وأصبحت الإسكندرية تملأ الأفق، وبدت كبيرة لا تحدها الرؤيا، وبدت الباخرة إلى جوارها كالسردينة الميتة الطافية.
وبعد هذا نسي السبعة أنفسهم، ولم يعوا وهم يختمون الجوازات ، ويحضرون الأمتعة، ويتعاونون على حمل طرود الدكتور وقد انتابتهم خفة الأطفال في يوم العيد.
وعلا الضجيج حتى أصبح الصارخ لا يسمع نفسه.
ولاح الرصيف.
المرجيحة
لم تكن الضجة التي يثيرها الصغار تهم عبد اللطيف في ذلك اليوم، لا هي ولا غيرها من مهام الحياة أو توافهها، فقد كان يوم العيد، العيد الكبير، اليوم الذي أنتظره شهرين كاملين، وهو يحسب له ويعد ويختلف مع امرأته في العد والحساب، حتى جاء.
وخيل لعبد اللطيف - وقد طال انتظاره - أن اليوم سيأتي فجأة، كبيرا، واسعا، عريضا، ولكنه عندما جاء لم يكن كذلك أبدا، أشرق فجره، ثم نما صبحه، وكبر ضحاه في بساطة وبلا تهليل، تماما كما يدفع هو بيده «المرجيحة» لترتد إليه بعد ذلك متبخترة متمايلة، فيها ما فيها من الأطفال، وقد اندس بينهم بعض الكبار، كان اليوم في بساطة قدومه كالزمن وهو يدفع «مرجيحة» الحياة بيده القوية، فتذهب أيامنا وتجيء ليالينا هكذا في يسر وبلا ضوضاء، وإنما نحن الذين نصخب، ونحن الذين نصرخ، ثم نحن الذين نلعن الزمن بعد ذلك، ونسخط على الأيام.
وقف عبد اللطيف يدفع المرجيحة بيده، ويمد يده الأخرى يتحسس الملاليم التي تتلاصق في جيبه، ويفركها بأصابعه ويرنها في راحته، ويحس بنشوة كتلك التي يحسها حين يعب أول نفس من الجوزة في الصباح، فلم يكن يرى فيها ملاليم، ولم يكن يرى فيها أنها لا تساوي ورقة صغيرة من ذات العشرة قروش، وإنما كان يرى في ملمسها غير الناعم حلما بأكمله ظل يعيش فيه شهرين طويلين كئيبين.
ولا يتركه إحساسه بجيبه وقد امتلأ، إلا حين يسلمه إلى ذكريات أيامه، أيام كان يكسب ملء جيوبه قروشا وعشرات، ثم لا تذهب بعيدا، فقد كان يضيعها على كيفه ومزاجه، ولا يندم، فهو صاحب كار متين وهو أحد أفراد عائلة النجارين، العائلة التي عن لجدها أن ينفض يده من الزراعة، وقد زهق منها، فتعلم النجارة بعد عناء وأورث أولاده وأحفاده الحرفة، حتى حذقوها واحتكروها، ثم تفرقوا وتناثروا في أرجاء البلدة وما جاورها من البلاد.
وعبد اللطيف لا يكدب على نفسه، فليست النجارة في القرية في حاجة إلى فن وحذق بقدر ما هي في حاجة إلى قوة وساعد، ولم يكن عبد اللطيف يملك كليهما، كان مريضا، تسربت البلهارسيا إلى مثانته حتى أفقدته القدرة على التحكم في نفسه، وتناثر مرضه حوله، وتهامس الناس به، وتهامسوا معه باللقب الجديد الذي أطلقوه عليه «الطاجن» المشروخ. ولم يلبث هو أيضا أن اعترف بينه وبين نفسه أنه مشروخ، وأنه مريض، وأنه لن يكون أبدا كجودة ذي الساعد الممتلئ الغليظ الذي تنفر عضلات يده عندما يمسك بالقدم كأنها جذع نخلة «حياني»، ولم يكون كأبي خليل الذي يوقف الساقية الحديد وحده، وهو يضحك فتردد الساقية الجوفاء رعدات ضحكه.
Unknown page