ولو تصفحنا الاتجاهات الثقافية في عصرنا الحاضر لتبين فيها دلائل كثيرة تشير إلى فتور جديد في الحماسة في المدنية الغربية؛ من ذلك إحياء العقيدة في فساد الطبيعة البشرية من قديم الزمان، والتنبؤ بانهيار الثقافة الغربية، بغض النظر عمن يكسب الحرب أو السلام، والبحث عن قيم تتجاوز اهتمام الإنسان، وتقديس «الزعيم» إلى درجة العبادة، وازدراء كل البرامج والفلسفات الاجتماعية، نظرا لفشل بعضها فشلا واضحا، والهجوم العنيف على حب الدنيا، والمناداة بتنمية الطهارة الروحية، والاهتمام بالألغاز أكثر من الاهتمام بالمشكلات، والاعتقاد بأن الأساطير والألغاز هي من أساليب المعرفة. وليس هذا إلا بعض الدلائل الثانوية على الفتور الجديد في حماسة الإنسان.
أما الدليل الأول على الفتور الجديد في الحماسة فينحصر في النظرة التي تصاحب كل الحركات والآراء التي ذكرناها آنفا، وكثير غيرها كذلك. وهو يتبين في فقدان الثقة في الطريقة العلمية كما يتبين في البحث بمختلف الصور عن «المعرفة» و«الحق»، بوسيلة تختلف كل الاختلاف عن تلك الوسائل التي ينتهجها البحث العلمي. وكثيرا ما تكون هذه الحقائق المختلفة الفذة - دون اعتبار كبير لمراعاة المنطق - «أسمى» من تنوع العلم الذي يبهر الأبصار ومما يكتسبه الإنسان بالحس السليم. وكثيرا ما نخفي عدم الثقة في الطريقة العلمية بقولنا إن العلم - بطبيعته - له نوع من الصحة في ميدانه الخاص ومجاله المعين، وإن مزاعم الفلسفة العلمية وحدها - المذهب الطبيعي، والمذهب التجريبي، والمذهب الوضعي - هي التي توضع موضع النقد. وبالرغم من ذلك، فإن أمثال هؤلاء النقاد لا يتجهون نحو الطرائق الفعلية للبحث العلمي بغية تصحيح هذه العبارة أو تلك من الفلسفة العلمية، إنما يتجهون نحو طريقة أخرى تمدنا بمعرفة ما يجاوز قدرة الطريقة العلمية، وهم يزعمون بين الحين والحين في جرأة وشجاعة أن طريقتهم التي يبشرون بها تمدنا بمعرفة أكمل وأصح حتى عن الموضوعات التي تعالجها العلوم. أي بيان في ذلك أبلغ مما تتضمنه عبارة رينولد نيبور التي يقول فيها «إن العلم الذي ينحصر في العلم لا يمكن أن يتصف بالدقة العلمية»؟!
وفقدان الثقة في الطريقة العلمية يتحول إلى عداوة صريحة كلما طالبت إحدى الحقائق «الخاصة» المتميزة بإعفائها من المعايير الموضوعة لحماية العقل من الأوهام. وهذه الدعاوى بطلب الإعفاء تتخذ لها صورا عديدة، وهي قلما تكون مباشرة علنية، وإنما هي في العادة تتخذ صور النتائج الحتمية ل «نظريات» المعرفة الخاصة، أو للحياة، أو للتجربة. وهناك من يفسر العلم والمعرفة المتقطعة عموما بأنها مجرد طريقة لتثبيت ما نعرفه من قبل بالفعل، معرفة أكيدة وإن تكن غامضة، بوسائل أخرى من الاختبار والتجربة. وإذا كانت وسائل البحث العلمي لا تؤدي إلى هذا التثبيت، فلا بد أن تكون خاطئة، ولا بد من إيجاد وسيلة أخرى تؤكد صحة الحكمة البدائية وتنقلها إلى عقولنا. ويزعم آخرون أن الطريقة العلمية لا تمدنا إلا بحقائق جزئية، لا تقل فيها صفة الجزئية بإخضاعها لفحص علمي أدق، وإنما تقل بضمها إلى نظام ديني أو ميتافيزيقي. وهناك من يصرح علنا بأن من البديهيات أن كل تجربة وكل شعور أو عاطفة إنما يعبر مباشرة عن حقيقة لا يمكن أن تكفل صحتها التجربة أو الاستدلال، بل وليست في حاجة إلى هذه الكفالة.
وهذه بصراحة مداخل إلى الاستهتار الذهني والخلقي. وربما كان أدق من ذلك أن نقول إنه مما يحملنا إلى أبعد من هذه المداخل أن نؤمن بأن كل طريقة من طرق التجربة تمدنا بمعرفة مباشرة معتمدة؛ لأن هذه النظرة غالبا ما تكون دفاعا عن غموض مقصود؛ إذ إنها تبدأ بافتراض أن كل خبرة تعطينا معرفة معتمدة بالعالم الموضوعي، بدلا من أن تعطينا مادة للحكم عليها، وهي تجعل من أمعائنا وسائل للمعرفة، وتبرر كل هوى عاطفي بزعمها أننا لو أحسسنا إزاء شيء ما إحساسا فيه من العمق الكفاية، فلا بد أن تعلن مشاعرنا عن بعض الحق المتعلق بالشيء الذي أثار هذا الشعور، فيكون هذا الحق مشروعا مشروعية الحكم الذي نصدره ونكشف به عن أصل الشعور الذي أحسسناه في لحظة من لحظات الانحراف الشخصي. أوليست هذه هي الحالة التي يقتنع فيها كل متعصب يسعى وراء الزندقة وكل متحمس يهذي أن المشاعر والرؤى والأهواء التي تثور في نفسه تعبر عن الحقيقة؟ وليس هتلر هو الوحيد الذي يرى أن الدلائل تعد عرضية إذا لم يرفضها المرء باعتبارها أمورا أخطأها الداء. وإذا كان صوت الشعور لا يخطئ، فكل خلاف يكون دعوة إلى القتال، وكل عقل مختل يستطيع أن يزعم لنفسه النبوة. إننا لسنا بحاجة إلى حماية الطريقة العلمية النقدية دفاعا عن أنفسنا ضد أولئك الذين يقفون عند حافة الخلل العقلي فحسب؛ لأن كل مصلحة خاصة في الحياة الاجتماعية، وكل مزية لا تقاوم على أساس المساواة، وكل «حقيقة» تصدر باعتبارها حقيقة وطنية أو طبقية أو عنصرية، تنكر قدرة البحث العلمي على تقويم ما تدعيه هذه القدرة، بل إن أشخاصنا العادية لا تخلو من الميل إلى أن تحسب غزارة الشعور أو الإيمان الذي نعتنق به العقائد دليلا على صحتها لا شك فيه.
وهناك من يرى أن ما يكشف عنه الشعور والبداهة والعاطفة لا بد أن يتفق وقوانين الاستدلال العلمي. غير أن هذا الرأي لا يمكن أن يقبل؛ لأنه عبارة عن حكم شرعي اعتباطي بشأن الرؤى التي يمكن قبولها والتي لا يمكن قبولها، وأيها يجوز أن يوجد وأيها لا يجوز. والشكوى قائمة من أن مثل هذا الرأي يقفر مصادر الخيال، ويقضي على الرؤى التي لا يكون بغيرها نمو أو معرفة جديدة، ولا تؤدي على الأكثر إلا إلى عبث أخرق بالقوانين والطرائق. ومثل هذا التفسير - فيما يتعلق بمشاهدة الرؤى واكتساب الحقائق الجديدة - يدعو إلى السخرية الشديدة. أما النقطة الأساسية - حينما تنشأ مشكلة المعرفة والحق - فهي: هل شهد أحدنا رؤيا؟ أو هل كان فريسة للوهم؟ وإذا لم نشأ أن نسأل بهذه الصيغة، قلنا: هل يرى الواحد منا رؤيا يوثق بها، أو رؤيا لا يوثق بها؟ إن بعض الناس يزعمون أنهم يرون أشياء نعرف أنها غير موجودة. وإذا كانت المشاهدة تؤدي إلى العقيدة، فمن الجائز أن يخدع الناس دائما.
ولكن المطالبة بالدليل من الناحية العقلية لا تدعو إلى شلل رواد الحق الذين يدركون لمحات مما لم يحلم به أحد حتى آنئذ؛ لأن العلوم ذاتها لا تتطلب إثباتا كاملا أو دقيقا للفرض منذ البداية، وإنما تتطلب من الإثبات ما يكفي لمواصلة البحث. وتاريخ العلم دليل كاف على أن دقة طريقته لا تحول البتة دون اكتشاف الحقائق الجديدة، بل إنها عون إيجابي على اكتسابها. أما عن الحكم على ما هو «موجود» أو على ما يمكن أن يوجد، فليس في الطريقة العلمية ما «يحرم» وجود أي شيء. إنما الطريقة العلمية لا تهتم إلا بتبعة الأقوال التي تزعم وجود شيء ما. إنها لا تسخر من الذهول الصوفي الذي يصيب المرء من فرط السرور، بل إنها تكتفي بإنكار ما يدعيه التصوف من معرفة تأملية لا يقوم على صحتها دليل سوى حدوث الغيبوبة.
إن الطريقة العلمية لا تستلزم أية نظرية ميتافيزيقية للوجود ، ولا تستلزم قطعا أية مادية ميتافيزيقية، ومهاجمة الطريقة العلمي - لكي يكون المرء حرا في الإيمان بأي صوت يناديه - هي في الحقيقة فرار من المسئولية. وهذه هي الصفة السائدة من صفات فتور الحماسة.
1 (1-2) المذهب الطبيعي والديني
بغض النظر عن تنوع المذاهب الخاصة التي نادى بها الطبيعيون من عهد ديموقريطس حتى ديوي، فإن ما يوحد بينها جميعا هو قبول الطريقة العلمية قبولا تاما باعتبارها الطريقة الوحيدة التي يعتمد عليها لبلوغ الحقائق التي تتعلق بعالم الطبيعة، والمجتمع، والإنسان. ويمكن بسهولة أن نعلل الخلاف بين الطبيعيين في تاريخ الفكر مما يأتي: (1) التصورات التاريخية المختلفة لأي الميادين وأي المشكلات تخضع للمعالجة العلمية. (2) التهذيب الذي حدث تدريجا في وسائل البحث ذاتها. وكل ما بينهم من أسباب الخلاف يمكن أن يزول من حيث المبدأ بالرجوع إلى «الطريقة» التي يدينون لها جميعا بالولاء المشترك، اللهم إلا فيما يتعلق بتلك الفوارق في المزاج التي تؤدي إلى الاهتمام باتجاه دون الآخر أو إلى اختيار منحى دون منحى ، وهو ما لا يزعم أحد من الطبيعيين أنه طريق مؤد إلى الحقيقة؛ فالقاسم المشترك الأعظم إذن بين كل المذاهب الطبيعية التاريخية ليس في مجموعة من المذاهب المعينة بمقدار ما هو في طريقة التجريب العقلي أو العلمي.
والمذهب الطبيعي يتعارض مع جميع مذاهب ما وراء الطبيعة، لا لأنه يستبعد مقدما ما يمكن وجوده وما لا يمكن، ولكن لأنه لم يوجد دليل معقول يؤيد العقيدة في الكليات والقوى التي يعزى إليها النظر إلى ما وراء الطبيعة؛ فالطبيعيون ينكرون وجود الله والخلود والأرواح التي لا تسكن الأجساد، والأغراض والإرادات الكونية - كما كانت تفهمها دائما الديانات النظامية الكبرى - لنفس الأسباب العامة التي من أجلها ينكرون وجود الجنيات والعفاريت والأشباح. وهناك - من غير شك - تصورات أخرى عن الإله، والطبيعيون مستعدون - من حيث المبدأ - أن يفكروا فيما تدعيه من صحة الوجود، وما دامت لا تتناقض في معناها، وكل ما يتطلبونه أن يبلغ التصور من التحديد ما يجعل بالإمكان أن نرتب عليه الشروط التي تعين أوجه الصورة؛ الكيفية، والزمان، والمكان ؛ الذي يقوم فيه بعمله الإله المزعوم. ومما يعيب أكثر التصورات عن الإله التي تختلف عن التصورات التقليدية هو أنها إما أن تكون أغمض من أن يفهم أي إنسان ما تعنيه هذه التصورات، أو تعرف شيئا يدخل في خبرة الإنسان مع وجود تعبير سابق يلائمه كل الملاءمة.
Unknown page