وبعد؛ فلا علينا وقد أجملنا الأدوار التي تقلبت على ثقافة مصر أن نوجز في تعريف هذه النهضة الحديثة التي تمت في ظل الدولة العلوية الكريمة وفضل من اختارتهم من خيرة المصريين، وما جماع ما يقال فيها إلا أنها إصلاح ثقافة قديمة، واقتباس ثقافة حديثة ضمت إلى جملتها، فكانت سيرة الدولة المصرية في هذا الشأن سيرة الدولة العباسية في أول أمرها؛ ارتقت فيها العلوم النقلية والعلوم العقلية معا، ونظرت في عامة علوم الدين وما ينبغي لها، واقتبست علوما مادية كانت راسخة عند من تقدموها في الأخذ بمذاهب الحضارة؛ فصح أن تدعى الثقافة المصرية الآن ثقافة عربية غربية إسلامية تحس فيها روح العرب وروح الغرب وروح الإسلام وفيها أثر حكمة القدماء والمحدثين، ومن كل معنى طرب.
تمازج الحضارتين العربية والغربية
أثر العرب في الأندلس وصقلية وما إليهما
لما بدأ العرب بفتوحاتهم في الإسلام فقضوا على فارس، واقتطعوا من بيزنطية مملكة الروم الشرقية، الشام ومصر وسواحل إفريقية؛ كانت فارس والروم أقوى دول العالم وأكثرها حضارة، وكان العرب شبه متحضرين يتعلمون ممن غلبوهم ما يصلح الملك والسلطان. وما انقضى ثمانون سنة على خروج العرب من جزيرتهم حتى أضافوا ما عرفه المغلوبون إلى ما عرفوه هم من أساليب الحرب والإدارة، فرأيناهم وقد مكن لهم في الغرب يستولون على الأندلس ويتوسعون في فتوحهم جنوبي فرنسا.
وبينا كان بنو أمية في الشام يديرون ملكا عظيما، ويضعون أسس المدنية العربية بنقل العلوم المادية عن السريانية والقبطية والرومية، ويعنون كل العناية بتدوين العلوم الدينية والأدبية، وقد بدأت طلائع الحضارة في البلاد التي أظلها سلطانهم؛ كانت بلاد الغرب اللاتيني في أحط دركات المدنية، بل كانت إلى همجية مرمضة، تعد بداوة العرب في جزيرتهم قبيل الإسلام مدنية إذا قيست ببداوة الغرب، بلى، كان الناس يعيشون في بلاد اللاتين والأنجلو سكسونيين والجرمانيين والصقالبة في توحش مدلهم، وأوروبا غاصة بالغابات الكثيفة، متأخرة في زراعتها، والمستنقعات في كل ناحية تحصد الأرواح، والوبالة والأوبئة تغادي تلك الشعوب القذرة وتراوحها، لا يعرفون البيوت الصحية، ولا الفرش الوثيرة، تنام الأسرة كلها في غرفة واحدة على فرش من تبن أو نبات مجفف ، وهي إلى الفطرة بعاداتها وأكلها وشربها ولباسها ومجالسها، وبيوت لندرا وباريز أكواخ صغيرة بنيت من أحجار مضفورة مصفوفة كيفما اتفق، وهناك قلاع وأبراج وكنائس لا هندسة لها.
وليس في الغرب شيء اسمه أمن وأمان، يقضى على كل إنسان أن يكون على استعداد في كل حين ليرد الأشقياء عن داره وحقله، وفي غدوه ورواحه، فلا ينام إلا وسلاحه إلى جنبه، ولا يستطيع المرء أن يسير فراسخ قليلة دون أن يستهدف للقتل أو السلب، وقد جعل بعض أرباب القوة من نهب عروض الناس في الطرق مهنة لهم يعيشون منها، يقتلون ويقتلون، وما من حكومة قوية تناقشهم الحساب على ما تجني أيديهم؛ لأن الأمراء كانوا مع رجال الدين أشبه برؤساء عصابات منهم بزعماء بلاد، ولم تكن أوروبا كلها قد دانت بالنصرانية، بل كان من ممالكها من لم يزل على مجوسيته ووثنيته، والنصرانية دخلت المدن أولا وتسربت إلى القرى والدساكر بعد أزمان.
وبينا كان شارلمان أعظم ملوك الغرب أميا أو يقرب من الأمية، كان المنصور والرشيد والمأمون تترجم لهم كتب الطبيعيات والرياضيات والفلك والطب والفلسفة والصناعات، وبينا كان أهل غاليا أميين كلهم ما دونوا كتابا ولا أخبارا ولا عرفوا أدبا ولا شعرا، كان العرب قد أنشئوا في كل قطر نزلوه كتلا علمية، ومجالس أدبية، وأصبح عامتهم يقرءون ويكتبون، وخاصتهم ينظمون وينثرون ويخطبون ويؤلفون ويبحثون في العلم والفلسفة على طريقة أشبه بطرق أهل المدنيات الحديثة، على حين كان نبلاء القرون الوسطى في الغرب لا يمتازون عن الفلاحين بتهذيبهم وعلمهم، وكلهم أميون جهلاء قساة الطباع، يستحلون كل منكر لا هم لهم غير الشراب والطعام والصيد والغارات.
وبينا كان الغرب لا يعرف حياة الرفاهية، ومن أهله كسكان شلشويق (شلزويك هولشتاين) في الدانيمرك من كانوا كالوحوش يسترون عوراتهم بقطع من الجلود، شأن كثير من الشعوب في شرقي أوروبا وشمالها ولا يحسنون لفق الجلود ولا خياطتها أيضا، كان العرب قد دخلوا في مباهج الحياة ورفاهة العيش يلبسون ونساؤهم أجمل الأكسية من الحرير والقطن والصوف والكتان ينسجونها في معاملهم ويحوكونها على أنوالهم وهي وافية بحاجات الحضري والقروي منهم على اختلاف الفصول.
كان أول احتكاك مدني وقع بين العربي والغربي في آسيا الصغرى؛ لأنها كانت ميدانا للغارات بين العرب والروم منذ اقتطع العرب الشام من أملاك البيزنطيين، وحاولوا أن يتقدموا إلى فتح القسطنطينية، وتكون الغزوات بين الفريقين سجالا؛ فيأخذ كل فريق من الفريق الآخر أسارى، قد يقضون في بلاد عدوهم أعواما، فيتعلم العربي الرومية ويتعلم الرومي العربية، ويزور في أيام المهادنات والسلام بعض أهل الطبقة العالية والوسطى البلاد المجاورة، ويرى كل ما عند الفريقين من أسباب التفوق، وما خلت بلاده مما عند جاره من عوامل النهوض وأساليب القوة في الأمم.
ولما انبلج فجر القرن الثاني زادت ساحة أخرى لتعارف العربي بالغربي وهي ساحة جنوب أوروبا الغربية؛ أضيفت إلى ساحة جنوب أوروبا الشرقية بفتح العرب الأندلس سنة 92ه عندما قضوا على مملكة الويزغوت أو الغوط كما كان يطلق عليهم العرب، وانحاز الإسبانيون إلى شمال جزيرة أيبريا يعتصمون في جبال جليقية ويستأثر العرب بمعظم بلاد إسبانيا والبرتقال، يستصفونها من البحر الرومي إلى بحر الظلمات ويقرون أهل البلاد على قضائهم وإدارتهم ويعدلون فيهم ويقلدونهم بعض الأعمال الصغرى ينتهون منها إلى كبرياتها بعد زمن قليل. ومن عادة العرب إذا فتحوا قطرا أن يبقوا لأهله أوضاعهم ومصطلحاتهم وتراتيبهم وأن يحكموه لأول الأمر حكما أشبه بالحماية ثم يحيلونه ملكا صرفا، وهذا من بديع سياستهم، وكانت الجزية التي ضربها العرب على غير المسلمين زهيدة بالقياس إلى ما كانوا يستمتعون به من الراحة والهناءة، وقضت شروط الصلح أن يجعل على كل رجل حر بالغ دينار واحد في السنة وأربعة أمداد قمح وأربعة أمداد شعير ومقدار من الخل والعسل والزيت وعلى العبد نصف ذلك، وأن تحفظ على أهل البلاد دماؤهم؛ فلا يسبون ولا يفرق بينهم وبين أولادهم ونسائهم ولا يكرهون على دينهم ولا تحرق كنائسهم.
Unknown page