وفي اعتقادي أن من له صلة بميدان النشر - سواء أكان ذلك نشر الكتب أم المقالات - هو أقدر الناس على أن يلمس هذه الصفة في الأجيال الجديدة من المثقفين؛ ففي حالات عديدة - ولا أقول في كل الحالات بالطبع - يجد المرء لدى هذه الأجيال ميلا طاغيا إلى التعجل بتقديم إنتاج هو أبعد ما يكون عن النضج، ولا مفر عندئذ من أن تترتب على هذا التعجل الشديد آفات كل منها أخطر وأفدح من الأخرى.
فهناك فئة كاملة من المثقفين تكاد صلتها الوحيدة بالثقافة العالمية أن تقتصر على قراءة تلك الترجمات الشوهاء المبتورة المتخلفة التي يغرق بها الأسواق ناشرون لا يعبئون في عملهم بشيء سوى الربح - والربح وحده - في عواصم عربية معروفة، وكثير من أفراد هذه الفئة يتسابقون إلى النشر وهم لا يملكون من حطام الدنيا إلا فتات من المعلومات صيغت بأسلوب عجيب كاد أن يصبح - في أيامنا هذه - لغة قائمة بذاتها، لها مصطلحاتها وتركيباتها وتعبيراتها المحفوظة المتداولة، وهكذا لم يعد من المستغرب في أيامنا هذه أن نجد كاتبا يتحدث عن شكسبير وهو لم يقرأ له عملا واحدا قراءة كاملة في لغته الأصيلة، أو تجد مجموعات من المثقفين يعالجون كل مشكلات العالم من وجهة نظر ماركسية وهم لم يقرءوا في حياتهم نصا واحدا لماركس بلغة أجنبية ترجمت إليها أعماله ترجمة علمية أمينة، أما هيجل وسارتر فالكل يتكلم عنهما، بل ويكتب عنهما، ولكن من قرأ لهما نصوصا أصلية لا يعدون على الأصابع، وأصبح من الشائع في الجو الثقافي أن يتكلم الناس بجرأة شديدة عن أهم الشخصيات وأخطر المشكلات دون أن يكون لديهم أي إلمام بها إلا عن طريق مصادر الدرجة الثالثة التي أصبحت - بفضل الأسلوب المشوه والفهم المبتور - ثالثة مخفضة، والأخطر من ذلك أن أحدا لم يعد يرى في ذلك أمرا مستغربا، بل أصبح شيئا مقبولا يكاد يرقى إلى مرتبة المسلمات.
ومن الطبيعي أن تؤدي سطحية الثقافة من ناحية، والرغبة الملحة في النشر من ناحية أخرى، إلى انتشار صفات مذمومة كان المفروض أن يترفع عنها الشباب وهم في مرحلة المثاليات والمبادئ الرفيعة، فأمثلة الاقتباس المفرط غير المشروع من أعمال الغير مألوفة وشائعة، وأمثلة التحزب والتكتل وتبادل المصالح أصبحت لا تقل انتشارا في عالم الشباب عنها في عالم الكبار، ووجه الخطورة في هذا أن الكبار الذين تشيع بينهم هذه الآفات بدأ الكثير منهم حياته بداية تتسم بقدر غير قليل من التمسك بالمبادئ، ثم انزلقوا تدريجيا وبفعل ظروف معقدة، حتى وصلوا إلى ما هم عليه، أما إذا كانت نقطة البداية عند الشاب الناشئ هي ذاتها نقطة النهاية عند الشيخ اليائس المستسلم، فعندئذ يحق للمرء أن ينظر إلى المستقبل نظرة قاتمة.
ولكن ما دمت قد أخذت على عاتقي أن أقوم بمهمة التشخيص، فلا بد لي من أن أحاول البحث عن أسباب لهذه الظواهر التي قد يميل البعض - ممن يفتقرون إلى الأسلوب العلمي في التفكير - إلى النظر إليها على أنها نتيجة انحلال أخلاقي عام أو انصراف عن التمسك بأهداب الفضيلة ... إلخ. ولكي تكون هذه الأسباب مقنعة فلا بد أن تكون موضوعية قدر الإمكان.
أول هذه الأسباب - في رأيي - زيادة الطلب على العرض في ميدان الثقافة؛ فقد أتيحت لأبناء هذا الجيل فرص - في ميدان الثقافة - تزيد بكثير عن تلك التي كانت متاحة لكل الأجيال السابقة؛ فهناك - إلى جانب الصحافة - حاجة متزايدة إلى الإنتاج الثقافي في ميدان التأليف بكافة أنواعه، وفي ميدان الترجمة وفي المجلات المتخصصة؛ نتيجة لاتساع قاعدة القراء وظهور جمهور جديد يحتاج إلى إنتاج ثقافي لا ينقطع، وقد أتاحت الإذاعة والتليفزيون فرصا جديدة أمام المثقفين؛ إذ إن ساعات إرسال المواد الثقافية - وإن كانت من حيث النسبة العامة لا زالت قليلة بالقياس إلى مواد الترفيه غير الثقافي - قد زادت زيادة كبيرة، وهي تمثل طلبا يوميا ملحا يحتاج إلى إنتاج دائم، كل هذه المجالات الجديدة أدت إلى ظهور تلك الفصيلة الجديدة من المثقفين، أولئك الذين يضعون في حقيبتهم شتى أنواع المنتجات الثقافية الرائجة، من مقالات مثيرة إلى أحاديث خاطفة إلى ندوات جذابة ... إلخ، ويدورون بها من جريدة إلى استوديو إلى مؤسسة للنشر، يعرضون عليها آخر عينات بضاعتهم المرغوبة المطلوبة، ولا يفوتهم أن يلمحوا - من حين لآخر - إلى ما يمكنهم أداؤه للآخرين من خدمات مماثلة لو قبلوا شراء شيء مما تحمله الحقيبة.
ويرتبط بذلك ارتباطا وثيقا ظاهرة مقابلة نشهدها جميعا في عالم الكبار، ولا يكاد المرء يعرف لها تعليلا، وأعني بها «قصر العمر الثقافي »؛ ذلك لأن المثقفين الذين تجاوزوا مرحلة الشباب لا يدوم اهتمامهم بالإنتاج الثقافي إلا أمدا قصيرا، وفي كثير من الحالات تنقطع الأنفاس وينضب المعين بمجرد بلوغ منصب مرموق - علميا كان أو إداريا - ويعيش المثقف الكبير (سنا) على ذكرى فترة ماضية في حياته، كان فيها إنسانا جادا ينتظر له الجميع مستقبلا باهرا، ويظل يرتزق بفضل هذه الشهرة طوال حياته، مثل هذا الانسحاب المبكر من ميدان العمل الثقافي الجاد يخلق فراغا لا بد أن يشغله أناس لم يبلغوا بعد مرحلة النضج العقلي الكافي، ويفتح الباب على مصراعيه أمام المتعجلين الذين يقدمون إلى الناس ثمار إنتاجهم وهي لم تزل فجة.
وأخيرا فربما كانت القدوة السيئة من أقوى أسباب هذا الاندفاع المحموم إلى تقديم ثقافة تفتقر إلى النضج؛ ذلك لأن الشباب يجدون في المجتمع - من آن لآخر - نماذج صارخة لأناس تمكنوا - بأساليب متباينة لا تشترك إلا في شيء واحد، هو أنها لا تتصل من قريب أو بعيد بعلمهم أو ثقافتهم - من إحراز نجاح صاروخي في دويه وفي سرعته، ولا مفر من أن يؤدي تأثر الشباب بهذه النماذج إلى أن يرسخ في أذهانهم الاعتقاد بأن التعمق والجدية هما أسوأ وأبطأ وسائل النجاح، ومن ثم فإنهم يؤثرون العمل على اكتساب شهرة سطحية أو مسطحة، ويتدربون في الوقت ذاته على ممارسة الأساليب الأخرى التي يرون بأعينهم أنها حققت لغيرهم أبهر النجاح.
والنتيجة - بعد هذا كله - هو أن نموذج الشاب الرزين، الذي يعكف على أخذ الثقافة قبل أن يفكر في إعطائها، والذي يزيد من تعميق فكره قبل أن يخطر بباله نشر شيء من إنتاجه على الناس، والذي يفضل أن يظل مجهولا بدلا من أن يحرز بين الناس شهرة كاذبة، هذا النموذج كاد أن يختفي اختفاء تاما، وكاد أصحابه أن يصبحوا - بين الشباب - نوعا أوشك على الانقراض. •••
إن أي مجتمع لا يستطيع أن يأمل في مستقبل مزدهر إلا إذا كانت أجياله الشابة تؤدي رسالتها كاملة في التزود بالثقافة قبل أن تفكر في تزويد الآخرين بها، وإذا كنت في بعض أجزاء هذا المقال قد وصفت شبابنا بعبارات ربما بدت في نظر البعض قاسية، فما ذلك إلا لأني آمل في الكثير. ومع اعترافي الكامل بمسئولية الكبار عن كثير من مظاهر القصور في حياة الشباب الثقافية، فإني أومن بأن لدى الشباب قدرة على تخطي العقبات التي وضعها الكبار - مختارين أو مرغمين - في طريقهم، بل إنني لأومن بأن استغلال الشباب لقدرتهم هذه لن يتيح لهم مراجعة نظرتهم إلى الثقافة فحسب ، بل سيمكنهم من أن يفرضوا إرادتهم - في حدود مطالبهم المشروعة - على الكبار أيضا، فلو اجتمعت كلمة الشباب على طلب أي نوع من الثقافة الجادة، فما أظن أن الكبار سيملكون عندئذ أن يرفضوا لهم مثل هذا الطلب، ولو اجتمعت كلمة الشباب على رفض التزييف الذي يقدم إليهم في رداء زاه براق - كالترفيه الكاذب الذي يغويهم ويشغلهم عما هو جاد من الأمور، في وقت هم فيه أحوج ما يكونون إلى التفكير الموضوعي المركز (وأعني به عروض كرة القدم التي يبدو أنها ستطل برأسها من جديد)، أقول إنه لو اجتمعت كلمة الشباب على رفض مثل هذا الإغراء المزيف لما جرؤ الكبار على فرضها عليهم.
إن موضوعا قصيرا كتبته فتاة فرنسية في السابعة عشرة من عمرها، قد أثار في ذهني خواطر لا حصر لها عن موقف شبابنا من الثقافة، وأنا لا أزعم على الإطلاق أن المقارنة جائزة أو مشرعة بين حالة واحدة كهذه - قد تكون استثنائية تماما - وبين أحوال الجموع الكبيرة من شباب بلد لا يزال يعاني كثيرا من مظاهر التخلف، ولكن تقديم النماذج الصالحة أمر مفيد على الدوام.
Unknown page