وكان الرسول بعث إلى المقوقس أكبر عامل للروم من القبط كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، فتلطف في جوابه وأهدى إليه جارية قبطية اسمها مارية بنى بها صاحب الرسالة فولدت له ابنه إبراهيم وعدت من أمهات المؤمنين، ذكر عمرو بن العاص في إحدى خطبه قال: حدثنا عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله يقول: «إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرا فإن لهم منكم صهرا وذمة»، وفي رواية: «فاستوصوا بالقبطيين خيرا لأن لهم رحما وذمة.» ولطالما أوصى الرسول بأهل الذمة، وقال: «من آذى ذميا فأنا حجيجه، ومن قتل قتيلا من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة»، وقال: «من قتل نفسا معاهدة بغير حلها حرم الله عليه الجنة أن يشمها.» وجعلت الشريعة دية المعاهد كدية المسلم ألف دينار، ولطالما قتل المسلم بالذمي، ولطالما خان الروم وغيرهم عهد العرب، فقال المسلمون: «وفاء بغدر خير من غدر بغدر.» وقد حاسن المسلمون النصارى خاصة منذ انبعثت دعوتهم في جزيرة العرب؛ لأن نصارى نجران اليمن كانوا أول من أدى الجزية ولم يجلهم عمر عن أرضهم، ويوصي بهم أهل العراق والشام؛ إلا لما أكلوا الربا وكان شرط عليهم الامتناع عنه، أما اليهود فحاسنهم الرسول أيضا ولكنهم آذوه مرارا فأجلاهم في حياته من الحجاز إلى الشام، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: «أهل مصر أكرم الأعاجم كلها، وأسمحهم يدا، وأفضلهم عنصرا، وأقربهم رحما بالعرب عامة وبقريش خاصة.»
ورأينا الروم يصفون العرب بأنهم «فرسان في النهار رهبان في الليل، يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل دوي النحل، وهم آساد الناس لا يشبهون الأسود.» ولما عاد رسل المقوقس من عند عمرو بن العاص، قال لهم: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: «رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم.» وربما كان من أهم العوامل في فتح مصر كون العرب يمتازون بصفات لا مثيل لها في دولتي فارس والروم، ومنها صدق العزيمة وصحة الإيمان، وأنهم ما كانوا يفرقون بين الرفيع والوضيع والموافق والمخالف في تطبيق قانونهم، ويدينون بالطاعة لرؤسائهم ويصبرون ويصابرون ويبتعدون عن عيش البذخ والإسراف، ويعرفون الهدف الأسمى الذي يرمون إليه، ويستنبطون من أحوال الشعوب التي ينزلون عليها أكثر مما تعرف هذه الشعوب من أحوالهم.
وفي الحق، إن مصر كان لها موضع من نفوس العرب ويكفي أن يحببها إليهم ذكرها في الكتاب العزيز في أربعة وعشرين موضعا، منها ما هو بصريح اللفظ، ومنها ما دلت عليه القرائن والتفاسير، ولم يقع مثل هذا فيه لمصر من الأمصار، وما كانت مصر بالبلد الغريب كثيرا عن العرب عامة، فإن أجدادهم القدماء كانوا احتلوا أماكن منها وغزوها مددا متطاولة، وعثر المتأخرون في اللغة المصرية القديمة على ألوف من الألفاظ العربية، والغالب أن غزو العرب مصر كان أيام القحوط والجدوب التي طالما أصيبت بها بلاد العرب، فكانوا ينتجعون ما جاورهم من الأصقاع، فإذا تبرم بجوارهم أهلها غزوهم، ثم إن بلاد العرب تخرج أصنافا من الزراعة لا توجد في غيرها، وتجار العرب ينقلون تجارة أقطار الشرق إلى الشام ومصر وإفريقية، والعرب كسائر الساميين تجار أقحاح منذ عرف تاريخهم، والتاجر من شأنه التعرف إلى الناس والبلاد.
ويكتب أبو ميامين أسقف القبط بالإسكندرية إلى جماعته يعلمهم أنه لا يكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقي عمرو بن العاص، فيقال إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا، ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف، وكان عمرو لما نزل على بلبيس قتل بعض من كان بها وأسر جماعة وانهزم من بقي ووقعت في أسره ابنة المقوقس، فأرسلها إلى والدها مكرمة في جميع مالها، ولما نزل عمرو على القوم بعين شمس، قال أهل مصر لعاملهم: ما نريد إلى قوم فلوا جيوش كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم، صالح القوم واعتقد منهم ولا تعرض لهم ولا تعرضنا لهم، وأرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو: إني قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم معشر العرب؛ لفارس والروم، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علي ما أصبتم من سبايا أرضي فعلت، وكانت السبايا قد أرسلها عمرو إلى الحجاز واليمن، فردها الخليفة إلى قراها وصيرهم وجميع القبط على ذمة. والسبب في سبيهم أن أهل مصر كانوا أعوانا لعمرو بن العاص على أهل الإسكندرية إلا أهل بلهيب وخيس وسلطيس وسخا وغيرهم، فإنهم أعانوا الروم على المسلمين، وسباهم عمرو وخيرهم عمر بين الإسلام ودين قومهم، فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه فدخل كثير منهم في الإسلام.
وإذا عطف الفاتح على القبط للأسباب التي ذكرنا، فذلك لأن جمهورهم حاسنه وما خاشنه؛ ولذلك شاهدناه يضاعف الجزية على الروم الواغلين على البلاد، ويأخذ من القبط الجزية دينارين على كل حالم إلا أن يكون فقيرا، وقد أقر النصارى واليهود على ما بأيديهم من أرض مصر يعمرونها ويؤدون خراجها، وألزم كل ذي أرض مع الدينارين ثلاثة أرادب حنطة وقسطي زيت وقسطي عسل وقسطي خل، رزقا للمسلمين تجمع في دار الرزق وتقسم فيهم، وألزم لكل رجل جبة صوف وبرفسا أو عمامة وسراويل وخفين في كل عام، أو بدل الجبة الصوف ثوبا قبطيا. وما كان الخراج يجبى منهم إلا في إبانه، مخافة «أن يخرق الوالي بهم فيصيروا إلى بيع ما لا غنى لهم عنه.» ووقع بعد ذلك الدور بعض الحيف على من عاهدوا على حسن الطاعة وارتضوا بالجزية، ثم ما عتموا أن عمدوا إلى أساليب للتفلت من أدائها، كأن يدعي بعضهم أنه من رجال الدين يعتصم بالديرة والبيع، حتى اضطر عبد العزيز بن مروان أن يحصي الرهبان فأحصوا وأخذت الجزية عن كل راهب دينار، وهي أول جزية أخذت من الرهبان، ومنهم من كان يهجر بلده وينزل بلدا آخر، حتى اضطر الولاة بعد القرن الأول أن لا يجوزوا انتقال أحد من قريته وبلده إلا بجواز الحاكم، وانتقض بعضهم غير مرة مدفوعين بعوامل كثيرة، فما وسع الدولة إلا أن تردهم إلى الطاعة، والسبب في كل هذا - كما قال المؤرخون من غير المسلمين - أن المال كان عزيزا على قلوب أهل البلاد يستحلون لأجله ما ينكره دينهم عليهم، وهو القائل: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.»
وترك الفاتح القبط وشأنهم في كنائسهم وأديارهم، وأعاد إليهم ما كان أخذه الروم الملكيون منهم، وأطلق لهم الحرية في أن يبنوا منها ما طاب لهم، ولما هدم في القرن الثاني علي بن سليمان بعض الكنائس احتج موسى بن عيسى والي مصر من قبل الرشيد بأن هذه الكنائس مما بني في عهد الصحابة والتابعين، وأفتى الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة من أحبار الأمة بإرجاعها إلى سالف عهدها وقالا هي من عمارة البلاد، أما الأصنام والتماثيل فقد صدر أمر الخليفة في سنة 104ه بكسرها ومحوها في مصر؛ لأن دين التوحيد لا يحتمل شعار الوثنية، وقد جاء للقضاء عليها، وما يتناغى الروم بحبه لا يستلزم أن يشايعهم العرب عليه، وهو ليس من طبيعتهم ولا من أصل دينهم، والإسلام كما قال عمرو بن العاص يهدم ما كان قبله. قال هذا لما أبطل سنة المصريين في النيل، وكانوا يعتقدون أنه لا يجري إلا إذا ألقيت فيه كل سنة جارية بكر وزينت بأفضل ما يكون من الحلي والثياب، ولما استقر عمرو بن العاص على ولاية مصر كتب إليه عمر بن الخطاب أن صف لي مصر، فكتب إليه:
ورد كتاب أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - يسألني عن مصر. اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قرية غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجري فيه الزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر، له أوان يدر حلابه ويكثر فيه ذبابه، تمده عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا ما اصلخم عجاجه، وتعظمت أمواجه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلي بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن في المخايل ورق الأصائل، فإذا تكامل في زيادته، نكص علي عقبيه كأول ما بدأ في جريته، وطما في درته، فعند ذلك تخرج أهل ملة محقورة، وذمة مخفورة، يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب، لغيرهم ما سعوا من كدهم، فناله منهم بغير جدهم، فإذا أحدق الزرع وأشرق، سقاه الندى، وغذاه من تحته الثرى، فبينما مصر - يا أمير المؤمنين - لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء الذي يصلح هذه البلاد وينميها، ويقر قاطنيها فيها، ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها ، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل. ا.ه.
فلما ورد الكتاب على عمر قال: لله درك يا ابن العاص لقد وصفت لي خبرا كأني أشاهده. •••
الآن، وقد ألممنا إلمامة خفيفة بموضوع الفتح وصلات العرب بمصر ساغ لنا النظر في الثقافة التي حملها العرب الفاتحون إلى هذه الديار، وهي ثقافة دينية وأدبية معا، مازجتها بعد حين ثقافة علمية واجتماعية، كان أن خرج من مجموعها لون من ألوان الثقافة لا يشبه ما كان من نوعه في الأمم الأخرى، وانتهت بإعراب مصر وإسلامها، فقد كان من عمر بن الخطاب وهو في صدد الفتوح في الشرق والغرب أن لا يغفل عن إرسال البعوث الدينية إلى كل بلد أظلته الراية الإسلامية؛ يرسل الفقهاء والقراء والقصاص يفقهون المسلمين ويقرؤنهم ويقصون عليهم في كل ممسى ومصبح ما يرق قلوبهم، ويختارهم من أفقه الصحابة وأقرئهم وأبلغهم؛ ليتأدب العامة والخاصة بأدب الدين ويجمع المسلمون إلى فطرتهم الذكية معارف كسبية.
كان أول من قرأ القرآن بمصر ممن شهد فتحها أبو أمية المغافري، ومن فقهائها جبلة بن عمرو وعقبة بن الحارث الفهري وحيان بن أبي جبلة؛ ومن قضاتهم كعب بن يسار، كان قاضيا في الجاهلية، وهو أول من أسند إليه القضاء في مصر، وتولى بعد القضاء والقصص فيها سليم بن عتر التجيبي (39ه)، وهو أول من أسجل بمصر سجلا في المواريث، ومن حكماء الصحابة أبرهة بن شرحبيل، ومن فصحائهم أيمن بن خريم، وكان يسمى خليل الخلفاء لإعجابهم به وبحديثه لفصاحته وعلمه. أما الشعر فكثير من الصحابة ومن بعدهم كانوا يقرضونه بالفطرة، ويخطبون الخطب البليغة من دون ما تعمل ولا تكلف.
Unknown page