والفرنسية
entendement ، وإذا كان العقل قد ارتبط بالنور والعدل، فإن انعدام العقل قد ارتبط بالظلم، ويكفي أننا نتحدث دائما عن «ظلام الجهل»، وأن الارتباط قوي بين الظلام والظلم، أي بين المجالين النظري والعملي أو العلمي والأخلاقي، وإذا لم يكن هذا الاشتقاق اللغوي يقدم تبريرا كافيا لوجهة النظر هذه، فإن التاريخ ذاته خير شاهد على وثوق الارتباط بين الدفاع عن العقل والدفاع عن الخير والعدل؛ إذ كان كبار العقلانيين في أوروبا في القرن الثامن عشر هم أصحاب أقوى الأصوات دفاعا عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، على حين أن فلسفات اللامعقول (شبنجلر وروزنبرج) كانت تقدم مبررا لعهود الاضطهاد والديكتاتورية، أو تستخدم رغما عنها (كما في حالة نيتشه) من أجل تبرير أمثال هذه العهود. •••
هذا التحديد الذي قمنا به للمفاهيم الرئيسية التي تدور حولها المشكلة موضوع بحثنا، ليس على الإطلاق مقدمة تمهيدية، بل هو ينتمي إلى صميم البحث ذاته؛ فبفضل هذا التحديد نستطيع أن نوفر على أنفسنا عناء الدخول في كثير من المناقشات التفصيلية المتعلقة بطبيعة أزمة العقل في المجتمعات الغربية، وندرك بوضوح دلالة الأزمة المناظرة التي تمر بها مجتمعاتنا، ونجيب بسهولة عن السؤال الحاسم: هل تعد أزمة العقل لدينا صدى لأزمة الفكر العالمي، أم أنها شيء قائم بذاته، وبالتالي لا يصح أن تطبق عليه المقولات المستخدمة في وصف الأزمة الفكرية العالمية؟
لقد شهد الفكر الغربي - منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى وقتنا هذا - ظواهر لا يمكن أن توصف إلا بأنها أزمة؛ ففي وقت واحد على وجه التقريب، أصبحت منابع الفكر الفلسفي هي آراء برجسون ونيتشه وكروتشه وشبنجلر ووليم جيمس، وكلها آراء تمجد قوى أخرى غير العقل الاستدلالي المنهجي المنظم، وتهيب بمبادئ الحدس أو الإرادة أو القدر الصارم أو النجاح العملي، حتى أصبح أنصار العقل التقليديون - لأول مرة منذ عهد بعيد - أقلية ضعيفة خافتة الصوت، تدافع عن مواقعها بخجل واستحياء إزاء هجوم جارف لا سبيل إلى مقاومته.
وفي هذا الوقت ذاته كان علم النفس عند فرويد يجعل من السلوك الواعي ما يشبه «البناء العلوي» (بالمعنى الماركسي لهذا التعبير)، ويكتشف تحته طبقات كثيفة من «الأبنية الدنيا» التي تتحكم فيه، والتي تتألف من ذكريات وتجارب لا شعورية مكبوتة، وتكون عالما مظلما معتما لا يدرك إلا من خلال رموزه، ولا ينفذ إليه العقل الواعي، وإن كان هو أساس تفسير الكثير مما يدور في مجال الوعي.
وفي المجال الأدبي والفني، اتخذت الرواية والدراما والموسيقى والفنون التشكيلية طابعا خلا من الترابط المنطقي والقالب المحدد المنظم، وحلت محله الانطباعات السريعة المباشرة المختلطة والقوالب غير المألوفة، وأصبح الفن بدوره يخاطب القوى اللاواعية في الإنسان، ويبدو كما لو كان يريد الغوص في أعماق معتمة تقربه من المنابع السحيقة للحيوية البشرية.
وحتى في المجال العلمي النظري ذاته - وهو المجال الذي فيه يجد العقل نفسه «في بيته» كما يقولون - مر العقل بأزمة حادة تنازل من أجلها عن مبادئ ظل يتخذها أساسا يرتكز عليه طوال قرون عدة، وطرأ تغير أساسي على نظرته إلى العالم الأكبر والأصغر؛ فالنظرة الآلية إلى العالم أصبحت تحتاج إلى مراجعة جذرية، ومبدأ السببية ذاته أصبح موضوعا لهجوم جارف، وأشد البديهيات وضوحا حلت محلها مواضعات، والمطلق - في شتى المجالات - قد أنزل عن عرشه لكي يحل محله النسبي، والمبادئ التي كان يظن أنها سارية على كل ما في الكون أصبحت - على أحسن الفروض - تكتفي بمجالات معينة لا تدعي لنفسها الصحة خارجها، كما هي الحال في هندسة إقليدس، بل في منطق أرسطو ذاته.
هذه الظواهر يستحيل أن تجتمع كلها في توقيت زمني واحد، وتشير جميعها إلى اتجاه واحد، ما لم تكن تعبيرا عن أزمة واحدة؛ فمن المستحيل أن نفهم كيف تتوافق التطورات في ميادين متباعدة لا تجمعها أية رابطة ملحوظة، إلا إذا نظرنا إليها على أنها مظاهر مختلفة لجوهر واحد، هو وجود أزمة حادة يمر بها العقل.
ولكن ينبغي أن ندرك أن هذا الاستنتاج ذاته لم يتم التوصل إليه إلا عن طريق العقل، أي إن العقل الاستدلالي هو الذي يستنتج وجود أزمة عامة للعقل من ملاحظته لظواهر معينة تتلاقى كلها في نقطة واحدة، وتجمعها دلالة واحدة، وتلك في واقع الأمر هي أبرز سمات ما يسمى بأزمة العقل في العالم الغربي؛ فالأزمة في هذه الحالة ليست على الإطلاق اتجاها إلى التنازل عن العقل، وإنما هي سعي إلى الخروج به عن آفاقه المألوفة، واستكشاف أبعاد جديدة له، وإدماج قوى أخرى - حتى تلك التي تبدو مضادة له - في داخله. ومن المستحيل أن نفهم هذه الأزمة إلا في ظل حضارة كان لها مع العقل تاريخ بلغ من الطول حدا جعلها تضيق بالحدود التقليدية التي ظل العقل يحصر نفسه فيها، وتعمل على تفجير الحواجز التي ظلت تحول دون انطلاق العقل إلى أرحب الآفاق. إن العقل هنا هو الذي يتمرد على نفسه، وهذا التمرد على الذات هو أعلى درجات تحقيق العقل لذاته. •••
ولو شئنا أن نلخص في عبارة واحدة طبيعة الأزمة العقلية التي تمر بها المجتمعات الغربية، ونحدد وجه الاختلاف الأساسي بينها وبين أزمة العقل في مجتمعاتنا الشرقية، لقلنا إن الأزمة عندهم هي أزمة ما بعد العقل، على حين أننا لا زلنا نمر بأزمة ما قبل العقل، إنهم قد تجاوزوا نطاق التفكير العقلي التقليدي بعد أن تشبعوا بالعلم والمنطق والفلسفة، وأصبحوا يتطلعون إلى عقل يتجاوز نطاق العقل الذي ألفوه، أما عندنا فلا زال العقل يعمل جاهدا من أجل استكشاف ذاته وتحقيق أبسط مطالبه الضرورية.
Unknown page