ولست أرمي من مقالي هذا إلى الرد على هذين الاعتراضين؛ إذ إنهما يثيران مشكلات لا بد لمن يتصدى لها أن يكون ذا قدرات خارقة، تجمع بين التعمق في دراسة مناهج العلوم الإنسانية ومعرفة شروط الموضوعية العلمية فيها، وبين الاستبصار الاجتماعي والسياسي بما يجوز وما لا يجوز أن نثيره من المشكلات في هذه الفترة الحرجة من تاريخ أمتنا، وأنا لا أدعي لنفسي أيا من هاتين الصفتين، ولا أزعم - بالأحرى - أنني قادر على الجمع بينهما، وكل ما أود أن أقدمه في هذا المقال مجموعة من الخواطر التي أثارها موضوع الشخصية المصرية في نفسي، وهي خواطر لا تزعم أنها رد حاسم على هذين الاعتراضين، وأقصى ما تدعيه هو أنها تلقي بعض الأضواء على وجهة نظر الباحثين في موضوع كهذا حينما تواجههم انتقادات حاسمة كتلك التي أشرت إليها الآن.
مناقشات في المنهج
ثمة تفرقة أرى لزاما علي أن أنبه القارئ إليها قبل الدخول في أية مناقشة للمنهج الواجب اتباعه عند بحث موضوع كالشخصية المصرية؛ لأنها كفيلة بأن تلقي الضوء على طبيعة الخلاف المنهجي بين المشتغلين في أمثال هذه الموضوعات، تلك هي التفرقة بين جانبين من جوانب البحث في الشخصية القومية؛ فمن الممكن أن تبحث الشخصية القومية من حيث هي تتمثل في الأفراد الذين يعيشون في وطن معين، بحيث يعد كل فرد منهم نموذجا لهذه الشخصية، وبحيث تنعكس على شخصيته الفردية تلك السمات العامة التي يقال إنها سمات الشخصية القومية للأمة التي ينتمي إليها، ومن الممكن أن تبحث الشخصية القومية من حيث هي «شخصية معنوية» تسمو - بمعنى ما - على الأفراد، أي من حيث هي واحدة من تلك الكيانات الجماعية التي لا ترد إلى مجموع عناصرها، بل يكون لها شبه استقلال ذاتي بالقياس إلى الأفراد الذين يؤلفونها.
في الحالة الأولى يفترض أن الأفراد المنتمين إلى أمة معينة يمثلون - بدرجات متفاوتة - نمطا عاما هو نمط «الشخصية القومية»، ويكون علينا لكي نصدر حكما على مدى وجود هذه الشخصية القومية وتأثيرها أن نقوم بدراسات منهجية منظمة على عدد كاف من الأفراد؛ لكي نتأكد من وجود تلك السمات العامة فيهم، وتبعا لنتيجة تلك الدراسات يتحدد ما إذا كان الكلام عن هذه «الشخصية القومية» مشروعا أو غير مشروع.
أما في الحالة الثانية فإن الاهتمام لا ينصب على الأفراد بقدر ما ينصب على ظواهر لها طابع العمومية، تظل متمثلة في المجتمع بقدر من الدوام يسمح لنا بتأكيد وجود ذلك الكيان المعنوي المسمى بالشخصية القومية.
مجمل القول إذن أنني أريد أن أفرق بين دراسة للطابع القومي للشخصية الفردية، ودراسة للطابع «الفردي» للشخصية القومية، وأعني بلفظ الطابع «الفردي» في الحالة الأخيرة، ذلك الطابع الذي تصبح الشخصية القومية الجماعية بفضله أشبه ما تكون بالفرد المتميز، بالقياس إلى «أفراد» آخرين هم «الشخصيات القومية» للأمم الأخرى.
وفي اعتقادي أن عددا غير قليل من مناهج البحث التي طبقت في مجال دراسة الشخصية القومية، كان ينصب على النوع الأول من الدراسة وحده، أعني على اختبار صدق الأحكام القائلة إن الأفراد في أمة معينة تجمع بينهم سمات مشتركة معينة يمكن أن يطلق عليها في مجموعها اسم «الشخصية القومية»، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يتشكك الباحث المتشبع بالروح العلمية، والواعي بالشروط الضرورية للحكم العلمي السليم، في مفهوم الشخصية القومية أصلا إذا اتضح له أنه لم يجد بين الأفراد الذين درسهم والذين اختارهم بعناية قدرا كافيا من هذه السمات المشتركة، أو لم يقتنع بالنسبة الإحصائية لتردد تلك السمات في هؤلاء الأفراد، ولهذا الباحث كل الحق في أن يرفض دراسة الشخصية القومية - من هذه الزاوية - بأي منهج فيما عدا منهجه العلمي السليم.
ولكني أعتقد أن الزاوية الأخرى لدراسة الشخصية القومية تحتاج إلى مناهج علمية من نوع مخالف إلى حد بعيد، أو هي على الأصح تقتضي من الباحث نظرة أرحب إلى المنهج العلمي، وتخفيفا شديدا للشروط المنهجية التي يمكن أن يعترف بها في هذا المجال.
فلنتأمل أمثلة قليلة لتلك الظواهر الجماعية التي تدخل ضمن نطاق دراسة «الشخصية القومية» بالمعنى الثاني. إن استخلاص طابع معين مميز لهذه الشخصية من الأعمال الأدبية، ولا سيما الأدب الشعبي، أو من الأعمال الفنية وخاصة الفن الشعبي أيضا، أو من المأثورات والحكم المتداولة بين الناس، هو أمر لا يمكن إخضاعه لنفس النوع من المناهج التي تفيد في حالة دراسة الأفراد من أجل استخلاص السمات المشتركة بينهم؛ فعلى أي نحو - مثلا - يمكنك أن تخضع الحكم القائل إن «الموسيقى الشعبية في الريف المصري حزينة» للمنهج العلمي الدقيق؟ إن كل من استمع إلى ألحان الناي التي تنبعث تلقائيا من الفنان الريفي المصري لا يحتاج إلى جهد كبير لكي يجزم بأنها ألحان حزينة، بحيث يكون من القصور الشديد إخراج الحكم السابق من زمرة الحقائق العلمية لمجرد عدم وجود وسيلة لتطبيق المناهج العلمية الدقيقة المعروفة عليه، ومثل هذا يصدق على الموال الشعبي والشعر الشعبي ... إلخ.
فإذا ما تبين للباحث وجود سمة الحزن هذه - مثلا - في الموسيقى والغناء والشعر المعبر عن الروح الشعبية، وإذا ما اتضح له أنها سمة غالبة على الأمثال والمأثورات الشعبية بدورها، كان من حقه عندئذ أن يصدر حكما أعم، يقول فيه إن سمة الحزن من السمات المميزة للشخصية الشعبية، ومن المؤكد أن هذا الحكم العام بعيد كل البعد عن استيفاء شروط المنهجية العلمية بمعناها الدقيق؛ لأنه حصيلة ملاحظات فردية أو انطباعات كونتها مجموعة من الأشخاص، ولكن هل يكون من حقنا أن ننكر عليه صفة العلمية لهذا السبب؟ أليست الظواهر التي ينصب عليها حكم كهذا مستعصية بطبيعتها على تلك المناهج التي يمكن أن تحرز نجاحا كبيرا في حالة الدراسة الاستقصائية لمجموعات من الأفراد أو من السمات الفردية؟
Unknown page