في السر فلسفات أكثر من كل ما كتب أي «كانط»، لكنني كنت وسأكون دائما مجرد ساكن غرفة في سطح.» حسنا، افعل هذا؛ اكتب دائما كمجرد ساكن غرفة في سطح.
أسئلة الكتابة المرة
في حوار نشرته إحدى الصحف الإسبانية أخيرا مع المخرج وكاتب السيناريو الأمريكي «وودي آلان»، أجاب منفعلا عن أحد الأسئلة:
نحن نعيش في عالم بلا معنى، بلا هدف. نحن وكل الأسئلة المهمة سنموت. بالنسبة إلي، لم أهتم قط بمن هو رئيس الولايات المتحدة، هذه الأشياء تروح وتأتي. الأسئلة الكبيرة تبقى معنا وليس لها جواب. لماذا نحن هنا؟ ماذا نفعل هنا؟ من أين يأتي كل ذلك؟ ما أهمية الشيخوخة؟ لماذا نموت؟ ماذا تعني الحياة؟ وإن لم يكن لها معنى، فما فائدتها؟ هذه هي الأسئلة التي تصيبنا بالجنون، ولا جواب لها.
كان آلان غاضبا؛ لأنه رغم أعوامه الثمانين، لم يعرف إجابة هذه الأسئلة؛ لأنه رغم الإجابات التي حاول أن يقدمها في أفلامه، والسيناريوهات المتعددة التي كتبها، لم يقدم الإجابة الصحيحة، أو لم يستطع حتى التوصل إلى هذه الإجابة المفترضة.
Unknown page