أثر المدنية العربية القديمة في ثقافة مصر الحديثة
تمازج الحضارتين العربية والغربية
أثر الحضارة العربية في الحروب الصليبية وأثر الحضارة الغربية على عهد الاستعمار الحديث
أثر علوم العرب وفنونهم وما كشفوه واخترعوه
أثر المدنية الغربية في البلاد العربية
التنظير بين المدنيتين وأهلهما
الأثر العلمي في الثقافة المصرية الحديثة للدكتور علي مصطفى مشرفة
الرأي الحر
فولتير
روسو
Unknown page
رينان
الفيلسوف تين
أثر المدنية العربية القديمة في ثقافة مصر الحديثة
تمازج الحضارتين العربية والغربية
أثر الحضارة العربية في الحروب الصليبية وأثر الحضارة الغربية على عهد الاستعمار الحديث
أثر علوم العرب وفنونهم وما كشفوه واخترعوه
أثر المدنية الغربية في البلاد العربية
التنظير بين المدنيتين وأهلهما
الأثر العلمي في الثقافة المصرية الحديثة للدكتور علي مصطفى مشرفة
الرأي الحر
Unknown page
فولتير
روسو
رينان
الفيلسوف تين
آراء حرة
آراء حرة
تأليف
طه حسين ومحمد كرد علي وعلي مصطفى مشرفة
مقدمة
بقلم وندل كليلاند
Unknown page
بين اليوم الحاضر والأمس الدابر روابط وصلات وثيقة العرى موصولة النسب؛ لذلك ينبغي لنا في نهضتنا الحاضرة أن نتئد الخطى وأن ننعم النظر والاعتبار الفينة إثر الفينة في ذلك الإرث الرائع الجليل، فلا نتقدم خطوة حتى نأخذ لها أهبتها ونعد لها عدتها، نستضيء بأشعة الماضي لنهتدي في الحاضر إلى سواء السبيل.
من أجل هذا وضع هذا الكتاب، وهو يضم بين دفتيه سلسلة من المحاضرات التي نظمها قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وتكرم بإلقائها نخبة ممتازة من أعلام النهضة الفكرية.
وهي تنقسم في مجموعها إلى قسمين: أولهما أثر الثقافة الغربية في العربية وأثر الثقافة العربية في الغربية، وقد ألقى الأستاذ محمد كرد علي منها ست محاضرات، وألقى الأستاذ علي مصطفى مشرفة محاضرة واحدة، أما القسم الثاني، فيشمل أثر الفكر الحر المستقل منوها بقادة الفكر في القرن الثامن عشر في فرنسا كفولتير وروسو ورينان وتين. وقد ألقى حضرة صاحب العزة الدكتور طه بك حسين خمس محاضرات فيها، وليس من شك في أن الثقافة العربية قد تأثرت إلى حد كبير بهذه الثقافة الغربية سواء أكان ذلك في القانون، أم في الفن، أم في التربية، أم في الاقتصاد.
هذا موضوع هذا الكتاب، وقد تركنا لحضرات المحاضرين، وهم من الأعلام البارزين، مطلق الحرية للتعبير عن آرائهم ومراجعة التجارب المطبعية أثناء طبع الكتاب، وإليهم وحدهم ترجع التبعة والمسئولية.
ويغتبط قسم الخدمة العامة بأن يقدم هذه البحوث القيمة في كتاب واحد يجمع بين أثر الحضارة والثقافة في الحركة الفكرية، وهو يسدي جزيل شكره وعاطر ثنائه لحضرات من ساهموا في إعداد هذا الكتاب.
حضرة الأستاذ محمد كرد علي، وقد بحث الموضوعات الستة التالية.
أثر المدنية العربية القديمة في ثقافة مصر الحديثة
يتقاضانا النظر في انبعاث الثقافة العربية في مصر قديما أن نقف بالجملة على روح الفاتح العربي، وعلى حالة البلاد التي افتتحها، وعلى سياسة الفتح التي أدت إلى سرعة انتشار تلك الثقافة، والواقع أن العرب لم يفتحوا قطرا من الأقطار على صورة سهلة كما فتحوا مصر؛ فلم يتكبدوا في استصفائها من المال والرجال إلا ما لا بد منه في حصر بعض المواقع الحربية، وتجلت في هذه الحملة، وكان التيسير مؤاتيا لها من كل وجه.
روية عمر بن الخطاب الخليفة المنقطع القرين بعدله وبعد نظره؛ وبديهة عمرو بن العاص القائد الذي يحارب بدهائه أكثر مما يحارب بجيشه، ومن الذين تولوا معاونته من رجال الصحابة في الفتح وبعد الفتح، زمرة كان الواحد منهم مقام الألف بصفاته السامية، ومنهم الزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعبادة بن الصامت، وخارجة بن حذافة، ومسلمة بن مخلد الأنصاري، ومعاوية بن حديج، وقيس بن أبي العاص، وعبد الله بن سعد، وعقبة بن نافع، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، والمقداد بن الأسود، وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، وأبو الدرداء عويمر بن عامر، وعقبة بن عامر، والمغيرة بن شعبة وأمثالهم، ومنهم من تولوا بعد فتح إفريقية وجزائر البحر الرومي وقضوا على أسطول الروم عقبى وقعة الصواري، ومن هؤلاء الصحابة من كان هبط مصر لغرض التجارة في الجاهلية، واتجر فيها القائد الأول عمرو بن العاص بالأدم والطيب فتعرف مداخلها ومخارجها، وكان يعرف أن «أهل مصر مجاهيد قد حمل عليهم فوق طاقتهم»، وهو الذي حسن للخليفة الثاني فتحها، وسهل عليه الأمر، وقال له: إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونا لهم وهي أكثر الأرض أموالا وأعجز عن القتال والحرب.
واتفق أن كان سئم قبط مصر، وهم كثرتها الغامرة، أحكام الروم البيزنطيين لما أرهقوهم به من المظالم والمغارم، ولما ساموهم من الخسف والعنف مدة اثني عشر قرنا، ثم حاولوا إدخالهم في مذهب الكنيسة الملكية، وأرادوهم على أن يصبئوا عن مذهب النصارى اليعاقبة، فأهلكوا منهم نفوسا، وخربوا بيوتا، وأتوا على بيع وأديار، والخلاف على أشد ما يكون في مسألة المشيئة الواحدة أو المشيئتين في السيد المسيح؛ يضطهد كل من لا يشايع أهل دين الدولة الحاكمة، والروم في دور انحطاطهم يرتكبون كل منكر، ويأتون كل شناعة، وعامة البلاد التي تخفق عليها أعلامهم في حالة تشبه مصر في تبرمها وتظلمها، وتناصرت الأخبار في مصر على أن العرب أصحاب الدولة الفتية التي فتحت الشام والعراق وبعض فارس هم على جانب من العدل والرحمة في أحكامهم، فاشرأبت الأعناق إليهم، وود الناس لو أنقذوهم مما هم فيه.
Unknown page
وكان الرسول بعث إلى المقوقس أكبر عامل للروم من القبط كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، فتلطف في جوابه وأهدى إليه جارية قبطية اسمها مارية بنى بها صاحب الرسالة فولدت له ابنه إبراهيم وعدت من أمهات المؤمنين، ذكر عمرو بن العاص في إحدى خطبه قال: حدثنا عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله يقول: «إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرا فإن لهم منكم صهرا وذمة»، وفي رواية: «فاستوصوا بالقبطيين خيرا لأن لهم رحما وذمة.» ولطالما أوصى الرسول بأهل الذمة، وقال: «من آذى ذميا فأنا حجيجه، ومن قتل قتيلا من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة»، وقال: «من قتل نفسا معاهدة بغير حلها حرم الله عليه الجنة أن يشمها.» وجعلت الشريعة دية المعاهد كدية المسلم ألف دينار، ولطالما قتل المسلم بالذمي، ولطالما خان الروم وغيرهم عهد العرب، فقال المسلمون: «وفاء بغدر خير من غدر بغدر.» وقد حاسن المسلمون النصارى خاصة منذ انبعثت دعوتهم في جزيرة العرب؛ لأن نصارى نجران اليمن كانوا أول من أدى الجزية ولم يجلهم عمر عن أرضهم، ويوصي بهم أهل العراق والشام؛ إلا لما أكلوا الربا وكان شرط عليهم الامتناع عنه، أما اليهود فحاسنهم الرسول أيضا ولكنهم آذوه مرارا فأجلاهم في حياته من الحجاز إلى الشام، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: «أهل مصر أكرم الأعاجم كلها، وأسمحهم يدا، وأفضلهم عنصرا، وأقربهم رحما بالعرب عامة وبقريش خاصة.»
ورأينا الروم يصفون العرب بأنهم «فرسان في النهار رهبان في الليل، يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل دوي النحل، وهم آساد الناس لا يشبهون الأسود.» ولما عاد رسل المقوقس من عند عمرو بن العاص، قال لهم: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: «رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم.» وربما كان من أهم العوامل في فتح مصر كون العرب يمتازون بصفات لا مثيل لها في دولتي فارس والروم، ومنها صدق العزيمة وصحة الإيمان، وأنهم ما كانوا يفرقون بين الرفيع والوضيع والموافق والمخالف في تطبيق قانونهم، ويدينون بالطاعة لرؤسائهم ويصبرون ويصابرون ويبتعدون عن عيش البذخ والإسراف، ويعرفون الهدف الأسمى الذي يرمون إليه، ويستنبطون من أحوال الشعوب التي ينزلون عليها أكثر مما تعرف هذه الشعوب من أحوالهم.
وفي الحق، إن مصر كان لها موضع من نفوس العرب ويكفي أن يحببها إليهم ذكرها في الكتاب العزيز في أربعة وعشرين موضعا، منها ما هو بصريح اللفظ، ومنها ما دلت عليه القرائن والتفاسير، ولم يقع مثل هذا فيه لمصر من الأمصار، وما كانت مصر بالبلد الغريب كثيرا عن العرب عامة، فإن أجدادهم القدماء كانوا احتلوا أماكن منها وغزوها مددا متطاولة، وعثر المتأخرون في اللغة المصرية القديمة على ألوف من الألفاظ العربية، والغالب أن غزو العرب مصر كان أيام القحوط والجدوب التي طالما أصيبت بها بلاد العرب، فكانوا ينتجعون ما جاورهم من الأصقاع، فإذا تبرم بجوارهم أهلها غزوهم، ثم إن بلاد العرب تخرج أصنافا من الزراعة لا توجد في غيرها، وتجار العرب ينقلون تجارة أقطار الشرق إلى الشام ومصر وإفريقية، والعرب كسائر الساميين تجار أقحاح منذ عرف تاريخهم، والتاجر من شأنه التعرف إلى الناس والبلاد.
ويكتب أبو ميامين أسقف القبط بالإسكندرية إلى جماعته يعلمهم أنه لا يكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقي عمرو بن العاص، فيقال إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا، ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف، وكان عمرو لما نزل على بلبيس قتل بعض من كان بها وأسر جماعة وانهزم من بقي ووقعت في أسره ابنة المقوقس، فأرسلها إلى والدها مكرمة في جميع مالها، ولما نزل عمرو على القوم بعين شمس، قال أهل مصر لعاملهم: ما نريد إلى قوم فلوا جيوش كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم، صالح القوم واعتقد منهم ولا تعرض لهم ولا تعرضنا لهم، وأرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو: إني قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم معشر العرب؛ لفارس والروم، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علي ما أصبتم من سبايا أرضي فعلت، وكانت السبايا قد أرسلها عمرو إلى الحجاز واليمن، فردها الخليفة إلى قراها وصيرهم وجميع القبط على ذمة. والسبب في سبيهم أن أهل مصر كانوا أعوانا لعمرو بن العاص على أهل الإسكندرية إلا أهل بلهيب وخيس وسلطيس وسخا وغيرهم، فإنهم أعانوا الروم على المسلمين، وسباهم عمرو وخيرهم عمر بين الإسلام ودين قومهم، فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه فدخل كثير منهم في الإسلام.
وإذا عطف الفاتح على القبط للأسباب التي ذكرنا، فذلك لأن جمهورهم حاسنه وما خاشنه؛ ولذلك شاهدناه يضاعف الجزية على الروم الواغلين على البلاد، ويأخذ من القبط الجزية دينارين على كل حالم إلا أن يكون فقيرا، وقد أقر النصارى واليهود على ما بأيديهم من أرض مصر يعمرونها ويؤدون خراجها، وألزم كل ذي أرض مع الدينارين ثلاثة أرادب حنطة وقسطي زيت وقسطي عسل وقسطي خل، رزقا للمسلمين تجمع في دار الرزق وتقسم فيهم، وألزم لكل رجل جبة صوف وبرفسا أو عمامة وسراويل وخفين في كل عام، أو بدل الجبة الصوف ثوبا قبطيا. وما كان الخراج يجبى منهم إلا في إبانه، مخافة «أن يخرق الوالي بهم فيصيروا إلى بيع ما لا غنى لهم عنه.» ووقع بعد ذلك الدور بعض الحيف على من عاهدوا على حسن الطاعة وارتضوا بالجزية، ثم ما عتموا أن عمدوا إلى أساليب للتفلت من أدائها، كأن يدعي بعضهم أنه من رجال الدين يعتصم بالديرة والبيع، حتى اضطر عبد العزيز بن مروان أن يحصي الرهبان فأحصوا وأخذت الجزية عن كل راهب دينار، وهي أول جزية أخذت من الرهبان، ومنهم من كان يهجر بلده وينزل بلدا آخر، حتى اضطر الولاة بعد القرن الأول أن لا يجوزوا انتقال أحد من قريته وبلده إلا بجواز الحاكم، وانتقض بعضهم غير مرة مدفوعين بعوامل كثيرة، فما وسع الدولة إلا أن تردهم إلى الطاعة، والسبب في كل هذا - كما قال المؤرخون من غير المسلمين - أن المال كان عزيزا على قلوب أهل البلاد يستحلون لأجله ما ينكره دينهم عليهم، وهو القائل: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.»
وترك الفاتح القبط وشأنهم في كنائسهم وأديارهم، وأعاد إليهم ما كان أخذه الروم الملكيون منهم، وأطلق لهم الحرية في أن يبنوا منها ما طاب لهم، ولما هدم في القرن الثاني علي بن سليمان بعض الكنائس احتج موسى بن عيسى والي مصر من قبل الرشيد بأن هذه الكنائس مما بني في عهد الصحابة والتابعين، وأفتى الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة من أحبار الأمة بإرجاعها إلى سالف عهدها وقالا هي من عمارة البلاد، أما الأصنام والتماثيل فقد صدر أمر الخليفة في سنة 104ه بكسرها ومحوها في مصر؛ لأن دين التوحيد لا يحتمل شعار الوثنية، وقد جاء للقضاء عليها، وما يتناغى الروم بحبه لا يستلزم أن يشايعهم العرب عليه، وهو ليس من طبيعتهم ولا من أصل دينهم، والإسلام كما قال عمرو بن العاص يهدم ما كان قبله. قال هذا لما أبطل سنة المصريين في النيل، وكانوا يعتقدون أنه لا يجري إلا إذا ألقيت فيه كل سنة جارية بكر وزينت بأفضل ما يكون من الحلي والثياب، ولما استقر عمرو بن العاص على ولاية مصر كتب إليه عمر بن الخطاب أن صف لي مصر، فكتب إليه:
ورد كتاب أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - يسألني عن مصر. اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قرية غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجري فيه الزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر، له أوان يدر حلابه ويكثر فيه ذبابه، تمده عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا ما اصلخم عجاجه، وتعظمت أمواجه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلي بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن في المخايل ورق الأصائل، فإذا تكامل في زيادته، نكص علي عقبيه كأول ما بدأ في جريته، وطما في درته، فعند ذلك تخرج أهل ملة محقورة، وذمة مخفورة، يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب، لغيرهم ما سعوا من كدهم، فناله منهم بغير جدهم، فإذا أحدق الزرع وأشرق، سقاه الندى، وغذاه من تحته الثرى، فبينما مصر - يا أمير المؤمنين - لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء الذي يصلح هذه البلاد وينميها، ويقر قاطنيها فيها، ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها ، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل. ا.ه.
فلما ورد الكتاب على عمر قال: لله درك يا ابن العاص لقد وصفت لي خبرا كأني أشاهده. •••
الآن، وقد ألممنا إلمامة خفيفة بموضوع الفتح وصلات العرب بمصر ساغ لنا النظر في الثقافة التي حملها العرب الفاتحون إلى هذه الديار، وهي ثقافة دينية وأدبية معا، مازجتها بعد حين ثقافة علمية واجتماعية، كان أن خرج من مجموعها لون من ألوان الثقافة لا يشبه ما كان من نوعه في الأمم الأخرى، وانتهت بإعراب مصر وإسلامها، فقد كان من عمر بن الخطاب وهو في صدد الفتوح في الشرق والغرب أن لا يغفل عن إرسال البعوث الدينية إلى كل بلد أظلته الراية الإسلامية؛ يرسل الفقهاء والقراء والقصاص يفقهون المسلمين ويقرؤنهم ويقصون عليهم في كل ممسى ومصبح ما يرق قلوبهم، ويختارهم من أفقه الصحابة وأقرئهم وأبلغهم؛ ليتأدب العامة والخاصة بأدب الدين ويجمع المسلمون إلى فطرتهم الذكية معارف كسبية.
كان أول من قرأ القرآن بمصر ممن شهد فتحها أبو أمية المغافري، ومن فقهائها جبلة بن عمرو وعقبة بن الحارث الفهري وحيان بن أبي جبلة؛ ومن قضاتهم كعب بن يسار، كان قاضيا في الجاهلية، وهو أول من أسند إليه القضاء في مصر، وتولى بعد القضاء والقصص فيها سليم بن عتر التجيبي (39ه)، وهو أول من أسجل بمصر سجلا في المواريث، ومن حكماء الصحابة أبرهة بن شرحبيل، ومن فصحائهم أيمن بن خريم، وكان يسمى خليل الخلفاء لإعجابهم به وبحديثه لفصاحته وعلمه. أما الشعر فكثير من الصحابة ومن بعدهم كانوا يقرضونه بالفطرة، ويخطبون الخطب البليغة من دون ما تعمل ولا تكلف.
Unknown page
قلنا إن العرب كانوا ينتجعون مصر ويغزون أطرافها وربما أقاموا بها زمنا في بعض الأدوار، ولكن العرب في مصر، وقد فتحتها دولتهم قد تبدل مقامهم فيها، فسما لهم شوق إلى الرحيل إليها لينزلوها ويستعمروها وتكون لهم ولذراريهم موطنا، ولما لم يرض الفاتح أن يسلب الأرض من أهلها الأصليين، وأقرهم عليها يؤدون عنها الخراج، خص النازلين من القبائل العربية بأرض ارتحل عنها أصحابها فأحيوها، وجاءت قبائل العرب وبطونهم يحطون رحالهم في الريف يعتملون الأرض، ويتخذون من الزرع معاشا وكسبا، ومنهم من اختار سكنى المدن يخرجون إلى مصايف لهم، وقد تكون لهم تلك المصايف مساكن دائمة، وكان أكثر من نزل مصر من العرب من سكان بوادي الحجاز، تفرقوا في طول البلاد وعرضها، واتسعت معايشهم لخصيب تربة مصر ولما شملهم الفاتح من رعايته، وكان يحظر على الجند لأول الفتح أن يعتملوا الأرض لئلا تخرجهم الزراعة عن القيام بأعمالهم، فانصرف إلى الزراعة أهلها، وما أسرع ما بنى العرب منازلهم حتى إن من الصحابة من اختط له دارا في أرض مصر، واختط عمرو بن العاص دارا لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب عند المسجد بالفسطاط، فكتب إليه عمر: أنى لرجل بالحجاز يكون له دار بمصر؟! وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين، وكثرت هجرت العرب إلى مصر في عصور مختلفة، والمورد العذب كثير الزحام، وما فتئت الجزيرة في القرون التالية تمد مصر بالرجال، يكثرون سواد سكانها، حتى أصبح القبط إلى قلة في القرن الثالث، وكان عدد من وجبت عليهم الجزية في الفتح أربعة ملايين رجل وعد الروم ثلاثمائة ألف.
وانتشرت اللغة العربية بين السكان منذ البدء، فلم يمض زمن طويل بعد الفتح إلا ورأيت رجال الكهنوت القبطي يكتبون بالعربية ليفهموا قومهم، ظاهرة غريبة في الإسلام؛ ذلك لأن مصر لم يسبق لها أن غيرت دينها سوى مرة واحدة، غيرته بحد السيف، وما غيرت قط في التاريخ لغتها إلا في الإسلام، وفي الإسلام غيرت دينها ولسانها معا من دون إكراه وشدة، بل بالحكمة والموعظة الحسنة.
كان الفاتح يستوفي حقه برمته من أهل ذمته، ويشملهم برأفته وعنايته، ذكروا أنه رفع إلى عمرو بن العاص أن غرفة بن الحرث الكندي، وكان من الصحابة الذين سكنوا مصر، ضرب رجلا نصرانيا فوق أنفه، فقال عمرو للصحابي: إنا قد أعطيناهم العهد، كأنه يريد أن يؤاخذ الصحابي بما فعل ، فقال غرفة: معاذ الله أن نعطيهم العهد على أن يظهروا شتم النبي، وإنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم يقولون فيها ما بدا لهم، وأن لا نحملهم ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدو بسوء قاتلنا دونهم، وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم إلا أن يأتونا راضين بأحكامنا فنحكم بينهم، وإن غيبوا عنا لم نتعرض لهم، فقال عمرو: صدقت.
انقاد جمهور القبط إلى الإسلام، واختلطت أنسابهم بأنساب المسلمين؛ لتزوجهم لما أسلموا من المسلمات، وبالمجاورة فقط يتعلم المغلوب لسان الغالب، فكيف إذا اختلط دمه بدمه، وتألفت مصلحته بمصلحته، وللرجل إذا أسلم ولو كان في سن عالية من إقامة الشعائر فقط أعظم دافع إلى تلقف العربية؛ يسمع خطب الخطباء في الجمع والمواسم وأيام الحفل، في موضوعات يهمه تفهمها، ثم يستمع إلى قصص القصاص في المساجد والمعسكرات، وكان يجتمع إلى قصاص العامة النفر من الناس يعظونهم ويذكرونهم. ويكون القصاص كالخطباء من أمثل العلماء على الأكثر، ويتولى خطبة الجامع الأعظم أمير البلاد، ومن يتولى الصلاة يرجح على من يتولى الأموال، فإذا جمع بينهما لواحد كان الأمير كل الأمير.
وكانت الجوامع والمساجد مجامع ومدارس لتعليم البنين والبنات، يختلف إليها النساء كما يختلف إليها الرجال، والجوامع منتديات القوم ومحال تقاضيهم، يخطب فيها في المهمات وتلقى فيها دروس خاصة وعامة، وتتخذ للعبادة في أوقات الصلوات، وقلما يخلو جامع من إقامة كتاب على مقربة منه لتعليم الأولاد، وجاء من النساء المحدثات والواعظات والأديبات والشاعرات، وعددهن بالطبع أقل من عدد الرجال في هذا الشأن، وكان لهن من تربية أولادهن ما يشغلهن في بيوتهن عن أمور يقوم بها الرجال، وتتعلم المرأة مهما كانت منزلتها سورا من القرآن وما يلزمها من أصول الدين، وتحفظ الأشعار والأخبار، وتحضر القصص والوعظ وتأتم بالرجال في المساجد، والغالب أنه كان الرسم منذ القديم أن لا تخلو دار أحد من أرباب اليسار من فقيه يختلف إليها يعلم الأبناء والبنين ويتفقه به الصغير والكبير، أو من قارئ يتلو حصصا من الكتاب العزيز في الليل أو النهار ، وكانت العادة أن من بركة كل بيت مهما علت مكانة أصحابه أن يتعلم بعض أبنائه العلم الديني على الأصول ويتخرج بالشيوخ ويأخذ عن القراء، وحفظ القرآن من الأمور التي شاعت في القطر شيوع العقائد الراسخة، ثم إن من واجب المسلم أن يعلم جيرانه ويفقههم ويفطنهم، ومن مصلحة القبطي والرومي أن يتعلما لغة العرب للتفاهم وللإتجار.
والغريب عن اللغة قد لا يحتاج إلا إلى أشهر قليلة حتى يتعلمها، واللسان كان منذ وجد الإنسان يعلم بالتلقين والتلقي، ويرسخ بالسماع والانطباع، أكثر من قراءة الصحف والكتب، وهذه ما كانت تصل في الصدر الأول إلى غير أيدي الخاصة من الناس لغلائها وعزتها، وفي حدود ثمان وثمانين من الهجرة فقط، اتخذ الكاغد؛ أي الورق من القطن، فرخص ثمن الطوامير والقراطيس، وكانت الصحف تكتب على لباب البردي وهو غال ثمين. ويطلقون اسم الصحفي على من لم يلق العلماء ويأخذ علمه عن الصحف، فالعلم الإسلامي وإن بدأ تدوينه في زمن الصحابة إلا أن المسلمين كانوا يخزنون علمهم في الصدور، أكثر مما يرقمونه في السطور، وربما لم تبلغ أمة من الأمم شأو العرب في الرواية والدراية.
ولعله كان من الخير للفاتحين ونشر تعاليمهم ولسانهم كونهم ما تصعبوا في إشراك أبناء الذمة في المصالح العامة، فاستعملوهم منذ أول الفتح في بعض شئون الدولة ولا سيما في جباية الأموال وصرفها، ومنذ القرن الأول كان جميع عمال الأرياف من القبط، وكان ناظر مالية الدولة الأموية على عهد معاوية نصرانيا وتولى ذلك بنوه للخليفة من بعده، ولما نقلت الدواوين إلى العربية على عهد عبد الملك بن مروان، ونقل ديوان مصر من الرومية والقبطية إلى العربية، كما نقل ديوان الشام والعراق من الرومية والفارسية، ضن الفاتحون بأرباب الكفاءات من العمال السابقين فما صرفوهم من التصرف والخدمة، وما كان يشترط للعمل غير معرفة لسان الدولة والأمانة للسلطان حتى يوليه ثقته ويخلطه بنفسه، وحدثنا التاريخ أن عمرو بن العاص كان أول من اتصل بالعلماء من القبط والروم وأنه كانت له صحبة مع يحيى غرماطيقوس - أي النحوي الفيلسوف - وأعجب كلاهما بصاحبه، وأن خالد بن يزيد الأموي عالم قريش وحكيمها لجأ إلى علماء من القبط لما أراد نقل بعض العلوم إلى العربية، فنقلوا له شيئا في الطب والكيمياء وغيرها، وكان يفضل عليهم وعلى العلماء الآخرين من الروم والسريان كثيرا، حتى نقلت له مبادئ الصناعات والعلوم والنجوم والحروب.
وتدين مصر لبني أمية خاصة بأوضاع من العدل والعمران كثيرة؛ ذلك لأنهم كانوا يرسلون لإمارتها أمثل رجالهم وتطول إمارتهم فيها ليتمكنوا من معرفة ما يصلحها، ومن كعمرو بن العاص بإدارته الحسنة وسياسته الرشيدة، ومن كعتبة بن أبي سفيان شقيق معاوية، وكان من أخطب خطباء العرب يطفئ في ولايته القصيرة الفتنة وينشر الإسلام، وكان بعض أهل مصر من العرب اشتركوا كأهل الكوفة والبصرة بمقتل عثمان بن عفان الخليفة الثالث، ومن كعبد الله بن سعد في حسن سيرته ومعرفته بسياسة الملك، وفيها طالت أيامه كما طالت إمارة مسلمة بن مخلد خمس عشرة سنة، وطالت أيام عبد العزيز بن مروان إحدى وعشرين سنة، وفي أيامه عمرت مصر عمرانا ليس مثله، وبنى في حلوان الدور والمساجد وغيرها أحسن عمارة وأحكمها وغرس كرمها ونخلها، وهو والد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل الذي أشبه جده لأمه عمر بن الخطاب بعدله وإحسانه، وهو الذي كتب إلى عامله على مصر وقد شكا إليه نقص الجباية لإقبال الناس على الدخول في الإسلام: إن الله بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا، وهو الذي جعل الفتيا بمصر إلى ثلاثة رجال؛ رجلين من الموالي ورجل من العرب، فأنكر العرب فعله، فقال: ما ذنبي أن كانت الموالي تسمو بأنفسها صعدا وأنتم لا تسمون، وهو الذي قال لأسامة بن زيد، وقد بعثه سليمان بن عبد الملك على ديوان جند مصر وحثه على توفير الخراج: ويحك يا أسامة، إنك تأتي قوما قد ألح عليهم البلاء منذ دهر طويل، فإن قدرت أن تنعشهم فأنعشهم، كأنه كان يشعر، وهو من مواليد مصر وأبوه أميرها، أن في إدارة الدولة شيئا من الظلم تجب إزالته. ومثل هذه الشفقة والرحمة والعطف كانت تحبب الإسلام إلى القوم فيسلمون ويمتزجون برجال الدولة، أو يبقون على دينهم لا يفتنون عنه، ولا تؤخذ كنائسهم، ولا يهان قساوستهم.
أصبح سكان مصر في القرن الرابع أخلاطا من الناس مختلفي الأجناس من قبط وروم وعرب وبربر وأكراد وديلم وتتر وأرمن وحبشان وغير ذلك من الأصناف والأجناس، وجمهورهم القبط، واختلطت الأنساب واقتصروا من الانتساب على ذكر مساقط رءوسهم، وفي هذا القرن كان القبط يتحدثون بالقبطية على رواية المقدسي، ولهم - كما قال ابن حوقل - البيع الكثيرة وهم أهل يسار وفيهم قلة شر وكثرة خير، ويقول الظاهري في القرن التاسع: إن بالصعيد من الكنائس والديورة قريب ألف وغالب أهله نصارى؛ أي أقباط.
إذا عرفنا هذا، فليس ما يمنع من القول إن بوتقة مصر في الدول الإسلامية كانت تتمثل فيها العناصر الغريبة فتصبغها بصبغتها، تحيلها مصرية صرفة بعد جيل أو جيلين. وساعد على مزج الدخيل والأصيل فيها ورود النهي عن التفاخر بالجنسية والقومية، وعدم التفريق بين العربي والأعجمي إلا بالتقوى. ومن مصطلح العرب أن كل من أقام ببلدة ولو مدة وجيزة ثم مات فيها عد من أهلها ونسب إليها، ولما كان ابن وادي النيل لبدا بطبعه مولعا بمائه وهوائه، صعب عليه أن يهجره إلى أقطار أخرى ليكثر سواد شعب غير شعبه. والمصري منذ القديم لا يبغي عن مصر حولا، فهو مغتبط بنيله، عاشق تربته، راض بما قسم له، فكان مصر منذ عهد الفراعنة الأولين بلد استيراد أكثر مما هو بلد استصدار، ولولا فريضة الحج في الإسلام، ما خرج المصري إلى الحجاز أيضا يفارق ما في داره من النعيم المقيم.
Unknown page
وكانت مصر في الدول العربية بأرباب الرحلات من المحدثين والفقهاء والأدباء والعلماء أكثر اتصالا فكريا بالأقطار الأخرى من معظم الأمصار؛ لتوسطها بين البلدان العربية، وترسل إلى الأصقاع الأخرى ما لا يكلفها حمله كبير عناء من بضائع علمها وفنها وتفكيرها، وإذا هاجر أحد أبنائها فهجرته موقتة، والغريب قد تفتنه فيتخذها مسكنا دائما، وقد كثرت هجرة العلماء إليها من أقطار الأرض بعد القرن الثالث؛ لأن الفتن اندلع لسانها، ولا سيما في العراق والشام، والعلماء أحوج الناس إلى السلام، وكانت مصر ساكنة هادئة بفضل من استولوا عليها في ذاك الدور، ولما خرب المغول بغداد في القرن السابع رحل العلماء منها إلى مصر، على نحو ما جرى لما استولى الأتراك على الأستانة في القرن التاسع فرحل منها إلى إيطاليا بعض علماء اليونان، وكانوا من عوامل نهضتها، وفي رحلات المرتحلين من مصر وإليها ضرب من ضروب تبادل العلم والأفكار، وكانت الجوامع تؤوي هذه الطبقات من المشتغلين، قبل أن تنشأ المدارس في القرن السادس، وما خلت بيوت العلية من الناس في كل محلة ومنزلة من قبول النزلاء على الرحب والسعة، والكرم ما انقطع من مصر في دور من أدوارها؛ ذلك لأن المصري كالعربي يعد الشح مثلبة، وأي مثلبة. وفي قصة المرأة القبطية المشهورة مثال من هذا الكرم الفطري؛ ذلك أن الخليفة المأمون مر بقريتها طاء لنمل (طنامل) لما وافى مصر، فسألته أن يقبل قراها ولما اعتذر بكت بكاء كثيرا وقالت: لا تشمت بي الأعداء ولا تحرمني هذا الشرف الذي تولينيه وعقبي، فنزل عليها برجاله وجيشه، فأطعمتهم من فاخر الطعام ولذيذه. وبعثت إلى الخليفة في الصباح بعشر وصائف مع كل وصيفة طبق، في كل طبق كيس من ذهب فاستحسن ذلك وأمرها بإعادته، فقالت: والله لا أفعل، فتأمل المأمون الذهب، فإذا به ضرب عام واحد كله، فقال: هذا والله أعجب، وربما يعجز بيت مالنا عن مثل ذلك. فقالت: يا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا، فقال: إن في بعض ما صنعت لكفاية، ولا نحب التثقيل عليك، فردي مالك بارك الله فيك، فأخذت قطعة من الأرض وقالت: يا أمير المؤمنين، هذا - وأشارت إلى الذهب - من هذا - وأشارت إلى الطين - ثم من عدلك يا أمير المؤمنين، وعندي من هذا شيء كثير، فأمر به فأخذ منها، وأقطعها عدة ضياع وأعفاها من بعض خراج أرضها.
رأينا العرب ينقلون من دار أعرابيتهم أساس الثقافة العربية على نحو ما جروا في كل قطر فتحوه؛ فيشخص إليها رجال القرآن والفقه والرواة من الحجاز واليمن وفيهم الجهني والفهري والتميمي والتنوخي والمخزومي والمزني والعبسي واللخمي والقرشي والخزاعي والقضاعي والأزدي والحضرمي، ثم صار يغشاها الجرجاني والنيسابوري والمروزي والشيرازي والدينوري والسمرقندي والخوارزمي والبستي والطبري والهمذاني والطوسي والجويني والتبريزي والشهرزوري والقزويني والغزنوي والهروي والخراساني والنسائي والبلخي والبيهقي والإصطخري والأهوازي والسيرافي والبغدادي والإربلي والكوفي والبصري والموصلي والحراني والواسطي والمصيصي والإسعردي والجزري والمارديني والطرسوسي والتفليسي والدمشقي والحلبي والحمصي والبعلبكي والحموي والطرابلسي والنابلسي والصفدي والمقدسي والعسقلاني والأنطاكي والصنعاني والخولاني، ثم الغرناطي والقرطبي والقيرواني والفاسي والتونسي والسوسي والصفاقسي والصقلي والميورقي والصنهاجي والتلمساني، فكان علماؤها والممتازون من رجالها من أصول عربية أو من المستعربة، وبعد حين صرت تسمع باسم الإسكندراني والدمياطي والرشيدي والتنيسي والمحلي والأسيوطي والبويطي والأسواني والطحاوي والطنطاوي والصدفي والبلقيني والبوصيري والإخميمي والسخاوي والقلقشندي والإسنوي والإسنائي والصعيدي والقوصي والبحيري والقليوبي والطوخي والبيجوري والديروطي والشرقاوي والجيزي والجيزاوي والجرجاوي والدشناوي والدمنهوري والفيومي والقفطي والأرمنتي والزنكلوني والمناوي والمنياوي والبلبيسي والأبياري والأدفوي والحوفي والشنطوفي والقنائي والبهنساوي أو البهنسي والأشموني والسمنودي، إلى غيرهم من الرجال الذين نسبوا إلى مساقط رءوسهم فأدركنا لأول وهلة أنهم من صميم المصريين.
عرفنا أن الثقافة التي انتشرت في مصر جمعت بين القرآن والسنة والشعر والأدب، ولما تعينت المذاهب انتشر فقه المالكي والشافعي، ثم فقه أبي حنيفة والفقه الحنبلي على قلة، ثم الفقه الإسماعيلي مذهب الفاطميين من آل البيت؛ انقرض هذا الفقه الشيعي أوائل عهد دولة بني أيوب. وانتشر التصوف أكثر من الفلسفة، وصرف الناس همهم إلى الدينيات، وعدوا من فروعها التصوف ونابذ الفقهاء الفلاسفة، ولكن الأمصار ما خلت في عصر من الأعصار من مفننين وحكماء لو وقع إلينا كل ما دون في هذا الشأن، لعرفنا طبقة كبيرة من هذه الأصناف، فعندنا طبقات المفسرين المحدثين والحفاظ والشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة والأدباء والشعراء والأطباء والحكماء والصوفية، وما سقطنا في تركة السلف على طبقات المصورين والنقاشين والمهندسين والموسيقاريين، بل عرفناهم بالشيء القليل الذي جاء عرضا في الكتب الباقية التي ما كسرت عليهم ، ولو كتبوا هم بأنفسهم عن أبناء فنهم لاطلعنا من مخلفاتهم على أسرار في هذه المدنية التي نمت عنها مصانعهم وتجلت بها هندستهم الجميلة وتراتيبهم التي ما خلت من إبداع، وتم بذلك تاريخ التهذيب العربي وما أنتج من بدائع وروائع. ولا يعقل أن لا يترجم المفننون لرجالهم، والغالب أن مدوناتهم فقدت في جملة ما فقد من ثروتنا العلمية والأدبية في الفتن والثورات والعوامل الأرضية والسماوية.
ولو وقع إلينا ما دونه أرباب الصنائع والفنون كما انتهى إلينا ما دونه علماء الشريعة والأدب والتاريخ، لعرفنا جمهورا نجهله من الناس، وكم من علم اندفن في صدر، ومن فن ما قدره الناس قدره، فزهد الناس فيه، وهذه المصانع التي أبقت الأيام على خطوطها ورسومها في الفسطاط والقطائع وما في جوارهما من القاهرة المعزية من المدارس والجوامع والرباطات والمستشفيات شاهدة على الدهر بما أبدعت تلك العقول والأنامل التي حملت شيئا كثيرا من العلم والعمل، وقد اشتركت الطوائف الدينية الثلاث على السواء في إخراجها للناس، وكان سواد الأطباء والمنجمين والمهندسين من غير المسلمين، وخاصة من اليهود بادئ بدء، فأصبح سوادهم الأعظم من المسلمين في الأدوار التي كثر فيها من انتحلوا الإسلام.
أخذ القوم في القرن السادس ينشئون المدارس، ينزلون فيها كل من يحب طلب العلم، ويغدقون على الدارسين والمدرسين ما يقوم بهم على حد الكفاية؛ بدعة حسنة ابتدعها عقل صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر والشام، وكثرت المدارس بعد ذلك حتى لا تكاد تخلو منها الحواضر الصغيرة، وضاع كثير من أخبارها في جملة ما أتت عليه الأيام؛ فقد كان في قوص في القرن السابع ستة عشر مكانا للتدريس، وبأسوان ثلاثة، وبإسنا مدرستان، وبالأقصر مدرسة، وبأرمنت مدرسة، وبقنا مدرستان، لا جرم أنه كان في المدن الأخرى كالإسكندرية وبلبيس ودمنهور والمنوفية وغيرها مجالس ومدارس لطلب العلم الديني، وعلوم العربية تابعة له ومعينة على تفهمه.
وكان الحاكم بأمر الله الفاطمي أنشأ في سنة 395 دار العلم أو دار الحكمة في القاهرة، فجلس فيها القراء والفقهاء والمنجمون والنحاة وأصحاب اللغة والأخيار ، ورتب فيها قوما يدرسون الناس العلوم، وسبل عليهم خزانة كتب عظيمة فيها من كل فن خبر، وكان من جملة ما يعلم فيها الطب والرياضيات والمنطق، وبقيت نحو 175 سنة عامرة، وعاد الأفضل في آخر أيام العبيديين فأسس دار العلم سنة 571 واستخدم فيها مقرئين، ولم تزل عامرة إلى انقراض الدولة الفاطمية. وكان القائد جوهر الصقلي فاتح مصر باسم الفاطميين أنشأ الأزهر فأصبح منذ عهدهم إلى اليوم مصدر العلوم الشرعية ومباءة الآداب؛ أنشئوه لنشر التشيع، وظل على ذلك طول أيامهم، وكان غرامهم كثيرا في الدعوة لمذهبهم تقرأ على رئيسه، ويسمونه داعي الدعاة، كتبهم بدار العلم، وطبيعي أن يتبع تعليم المذهب تلقين العربية على أصولها؛ لأن البراعة في الشريعة تتوقف على البراعة في فنون العربية والمنطق والجدل والحكمة القديمة.
وغبر الناس في مصر يستفيدون من كل ما تأتيهم به الدولة الحاكمة، والواقع أن كل دولة حكمت مصر، ولو حقبة صغيرة من الدهر، أبقت أثرا من آثار غيرتها على العلوم والصنائع وعنيت بنشر الآداب؛ يتراءى ذلك من النظر إلى المصانع والآثار وما دون المدونون من تاريخ وأخبار، وكان غرامهم ظاهرا بإنشاء المساجد، وقد ضاقت مرة بيوت الأموال من مال الخمس في مصر، فصدر أمر الخليفة ببناء المساجد، واستغنى الناس أيام كافور الإخشيدي ولم يجد أرباب الأموال من يقبل منهم الزكاة، فأمرهم أن يبنوا بها المساجد ويتخذوا لها الأوقاف. وما كانوا يغفلون مع هذا عن بناء القناطر والجسور والعمائر النافعة لجلب السعة إلى المصريين، ولئلا يقل الارتفاع إذا أهمل أمرها. وبعد؛ فمن كان يظن أن دولة الأيوبيين التي خلقت وماتت في الحروب الصليبية وبها كانت الشام ومصر في أمر مريج تعنى أيضا بالعلوم والصناعات وأعمال العمران؟!
هذا والدولة في حالة تقلقل عظيم لدفع صائل أهل أوروبا عن هذا القطر والديار الشامية، وقد وصف ابن جبير في القرن السادس مفاخر الإسكندرية وعد منها المدارس والمحارس؛ أي الأبراج الموضوعة فيها لأهل الطلب والتعبد، يفدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكنا يأوي إليه، ومدرسا يعلمه الفن الذي يريد تعلمه ، وإجراء يقوم به في جميع أحواله، قال: واتسع اعتناء السلطان؛ أي صلاح الدين بن أيوب، بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى أمر بتعيين حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك، ونصب لهم مارستانا لعلاج من مرض منهم. وقال في كلامه على مصر والقاهرة: وما منها جامع من الجوامع، ولا مسجد من المساجد، ولا روضة من الروضات المبنية على القبور، ولا محرس من المحارس، ولا مدرسة من المدارس، إلا وفضل السلطان يعم جميع من يأوي إليها ويلزم السكنى فيها، تهون عليه في ذلك نفقات بيوت الأموال، وأنه أمر بعمارة محاضر ألزمها معلمين لكتاب الله - عز وجل - يعلمون أبناء الفقراء والأيتام خاصة وتجري عليهم الجراية الكافية لهم، وذكر غيره أن جامع مصر بين العشائين كان غاصا بحلق الفقهاء وأئمة القراء وأهل الأدب والحكمة، ولا ترى أجل من مجالس القراء به، وأن هذه المجالس كثيرة، وربما لا يكاد يخلو مسجد كبير من مجلس يسمع فيه الناس علما وحكمة وعظة، ويقول المقدسي في الفسطاط: إنه ليس في الإسلام أكبر مجالس من جامعه، وأنه معدن العلماء، وأن نغمة أهل مصر بالقرآن حسنة.
بل من كان يظن أن دولتي المماليك البرية والبحرية، وفي إدارتهما بعض العهدة، تعنيان بالآداب والمعارف على مثال الدول العربية السالفة، حتى كثرت في أيامهم المدارس والجوامع والترب كثرة عجيبة، وارتقى فن البناء وظهرت علائم الترف، وكثر المؤلفون والباحثون، وزادت علاقات مصر بدول الغرب وعلاقاتها بدول الشرق. نعم في أيامهم تنافس الأمراء في تشييد الزوايا، وكانت كل زاوية بمصر معينة لطائفة من الفقراء، وفي عهد بعض ملوكهم تنافس الأمراء والكبراء في بناء المساجد وزادوا وغلوا؛ لأن أمير الوقت كان يغلب عليه الصلاح وحبيب إلى قلبه أن يرى ذلك من رعيته ورجاله، والناس على دين ملوكهم. وما نراه في بعض الأحياء القديمة في القاهرة من قيام الجامع إلى جانب أخيه، هو أثر من آثار هذه العناية، ولو كان اجتمع جماعة على بناء الجامع الواحد بدل اختصاص كل فرد بعمله، لجاء العمران في مصر وغير مصر صورة عظيمة من صور التضامن الاجتماعي، ولكتب البقاء للمصانع الكبرى أكثر من غيرها.
وأكثر ما نفع مصر في علمها وجعل لمعظم مظاهر العقل فيها مظهرا خاصا، أنها تمتعت من العهد الأموي والعباسي بأجمل أيامهما، وكان لها أبدا شبه إدارة خاصة، ولطالما نزعت إلى الاستقلال الجزئي أو الكلي، وباستقلال ابن طولون بها عمرت عمرانا غريبا ما عهدته منذ قرون. ومن أهم ما حفظ لمصر شخصيتها، وأبقى عليها آثارها، قيام صحراء التيه في طريقها إلى بلاد الشرق، فتحامى كثير من الفاتحين اقتحامها من البر، وكان من الصعب اقتحامها من طريق البحر في عصور سفن الهواء، ومن سعادة مصر أن بيت المقدس بعيد عن حدودها، فما غزاها الصليبيون مائتي سنة لاستخلاصه كما وقع في الشام. ومن حسن الطالع أيضا أن أشرار الفاتحين، أمثال جنكيز وهولاكو وغازان وتيمورلنك، ما حدثتهم أنفسهم في التقدم لاحتلالها فنجت من تخريبهم على ما خربوا كل بلد نزلوه من بلاد الإسلام في القرن السابع والثامن والتاسع، ومنها ما دمروه عن آخره ولم يبقوا من أهله ديارا.
Unknown page
وأبت الأقدار إلا أن تساهم مصر بأخرة سائر الأقطار العربية في حظها من الفاتحين، فجاء سليم الأول العثماني المدعو بالجبار «ياوز» من طريق صحراء التيه يضرب على أيدي المماليك فيها، وكانت نفوس المصريين قد سئمت أحكامهم أواخر أيامهم ونمى إلى المصريين من أخبار الدولة العثمانية ما يغري بها، فعلقوا على انضمام مصر إلى الأتراك آمالا طوالا، بيد أن الاحتكاك بالترك العثمانيين أظهر أن طبيعة المغول واحدة؛ لأنهم والترك من جنس واحد وهؤلاء لا يفضلونهم إلا لأنهم دانوا بالإسلام، بيد أنهم إن تحاموا تخريب البلاد التي يحتلونها على الغالب لا يتحرجون من إدخال الوهن على مقوماتها؛ فقد عمل السلطان سليم في هذا القطر أعمالا نابية عن حد الإنصاف، ومن أهمها أنه أخذ إلى القسطنطينية الممتازين من رجالها، والنابغين من أرباب الصنائع فيها، فبطلت فيها خمسون صنعة، هذا إلى ما حمله معه من ذهبها وجواهرها وعادياتها وكتبها وأعلاقها. واتفق قبيل فتحه أن كان البرتقاليون وفقوا إلى الطواف حول إفريقية؛ ففتحوا طريق رأس الرجاء الصالح، وحولوا تجارة الشرق عن مصر، وكانت سوقها الكبرى دهرا طويلا، وبحر القلزم أهم منفذ لها، وكان من هذا الاختلاط والتمازج مع أهل الأقطار الأخرى فائدة لمصر، فلما ضعفت تجارتها افتقرت كمعظم هذا الشرق القريب، ومتى دب الفقر في أمة تفتر على الأغلب أعمال العقل في بنيها. وكان من عوامل التقهقر أيضا انتشار الأوبئة كل مدة لا تبقي من الناس ولا تذر، ولئن قلت زلازل مصر، فما أكثر ما كانت طواعينها الجارفة!
كانت الحكومات التي سبقت العثمانيين مهما كان لونها تفكر في خير مصر؛ لأنها تأكل منه وتستمتع به، فتعطف على رجال الأدب وحملة الشريعة وتنشط الصناعات والتجارة والزراعة، ومنذ فتح الفاتح مدينة القسطنطينية حاول أن ينشئ له مدنية إسلامية تضاهي على الأقل مدنية مصر في عهد المماليك، فأخفق لأن استعداد أمته للصناعات العلمية والعملية كان ضعيفا، وأمته حربية صرفة، وربما عد الأتراك أعمال اليد والفكر مما لا يتناسب مع عظمة الأمة الحاكمة؛ فتركوا العناصر الإسلامية وشأنها تنتج وهم يتمتعون، وما كان هم الدولة في مصر غير جمع المال من رعاياها وإغناء طبقة خاصة من رجالها على نحو ما كان من رجال رومية على عهد دولة الرومان؛ فتركت القطر غرض الرماة من الولاة، وكثيرا ما كانت تنصبهم أشهرا قليلة لئلا يخرجوا بطول الزمن عن طاعتها، ومن كان منزله منزل قلعة كيف يتسع له الوقت ليفكر في إصلاح مختل وإيجاد مفقود، هذا إن كان على استعداد لعمل الخير للناس، وظل بقايا المماليك على كثرة من قتل منهم في الفتح العثماني حكام مصر بالفعل، ولا تكاد تقع في أهل هذه الدولة الأعجمية على شيء اسمه ثقافة أو أدب أو عمران، واضمحل في عهدها كثير من مشخصات الأمم، وأصبحت المدارس اصطبلات ودورا وبطل التدريس فيها، واستصفيت الوقوف التي كان أهل الإحسان من الملوك والأمراء والأغنياء حبسوها عليها، وانحط الأزهر في أيامهم إلى التي ليس بعدها، ورفع منه معظم ما يفتح الذهن من الفنون؛ فجمدت وتعقدت طريقة التعليم فيه؛ فصارت قواعد العلوم ألغازا وأحاجي حملت الكتب منها أحمالا، وضاع الجوهر النافع في غمار الحواشي والشروح والتعاليق والاختلافات، وشيبت العلوم الدينية بما لم يكن فيها، فضلت الأفهام لزهد العلماء في كتب الأقدمين السهلة الواضحة، وتعلقهم بكتب المتأخرين وما فيها من خبط وخلط أحيانا تضيع في حل رموزها الأعمار جزافا. وسقط الشعر إلى الدرك الأسفل، وأمسى النثر أبرد من عضرس، وآض الطب والهندسة وسائر الفنون اسما بلا مسمى.
نعم، ضعفت الآداب حتى ما تكاد تعد مصر بعد القرن الثامن من الشعراء من يجدر بالناس أن يتناقلوا كلامهم، وفسدت الكتابة بالسجع السخيف، وفي الكتب نموذجات من كل عصر لا ترضيك منها السلطانيات ولا الإخوانيات؛ أي ما صدر عن الملوك والأمراء وما صدر عن الأفراد من الأدباء. وعلى تلك النسبة انحطت الخطابة وكان لها في عصور الارتقاء مواسم جنية الثمرات، تنفع في رفع مستوى العقول في الأخلاق والسياسة ومعظم المظاهر الاجتماعية، فأصبحت في هذا العهد عاملا من عوامل الزهد والتوكل وتسويد الدنيا في وجوه من يسمعونها، وتعليمهم الرضا بالدون من العيش، فأماتت الهمم، ونزعت الشمم، ولقنت الناس منازع لو سار عليها المسلمون في قرونهم الأولى لما أنشئوا مدنية جميلة، ولا أسسوا ملكا ضخما، بل كانوا بلا مراء أحط من زنوج أفريقيا.
وتخدرت الأعصاب فوهنت المدنية، وهل المدنية غير ابنة الأعصاب القوية؟ وذلك بما انتشر في أرجاء القطر من أهواء جديدة علمت الناس الكسل وأبعدتهم عن حياة العمل؛ فراجت الخرافات والترهات، واعتقد من اعتقد بالكرامات، وكثر الاستمداد من أهل القبور والنذر لها والاجتماع حولها، بما لم يعهد له مثيل في البضعة القرون الأولى للإسلام؛ كأن المتأخرين عرفوا من روح الدين ما لم يعرفه جماعات الصحابة والتابعين وتابعوهم! وبطل حكم العلوم المادية، وما عادت الآداب تنفع في إنارة الأفهام وتحسين حال المجتمع، وخلت ممن يستحسنها أو يستهجنها، وممن يقرها أو ينقدها، وكان الشعر في الدهر الغابر يقيم القبيلة ويقعدها، والخطبة الواحدة تعقد الصلح أو تشهر الحرب، وغدا الناس لا يتفاهمون في مصالحهم الجزئية مع عمالهم إلا بواسطة التراجمة، والقضاء تركي، والإدارة تركية، والروح تركي، ومئات الألوف من أهل مصر لا نقض لهم ولا إبرام في تراتيب بلادهم وموارد حياتهم.
يقول مؤرخو الترك إن السلطان سليما فاتح مصر وبلاد العرب كان ينوي أن يجلي غير المسلمين عن بلاده بحيث تصبح إسلامية صرفة، فمنعه من ذلك شيخ الإسلام زنبللي علي أفندي، وقال ليس لك أن تزحزحهم عن أرضهم ولا حق لك في غير الجزية منهم، وإنه كان من أماني هذا السلطان أن يجعل اللغة العربية لغة الدولة الرسمية، ولكن الأجل لم يساعده على إنفاذ أمنيته لما شغل به مدة حكمه من الحروب والغارات، ومهما أحسن الظن بما كان من نيته، فالعبرة بإخراج أفكاره من حيز القول إلى ميدان العمل، ولو كان بدأ على الأقل بأن يكتب أوامره إلى البلاد العربية بلغتها، لقلنا إنه يمهد السبيل لما يرى فيه سلامة الدولة والأمة، وإلا فالتفكيرات كثيرة، والمناهج لا حد لها، وقد يبيت آحاد الناس أفكارا جيدة لا تعد في معرض العمل إلا من عالم الخيال، وبعض أفكار العامة أيضا إذا طبقت كانت شيئا مذكورا.
وما زالت حال القطر المصري إلى تقهقر خلال القرون الثلاثة التي حكمت الدولة العثمانية فيه مباشرة حتى قيض له رجل أعجمي صحت عزيمته على تأسيس مملكة عربية، عنينا محمد علي الكبير، فسار في ملكه بسيرة من ملكوا في الإسلام من أجناس الترك والشركس والكرد والبربر والفرس والديلم؛ أي إنه لم يتخذ غير العربية لغة، وترسم خطى من سبقوه إلى حكم مصر من غير العثمانيين، وعني عناية خاصة بنشر الثقافة الغربية ينقلها عن فرنسا وغيرها فأحيا رمما كادت تفنى، وأدخل روحا إلى جسم علق يبلى «والعلم مذ كان محتاج إلى العلم»؛ فالتهم المصريون العلوم المادية التي أتاهم بها المصلح الجديد، وما قاوم رجال الدين التيار الذي انساب إليهم فأغضوا عما لم يستحسنوه كثيرا في باطنهم، خلافا لما كان لمن انتظموا في مثل سلكهم في فروق عاصمة الخلافة؛ فإنهم قاوموا الطباعة، وأفتى بعضهم بتحريم طبع القرآن، وقاوموا العلوم المادية وحظروا تعلمها، وقاوموا اللباس الغربي والطربوش، كما كانوا من قبل حرموا القهوة والدخان، فقتل في هذه السبيل أولا وآخرا ألوف من الخلق، والعربي على ما يظهر أكثر الشعوب الإسلامية تسامحا وحرية، وإن كان العرب ما زالوا منذ عصر صاحب الرسالة دعاة الدين وأمناءه، وتسامحهم مع من يخالفهم موضع العجب.
دخل الإصلاح ديار مصر يتناول أكثر الفروع والمظاهر؛ فشغل المدنيون ببث ثقافتهم والحكومة من ورائهم تحميهم وتنصرهم، ولم ير الدينيون بعد قليل من التلكؤ إلا أن يسايروا الزمن ورضوا أن يدخلوا في أنظمتهم وتراتيبهم شيئا من الجديد المفيد، ونبذوا أو كادوا ما وضع من الكتب في عصور الانحطاط الفكري، وأنشئوا يطبقون مفاصل الإصلاح على طرائقهم ببطء وتأن، وفتحوا السبيل إلى أن يتذوق طلاب العلم الديني لماظة من العلوم التي دعوها بالعصرية، وكان الأولى أن تسمى القديمة، كالرياضيات والطبيعيات والفلك والتاريخ وتقويم البلدان؛ فخرج من الأزهر وسائر المعاهد الدينية في القطر علماء تعلموا في الجملة على غير الطريقة التي كانوا يمارسونها قبل ثلاثة أجيال، وكانت تضعف العقل، وتثلم الحواس.
وكان الفضل الأعظم في إيجاد هذه المجموعة الجديدة من الثقافة وإحياء الآداب العربية، لمدارس الحكومة على اختلاف درجاتها حتى يصل الطالب إلى الجامعة، وأخرجت دار العلوم تلاميذ كان منهم أقدر العلماء والأدباء، ويحمد أيضا قصد المدارس الخاصة التي تؤهل طلابها للحياة الحرة، لا جرم أن وزارة المعارف منذ تأسيسها لم تأل جهدا في تحقيق رغبتها في نشر العلم؛ ولذلك كانت تساير الزمن في نشوئها وارتقائها، ومنذ انتظم أمر البعوث إلى مدارس الغرب، ترسلها الحكومة أو الأفراد، دخلت ثقافة مصر في طور جديد، وأصبح فريق الدينيين وفريق الدنياويين، لا ينظر كل منهما إلى صاحبه النظر الأول، وربما أضمر الواحد للثاني حرمة وحدثته نفسه لو شاركه في كل ما وعى ودرس، وقام في مصر أرقى رجال العهد القديم الذين تخرجوا بالتعاليم الدينية، وأرقى طبقة من رجال العلم الحديث ثقفوا أحدث الأساليب الغربية، واستساغ كلاهما طريقته، وقام بقسطه من تربية أبناء مصر ، وتساندا وتعاونا إلى أقصى حد ممكن، وتوشك ألا تبقى ناحية من نواحي العلوم والفنون لم يعالجها المصريون ويبرزوا فيها بقدر ما سمحت قرائحهم وساعدهم انتباههم، وأصبح الإخصاء، وهو العلة الأولى في ارتقاء العلم في الغرب، مما يحرص على الأخذ به المتعلمون، وكان من يطلق عليه اسم العالم في القرون الغابرة نتفة يدعي معرفة كل شيء ولا يكاد يتقن مسألة من المسائل.
ومن نظر اليوم في المدارس على اختلاف درجاتها، وعارضها بما كان من نوعها منذ جيلين من الناس، وأمعن النظر فيما تخرج اليوم من الطلاب المجهزين بأجمل جهاز عقلي، وما كان يصدر عن المؤلفين والكتاب والشعراء من الآثار وما يخرجون للناس منها لعهدنا، وما كانت عليه الصحافة المصرية زمن الخديوي إسماعيل وعهد ابنه جلالة الملك فؤاد الأول، وكيف كادت صحافة مصر في هذه الأعوام القليلة تضاهي صحافة الأمم التي بدأت بالنهضة منذ أربعة قرون؛ من رأى هذا يسجل فخورا بأن قرنا واحدا، تخللته فترات وهجعات، كفى هذا القطر بأن يصطنع له ثقافة فيها كل الخير لحياة مصر في مادياتها ومعنوياتها.
الجوامع والبيع، والمدارس والمحاكم والأندية والصحافة، ودور التمثيل والغناء، غيرت لهجات القوم، حتى قربت اللغة العامية من الفصحى قربا غريبا، وليت أديسون اخترع الحاكي في القرن الماضي، فحفظت لنا في أسطواناته لهجة الناس منذ مائة سنة لنقارنها بلهجتهم اليوم، ونستمع كيف كانت أحاديثهم في المجالس والمدارس ومواعظهم في الجوامع والكنائس، وخطبهم في الأندية وقضاؤهم في المحاكم، وعسى أن لا ينقضي جيل أو بعض جيل حتى تصبح لغة التخاطب كلغة التكاتب، والكمال في ذلك مضمون كلما تسلسل الترقي في أبناء مصر واستوفوا نصيبهم من المعارف، ودأبوا على التحصيل والإتقان حبا بالعلم للعلم لا رغبة في نيل الشهادات والألقاب واعتلاء المناصب والمراتب فقط؛ وعندها يجلون عن أنفسهم ويقنعون من كانوا إلى أمس ينكرون، بعوامل جنسية أو دينية أو سياسية، فضل المصري في تقدمه أشواطا في طريق الحضارة العالمية.
Unknown page
وبعد؛ فلا علينا وقد أجملنا الأدوار التي تقلبت على ثقافة مصر أن نوجز في تعريف هذه النهضة الحديثة التي تمت في ظل الدولة العلوية الكريمة وفضل من اختارتهم من خيرة المصريين، وما جماع ما يقال فيها إلا أنها إصلاح ثقافة قديمة، واقتباس ثقافة حديثة ضمت إلى جملتها، فكانت سيرة الدولة المصرية في هذا الشأن سيرة الدولة العباسية في أول أمرها؛ ارتقت فيها العلوم النقلية والعلوم العقلية معا، ونظرت في عامة علوم الدين وما ينبغي لها، واقتبست علوما مادية كانت راسخة عند من تقدموها في الأخذ بمذاهب الحضارة؛ فصح أن تدعى الثقافة المصرية الآن ثقافة عربية غربية إسلامية تحس فيها روح العرب وروح الغرب وروح الإسلام وفيها أثر حكمة القدماء والمحدثين، ومن كل معنى طرب.
تمازج الحضارتين العربية والغربية
أثر العرب في الأندلس وصقلية وما إليهما
لما بدأ العرب بفتوحاتهم في الإسلام فقضوا على فارس، واقتطعوا من بيزنطية مملكة الروم الشرقية، الشام ومصر وسواحل إفريقية؛ كانت فارس والروم أقوى دول العالم وأكثرها حضارة، وكان العرب شبه متحضرين يتعلمون ممن غلبوهم ما يصلح الملك والسلطان. وما انقضى ثمانون سنة على خروج العرب من جزيرتهم حتى أضافوا ما عرفه المغلوبون إلى ما عرفوه هم من أساليب الحرب والإدارة، فرأيناهم وقد مكن لهم في الغرب يستولون على الأندلس ويتوسعون في فتوحهم جنوبي فرنسا.
وبينا كان بنو أمية في الشام يديرون ملكا عظيما، ويضعون أسس المدنية العربية بنقل العلوم المادية عن السريانية والقبطية والرومية، ويعنون كل العناية بتدوين العلوم الدينية والأدبية، وقد بدأت طلائع الحضارة في البلاد التي أظلها سلطانهم؛ كانت بلاد الغرب اللاتيني في أحط دركات المدنية، بل كانت إلى همجية مرمضة، تعد بداوة العرب في جزيرتهم قبيل الإسلام مدنية إذا قيست ببداوة الغرب، بلى، كان الناس يعيشون في بلاد اللاتين والأنجلو سكسونيين والجرمانيين والصقالبة في توحش مدلهم، وأوروبا غاصة بالغابات الكثيفة، متأخرة في زراعتها، والمستنقعات في كل ناحية تحصد الأرواح، والوبالة والأوبئة تغادي تلك الشعوب القذرة وتراوحها، لا يعرفون البيوت الصحية، ولا الفرش الوثيرة، تنام الأسرة كلها في غرفة واحدة على فرش من تبن أو نبات مجفف ، وهي إلى الفطرة بعاداتها وأكلها وشربها ولباسها ومجالسها، وبيوت لندرا وباريز أكواخ صغيرة بنيت من أحجار مضفورة مصفوفة كيفما اتفق، وهناك قلاع وأبراج وكنائس لا هندسة لها.
وليس في الغرب شيء اسمه أمن وأمان، يقضى على كل إنسان أن يكون على استعداد في كل حين ليرد الأشقياء عن داره وحقله، وفي غدوه ورواحه، فلا ينام إلا وسلاحه إلى جنبه، ولا يستطيع المرء أن يسير فراسخ قليلة دون أن يستهدف للقتل أو السلب، وقد جعل بعض أرباب القوة من نهب عروض الناس في الطرق مهنة لهم يعيشون منها، يقتلون ويقتلون، وما من حكومة قوية تناقشهم الحساب على ما تجني أيديهم؛ لأن الأمراء كانوا مع رجال الدين أشبه برؤساء عصابات منهم بزعماء بلاد، ولم تكن أوروبا كلها قد دانت بالنصرانية، بل كان من ممالكها من لم يزل على مجوسيته ووثنيته، والنصرانية دخلت المدن أولا وتسربت إلى القرى والدساكر بعد أزمان.
وبينا كان شارلمان أعظم ملوك الغرب أميا أو يقرب من الأمية، كان المنصور والرشيد والمأمون تترجم لهم كتب الطبيعيات والرياضيات والفلك والطب والفلسفة والصناعات، وبينا كان أهل غاليا أميين كلهم ما دونوا كتابا ولا أخبارا ولا عرفوا أدبا ولا شعرا، كان العرب قد أنشئوا في كل قطر نزلوه كتلا علمية، ومجالس أدبية، وأصبح عامتهم يقرءون ويكتبون، وخاصتهم ينظمون وينثرون ويخطبون ويؤلفون ويبحثون في العلم والفلسفة على طريقة أشبه بطرق أهل المدنيات الحديثة، على حين كان نبلاء القرون الوسطى في الغرب لا يمتازون عن الفلاحين بتهذيبهم وعلمهم، وكلهم أميون جهلاء قساة الطباع، يستحلون كل منكر لا هم لهم غير الشراب والطعام والصيد والغارات.
وبينا كان الغرب لا يعرف حياة الرفاهية، ومن أهله كسكان شلشويق (شلزويك هولشتاين) في الدانيمرك من كانوا كالوحوش يسترون عوراتهم بقطع من الجلود، شأن كثير من الشعوب في شرقي أوروبا وشمالها ولا يحسنون لفق الجلود ولا خياطتها أيضا، كان العرب قد دخلوا في مباهج الحياة ورفاهة العيش يلبسون ونساؤهم أجمل الأكسية من الحرير والقطن والصوف والكتان ينسجونها في معاملهم ويحوكونها على أنوالهم وهي وافية بحاجات الحضري والقروي منهم على اختلاف الفصول.
كان أول احتكاك مدني وقع بين العربي والغربي في آسيا الصغرى؛ لأنها كانت ميدانا للغارات بين العرب والروم منذ اقتطع العرب الشام من أملاك البيزنطيين، وحاولوا أن يتقدموا إلى فتح القسطنطينية، وتكون الغزوات بين الفريقين سجالا؛ فيأخذ كل فريق من الفريق الآخر أسارى، قد يقضون في بلاد عدوهم أعواما، فيتعلم العربي الرومية ويتعلم الرومي العربية، ويزور في أيام المهادنات والسلام بعض أهل الطبقة العالية والوسطى البلاد المجاورة، ويرى كل ما عند الفريقين من أسباب التفوق، وما خلت بلاده مما عند جاره من عوامل النهوض وأساليب القوة في الأمم.
ولما انبلج فجر القرن الثاني زادت ساحة أخرى لتعارف العربي بالغربي وهي ساحة جنوب أوروبا الغربية؛ أضيفت إلى ساحة جنوب أوروبا الشرقية بفتح العرب الأندلس سنة 92ه عندما قضوا على مملكة الويزغوت أو الغوط كما كان يطلق عليهم العرب، وانحاز الإسبانيون إلى شمال جزيرة أيبريا يعتصمون في جبال جليقية ويستأثر العرب بمعظم بلاد إسبانيا والبرتقال، يستصفونها من البحر الرومي إلى بحر الظلمات ويقرون أهل البلاد على قضائهم وإدارتهم ويعدلون فيهم ويقلدونهم بعض الأعمال الصغرى ينتهون منها إلى كبرياتها بعد زمن قليل. ومن عادة العرب إذا فتحوا قطرا أن يبقوا لأهله أوضاعهم ومصطلحاتهم وتراتيبهم وأن يحكموه لأول الأمر حكما أشبه بالحماية ثم يحيلونه ملكا صرفا، وهذا من بديع سياستهم، وكانت الجزية التي ضربها العرب على غير المسلمين زهيدة بالقياس إلى ما كانوا يستمتعون به من الراحة والهناءة، وقضت شروط الصلح أن يجعل على كل رجل حر بالغ دينار واحد في السنة وأربعة أمداد قمح وأربعة أمداد شعير ومقدار من الخل والعسل والزيت وعلى العبد نصف ذلك، وأن تحفظ على أهل البلاد دماؤهم؛ فلا يسبون ولا يفرق بينهم وبين أولادهم ونسائهم ولا يكرهون على دينهم ولا تحرق كنائسهم.
Unknown page
وما عتم الإسبانيون والبرتقاليون أن شاهدوا الفرق المحسوس بين ثقافة العرب الغالبين وثقافة المغلوبين، وادعى بعضهم أن حضارة الأندلس كانت لا بأس بها بدخول العرب وفاته أن القوم نسوا لغتهم بمجرد استيلاء الغريب على إسبانيا؛ فما انقضت ثلاثون سنة على الفتح حتى أصبح الناس ينسخون الكتب اللاتينية بحروف عربية، كما كان يفعل اليهود بمخطوطاتهم العربية، وما مضى نصف قرن حتى دعت الحال إلى ترجمة التوراة والقوانين الكنسية إلى اللغة العربية؛ ليتمكن رجال الدين أنفسهم من فهمها، وما أتت على الفتح خمسون سنة حتى أصبح الناس كلهم يتكلمون بالعربية والعقود والمواثيق تكتب بالعربية حتى بين الإسبان أنفسهم، واتخذ النصارى من اللغة العربية ترجمانا لعواطفهم وقلوبهم، وأخذوا يحبون تلاوة قصائد العرب وقصصهم ويدرسون كتب علماء الإسلام وفلاسفتهم، لا ليردوا عليها، بل ليحلوا بها منطقهم، يقرءون العربية بلذة ويقتنون كتبها بالأثمان الغالية، يؤلفون منها خزائن نفيسة، ويذكرون في كل مكان أن آداب العرب مما يعجب به، وإذا حدثتهم عن كتبهم الدينية أجابوك بازدراء: إن هذه الكتب غير حرية بالتفاتهم، وما كنت تجد في ألف رجل من يكتب رقعة مناسبة باللغة اللاتينية، وأنت إذا كلفت أحدهم أن يكتب بالعربية تجد جمهورا يعبرون عن أفكارهم بهذه اللغة على صورة بديعة، وقد ينظمون من الشعر العربي ما يفوق بما فيه من الصناعة شعر العرب أنفسهم.
لم يمض قرن على فتح الأندلس حتى أخصبت القرى وكثرت المزارع واتصل العمران وتزاحم الناس بالمناكب في المدن، وغدت قرطبة عاصمة البلاد كعواصم أوروبا اليوم، تنار ليلا بالمصابيح يستضيء الساري بسرجها ثلاثة فراسخ، وكان من رجال الحسبة وهي أشبه بالمجالس البلدية ودواوين الشرطة اليوم، أن بلطوا الشوارع وأخذوا كل يوم يرفعون القمامات والقاذورات ويزال ضرر المجاري والقني لئلا يتأذى بها السكان، ولا يبني من يحب البناء إلا على طريقة هندسية يعينها له ديوان الحسبة؛ ليترك فراغا يتمتع به الجيران وأبناء السبيل، لا يمنع عنهم الشمس والهواء ولا تتضايق المارة مهما كثر سوادهم، فقرطبة إذن أول مدينة في العالم كان لها مثل هذا النظام، وما لبثت أن غدت عاصمة علم وصناعة وفن وتجارة، وكعبة يحج إليها بعض النابهين من أهل الغرب ينظرون إلى تراتيب العرب وعدلهم وأحكامهم نظر الدهشة والاستغراب، ومثلها كانت طليطلة وغيرها من قواعد الأندلس في الشمال والجنوب.
ونقل بنو أمية إلى الأندلس منذ كانت إحدى ولاياتهم، وبعد أن فتحها سليلهم عبد الرحمن الداخل الأموي فتحا ثانيا واستقل بملكها بعد تغلب العباسيين على دولة أهله في الشرق، أصولهم في الإدارة والأحكام والأوضاع وطرازهم في هندسة القلاع والجسور والدور والقصور والجوامع. وجعل العرب البيوت والمساكن في أرض الأندلس على الطراز الذي عرفوه في عاصمتهم القديمة دمشق؛ كأن تدخل البيت من دهليز طويل ينتهي بفناء واسع وسطه حوض ماء، وعلى جوانب صحن الدار غرف وأبهاء ومقاصير يأوي إليها أهل البيت في الصيف، وفي الشتاء ينزلون في الطبقة الثانية من الدار وفيها جميع المرافق، وفناء الدار غاص بالأزهار وبعض الأشجار المثمرة أو الملطفة للهواء، والدار طبقتان فقط، وتكون غرف الرجال ومثاوي الضيوف منعزلة عن غرف النساء، ولا يزال هذا الترتيب في البيوت محببا إلى الناس في الولايات المعروفة بالولايات الأندلسية إلى يوم الناس هذا يجددون أدرهم على هذا الطراز.
وأصبحت الأندلس على عهد عبد الرحمن الثالث الأموي عالم الملوك وحامي الآداب والعلوم والصنائع والتجارة، وعلى عهد أخلافه ولا سيما ابنه الحكيم الثاني، أحسن الممالك حضارة وعلما وحسن إدارة في القرون الوسطى، وما وسع المرابطين والموحدين، وإن كانوا من البربر، إلا أن يخدموا الحضارة العربية، بل إن الملوك من بني الأحمر لم يسعهم فيما بعد إلا أن ينسجوا في الأندلس على منوال الأمويين، كما لم يجد ملوك الطوائف والمتغلبون على الأطراف مندوحة من الجري على هذا المثال في خدمة العلوم والآداب، يغالون في اختيار خيرة العلماء والأدباء لتقليدهم الأعمال، ولقد وهت في الأندلس بعد بني أمية أمور كثيرة ولا سيما سياستها، ولم يضعف فيها العلم والصنائع والتجارة والزراعة، وكان ولاة الأمر إلى الخير في عامة أحوالهم؛ تقل الرشوة فيهم، ويبتعدون عن كل ما لا يعبث بأصل من أصول الدين في الجملة.
كان معظم ملوك الغرب على اتصال دائم بملوك الأندلس وأمرائها يوم كانوا لأول سلطانهم في عاصمة قرطبة، وكذلك لما ضغط عليهم ملوك قشتالة وقبعوا في عاصمتهم غرناطة، وما بقي من آثار العرب الكثيرة في جامع قرطبة وقصر الحمراء في غرناطة إلى اليوم دليل ناطق بما بلغته حضارتهم من مراقي الفلاح الباهر.
وأدخل العرب الذين جلوا إلى الأندلس وسكنوا المدن والأرياف سكنى دائمة، طرائق معيشتهم وأصول زراعتهم وصناعاتهم على النحو الذي ألفوه في المشرق؛ أدخلوا إليها كثيرا من أصناف الحبوب والبقول والأشجار وزرعوا الفلوات وأحيوا الموات وعمروا القرى والمدن، وأدخلوا إلى الأندلس معظم الصنائع وأخذوا يجرون المياه في بسائط الجزيرة بما أقاموه من الخزانات والنواعير، وبما عرفوه من أساليب الهندسة في تقسيم المياه، وأسداد بلنسية الباقية إلى اليوم شاهدة بتفننهم في أعمال الري والسقيا، وهي أثر من آثار نبوغهم في الهندسة. وغلب هذا العلم على أهل هذه الولاية حتى لنقرأ في تراجم الرجال أن فلانا إمام الجامع الأعظم كان مهندسا، وفلانا قاضي الجماعة أو قاضي القضاة كان مهندسا رياضيا.
وأمتع العرب أبناء البلاد من النصارى - وكانوا يسمونهم المستعربين كما يسمون المسلمين الخاضعين لإسبانيا المدجنين - بعامة حرياتهم يبنون ما شاءوا من بيع وكنائس ويعقدون مجامع أساقفتهم، وقد عقدوا سنة 782م مجمعا في إشبيلية وفي سنة 852م مجمعا في قرطبة، وكان رجال الدين من النصارى يدعون إلى دينهم في صميم بلاد الخليفة الأندلسي، وربما وقفوا على أبواب المساجد يتسقطون المسلمين ليبثوا دينهم بينهم، يتعرضون للقتل والإهانة حتى تكتب لهم الشهادة والسعادة بزعمهم، وإذا مر بهم المسلمون مروا كراما، وبلغ من سياسة العرب في الأندلس أنه إذا شجر خلاف بين مسلم ونصراني من الجند يعطى الحق غالبا للنصراني؛ فنشأت بذلك وحدة وطنية بين الغالب والمغلوب، وكان الغالب يومئذ في أقصى قمم عظمته وقوته.
ولقد علم العرب الشعوب النصرانية - كما قال العلامة جوستاف لبون - أثمن الصفات الإنسانية، وأعني بها التسامح، وما تناول التبدل الذي أدخلوه إلى الغرب الماديات والعقليات فقط، بل تعداها إلى تحسين الأخلاق، وكان العرب ينطوون على صفات فيها الكرم والإحسان، وفيها الشمم وعزة النفس، مما لم يكن له أثر عند غيرهم، وانتحل الإسلام كثير من الأندلسيين، وما كان لهم غير مصلحة ضئيلة في ذلك؛ لأن النصارى في الحكم العربي كانوا يعاملون كاليهود أيضا بقواعد المساواة، ولهم أن يتولوا جميع أعمال المملكة، وكانت تجري على سادات الإسبان أحكام الإسلام؛ فيختلطون بأشراف العرب، ومن ظل محتفظا منهم بدينه نسي عاداته، فصار يحجب نساءه كالمسلمين، ويقتدي بأزيائهم وألبستهم وعاداتهم في مآدبهم ورفاهيتهم ولذائذهم، ويزهد في اللغة اللاتينية ويجتهد في تعلم اللغة العربية. وتناسى الإسبان أصولهم واستعربوا بحضارتهم وأخلاقهم وأنشئوا يفصحون بالعربية، وصار الخلفاء يختارونهم عمالا لإدارتهم وأمناء لمشورتهم، يفضون إليهم بأسرارهم. وكان كثير من أذكياء الجلالقة والقشتاليين والليونيين والنافاريين، دع من كانوا في البلاد الواقعة في حكم المسلمين من أرض الأندلس، يتعلمون العربية ويقصدون الخليفة الأندلسي أو أحد رجاله يستخدمون في أرضه.
وتزوج العرب من البنات الإسبانيات والبرتقاليات، وشاع هذا الزواج بين العرب، وأمسى ملوك النصارى على عهد انقسام الأندلس بين ملوك الطوائف يتزوجون من بنات أمراء المسلمين؛ فقد تزوج ألفونس السادس بزايدة ابنة أمير إشبيلية، وعقد مثل هذا الزواج غير مرة وكان عدد المتزوجات من الإسبانيات والبرتقاليات من المسلمين وعدد المسلمات المتزوجات من الإسبانيين والبرتقاليين آخر أيام الأندلس كثيرا جدا، حتى جرى لذلك كلام في الشروط التي تمت بين الغالب والمغلوب.
ومن العرب من آثر زي الإسبانيين من الملابس والسلاح واللجم والسروج، وكلف بلسانهم، وكثير من أهل الطبقة العالية من المسلمين كانوا يعرفون لسان جيرانهم ويتشبهون بهم في الأكل والحديث وكثير من الأحوال والهيئات، وكان بعض ملوك بني الأحمر يتزيا بزي الإسبان وكذلك أجنادهم، وذكر العلامة ابن خلدون أن الأندلسيين لعهده أخذوا يتشبهون بأمم الجلالقة في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، وعد ذلك من علامات الاستيلاء، ولقد قالوا إن عزيز بن خطاب، وكان من أكابر العلماء، لما ملك على مرسية، استمع خطبة الخطيب حاسر الرأس على مثال ملوك الإفرنج، وكذلك كان ابن هود يسير في بلاده حاسرا، وعلى هذا درج بنو الأحمر، وكان يسمح لعلماء المسلمين هناك أن يرخوا ذوائبهم على مثال رجال الفنون والأدب من الإسبان، وأخذ النساء والبنات المسلمات يقلدن الإسبانيات في العهد الأخير بملابسهن وبالسفور أو الحجاب الخفيف. وبلغ من تسامح أمراء المسلمين في الأندلس أن منذر بن يحيى صاحب سرقسطة وذواتها أجرى إصهار ريمند الجليقي وشانجة القسطلي من ملوك الإسبان على يديه، وكتب عقد النكاح بينهما بحضرة سرقسطة في حفل من أهل الملتين، وذكروا أن بعض ملوك الأندلس كانوا يعرضون في قصورهم التماثيل الجميلة وفيها صور الآدميين وغيرهم.
Unknown page
كانت الأندلس العربية البلد الوحيد في الغرب الذي كانت فيه حقوق اليهود مصونة من جور الجورة، فانهالوا عليها من كل فج وكثر فيها سوادهم، ومنهم من انصرف إلى خدمة الدولة أو تعلم العلوم كالطب ونحوه، ومنهم من انتفع بما ربطته حكومة الأندلس مع البلاد المجاورة من الصلات التجارية؛ فكانوا من أول التجار الذين تسافر متاجرهم مع متاجر العرب والبربر وغيرهم على الأساطيل التجارية مقلعة من مالقة والمرية ولشبونة وبرشلونة تحمل إلى الشرق وإلى شمالي إفريقية وجنوبي أوروبا غلات الأندلس، وتأتي إليها بغلات البلاد القاصية، وبعد انقضاء عقود من السنين كان الفضل لبعض علماء اليهود في الأندلس بنقل الحضارة من العربية إلى العبرانية واللاتينية، فحملوا علم ساداتهم بالأمس إلى من لم يلقوا منهم في معظم الأدوار إلا العنت والإرهاق، ورب كتاب ضاع أصله العربي وبقيت ترجمته اللاتينية أو العبرانية على نحو ما كان من السبعين كتابا التي نقلها في مدينة طليطلة من العربية إلى اللاتينية جيراردو دي كريمونا في القرن الثاني عشر وهي في الهيئة والنجوم والهندسة والطب والطبيعة والكيمياء والفلسفة.
وعدن عرب الأندلس المناجم على اختلاف ضروبها، فكانوا يبعثون بما يستخرجونه من أرضهم ويصنعونه من السلاح في معاملهم، وبالحرير والجوخ والجلد والسكر والورق إلى إفريقية وسائر بلاد المشرق والمغرب، واشتهرت معامل الورق في شاطبة اشتهار قرطبة بجلودها وسلاحها وحليها، وإشبيلية بحريرها، ومالقة بزجاجها، والمرية بوشيها وديباجها وجوخها، وباجة بنسج كتانها، وسرقسطة بسلاحها، ورية بسجادها، وطليطلة ومرسية بأسلحتها، وكانت أوروبا الغربية تأخذ ورقها من الأندلس ، وأوروبا الشرقية تستبضعه من معامل دمشق وحلب وطبرية وطرابلس من الديار الشامية، وحمل العرب إلى الغرب من جملة الصنائع صناعة السجاد وصناعة السفن؛ فجعلوا في كل فرضة من مواني الأندلس على البحر الرومي وبحر الظلمات دور صناعة تخرج لهم السفن الوافية بالغرض في تلك العصور، فكان الانتفاع من البر والبحر على أتم حالاته، وكانوا يستخرجون من دابة تحتك بحجارة على شط البحر في شنترين وبرا في لون الخز لونه لون الذهب وهو عزيز قليل تنسج منه ثياب فيتلون في اليوم ألوانا، ويحجز عليها ملوك بني أمية فلا تنقل إلا سرا، وتزيد قيمة الثوب على ألف دينار لعزته وحسنه، وبلغ من غرام ملوك غرناطة بالعلم أن فرضوا جوائز للمخترعين لينشطوهم ويلقوا المنافسة بينهم، وربما ميزوهم بامتيازات خاصة، وجازوا بالمال الكثير من يستظهرون كتابا يعينونه لهم في الفن الفلاني. وكما كانت للأندلسيين مجامع علمية تجتمع في أوقات مخصوصة من السنة، كان علماؤهم يؤلفون رسائل يفهمها كل إنسان تكون له عونا على الانتفاع بالأعمال العامة؛ أي دساتير سهلة التناول يتدارسها الصناع والعملة فتفيدهم فيما هم بسبيله.
وانتقلت بعض صناعات العرب وأساليبهم إلى فرنسا، ولا سيما في الزراعة وحفر الترع والخلجان ونظام الري، وكانوا أنشئوا الطرق والجسور والفنادق للسياح والمستشفيات والجوامع والرباطات في كل محلة ومنزل، ورأى الفرنسيس كيف عمر العرب ناربون وبروفنسيا لما استولوا عليهما وكيف نظموا أساليب السقيا فيهما، وأدخلوا أساليب عمرانهم إلى قرقشونة ونيم وأتون وسانس وأفنيون ومرسيليا وأرل وبردو، ومنها ما جعلوه قاعدة لأعمالهم الحربية والبحرية، ووقفوا عند حدود سبتمانيا أقاموا لهم فيها مراكز دائمة وعقدوا عهودا مع أهل البلاد، وكان رجال الكهنوت في تلك الأصقاع يؤثرون حكم العرب على حكم الغزاة من الجرمانيين؛ لأن هؤلاء ما كانوا يتحرجون من الاستيلاء على أملاك الكنائس، وأخذت الصلات العديدة تنعقد بين المسلمين والنصارى، ولما ارتد العرب عن إقليم سبتمانيا سنة 759م احتفظوا هناك بأملاكهم وبيوتهم.
كان اختلاط العرب بالإسبانيين والبرتقاليين والكتلانيين والفرنسيس والبشكنش
Les Basques
اختلاط محارب بمحارب؛ يعرفونهم لأول الأمر بغاراتهم، يأخذ بعضهم من بعض أسرى، فلما طال الزمن رأت تلك الأمم المضعوفة أنه لا مناص لها من أن تتعلم في مدارس الأمة المرهوبة، وهكذا كان، فإن كثيرين من نبهاء الإفرنج رحلوا إلى الأندلس يأخذون عن علمائها العلم ويقتبسون من أنوارهم، ومنهم أو من مشهوريهم البابا سلفستر الثاني (جربرت)، وقد درس الرياضيات والفلك عند علماء العرب في إشبيلية وقرطبة، فكان أعظم علماء عصره في قومه، ولما صعد الكرسي الباباوي سنة 999م كان أول الباباوات الذين وجهوا وجهتهم إلى توحيد قوى الغرب لمقاومة المسلمين في استعمارهم في الشرق والغرب، ومثله كثيرون ممن أخذوا عن العرب وكتبت لهم مكانة بما تلقفوه عنهم بين قومهم.
وذكروا أن شانجه أمير ليون كان يستشير أطباء العرب، وأطباء العرب من الأندلسيين هم الذين نقلوا الطب إلى فرنسا في زمن أنشأ فيه الأندلسيون في كل ناحية من بلادهم المدارس وخزائن الكتب والجامعات العلمية في العواصم وغيرها، فكانت مواطن العلم في الغرب زمنا طويلا، ومنها اليوم سلمنكة عاصمة العلم في إسبانيا، وقلمرية عاصمة العلم في البرتقال، على نحو ما نشهد لعهدنا مدينة ليبسيك في ألمانيا وأكسفورد في انجلترا. وزالت الأمية في الأندلس بما أنشأ الملوك من المدارس، وكان في قرطبة عشرات من الكتاتيب للفقراء فقط، وأصبح الرجال والنساء على السواء يكتبون ويقرءون، بل ربما كان من أبناء الفلاحين من ينثرون وينظمون.
وأخذ الإسبان عن العرب في الأندلس وصقلية معنى الشعر وبعض أوزانه وموضوعاته، ولم يكن للشعر الغربي إلى عهد العرب شاعر إفرنجي يرفع الرأس، ما خلا أغاني هي أشبه بشعر العامة منها بشعر الخاصة، واحتذى الإسبانيون حذو العرب في القصائد التاريخية والمواليا، ونمت رياض الأدب الغنائي فتفشت عدوى الاشتغال بالأدب العربي بين أساقفة النصارى المستعربين، وراحوا يقرضون الشعر بلغة عربية عالية، وكثير من قصائد الشعراء الذين كانوا يجوبون في الولايات «تروبادور وتروفير»
1
هي قصائد عربية، واقتبس دانتي شاعر الطليان كثيرا من أفكار العرب في روايته «المهزلة الإلهية»، وخصوصا عن أبي العلاء المعري، وتأثر الأدب الروائي والشعر الإسباني بالأسلوب العربي، وأخذوا عن العرب أوزان التفاعيل الثماني، والأغاني الإسبانية القديمة منتحلة من دواوين شعراء العرب إلى غير ذلك، ثم إن إسبانيا تأثرت أيضا بالموسيقى العربية، وما زالت الموسيقى الإسبانية في إسبانيا وجميع البلاد التي استولت عليها في سالف الدهر، ولا سيما الأرجنتين والبرازيل، هي الموسيقى العربية، بل سرت هذه الموسيقى إلى البيع الإسبانية، وما كانت ألحانها إلا عربية في القرن الثالث عشر للميلاد. وكذلك يقال في الرقص، فإن الرقص الإسباني إلى اليوم هو بالرقص العربي أشبه، وبإيقاعه وتلاحينه أعلق، وهكذا يقال في كثير من أدوات الموسيقى الإسبانية؛ فإنها أو أكثرها مما اقتبسوه عن العرب، وهؤلاء جاءوا بها من الحجاز وهذه نقلتها عن فارس وعن الروم.
Unknown page
ويقول الإسبان اليوم إنك إذا أنصت للغناء في شوارع قرطبة وإشبيلية وغرناطة توقن أنه غناء عربي، وإذا طعمت في دار أندلسية تجد الطعام طعاما مغربيا، وإذا شهدت من يجلسون إلى خوان في مقهى تحصي لهم عادات أهلية خاصة، وإن جميع حياة الأندلس تذكر بالأمة العربية القديمة، وإن الحدائق والحقول تسقى من ترع وقني عربية، وإن الموسيقى عربية، وهناك صناعات صغيرة وتجار صغار وقوافل من الحمير والأتن تجتاز الأزقة على نحو ما هي في البلاد العربية، وإذا استمعت من بعد إلى تلفظ أهل تلك المدن الأندلسية يتكلمون بالإسبانية تحسبهم يتكلمون بالعربية لا بالإسبانية، أما هندستهم وشوارعهم وأحياؤهم وقني بيوتهم، فهي عربية صرفة على مثال ما هو من نوعها في دمشق وتونس.
ويقول لبون إن تأثير العرب في الغرب كان عظيما، وإليهم يرجع الفضل في حضارة أوروبا ولم يكن نفوذهم في الغرب أقل مما كان في الشرق ولكنه كان يختلف عنه. أثروا في بلاد المشرق بالدين واللغة والصنائع، أما في الغرب فلم يؤثروا في الدين، وكان تأثيرهم في الفنون واللغة ضعيفا، وعظم تأثيرهم بتعاليمهم في العلم والآداب والأخلاق، ولا يتأتى للمرء معرفة التأثير الذي أثره العرب في الغرب إلا إذا مثل لعينيه حالة أوروبا في الزمن الذي دخلت فيه الحضارة، وإذا رجعنا إلى القرنين التاسع والعاشر من الميلاد يوم كانت المدنية الإسلامية في إسبانيا زاهرة باهرة؛ نرى المراكز العلمية الوحيدة في عامة بلاد الغرب عبارة عن مجموعة أبراج يسكنها سادة نصف متوحشين، يفاخرون بأنهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون. وكانت الطبقة العالية المستنيرة في النصرانية عبارة عن رهبان فقراء جهلة يقضون الوقت بالتكسب في أديارهم بنسخ كتب القدماء ليبتاعوا ورق البردي لاستنساخ كتب العبادة.
قال: وطال عهد الجهالة في أوروبا وعم تأثيره بحيث لم تعد تشعر بتوحشها ولم يبد فيها بعض ميل للعلم إلا في القرن الحادي عشر، وبعبارة أصح في القرن الثاني عشر. ولما شعرت بعض العقول المستنيرة قليلا بالحاجة إلى نضو كفن الجهل الثقيل الذي كان الناس ينوءون تحته طرقوا أبواب العرب يستهدونهم ما يحتاجون إليه؛ لأنهم وحدهم كانوا سادة العلم في ذلك العهد. ولم يدخل العلم أوروبا في الحروب الصليبية كما هو الرأي الشائع، بل دخل بواسطة الأندلس وصقلية وإيطاليا، وفي سنة 1130م، أنشئت مدرسة للترجمة في طليطلة بعناية رئيس الأساقفة وأخذت تنقل إلى اللاتينية أشهر مؤلفات العرب، وعظم نجاح هذه الترجمات وعرف الغرب عالما جديدا، ولم تفتر الحركة في هذه السبيل خلال القرن الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر. ولم تنقل إلى اللاتينية كتب الرازي وأبي القاسم وابن سينا وابن رشد وغيرهم، بل نقلت إليها كتب اليونان أمثال جالينوس وأبقراط وأفلاطون وأرسطو وأقليدس وأرخميدس وبطليموس، وهي الكتب التي كان المسلمون نقلوها إلى لسانهم.
أصبحت اللغة العربية منذ النصف الثاني من القرن الثامن للميلاد لغة العلم عند الخواص في العالم المتمدن، وحافظت على مرتبتها الأولى بين سائر اللغات إلى آخر القرن الحادي عشر، وكان يقضى على كل من يحب الاطلاع من أهل القرن الحادي عشر على آراء عصره أن يتعلم اللغة العربية؛ ولذلك قالوا إن كثيرين من زعماء النهضة كروجر باكون وغيره كانوا يعرفون لغتنا. وكان ملوك الأندلس يفاوضون جيرانهم باللغة العربية، وهؤلاء يجيبونهم بها على لسان تراجم لهم يجيدون العربية، ويقضى على أكثر سفراء الإفرنج عند ملوك الأندلس أن يلموا ولو إلماما خفيفا بلغة العرب.
وبعد أن أخذ الغرب العلم عن كتب العرب وقلدهم في مخابرهم ومعاملهم وجامعاتهم ومدارسهم، وقرئت كتبهم وعلومهم في جامعات الغرب مدة ستمائة سنة ودام ذلك إلى القرن الثامن عشر؛ لا نستغرب أن تدخل في جميع اللغات الغربية الألفاظ العلمية العربية ولا سيما في الإيطالية والفرنسية والإسبانية والبرتقالية، وفي كل لغة من هذه اللغات اللاتينية بضعة ألوف من الألفاظ العربية، أخذوها مضطرين عن العرب؛ لأن هؤلاء احتلوا بلادهم أو أماكن منها، بل لأن العلم العربي كان وحده هو المتفوق في العالم، وكان العرب دعاته ورعاته خلال بضعة قرون.
نعم، لم يجد العلم ملجأ أمينا له غير العرب في تلك القرون، وهذه فرنسا لم تنهض من كبوتها بعد غارات البرابرة إلا بعد ثمانية قرون وذلك بفضل العرب، ومن علماء فرنسا من يعز عليهم الاعتراف بهذه الحقيقة، وبينا كانت المدنية الإسلامية زاهرة، كانت فرنسا في أحط دركات التأخر، ولم ينتشر الطب والصيدلة في ربوعها إلا بمساعي أطباء اليهود الذين اعتصموا بإسبانيا ثم بإقليم لانكدوك بعد القرن الحادي عشر، وفي لانكدوك أنشئوا عدة مدارس ومنها مدرسة مونبلية، واضطرت بعض الأمم الغربية أن تحمل بعض أبنائها على تعلم اللغة العربية، وأسست جنوة مدرستها لتعليم العربية سنة 1207م، ورأى ملوك قشتالة بعد وقعة العقاب التي كتب فيها النصر للإسبان على العرب، أن لا يقاطعوا الماضي القديم وأنهم في حاجة إلى أن يتعلموا من معلميهم القدماء من العرب، فحاول ألفونس العاشر أن يعمل لإسبانيا النصرانية ما عمله العرب لإعلاء شأن الإسلام، وذلك بالأخذ من أحسن ما في الحضارتين الإسلامية والنصرانية ومزجهما بالحضارة الإسبانية؛ فأسست سنة 1254م في إشبيلية مدرسة عامة لاتينية وعربية، واستدعى الملك إلى عاصمته العلماء من جميع الملل والنحل ليؤسس مدرسة طليطلة الثانية يجمع فيها بين الأوضاع العربية وغيرها. وقضى مجمع فينا الديني سنة 1311م أن تؤسس في باريز وأكسفورد وبولون وسلمنكة دروس عربية لتنصير المسلمين، ودروس عبرانية لتنصير اليهود، وعنيت إيطاليا منذ ذلك العهد عناية خاصة بالعربية ترى تعليمها من الضرورات لكل تجار المدن البحرية، وكان من ذلك أن احتكرت البندقية تجارة أوروبا مع الشرق، واستأثرت بتجارة آسيا الصغرى، وتمت للبندقية وبيزا وجنوة وطسقانة معرفة الشعوب الإسلامية أكثر من عامة أهل أوروبا، وكان من العادة الجارية في طبقة التجار من أبناء البندقية أن يتكلموا بالتركية والعربية، ويأخذوا أنفسهم ببعض العادات والأنسة بالمصطلحات الشرقية، وملك البيزيون والجنويون والبنادقة أملاكا مهمة في الشواطئ الشرقية من البحر المتوسط وفي غيرها، وامتزجوا بأهل البلاد، وتأخرت الممالك الأخرى في تلقف العربية إلى القرن السابع عشر والثامن عشر.
أصبح البحر الرومي بما فتحه العرب من شواطئه بحرا عربيا في أوائل القرن الثالث؛ وذلك لأن شواطئ إفريقية وإسبانيا وكثير من الجزر كجزائر منورقة وميورقة ويابسة المعروفة بجزائر الباليار أو الجزائر الشرقية وغيرها قد دخلت في حكمهم، ولما فتحوا في سنة 212ه جزيرة صقلية، وكانوا غزوها غير مرة منذ أخذوا يسافرون على سفنهم على عهد الخليفة الثالث، وأتبعوها بجزيرة سردانية وغيرها؛ تراجعت سفن الروم إلى المواني القريبة من بلادهم، وامتدت غزوات العرب إلى بلاد أنكبردة أو لمبارديا وقلوية؛ أي كالابرا، من جنوبي إيطاليا، واستولوا على أكثر أصقاعها الجنوبية نحو تسع وعشرين سنة، ومن البلاد التي احتلوها احتلالا موقتا أو غزوها وتخلوا عنها، ريو والبندقية وطارانت وسالرن وأمالفي ونابل ورومية وجنوة، والغالب أن العرب في الولايات التي نزلوها من جنوبي إيطاليا لم يؤثروا بصناعاتهم وعلمهم، ولم يخلفوا أثرا من آثارهم كالنقود والرنوك والمصانع والجوامع على ما حقق ذلك العلامة نالينو.
أما في جزيرة صقلية، فإن العرب طالت فيها أيامهم إلى سنة 484ه وأثروا فيها أنواع التأثير؛ فتركوا لأهلها أولا عاداتهم وقوانينهم وحريتهم الدينية المطلقة، واكتفوا منهم بجباية قليلة كان مقدارها أقل مما كان يستوفيه اليونان منهم وأعفوا منها النساء والأولاد والرهبان، وحافظوا على جميع الكنائس الموجودة ولم يسمحوا بإنشاء غيرها، على خلاف ما جروا عليه في الأندلس، وعمدوا إلى الزراعة والصنائع فأحيوها، وأدخلوا أصنافا من الزرع لم تعرفها الجزيرة، ومنها القطن وقصب السكر والزيتون والبردي والكتان والمران، وأقاموا المجاري التي لم تبرح ماثلة للعيان، وعلموا الناس عمل القني ذات الأنابيب المعقفة (السيفونات ) وكانت قبلهم غير معروفة.
وأنشأت العرب في صقلية مصانع لصنع الورق ومنها انتشرت الوراقة في إيطاليا، وعدنوا مناجم الجزيرة وعلموا أهلها صنع الحرير، والغالب أن صناعة صبغ الثياب انتشرت في أوروبا من صقلية، ومن مصانع الصقليين كانت تصدر الأكسية المحلاة بالجواهر، والطنافس المصورة والمنقوشة، والجلد المدبوغ والحلي البديع. وبالإجمال، حمل العرب إلى صقلية مظاهر غريبة من فنهم وقناطرهم العالية الجميلة ونقوشهم من المقرنصات وجمال قاشانيهم ذي الميناء والفسيفساء المعمولة من الرخام الملون، وصورهم الجميلة وبهيج صناعاتهم، وما كادت أعلامهم تعلو هذه الجزيرة العظيمة حتى نمت التجارة وكانت قبلهم ضئيلة، وأنشئوا يقلعون على سفنهم إلى الجهات الأربع وكانت لهم حكومة ذات مجد ورقي، وكثر المسلمون فيها خلال قرنين حتى أصبحوا نصف سكان الجزيرة.
وسار النورمان على سياسة رشيدة لما استولوا على صقلية وقضوا على سلطان العرب فيها؛ فأبقوا المسلمين على عاداتهم ودينهم ولسانهم، واستعملوا منهم كثيرين في قصورهم وحروبهم، فكان منهم القواد والعظماء والعلماء في خدمة الدولة الجديدة، وبقيت لغتهم رسمية في الجزيرة مدة حكم النورمانيين، وتعلم ملوكها العربية ومنهم من برزوا فيها، ونظموا فيها الأشعار وطربوا لأدبها. وهكذا تخلق النورمان بأخلاق رعاياهم وعاملوهم معاملة نادرة في باب التسامح السياسي وعدم التحزب الديني في القرون الوسطى، حتى اتهم الباباوات أمراء النورمان بأنهم دانوا بالإسلام وما زالوا بهم حتى قضوا عليهم بهذه التهمة وغيرها.
Unknown page
كان روجر أول ملك نورماني استخلص صقلية من العرب هو واضع أساس هذا التسامح مع المسلمين، وهو الذي استقدم إليه من بر العدوة - وبر العدوة ما سامت الأندلس وصقلية من شمالي إفريقية، ويعنون بالعدوة المغرب الأقصى والأوسط والأدنى - الشريف الإدريسي وبالغ في إكرامه، وطلب إليه أن يبقى في صقلية وأن يحقق له أخبار البلاد بالمعاينة لا بما ينقل من الكتب، وندب لذلك أناسا ألباء وجهزهم «روجر» إلى أقاليم الشرق والغرب والجنوب والشمال وسير معهم قوما مصورين ليصوروا ما شاهدوه عيانا، فكان إذا حضر أحدهم بشكل أثبته الشريف الإدريسي حتى تكامل له ما أراد وجعله مصنفا سماه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، وهو من أجل كتب الجغرافيا التي بقيت من تآليف العرب، وعمل الإدريسي لروجر كرة أرضية من الفضة كانت من أجمل ما ابتدعته قريحة عربية، رسم فيها العالم ببحره وبره وجباله وسهوله وأنهاره وبحيراته ومدنه وممالكه.
كان تأثير العرب في صقلية بعلمهم أكثر من تأثيرهم بمبانيهم ومصانعهم، وكان الروح فيها عباسيا ثم فاطميا؛ لأن بني الأغلب أمراء إفريقية، أي تونس، للعباسيين تولوا ذلك منها أولا، ثم جاء الفاطميون فخضعت لسلطانهم، أما في الأندلس فكان الروح أمويا بحتا لا سلطان فيها لغير العرب، يقول العلامة آماري المستشرق الصقلي إن صقلية مدينة للعرب وإيطاليا مدينة لصقلية بابتكار الشعر الوطني، بمعنى أنه منذ قلد البلاط الصقلي البلاط الملكي الإسلامي بدأت العناية بقرض الشعر تلك العناية التي كانت السبب في نهوض الشعر الإيطالي. وقال رينالدي لم يساعد العرب فقط على إنهاض الشعر الصقلي والإيطالي، بل إنهم أمدوا القصص الإيطالية بشكلها ومادتها، وفي بلرم التي اتخذها العرب عاصمة صقلية وعمرت عمرانا غريبا، أنشأت العرب أول مدرسة للطب وما عهد مثلها في جميع أوروبا؛ فقد أنشئت مدارس الطب في الغرب بعد مدرسة صقلية العربية بأعوام، ومنها انتشر هذا الفن في بلاد إيطاليا، وساعد أن الباباوات كانوا رحلوا إلى أفنيون من أرض فرنسا فخلا الجو للعلم العربي، ثم تفرغ العرب بعد ذهاب سلطانهم من الجزيرة إلى العلم والتجارة، فكانوا نحو قرنين آخرين بعد خروج صقلية من أيديهم رجال المال والأعمال فيها، بل كانوا سادتها بالفعل، ومن كان له العلم والمال لا ينقصه شيء من القوى.
أخرجت هذه الجزيرة في العهد العربي عظماء من الرجال في العلم والأدب، وكان عددهم بالقياس إلى من أخرجت الأندلس قليلا، وقل فيهم النوابغ في علوم العقل على نحو ما كان في الأندلس، ولكن عمل صقلية في التمدين لم ينقص كثيرا عن الأندلس؛ فإذا كانت هذه الجزيرة غذت غربي أوروبا بضعة قرون بمدنيتها، فإن صقلية كانت مدة رسالتها ثلاثة قرون ترسل أشعة المدنية العربية إلى أواسط أوروبا. ولعل ما دعا صقلية إلى أن تكون دون الأندلس في هذا المضمار كون العرب فيها قلائل وأكثر من نزلوها من البربر، بخلاف الأندلس التي كان فيها العرب كثرة غامرة هاجروا إليها وطابت لهم مستقرا ومقاما.
وقصارى القول أن العرب في الأندلس وصقلية بما كان لعنصرهم من المرونة لتقبل كل نافع بقبول حسن؛ كتب لهم الإبداع في صنائعهم ومصانعهم وشعرهم وأدبهم وعلمهم وعملهم، كأن هواء الغرب علمهم أن يغيروا ما حملوا معهم من مدنية الشرق بما يلائم تلك البيئة الجديدة، وحببوا من دون إكراه ما نقلوه إلى أهل البلاد فطبعوهم بطابعهم وصاغوهم الصياغة التي لا تنافي تعاليمهم ونظمهم؛ فقربوهم من مناحيهم ومنازعهم ووقفوهم على سر حضارتهم وتفوقهم، وسرى النور من كل أرض احتلوها إلى أرض بعيدة عنهم، ومن شعوب تمثلوا فيهم بعض الشيء إلى شعوب ما وسعها إلا أن تجاريهم فيما لا يخرجهم عن الاحتفاظ بمقوماتهم من جنس ولغة.
أثر الحضارة العربية في الحروب الصليبية وأثر الحضارة الغربية على عهد الاستعمار
الحديث
لما صحت عزيمة البابا على إخراج العرب من أرض البرتقال، دعا الفرنسيس والإنجليز والنورمانيين والألمانيين والبلجيكيين إلى معاونة البرتقاليين لنزع سلطة العرب عن بلاد البرتقال، ولما أراد البابا القضاء على دولة الموحدين في الأندلس (605ه) نادى بالحرب المقدسة فخفت جيوش النصرانية من إيطاليا وفرنسا وألمانيا، واتحدت قواتها بقوات إسبانيا. ولما أزمع أن يأخذ القبر المقدس من أيدي المسلمين في فلسطين دعا النورمانيين والإيطاليين والفرنسيس والألمانيين والنرويجيين والسويسريين والإنجليز وغيرهم من شعوب الغرب إلى حمل الصليب والذهاب إلى أورشليم.
وفي سنة 490ه/1096م اجتمع مئات الألوف من غزاة الصليبيين في القسطنطينية، وبعد أن خربوها، وكان صاحبها حليفهم، ساروا إلى آسيا الصغرى فضلوا طريقهم، وأخذوا يخربون ويقتلون إلى أن بلغوا الرها وأنطاكية والمعرة فالقدس، وقتلوا من أهل هذه المدينة المقدسة فقط سبعين ألفا، ومن أهل المعرة مائة ألف، وظهروا بمظهر من التوحش لا يغبطون عليه، وملك المسلمون اعتدالهم فما خرجوا عن حدود شريعتهم فيما أمرت به من الرفق بالناس في دار الحرب ودار السلم، أما الصليبيون فارتكبوا كل محرم في دينهم بأن قتلوا المعاهد والمخالف، وقضوا على اليهود قبل أن يغادروا بلاد الغرب طمعا بأموالهم.
وظلت الحرب سجالا عشرات من السنين حتى قام صلاح الدين وقضى على الصليبيين في القدس، ثم قام من أخلافه ثم من المماليك المصريين من استأصلوهم في أدوار مختلفة. وبلغت الحملات التي وجهها الصليبيون على الديار الشامية ثماني حملات، منها ما عد جنده بمئات الألوف، وهلك من الفريقين خلائق يصعب إحصاؤهم، ورجع الغربيون ولم يربحوا من غزواتهم غير ما نحن ذاكرون من الفوائد المادية والمعنوية، وأخذ العجب المهاجم والمدافع مما رأى من عدوه، وأثبت الأول انحطاطه، وسجل الثاني ترقيه، رأى الصليبيون من حسن أخلاق نور الدين وصلاح الدين وغيرهما من أمراء المسلمين ما أعجبوا به؛ رأوا صلاح الدين يوم استرجاعه القدس يكتفي بأن يضرب على كل رجل منهم عشرة دنانير، وعلى كل امرأة خمسة، وعلى كل طفل دينارين، وعجز بعضهم عن أدائها فأدى أخوه أبو بكر بن أيوب فدية عن ألفي صليبي، ثم أعفى صلاح الدين كثيرين من هذه الغرامة، وأغضى عن جواهر الصليبيين وناضهم من الذهب والفضة، وعامل نساء الإفرنج معاملة لطف وظرف، وسهل سبيل الخروج لملكتين عظيمتين من ملكاتهم بما معهما من جواهر وأموال وخدم، وسمح للبطريرك الأكبر أن يسير آمنا بأموال البيع وذخائر الجوامع التي كان غنمها الصليبيون في فتوحهم الأولى؛ فأثرت هذه المحاسنة من صلاح الدين في جمهور الصليبيين. وظل الملوك والباباوات على عنادهم وعدائهم حتى قال شاعره عبد المنعم الجلياني من قصيدة يصف حرمة الصليبيين له:
فخطوا بأرجاء الهياكل صورة
Unknown page
لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم
كان المسلمون مع الصليبيين أيام المهادنات على غاية اللطف والمياسرة، يضيفونهم ويكرمونهم ويعاملونهم معاملة حسنة؛ فامتزج الصليبيون في الشام امتزاجا دائما متصلا بأهل البلاد نصاراهم ومسلميهم، واعتمدوا عليهم في أعمال الزراعة وبناء الكنائس والقلاع، وجندوا كثيرين منهم في جيوشهم، ومنهم بعض نصارى لبنان، وكان منهم الأدلاء والتراجمة، وعاش الصليبيون بالقرب من أشراف المسلمين يتبادلون وإياهم فروض المجاملات ويعقدون معهم عهود الصيد، وأسر المسلمون كثيرا من الإفرنج وظلوا في أسرهم أمدا طويلا، فكانوا يعاملونهم أحسن معاملة ويمنحونهم قسطا وافرا من الراحة، فنشأت علاقات ود بين الفريقين، وكان اتجار كل فريق في أرض جاره من عوامل التعارف بين المسلمين والنصارى من أهل الغرب. وتزوج الصليبيون من غير جنسهم من الشاميات والأرمينيات أو من العربيات اللائي تنصرن، ونشأت صداقات بين أفراد الفريقين، عقبى المعاهدات التي عقدت بين المسلمين والصليبيين لاستعانة فريق بآخر ليقاوم له منافسا أو منازعا من أبناء دينه.
هذا قول مونرو، وزاد أن التسامح المتبادل دخل في الأخلاق؛ فكان النصارى يؤثرون استشارة أطباء المسلمين لتفوقهم على أطبائهم في علاج الأمراض ولتجافيهم عن استعمال السكين والمبضع في الجراحة، وقد وصف سفير الإمبراطور فريدريك بربروسا في عهد صلاح الدين معتقدات الإسلام وصفا حسنا، وأطرى روح المسامحة عند المسلمين وألمع إلى الحرية التي أطلقوها لأتباع كل دين. وقال إن أكثر المسلمين يكتفون بزوج واحد، وإن صلاح الدين كان محبوبا في الغرب لرأفته وكرمه بعد استيلائه على أورشليم، وكان شديد التسامح مشهورا بتأدبه. وكتب ريكولدوس في مدح المسلمين قائلا: ومن لا يعجب بمحاسنتهم وبخشوعهم في صلاتهم، ورحمتهم الفقير، وبتقديسهم اسم الله والأنبياء والأماكن المقدسة، وبحسن عشرتهم ولطفهم مع الغريب وباتفاقهم وتحاببهم.
ويؤخذ مما قاله ميشو ودروي وسيديليو ولافيس ورامبو وسنيوبوس ولبون وبتي وغيرهم من المؤرخين والحكماء أن الحروب الصليبية عادت على الغرب بخيرات لا تستقصى، ولو لم يكن منها غير تحطيم قيود التعصب الكنسي وما رآه الصليبيون عيانا من تسامح المسلمين وتساهل مشاهير أمرائهم لكفى في فائدتها. فانتشرت التجارة بعد الحروب الصليبية أكثر من انتشارها أيام المملكة الرومانية، وأخذت أوروبا عن العرب عادات الفضيلة والمدنية، وكل ما يهون الحياة ويحليها للأنفس، بدأت الصلات بين الغربيين والشرقيين بحرب بين المؤمنين، وانتهت بمسائل تكونت بين المتجرين، وتحضر الغربيون بامتزاجهم بالشرقيين، وأثر هذا الاختلاط في أفكار النصارى الدينية؛ فتحمسوا أولا للطعن والنزال، ولما شاهدوا المسلمين عن أمم ، ورأوا رجالا أشداء كرماء منورين أمثال صلاح الدين الذي أخلى سبيل أسارى النصارى بدون فدية، وبعث بطبيبه إلى أحد زعماء الصليبيين ليداويه من مرضه، عندئذ بدءوا باحترام المسلمين.
كانت الحروب الصليبية من حيث غايتها الأولى عقيمة، فإن الصليبيين على ما بذلوا من الأموال، وأهرقوا من الدماء، رجعوا من الشرق بعد قرنين كاملين، بخفي حنين. وأفادت هذه الحروب من طريق آخر، فكان الاختلاط بالشرق عشرات من السنين من العوامل القوية في سرعة انتشار المدنية في أوروبا، وكان الشرق بفضل العرب ينعم إذ ذاك بمدنية زاهرة على حين كان الغرب لم يزل غارقا في التوحش، وقد استدللنا من مجموع أعمال الصليبيين أنهم كانوا في كل مكان إلى الهمجية حقيقة، ينهبون الأموال ويقتلون الأنفس، لا فرق عندهم بين عدوهم وصديقهم؛ خربوا في القسطنطينية أثمن كنوز العاديات اليونانية واللاتينية، ولم يربح الشرق باختلاطه بهؤلاء البرابرة من الصليبيين، بل خسر ونتجت من ذلك كراهته للغربيين كراهية دامت قرونا.
قبل الحروب الصليبية، كان لا يعرف الشرق العربي من الغربيين غير أفراد أذكياء رحلوا في التجارة، أو جاءوا فلسطين للزيارة، أو نزلوا الأندلس وصقلية يعجبون بما لا يعرفونه من حضارة وغضارة، وفي هذه الحروب عرفوا الشرق الإسلامي وكان الواغلون عليه من مختلف الطبقات، فرأوا المسلمين في عقر دارهم، وحققوا أنهم ممتازون بصفات حربية وأدبية واجتماعية، رأوا أمة تحررت من قيود الدينيين إلا قليلا، وأيقنوا أنها من غير الطراز الذي عرفوه من أجيال الناس، على حين كانت أوروبا تحت سلطة الكنيسة الرومانية، يتصرف الباباوات فيها بالأشباح والأرواح، ويقيمون في كل مكان حكومة وسط حكومة، تجبي أموالا من الناس وتعفي أملاكهم من الخراج، كما يعفى خدمتها من المحاكمة مع الناس، بل كثيرا ما كان يحاكم الشعب نفسه في الكنيسة، ولطالما كان الأسقف في أبرشيته خصما للحاكم السياسي ورقيبا عتيدا عليه. فكان البابا منذ القرون الوسطى - كما قال العلامة جول سيمون - لا يعد نفسه إمام الأحبار فقط، بل خليفة الله في الأرض، ليس بينه وبين الرياسة الملكية العامة إلا خطوة قصيرة، استعد لاجتيازها بالقول، ولم يدخر وسعا في تطبيق القول على العمل، فرأس الملوك وألبسهم التيجان ، ولم يفتأ اللاهوتيون والوعاظ يوطئون له أكناف هذه السلطة المدنية العامة؛ كأنهم بذلك يخضعون الملوك قاطبة لله الواحد القهار.
قالوا إن شعوب الغرب في القرن الثاني عشر كانوا في حالة بداوة وغباوة، وهذا ما ساعدهم على إعلان الحروب الصليبية في الشرق، فلما نشأت المدنية الحديثة في القرن السادس عشر، وتسربت أولا إلى رؤساء الكنيسة والملوك، أصبحوا لا يرون الاغتراب عن مواطنهم، ولا أن يفارقوا مساقط رءوسهم، وعمت الصناعات وحسنت الزراعة، وانتشر العلم، وغدا ذكرى كل مدينة وكل أسرة، وتقاليد كل شعب وقطر، والألقاب والامتيازات والحقوق المستحصلة والأمل في تنميتها، كل ذلك قد غير من أخلاق الإفرنج، وبدل من ميلهم إلى حياة التنقل والارتحال، وجعلها صلات تربطهم بالوطن، وكتب التوفيق للملاحة في القرن التالي باكتشاف أمريكا، واجتاز الملاحون رأس الرجاء الصالح؛ فنشأ من هذه المكتشفات تبدل كثير في التجارة، وأخذت الأفكار تتجه وجهة جديدة، وأنشأت المضاربات التي كانت قائمة بالحروب الصليبية تسير نحو أمريكا والهند الشرقية، ففتحت أمام الغربيين ممالك كبرى وأقطار غنية تسد مطامعهم، وتشبع نهمة التائقين منهم إلى المجد والثروة والمطوحات، فأنست حوادث العالم الجديد ما في الشرق من عجائب.
لما قفل الغزاة من الصليبيين راجعين إلى بلادهم، وقد أضاعوا من صيت فرسانهم، وفقدوا من شممهم وعزة أنفسهم لما حلوا غير أرضهم، أخذوا يقصون على بني قومهم أخبارا تناقض ما كان ينشره دعاة الحرب من رؤساء الكنيسة، من أن المسلمين جماعة من الوثنيين غلبوا على الأرض المقدسة، وأجلوا عنها دين التوحيد، ونفوا منها كل فضيلة، وأنهم وحوش ضارية، وحيوانات مفترسة؛ أخذوا يقولون لقومهم إن أعداءهم كانوا أهل دين وتوحيد ومروءة، وذوي ود ووفاء وحرمة، وإن ما كانوا اتهموا به غير صحيح، وإن دعاة الحرب المقدسة تقولوا عليهم ومزجوا أقوالهم في المسلمين بكثير من الأفاويه لتوافق روح ذلك العصر، والخصم قد يستحل لنفسه أن يقول في خصمه ما قاله مالك في الخمر.
وأهم ما استفاده الغرب من حروب الصليبيين واختلاط أهله بأهل الإسلام أن القابضين على زمام الأمر في الغرب لم يعودوا كما كانوا في الثمانين السنة الأخيرة التي مضت قبل سقوط القدس بأيدي المسلمين يأتمرون في الحال بأوامر الكنيسة، ويحمسون الناس ليسيروا بهم على العمياء، يقتلون ويقتلون على غير فائدة محسوسة، ومن أعظم ما عاد على الغرب بالفائدة من هذه الحروب، أنه لم تعقد خلالها دواوين التحقيق الديني، ولم يحرق أحد بالنار، ولم تقطع الأعناق في سبيل الأفكار الدينية والعلمية؛ فكأن الجلادين تعبوا من قطع الرءوس وبسط العقوبات على الناس مدة ثلاثة قرون، وكأن رجال الدين والسياسة هادنوا العدو الداخلي لينالوا من العدو الخارجي، وكان المتهم في غضون انعقاد ديوان التحقيق، إذا حكم عليه بالقتل لا يدافع عن نفسه، وإن كان متقلدا سيفا، وذلك عملا بآية الإنجيل الطاهر: «إذا ضربك أحد على خدك الأيمن، فحول له الأيسر»، فكان المتهمون بالإلحاد يساقون من قبل كما يساق قطعان من الغنم إلى المجزرة، ساكنين عزلا من أسلحتهم مستسلمين للأقدار، وكان الوالي إذا أراد أن يجادل أحدهم بالبرهان على سبيل الشفقة لا يفهم ما يقول لأنه غبي جاهل.
وأدى الضغط على الناس في الغرب باسم الدين إلى قيام لوثيروس بعد حين، وكان سبب ثورته - كما قال العلامة جول سيمون في كتابه حرية الضمير - أن البابا أراد إنجاز كنيسة القديس بطرس في رومية، فنضب المال لديه، وعقد النية على بيع الغفران، فوزع عمالات العالم النصراني على بعض حاشيته، فجبوا جزءا من المال المفروض، وباعوا مجموع الريع من جباة متعهدين، ووقعت سكسونيا وجزء من ألمانيا في نصيب أخت البابا، فعهد إلى رهبنة الدومينيكيين أن يبشروا بالغفران لتثمير هذه التجارة، فاغتاظ لوثيروس من هذا الحيف، وكان صاحب إحساس وشرف، وطفق يثير الناس على الدومينيكيين لتعلقهم بخدمة صراف في عمل غير شريف، وأخذ يبحث عن معنى هذه التجارة، وعن قيمة هذا الإنعام في العالم الثاني، يبيعه البابا في الدنيا مقابل أسناد وسفاتج تدفع للجباة ووكلائهم، وحاولت الكنيسة الرومانية أن تدعو إلى نصرتها جميع الأمراء فلم تفلح، وكان من ذلك الإصلاح الديني المعروف، وتلك المذابح الدينية في معظم البلاد، على صورة لم يسبق لها نظير في الغرب ولا في الشرق، قال: وكان الباباوات مزجوا السلطة الروحية بالسلطة السياسية، وإن لم يخضع لهم جماع الأمراء والقياصرة المجاورين ممن دانوا بدينهم، وانتهت بهم الحال أن ادعوا العصمة واستهووا رعاياهم، وتصدى كثير من المصلحين قبل قيام لوثيروس وخلعه طاعة البابا لإصلاح الحال، فأميتت عقولهم، كما قام كثيرون قبل جاليله وديكارت، وكم من قرائح ضاعت، ومن أعمال علمية بارت، ومن بلغاء خابوا وما أسمعوا أصواتهم، ومن دهاة عجزوا وتضاءلوا! فالغربيون إذن أفادتهم حروب الصليب تنفيس خناق العلماء، والأخذ بالمخنق من بعض المتعصبين من الدينيين.
Unknown page
أما المسلمون فاستفادوا من الغربيين طريقة أخذ الأخبار من مصادرها، وكان الصليبيون في بدء الحرب الصليبية لا تخفى عليهم خافية من حال أعدائهم، فأتقن المسلمون بعد ذلك صناعة الاستخبارات بواسطة أصحاب البرد والأخبار، على ما كان الرسم في بعض الدول العربية السالفة، وعرف المسلمون أن الإفرنج أمم كثيرة العدد، أصحاب شدة لا يستهان بهم، ولو كانوا عرفوهم من قبل حق المعرفة، لعقدوا معهم معاهدات ومنحوهم امتيازات؛ أزالوا بذلك أسباب الشكوى التي اختلقت لإشهار هذه الحرب الزبون، ولما خربت الشام وهلك مئات الألوف من المسلمين عربهم وتركهم وكردهم، ومثلهم أو أكثر من حملة الصليب.
وعلمت هذه الحرب المسلمين أن حياتهم بالتضامن والانكماش، وكانوا قبلها متفاشلين متخاذلين، يعبث بعض الملوك بكيانهم، ويصرفونهم على هواهم لأغراضهم ومصالحهم. فما ارتضى الناس في هذا الدور من أرباب صناعة الملك إلا أن يكونوا جد كفاة لتولي رقاب الناس، ولقنت الحرب أهل الإسلام معنى الجامعة الدينية، وما يتوقع من أثرها في جهاد العدو ودفع صائله، وكانت العصبية العربية قد أصيبت بالضعف فحلت العصبية الدينية محلها، وبهذه الحروب المنوعة الأشكال والأجيال ظهر نبوغ المسلمين في الحرب والإدارة وظهر فيهم رجال كانوا في أخلاقهم ومضائهم على مثال أهل الصدر الأول من العرب وإن كانوا من أصول أعجمية.
قلنا إن الصليبيين خالطوا المسلمين، ومنهم تعلموا حياة الرفاهية وزهدوا في التبدي، وعرفوا أن البادية لا تقوم لها قائمة أمام الحضارة، وكان بعض شعوبهم استفادوا بملابستهم العرب في صقلية والأندلس، أما اختلاط الإفرنج في الحروب الصليبية فاستفاد منه خاصة الغربيين وعامتهم، ومن جملة ما استفادوه عادات شرقية كثيرة؛ ومنها الاستحمام والألبسة المسترسلة الفضفاضة، ونظموا فرسانا على الطريقة الإسلامية، ومنهم من تعلموا اللغة العربية وأتقنوها واقتبسوا من عادات المسلمين ما استحسنوه. قال لبون: إن النضال الذي ناضله الصليبيون في حملاتهم الأولى كان نضال عالم لم يزل على توحشه مع مدنية من أرقى المدنيات التي حفظ التاريخ ذكرها، واشتد ولوع الصليبيين بالزراعة والتجارة، وعرفوا أن في بلاد الشرق صنائع أرقى من صناعاتهم وزراعة ناجحة، وتجارات رابحة، ورقة شعور وعاطفة شريفة وتسامحا غريبا، فربطوا مع الشرق صلات تجارية نافعة.
ورأى الصليبيون في الشرق عناية المسلمين بالكتب، فطرسوا على آثارهم في اقتنائها ووضعها في بيوت ورفوف، وقيل إن سان لوي ملك فرنسا هو أول غربي حدثته نفسه بجمع الكتب ووضعها في خزائن على مثال ما رأى في مصر وتونس، ومن الصليبيين من أخذوا كتبا من الشام ومصر على أنها غريبة من الغرائب، ولما لم يكونوا على شيء من العلم أحرقوا خزانة بني عمار في طرابلس على أنها مصاحف قرآن، ولما نادى منادي النهضة في إيطاليا صحت همة الباباوات في القرن السادس عشر على اقتناء كتب العرب؛ فندبوا لذلك جماعة من رهبان الموارنة، فحملوا إليهم من أديار لبنان وغيرها ما كان فيها من كتب العلم والدين، وأخذت حكومات جرمانيا وهولاندا وإنجلترا وفرنسا وروسيا تجمع منذ القرن السابع عشر كتبا تبتاعها من البلاد الإسلامية بواسطة وكلائها وسفرائها وقناصلها والأساقفة والمبشرين من رجال الدين، وأخذ الأفراد من أبناء الغرب يحلون بعض رموزها أولا، ثم رتبوها في خزائن في دور كتبهم العامة للاستفادة، وكانت إسبانيا والبرتقال من أزهد الأمم في هذه الكتب العربية، أما إسبانيا فقد بقيت خمسين سنة بعد جلاء العرب عنها تحرق الكتب العربية حيث وجدتها من شبه جزيرة إيبريا ، وقد أحرق الكردينال كسيمينس في يوم واحد في ساحات غرناطة ثمانين ألف مجلد من كتب العرب ، وكان في الأندلس سبعون خزانة عامة للكتب ماعدا خزائن الأفراد، ولم تقم في البرتقال للمشرقيات العربية سوق حتى الآن، وليس عندها من الكتب العربية ما يذكر، هذا مع ارتباط جزء من تاريخها بتاريخ العرب، ولما نقلت بعض الكتب العربية إلى بعض اللغات الأوروبية، استفاد الغربيون منها فوائد جلى، واستفاد المسلمون تصحيح الأحكام القاسية التي كان يحكمها رجال الكنيسة عليهم وعلى دينهم.
ومن الفوائد التي عادت على أوروبا بالخير من الحروب الصليبية تحرير أصحاب الأرضين من رق الزعماء والأمراء، وانتقال الثروة من أيدي هؤلاء إلى أرباب الطبقات الوسطى والدنيا، فباع من باع من الكبراء ملكه، وابتاع من عمل بأرضه ومتجره وصناعته، فاغتنى واقتنى الرباع والضياع، واضطر سادة القرون الوسطى أن ينفسوا من خناق عبيدهم في أرضهم، وأن يبطلوا قانونهم البشع الذي يخول السيد في مقاطعته أن يقضي مع امرأة خادمه وعبده الليلة الأولى من عرسها، ويسمون ذلك حق التفخيذ
Droit de cuissage
ثم اكتفى السادة أصحاب الإقطاعات بأن يضعوا سوقهم في فراش عروس مقطعيهم ورقيقهم
Droit de jambage
إشارة إلى ما كان لهم من حق التفخيذ وأعفوا منه، ثم استعيض عن ذلك بضريبة وضعت على الزواج، ومنها تقوية السلطة المدنية ووهن السلطة الباباوية وضعف تأثيرات التعصب الأعمى، واضطرت الكنيسة الرومانية نفسها إلى إصلاح حالها، وكان بعض الباباوات يأتون الفترة بعد الفترة بما يخدمون به المدنية والعلم كالبابا ليون العاشر في القرن الثالث عشر، وهو من أسرة ميديسيس المشهورة بأفضالها على العلم والأدب؛ فإنه وسع نطاق الآداب، وبث العلم حتى عد عصره العصر الذهبي، وشابه عصر أغسطس من أكثر الوجوه، ودخل أيضا تعديل كبير على نظام الإقطاعات، واغتنت إيطاليا من متاجرها؛ فكان ذلك من بعض العوامل في ظهور شعلة النهضة الغربية منها بعد حين. وكانت إيطاليا في القرون الوسطى أكثر مدنية من جيرانها، وكذلك كانت بلاد القاع في الشمال، وشعر الناس بلزوم السير على فكرة أوروبية، وكانوا من قبل ممزقين مشتتين، وشهدوا في الشرق أنه كان من عدم الوحدة في قيادة جيوشهم إخفاق أمرهم، وكانوا من قبل لا يتضامنون ولا يتراحمون. •••
مضت على البشر عشرة قرون، وتاريخ اليونان هو تاريخ العالم، والمفكرون والعقلاء والأدباء والعلماء من أبنائهم، ثم نامت العقول عقبى قيام العرب، وأتم هؤلاء ما بدأ به اليونان من علم وصناعة واستعمار، فخلفوهم في ذلك وبذوهم في بعض المظاهر، ولما ضعف حكم العرب في الأندلس وشمالي إفريقية، بل في مصر والشام والعراق وما إليها، وأخذ سلطان العثمانيين يقوى في الجنوب الشرقي من أوروبا؛ قام البرتقاليون النازلون على شواطئ بحر الظلمات يلوبون على المال والمجد، وصادف أن قام منهم جماعة من الملاحين الأذكياء، وفي مقدمتهم فاسكو دي جاما، فاصطنعوا لهم أساطيل لم تلبث أن تفوقت على ما كان من نوعها عند الأمم الغربية الأخرى، وكشفوا على عهد الأمير هنري بن الملك جوان الأول البرتقالي في النصف الأول من القرن الخامس عشر طريق الهند بالطواف حول إفريقية الغربية والشرقية.
Unknown page
وكان هذا الأمير البرتقالي عالما باحثا انقطع إليه بعض علماء اليهود وعلماء من المسلمين من أهل فارس ومراكش المغاربة، كانوا يعدون لذاك العهد من أرقى علماء العالم، وأخذوا ينقبون في كتب العرب وغيرهم في علم الجغرافيا، حتى عرفوا أن في الإمكان الدوران حول إفريقية، وألفت البرتقال حملاتها البحرية بمعاونة ملاحين من العرب، ومنهم ابن ماجد البصري، والقواد من النصارى أمثال فاسكو دي جاما والبوكرك وماجللان، فنجحت أسفارهم البحرية وكانوا من قبل استولوا على معظم شواطئ الغرب الأقصى، وما زالوا يفتحون في طريقهم إلى رأس الرجاء الصالح المواني البحرية، وفتحوا ممبسة وزنجبار وموسامبيق وملندة وغيرها حتى وصلوا إلى مليبار، واتصلوا بجزائر الأبازير في الهند، وصار بحر الهند والصين تحت سلطانهم، لا شيء غير تجارتهم تنقل على سفنهم، ولا يستطيع إنسان أن يتجر بدون أمنهم وجوازهم، وذلك في الأصناف التي لا يريدون هم أن يتجروا بها لقلة الانتفاع بأرباحها الضئيلة، وهذا كان مبدأ اختلاط الغربيين بالشرقيين، ولا سيما بالعرب في مطلع القرون الحديثة، والحاصلات التي اهتم لها البرتقاليون بادئ بدء لاستبضاعها من الشرق الفلفل والقرنفل والزنجبيل والقرفة والبسباس، وأكثر ما كان البرتقاليون يهمهم أن يضربوا في تلك الأصقاع على أيدي تجار العرب؛ لأنهم كانوا مستأثرين بالتجارة أكثر من غيرهم من العناصر، على ما روى ذلك الشيخ زين الدين في كتابه «تحفة المجاهدين في بعض أحوال البرتكاليين».
وأدرك البنادقة، وكانوا سادة التجارة في البحر المتوسط، عظم الخطر على تجارتهم، فحثوا السلطان الغوري من سلاطين المماليك في مصر والشام على حرب البرتقاليين في البحر الأحمر والمحيط الهندي؛ لينقذوا تجارتهم وتجارة مصر معا، وأرسل البنادقة الأخشاب تنقل من بلاد البنادقة في المراكب إلى الإسكندرية، ومنها على متون الجمال إلى السويس، ويتولى صنعها أناس من البنادقة حتى تستوي سفنا صالحة، وحارب المصريون جماعات البرتقاليين ومعهم أناس من البنادقة والجنويين والبيزيين من الطليان ممن كان استعمارهم في شواطئ البحر الرومي استعمار استثمار كالاستعمار الفينيقي والقرطاجني، أما استعمار البرتقاليين والإسبانيين ثم الهولانديين والبريطانيين والروسيين والفرنسيس والبلجيكيين فكان كالاستعمار الروماني واليوناني عبارة عن فتح واستيلاء واستيطان وامتلاك المتاجر والزراعات، ونشر لغة وعادات، وبث مذاهب وتعاليم.
كانت التجارة في كل دور من أدوار حضارة البشر تشغل بال الأمم وتعنى برواجها الحكومات، تسلك إليها كل سبيل؛ فقد كانت تجارة الشرق والغرب منحصرة بادئ بدء بآسيا الصغرى في الأصقاع الممتدة بين البحر المتوسط من الغرب، وسهول أرمينية من الشمال، وسفوح جبال إيران من الشرق، والخليج الفارسي وشبه جزيرة العرب من الجنوب، وكانت آشور مخزن محاصيل تلك البقاع لموقعها الجغرافي، وكانت المدينتان العظيمتان، نينوى على دجلة وبابل على الفرات، تتوليان كبر التجارات الصادرة والواردة.
ولما هب العرب للاستعمار أظهروا لينا وسماحة مع الأمم كلها، واستعمارهم أشبه بالاستعمار الروماني واليوناني، وما لبثوا أن منحوا ملاحين من الطليان امتيازا بالاتجار أحرارا في شواطئ بلاد المغرب؛ فكانت تباع في إفريقية منسوجات نابل، ثم تحولت تجارة الهند عن طريق بغداد، وأنشأت تسير توا إلى البحر الأحمر، وأصبحت مواني المغرب مراكز للملاحة بين مصر وإسبانيا، ولم يحدث من الحروب الصليبية غير اضطراب خفيف في العلائق التجارية، فأورثت التجارة الأوروبية نهضة جديدة أطلعت الغربيين في الشرق على طرق لم يكونوا يعرفونها، وعقد شارل السادس محالفة تجارية مع تيمورلنك التتري، وعقد شارل السابع محالفة تجارية مع سلطان مصر وملوك قرمان وتونس وبجاية وفاس ووهران.
وكانت مراكب بارة (باري) تسافر إلى مواني الشام قبل الحرب الصليبية، وقد عقد أمراء سالرن ونابل وجايت وأمالفي في سنة 875م معاهدة مع العرب، كما عقد صلاح الدين وجمهورية بيزا معاهدة سنة 569 / 1172 منح بها البيزانيين عدة امتيازات خاصة بالتقاضي، وحصل الفلورنتيون أهل فلورنسة من قايتباي سلطان مصر والشام على عدة امتيازات؛ وكانت هاتان المعاهدتان من أوائل ما منحه الأوروبيون من الامتيازات الأجنبية في الشرق، وعقدت عدة معاهدات مع الملك الأشرف والصليبيين (684ه) والريدراغون صاحب برشلونة 692، وفي كتاب الشروط والعقود السياسية بين ملوك بيسه (بيزا) وفلورنته (فلورنسة) وبين ملوك المسلمين في تونس والمغرب الأقصى؛ إن هذه المعاهدات بدأت من منتصف السادس من الهجرة وكان آخرها في سنة عشر وتسعمائة، وملك أزمة التجارة مع الطليان الكتالانيون والبروفانسيون والقبرسيون والرودسيون، وكثر قناصل الدول التجارية من أهل الغرب في مدن الشرق، وكثر الاتجار بالرقيق، وكان جميع أمم الأرض تتجر بهذه التجارة الممقوتة، يستخدمون من يسترقونهم آلات للعمل ويمنعون عنهم في دولة الرومان تعلم القراءة والكتابة، ولم يكن هذا الصنف المغموط الحق يعامل معاملة حسنة في الدول الأوروبية الحديثة. يقول هيد: وقد حدا حب الربح تجارا من النصارى أن يبيعوا أبناء دينهم بيع الرقيق من عرب إسبانيا وإفريقية والشام، فاتخذ شارلمان والبابا زكريا وأدريانوس الأول الأسباب لمنع هذه التجارة غير المحللة.
قام الإسبان ثم الهولانديون يستعمرون بعد البرتقاليين إلا أنهم لم يستعمروا بلاد العرب، بل وجهوا وجوههم إلى أمريكا الجنوبية وسواحل الهند وجزائر جاوة وصومطرا، ثم قام الفرنسيس والإنجليز بعد ذلك فوجهوا وجهتهم إلى الشرق، وكان أول من وصل من الغربيين إلى الشرق العربي جيش نابوليون يفتح مصر في سنة 1798؛ فاختلط الفرنسيس بالمصريين والمصريون بالفرنسيس، وكان هؤلاء لم يهبطوا مصر منذ أسر ملكهم سان لوي في الحملة الصليبية السابعة في وقعة دمياط والمنصورة، وقيد وحبس في دار كاتب الإنشاء فخر الدين بن لقمان ووكل به الطواشي صبيح المعظمي (648ه) ثم افتدى نفسه بثمانمائة ألف دينار وعاد إلى بلاده، فبلغ أمراء مصر أنه أخذ في الاستعداد ليعود فيملك دمياط، فكتب إليه الوزير جمال الدين بن مطروح أبياتا تنم عن روح العصر وهي قوله:
قل للفرنسيس إذا جئته
مقال صدق من قئول فصيح
آجرك الله على ما جرى
أفنيت عباد يسوع المسيح
Unknown page
أتيت مصرا تبتغي ملكها
تحسب أن الزمر يا طبل ريح
فساقك الحين إلى أدهم
ضاق به عن ناظريك الفسيح
وكل أصحابك أودعتهم
بحسن تدبيرك بطن الضريح
خمسون ألفا لا ترى منهم
غير قتيل أو أسير جريح
وفقك الله لأمثالها
لعل عيسى منكم يستريح
Unknown page
إن كان باباكم بذا راضيا
فرب غش قد أتى من نصيح
فقل لهم إن أضمروا عودة
لأخذ ثأر أو لقصد صحيح
دار ابن لقمان على حالها
والقيد باق والطواشي فصيح
من رجال العرب الذين كان لهم الأثر المحمود في الأخذ من الحضارة الغربية، الأمير فخر الدين المعني الثاني أمير لبنان الذي لم تنبغ الشام مثله منذ قتل مسلم بن قريش آخر ملوك العرب في الشام سنة 478ه، وكان بعيد النظر واسع الحيلة يطمح إلى إقامة ملك له؛ فامتد سلطانه أوائل القرن الحادي عشر من الهجرة إلى أنحاء فلسطين، وملك الساحل الشامي حتى أنطاكية، واستولى على عدة حصون وقلاع، وخافته الدولة العثمانية فأرسلت عليه حملتين كسر الأولى منهما، ثم أرسلت عليه الثانية فهرب إلى إيطاليا، وعهد بالإمارة إلى ابنه، وكان منه مدة إمارته أن هيأ السبيل للإفرنج بغشيان الديار الشامية، والاستزادة من متاجرهم مع أهل الساحل، وتكثير سوادهم في المدن والمواني، وأذن لهم بإنشاء قنصليات، وأنشأ خانا كبيرا لتجارهم في صيدا، وعمر مدينة بيروت وأقام حديقة حيوانات فيها، وفي أيامه دخلت جماعات المرسلين والمبشرين إلى لبنان حرة طليقة.
أقام الأمير المعني في إيطاليا أزيد من خمس سنين تعرف خلالها إلى ملوك طسقانة من آل ميديسيس في فلورنسه، وحالف كوسموس الثاني كبير دوجات طسقانه، وكان استقبله في ليفورنا باحتفال عظيم، وعقد مع فرديناند الأول كبير دوجات طسقانه أيضا محالفة في سنة 1017ه/1608م، وكان استظهر بأسطول فرديناند الطسقاني لاتقاء الأسطول العثماني في ساحل الشام. وقد قلد الأمير اللبناني أمراء آل ميديسيس في مدينتهم ونقل منها إلى بلاده ما أمكنه نقله، وصف مؤرخه الصفدي عمران إيطاليا وعادات الطليان وتراتيب حكوماتهم معجبا بها، وكان الأمير معجبا بها أيضا، وعرف الأمير بأنه كان متدينا غير متعصب، أخذ معه إمامه وبنى في البلدة التي أقام فيها جامعا يصلي فيه وبنى مئذنة، وماتت له ابنة هناك فأبقاها حتى عاد إلى لبنان ودفنها في ربوعه، وعرض عليه ملك إسبانيا أن يدين بالنصرانية ويتولى مملكة عظيمة أعظم من مملكته فاعتذر بلطف.
وهذا الأمير هو أول أمير عربي انتبه لتفوق الحضارة الغربية الحديثة على الحضارة العربية الأخيرة، وكانت هذه انحطت وإيطاليا أخذت تنهض لتلقف المعارف وإحياء الفنون الجميلة من تصوير ونقش وبناء وشعر وفلسفة، والممالك المجاورة لها تهب إلى العلى، وتخلع ثياب الخمول الماضي، ولو وفق الأمير فخر الدين المعني لغير التاريخ العربي؛ لما كان عليه من الاستعداد العظيم لإدارة الملك والذكاء النادر في الأخذ من الأمم الأخرى ما ينقص بلاده من أسباب المدنية، فقتلته الدولة العثمانية بأخرة في الأستانة 1635م وقبره لا يزال فيها، كما قتلت معظم أولاده إلا واحدا، وقتلت أخاه وأولاده إلا واحدا منهم.
وبدأ تمازج الحضارتين العربية والغربية تمازجا فعليا بكل ما في التمازج من معنى منذ استولت فرنسا على الجزائر، ثم باحتلال إنجلترا مصر، ثم باستيلاء فرنسا على تونس واستيلاء إيطاليا على ليبيا واقتسام مراكش بين فرنسا وإسبانيا، فإن هذا الاستعمار عرف الشعوب بعضها إلى بعض، وأصبح السلطان للمدنية الراقية على شمالي إفريقية ومصر، وكانت من قبل تشكو سوء إدارتها، فانتظمت أحوالها بالنظم الجديدة على طرائق الغربيين في بلادهم، وكانت المنافسة بين الدول المستعمرة الحديثة على التجارة بالرقيق وعلى الأبازير والجواهر أولا، ثم أصبحت المنافسة بينهم على اليابسة والبحر وعلى الجو وعلى ما في بطن الأرض من المعادن.
Unknown page
واشتدت الدول المستعمرة في تلقين مناحيها ولغتها وأصولها للأمم التي غلبتها على أمرها على اختلاف طرائق استعمارها، وتمازج الغربي بالشرقي في الأرض العربية، وصارت كل دولة غربية تصدر عن رأي نظارة مستعمراتها ونظارة خارجيتها في معاملة البلاد المستعمرة أو المحتلة، بطريقة من طرق التدخل، وانتشرت الفرنسية والإيطالية والإسبانية والإنجليزية في الأقطار العربية، وحذقها أفراد من العرب حذق أهلها لها، وانتشرت أساليب تفكير الأمم وأنظمتهم المدنية والتجارية والزراعية، وبها عرف العرب العالم، وكانوا غفلوا عن التعرف إليه قرونا، وأدركوا أن من ذرائع نجاحهم في العلم والتجارة والسياسة إتقان إحدى اللغات الحية الكبرى، وكثر اختلاط أهل البلاد بجماعات من تجار المستعمرين من الغربيين ومعلميهم ومبشريهم ودعاتهم وأرباب الصحافة منهم، وكانوا قبل ذلك لا يعرف فريق عن فريق إلا ما لا بال له.
واقترب الناس بعضهم من بعض في البلاد التي اختلطت بالأجانب، وزالت تلك الجفوة القديمة بين العرب والإفرنج، وتقاربت العقليتان الشرقية والغربية، وسرت عادات الغالبين وأخلاقهم وتراتيبهم إلى المغلوبين وقلدوهم في كثير من أوضاعهم وأزيائهم، وزالت الفروق التي كانت ظاهرة كل الظهور منذ قرن بين المتحضر الحديث والمتحضر القديم، وتمثلت الطبقة الأولى ما يقربها من الطبقة التي على شاكلتها عند الأمم الغربية، وكان حظ التونسيين والمصريين والشاميين أجزل من حظ غيرهم في هذا الشأن، والسبب فيه أن بلادهم عامرة وقد تأصلت فيها الحضارة العربية وتسلسلت دهرا طويلا؛ ولأن في أرض الشام معهد النصرانية واليهودية ومنها نشأ المسيح وموسى وكثير من الأنبياء؛ ولأن آثار الفراعنة والرومان واليونان في مصر والشام تغري السائحين والعلماء بنزولها للزيارة والبحث، وسنعرض لذلك بتوسع أكثر في بعض المحاضرات المقبلة.
ورجاء كل عاقل أن ينتج من هذا التعارف بين الشرق والغرب تعاطف جميل يكون فيه حظ الأثرة والعدوان أقل من القليل، يحترم فيه الضعيف القوي ويرحم القوي الضعيف، فتكون حضارة كل أمة شرقية مشابهة من بعض الوجوه لحضارة الأمة التي تأخذ عنها من أمم الغرب، على أن يحتفظ المتأخر أمام المتقدم بعاداته وأخلاقه، فمبتدعات المدنية وقف على كل أمة تريدها، وليس في حسناتها ما يضر، بل الضرر كل الضرر ما يأتي من الوقوف والجمود، وما وقفت أمة إلا تراجعت ولا جمدت إلا هلكت، سنة الله في خلقه.
أثر علوم العرب وفنونهم وما كشفوه واخترعوه
يدين العرب لكثير من خلفائهم وأمرائهم بالأخذ من المدنية الفارسية والهندية واليونانية، وممن كان لهم الفضل الأول في ذلك عمر بن عبد العزيز والمنصور والرشيد والمأمون وخالد بن يزيد وأولاد موسى بن شاكر وضرباؤهم، وما عتم العرب بعد أن كانوا تلاميذ الأقدمين أن أصبحوا أساتيذ في كل الفنون التي وجهوا إليها قواهم العقلية، وزادوا فيها أو هذبوا ورتبوا في أصولها وذيولها، ومن أول ما فكروا فيه علوم الفلك وتقويم البلدان والرياضيات والطب، وجاءت الفلسفة بعد ذلك وما أفلحوا فيها كثيرا.
وفي التاريخ العام، ولا يسع المنصف أن ينكر أن قسط العرب من العلوم كان أعظم من قسط غيرهم؛ فلم يكونوا واسطة نقلت إلى الشعوب الجاهلة في إفريقية وآسيا وأوروبا اللاتينية معارف الشرق الأدنى والأقصى وصنائعه واختراعاته، بل أحسنوا استخدام المواد المبعثرة التي كانوا يلتقطونها من كل مكان، ومن مجموع هذه المواد المختلفة التي صبت وتمازجت تمازجا متجانسا، أبدعوا مدنية حية مطبوعة بطابع قرائحهم وعقولهم، وهي ذات وحدة خاصة وصفات فائقة. وقال العلامة درابر: «من موجب الأسف أن الأدب الأوروبي حاول أن ينسينا واجباتنا العلمية نحو المسلمين، فقد حان الوقت الذي ينبغي لنا أن نعرفهم، فإن قلة الإنصاف المبنية على الأحقاد الدينية، وعلى العنجهية القومية، لا تدوم أبد الدهر.»
يقول لبون: «إن تحمس المسلمين في دراسة الحضارة اليونانية واللاتينية مدهشة حقيقة، وقد ضاهت العرب شعوب كثيرة، وربما لم يقم من الشعوب من تقدمهم في هذه السبيل.» وقال توفنر: «إن أوروبا قضت قرونا حتى بلغت الغاية التي وصل إليها عرب إسبانيا في قرن واحد.» وذكر بريس دافن أنه بعد سقوط الدولة الرومانية لم يكن في الأرض شعب يستحق أن يعرف غير الشعب العربي؛ وذلك لكثرة فحول الرجال الذين نشئوا منه، ولما أحدثته فنون هذا الشعب وعلومه من التقدم العجيب في العالم قرونا عديدة، لا جرم أن العرب عرفوا صنائع السلم كما عرفوا صناعة الحرب وخاضوا عباب كل علم وفن بحسب ما ساعدهم محيطهم وبيئتهم.
قلنا إن من أول العلوم التي عانوها علم الأفلاك لعلاقتها بالصلوات؛ وذلك لأنه كان من المألوف عندهم وعند غيرهم في تلك العصور أخذ الطالع من الكواكب، ونشأ علم الفلك عند العرب من توسع الرياضيين في الحساب؛ لأنهم اخترعوا أساس حساب المثلثات، وحقق العرب طول محيط الأرض بما كان لهم من الأدوات، وأخذوا ارتفاع القطب ودور كرة الأرض المحيطة بالبر والبحر، وحققوا طول البحر المتوسط الذي قدره بطليموس ب «12» درجة، فأرجعوه إلى «54» أولا ثم إلى «42»؛ أي إلى الصحيح من مقداره تقريبا، فقالوا بكروية الأرض منذ أول سلطانهم، وجمع المأمون بعض حكماء عصره على صنعة الصورة التي نسبت إليه، ودعيت الصورة المأمونية، صوروا فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره وعامره وغامره ومساكن الأمم والمدن إلى غير ذلك، وهي أحسن مما تقدمها من جغرافيا بطليموس وجغرافيا مارينوس، ووضع له علماء رسم الأرض - وكانوا سبعين رجلا من فلاسفة العراق - كتابا في الجغرافيا أعان عمال الدولة على معرفة البلاد والأمم التي أظلتها الراية العباسية، والفزاري أول من استعمل الإسطرلاب من العرب، وهو فلكي المأمون، وأقاموا المراصد الفلكية في بغداد والرقة ودمشق والقاهرة وسمرقند وقرطبة وفاس، ونظروا في المجسطي لبطليموس في الفلك.
ويقول العلامة غوتيه إن الشريف الإدريسي الجغرافي كان أستاذ الجغرافيا الذي علم أوروبا هذا العلم لا بطليموس، ودام معلما لها مدة ثلاثة قرون، ولم يكن لأوروبا مصور للعالم إلا ما رسمه الإدريسي، وهو خلاصة علوم العرب في هذا الفن، ولم يقع الإدريسي في الأغلاط التي وقع فيها بطليموس في هذا الباب، ووصل علماء الجغرافيا منهم إلى بلاد لم تطأها من قبل غير أقدامهم وحوافر قوافلهم في آسيا وإفريقية. ولا تزال بقايا تلك الكتب، وأكثرها مما طبعه الغربيون وتنافسوا في الأخذ منه، شاهدة على تلك الهمة الشماء والعلم الغزير المنقح وأنهم كانوا في فن الجغرافيا مبتدعين لا متبعين، وأن كثيرين من علماء الجغرافيا فيهم طافوا العالم قبل أن يدونوا كتبهم فوضعوا ما وضعوا عن عيان ومشاهدة.
ولقد كشف العرب منابع النيل قبل أن يتصدى الإفرنج لها، وقام في أذهانهم أن في الأرض أقطارا لم تعرف حتى قال أحد عارفيهم قبل كولمبس بقرن ونصف: «لا أمنع أن يكون ما انكشف عنه الماء من الأرض من جهتنا منكشفا من الجهة الأخرى، وإذا لم أمنع أن يكون منكشفا من تلك الجهة لا أمنع أن يكون به من الحيوان والنبات والمعادن مثل ما عندنا أو من أنواع وأجناس أخرى.»
Unknown page
وضرب العرب في مجاهل الأرض ومعالمها يتجرون ويبحثون على ما لم يسبق لغيرهم من الأمم، وكثيرا ما كان ينتهي بعض المولعين بالمطوحات من أرباب الرحلات من الإفرنج إلى أماكن منزوية عن العالم في إفريقية وآسيا، ثم لا يلبثون أن يروا العرب قد سبقوهم إليها منذ قرون ونشروا بين أهلها دينهم ولسانهم وأنشئوا فيها إمارات صغيرة ساروا فيها على آيينهم وأوضاعهم.
وكانوا كلما نزلوا أرضا أنشئوا فيها المساكن، بل أقاموا المدن وهندسوها، ومن المدن التي أنشئوها في الشرق والغرب ما أصبح في قليل من الزمن أشبه بالعواصم الكبرى، وكانوا إذا اضطروا إلى الغارة على مقاطعة وأكرهتهم الحرب على أن يخربوا بعض عمرانها لدواع حربية لا تمضي أعوام قليلة حتى يعيدوها جنات غناء بما فطروا عليه من بعد الهمة وسعة الفضل، ويتعمدون أن يكون ما يعمرون من الأبنية الخالدة لا الموقتة.
وسبقت العرب إلى اختراع طريقة الكتابة بالحروف البارزة الخاصة بالعميان، اخترعها زين الدين الآمدي (712ه/1312م) وكان قد فقد بصره في أول عمره، فكان كلما اشترى كتابا لخزانته لف ورقة على شكل حرف من الحروف ولصقها في الكتاب، وكانت هذه الحروف هي التي يستعين بها على معرفة ثمن الكتاب.
هذا قول بعض العلماء، والصحيح أن الحروف البارزة كانت معروفة عند العرب قبل هذا العصر بدليل قول أبي العلاء المعري:
كأن منجم الأقوام أعمى
لديه الصحف يقرؤها بلمس
وسبقت العرب الأوروبيين إلى الطيران، وقد حاوله عباس بن فرناس حكيم الأندلس، وهو أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من فك الموسيقى، ووضع الآلة المعروفة بالمثقال ليعرف بها الأوقات، ومثل في بيته السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها تمثيلا يخيل للناظر أنه حقيقة.
ويأخذ الإنسان العجب إذا قرأ في اللزوميات للمعري قوله:
إن لم يكن في سماء فوقنا بشر
فليس في الأرض أو ما تحتها ملك
Unknown page