تقديم
الجزء الأول: مختارات من الكتاب الفلسفيين
1 - أرنولد توينبي
2 - ألبرت أينشتين
3 - أجنازيو سيلون
4 - إ. م. فورستر
5 - جون موريس كلارك
6 - إريك فروم
الجزء الثاني: مختارات من الفلاسفة الدينيين
7 - جاك ماريتان
Unknown page
8 - رينولد نيبور
9 - سارفيبالي رادا كرشنان
الجزء الثالث: مختارات من الفلاسفة الإنسانيين
10 - جان بول سارتر
11 - كارل ر. بوبر
12 - برتراند رسل
13 - سدني هوك
14 - كارل ياسبرز
تقديم
الجزء الأول: مختارات من الكتاب الفلسفيين
Unknown page
1 - أرنولد توينبي
2 - ألبرت أينشتين
3 - أجنازيو سيلون
4 - إ. م. فورستر
5 - جون موريس كلارك
6 - إريك فروم
الجزء الثاني: مختارات من الفلاسفة الدينيين
7 - جاك ماريتان
8 - رينولد نيبور
9 - سارفيبالي رادا كرشنان
Unknown page
الجزء الثالث: مختارات من الفلاسفة الإنسانيين
10 - جان بول سارتر
11 - كارل ر. بوبر
12 - برتراند رسل
13 - سدني هوك
14 - كارل ياسبرز
آراء فلسفية في أزمة العصر
آراء فلسفية في أزمة العصر
تأليف
أدريين كوخ
Unknown page
ترجمة
محمود محمود
تقديم
لم يعرف تاريخ الحضارة أزمة بشرية مثل تلك التي يواجهها الإنسان في منتصف القرن العشرين؛ فهي أزمة تمتد إلى بذور الوجود البشري ذاته أو تكاد تأتي على كل معالم الحضارة. وفي مثل هذا الوقت العصيب يجد الإنسان نفسه مسوقا إلى أن يزن نفسه ويقوم العالم الذي أنشأه لعله يتعرف طبيعة الأزمة التي تواجهه، وهو يبحث عن الوسائل التي تمكنه من الاحتفاظ بالحياة، بل ومن إخصابها برغم ما يحيق بها من محن. وفي هذا الكتاب عرض للمباحث التي قام بها أربعة عشر كاتبا من أعمق المفكرين في العصر الحديث، محاولين بها تقويم العالم الذي نعيش فيه، وهداية الناس إلى الصراط المستقيم.
وقد قامت باختيار المقتطفات التي وقع عليها الاختيار لهؤلاء الكتاب، مؤلفة هذا الكتاب أدريين كوخ أستاذة التاريخ بجامعة كاليفورنيا، ووفقت في اختيارها توفيقا كبيرا، وقامت بتنسيق المختارات حتى جاءت صورة قوية لما ارتآه هؤلاء الكتاب بشأن الأزمة التي يعانيها الإنسان، وقدمت لكل مجموعة من المختارات بنبذة عن تاريخ حياة الكاتب أو الفيلسوف. وقد يجد القارئ فيما وقع عليه اختيار الكاتبة من مقتطفات ميلا إلى التعصب نحو مذهب ديني معين أو عقيدة فلسفية خاصة، ولكنه التعصب الذي يشحذ الفكر والتأمل ، وينطوي على الغرض النبيل؛ فالتحمس للمسيحية أو للإنسانية أو العالمية لا يقصد إلا الدعوة إلى السلام وتهدئة النفوس وسعادة البشر.
وقد قدمت لهذه الآراء كلها مؤلفة الكتاب بفصل بالغ الطول، وذيلتها بخاتمة مختصرة حاولت فيها أن تلم بأطراف الموضوع وأن تجمع شتاته، كما حاولت أن تشخص طبيعة الأزمة التي يعانيها الإنسان، ومهمة الفلسفة إزاء هذه الأزمة، واتجاهات الفلسفة الحديثة عند وصف العلاج. وقد رأيت أن أسوق خلاصة ما جاء في المقدمة وفي الخاتمة في هذا التقديم الذي أعرضه على القارئ، معقبا من عندي على هذا الرأي أو ذاك كلما اقتضتني ذلك ضرورة التوضيح.
والكتاب - بهذا - في جملته، بحث نافذ في قلب الحضارة التي نعيشها، يحث كل مفكر على النقد والتحليل.
وترى أدريين كوخ - مؤلفة هذا الكتاب - أننا إذا تدبرنا مدى الأزمة التي يواجهها الإنسان الحديث في منتصف القرن العشرين، ومقدار ما تنطوي عليه هذه الأزمة من عقد يتعسر حلها، وجدنا أن الإنسان لم يعان في تاريخ حضارته منذ نشأتها ما يداني هذه الأزمة عمقا وشدة؛ فهي أزمة الوجود البشري ذاته، أزمة قد تهلك فيها الحضارة، ويبلغ فيها تاريخ الإنسان نهايته. بيد أن الإنسان لو تعقل لغير هذا المصير المشئوم، فمستقبله يتوقف - إلى حد كبير - على آماله وأعماله.
وقد انتقل الإنسان من طور الأزمة التي يعاني فيها الفرد وحده إلى طور الأزمة العالمية، وهو انتقال واسع عميق، يحتم علينا أن نتوقف لحظة نزن فيها أنفسنا والعالم الاجتماعي الذي نعيش فيه. وليس بوسعنا أن نواجه هذه الأزمة على مستوى اقتصادي بحت، فنحاول أن نجد لها حلا ماديا، أو على مستوى سياسي بحت باعتبارها مشكلة التنظيم الدولي، أو حتى على مستوى السيكولوجيا باعتبارها مشكلة تتعلق بتحليل مشكلات الفرد في حياته؛ فكل هذه النواحي متشابكة ولا يمكن أن نفكر في ناحية منها دون أن نتعرض لغيرها من النواحي. ولا بد لنا عندما نواجه هذه الأزمة من توسيع معرفتنا بالعلاقات الإنسانية كلها ومن تعميق معرفتنا بأنفسنا، وهذه المعرفة ضرب من ضروب النشاط الذهني الذي يشغل الفرد في كل ناحية من نواحي حياته، ويزيد من وعيه بالروابط التي تصل ما بينه وبين غيره من الناس.
هذه هي الوظيفة التاريخية للفلسفة؛ أن تنسق - في خلال بحثها عن الحقيقة - بين نتائج المعرفة التي يكتسبها المرء من أية زاوية من الزوايا، وأن تنسق - في خلال بحثها عن طريقة للحياة - بين القيم التي تكسب الحياة أي معنى من المعاني. والفلسفة بهذا المعنى تبحث في كل المعارف المتشابكة بروح حرة، بغية رسم طريقة من طرق الحياة تتفق مع العقل ومع تقدم الإنسان؛ فهي ليست مقيدة برأي معين، وليست وقفا على الفلاسفة المحترفين. وهذا النشاط الفلسفي - فوق ذلك - في تطور مستمر، بسبب التغير الدائم في محيط معارفنا وفي ظروف وجودنا في هذه الحياة. ومن أوجه الأزمة الحاضرة ازدياد سرعة التغير في معارفنا وفي ظروف وجودنا، ويبدو أن الأسس ذاتها قد أخذت تهتز وتتزعزع. ولو صح هذا لكنا أحوج ما نكون إلى النظرة الفلسفية في زماننا هذا، وأحوج ما نكون إلى المعتقدات التي تنير الطريق أمام الإنسان الزائل الفاني، وتوجه وجوده توجيها سديدا. ومن ثم فإن مجرد وجود الأزمة يتطلب من العقول البشرية الممتازة أن تقوم بالتحليل الدقيق.
Unknown page
وإذا ما عرفنا ذلك حكمنا بأن رجال الفكر لا ينفقون أوقاتهم عبثا؛ فالظروف المحيطة بهم تحثهم على البحث في طبيعة الأزمة، وعن الوسائل التي تعزز الحياة وتغنيها بالرغم مما يحيق بنا من محن. والمختارات التي نقلناها في هذا الكتاب من أمثال هؤلاء الرجال المفكرين، ذوي العقول الفلسفية العميقة. وهم لا يرسلون الحكمة على ألسنتهم بغير هدف، ولا يكتفون بمجرد تبيان ما في الحياة من فوضى، وإنما هم بناءون منشئون إلى حد كبير، يبتغون مصلحة الناس أجمعين، ولكل منهم عقيدته التي يرى أنها تؤدي إلى العالم الأمثل، لديهم شجاعة تميزهم عن تلك النفوس الخائرة التي لا ترى أملا في المستقبل. إنهم يبذلون قصاراهم لهدايتنا إلى الطريق المستقيم؛ فنتحاشى ما يعترض سبيلنا من عقبات، وندرك حاجاتنا التي تستند إلى ماضينا فنعمل على استيفائها بنظرة عامة شاملة لا يحدها إقليم ولا تحيط بها مصلحة شخصية. وقد انتقيناهم جميعا من المعاصرين الذين اصطدموا بالمشكلة في حياتهم، وأحسوا الأزمة التي نعانيها في نفوسهم. وقد حاول كل منهم أن يجابه الموقف بفلسفة كاملة وإيمان فعال.
وقد استرشدت مؤلفة الكتاب بعدة مبادئ عند اختيارها لهؤلاء الرجال؛ فكلهم رجال ذوو سمعة ضخمة كل في ميدانه الخاص، وقد اكتسبوا هذه السمعة بالجهد الشاق والتفكير العميق. وقد لبثوا حقبة من الزمان ينعمون النظر ويرسلون الخيال في المدنية الغربية القائمة، وهم في لقاء مع المشكلات الأساسية في العالم الحديث الذي يمر بمرحلة انتقال خطيرة. ولم يكفهم أن يفكروا ويتدبروا في أبراج عاجية، بل لقد أحس كل منهم إحساسا قويا بضرورة نقل آرائهم إلى غيرهم من الناس، وضرورة العمل باعتبارهم أفرادا مسئولين في مجتمع له شكله السياسي. وقد رأوا جميعا - كل بطريقته الخاصة - أن يتجاوزوا حدود اختصاصهم، وأن يتغلبوا على مشاعرهم القومية الوطنية المحلية، محاولين بالتفكير المنطقي أن يخدموا قضية الحرية. ويمثل كل منهم رأيا فلسفيا خاصا، كما يمثل وجهة نظر سياسية معينة. وتستهدف مؤلفة الكتاب من عرض هذه الآراء المتنوعة بلوغ نظرة أشد نفاذا، وتحليلا أوفى نقدا لوجهات النظر الفلسفية الماثلة أمام عيوننا، كما تستهدف أن يدرك الناس كلهم أنهم جميعا بسبيل الكشف عن الحقيقة والبحث النزيه. وكل من اخترنا لهم من الثقات؛ لأنهم جميعا يدركون عمق الأزمة وشدتها واستحالة مواجهتها برأي قاطع دون سواه، وهم يعلمون أن العقدة لا تحل في لحظة، وأن العلاج السريع لا يمكن - غالبا - أن يكون ناجحا.
ومن ثم فقد عنيت المؤلفة عند اختيارها للمقتطفات التي أوردناها بالنظرة الخاصة للمفكر أو الفيلسوف، والزاوية الخاصة التي وجه منها الكاتب نظره إلى العلاقات الاجتماعية والخلقية بين الناس. وليس من شك في أن مجموع ما تركه لنا هؤلاء الكتاب أوفى من ذلك وأدق، ولكن هناك سببين رئيسيين دفعا المؤلفة إلى أن تحصر مختاراتها تحت العنوان الذي اختارتها لكتابها، وهو «آراء فلسفية في أزمة العصر»؛ الأول: هو تلك الرغبة القائمة في نفوس الكثيرين منا الذين يشغلون أنفسهم بالأزمة الحاضرة، والذين لا يعبئون بالتفصيلات الفنية الدقيقة لكي يكون بين أيديهم مجلد واحد. والسبب الثاني: هو تلك الحاجة العامة إلى بعد النظر ومقابلة هذا الاستهتار الذي أخذ يسود بالقيم، والحاجة إلى فلسفة بناءة نعزز بها نفوسنا ضد الميل إلى الهدم والتدمير الذي لا يستهدف شيئا. ومن أجل ذلك كانت الأوجه الفلسفية البحت فيما أخرج هؤلاء الكتاب عرضا قيما اخترناه لأنها قد تحول دون الاهتداء إلى الصراط المستقيم وسط هذه المتاهة التي يسير فيها الإنسان. وقد اقتصرنا في الإشارة إلى هذه الأوجه الفلسفية على الحد الذي ينير الرأي الذي قصدنا إلى إبرازه للقراء. وبهذا الهدف نصب أعينها غاصت مؤلفة الكتاب فيما أخرج هؤلاء الكتاب بعد الحرب العالمية الثانية، للبحث عن مقتطفات تمثل لب آرائهم وفلسفاتهم، وأخذت على نفسها أن تنتقي وترتب ما اقتبسته لكي تؤكد أنها لا تعرض إلى الآراء التي لها مساس بمشكلاتنا في نسق منطقي وفي تعبير الكتاب أنفسهم وبإيجاز لا يخل.
وتنقسم هذه المقتبسات إلى ثلاث مجموعات؛ تمثل المجموعة الأولى الكتاب ممن ليسوا فلاسفة محترفين، ولكنهم فكروا تفكيرا جديا في ميادينهم، وعند مواجهتهم للأزمة أحسوا ضرورة التجاوز عن ميادينهم الخاصة، وحملوا أنفسهم تبعة الوصول إلى حل سليم؛ فتوينبي مثلا مؤرخ، ولكنه يتخذ جميع الحضارات وجميع مخلفات الإنسان مجالا له، فنراه يقدم لنا نظرة تاريخية شاملة. وأينشتين هو أعظم علماء الطبيعة في عصرنا، وهو يقدم إلينا عرضا قويا لدور العلم في الحياة الحديثة، وهو زعيم بين العلماء للدعوة إلى بيان الخطورة السياسية التي تترتب على سوء استخدام الطبيعة النووية. وسيلون روائي متفلسف، وموضوعه أثر المجتمع الذي يخضع للآلة خضوعا تاما كما يخضع للحكم الدكتاتوري في مصير الفرد وسعادته، وقد كان إلى جانب ذلك زعيم الحركة السرية الشيوعية الإيطالية في عهد موسوليني، ثم انشق على الشيوعية الدولية، وهو يدرك جاذبية الشيوعية ومظالمها وأسباب خداعها. ثم يأتي بعد ذلك فورستر، وهو روائي متفلسف آخر، وقد صور التقاء الشرق بالغرب، وما أدى إليه هذا الالتقاء من سخرية من ناحية وروح إنسانية من ناحية أخرى، وحلل ذلك كله في مؤلفه العظيم «رحلة إلى الهند»، وهو - على خلاف في ذلك مع سيلون - ثابت على إيمانه الشديد بالفرد، ويؤمن بأن الفن فيه ما يكفي لسد حاجة الإنسان. أما ج. م. كلارك فهو أحد زعماء الاقتصاد في أمريكا، وهو يدعو في نظرياته إلى تغلغل الاقتصاد في جميع مناحي الحياة، ويدرك أن رجل الاقتصاد لا بد له من أن يتجاوز عن حدود آرائه الفنية لكي يعالج سعادة الإنسان. أما أريك فروم فهو عالم في التحليل النفساني، كانت دراسته الأولى في علم الاجتماع، وربما كان أول عالم من علماء التحليل النفساني حاول أن يجمع بين اتجاهات ثلاثة، هي: العلاج النفساني، وفلسفة القيم، والتحليل السياسي الاجتماعي.
والمجموعة الثانية من المقتطفات تتحد في طريقتها التي تستهدف بيان الدور الحيوي الذي تلعبه العقيدة الدينية في أية حضارة من الحضارات. وقد كان رائد المؤلفة عند اختيارها المقتطفات التي أوردتها في هذه المجموعة أن تعرض آراء بعض القادة في الميدان ممن يمثلون العقائد الدينية الكبرى التي تسود هذا العصر الذي نعيش فيه. وكان طبيعيا أن تركز المؤلفة اهتمامها في المذاهب المسيحية التي ترى فيها احتمال المخرج من الأزمة التي تحيق بالإنسان. ولو أنها كانت على علم بالإسلام لأدركت أن دعوته مشتقة من اسمه، فهي دعوة إلى إقرار السلام وفعل الخير، وإلى إغاثة العاجز والمسكين ...
وذكرت المؤلفة في هذا الصدد ماريتان، وربما كان أقوى الفلاسفة الكاثوليك أثرا، وهو يتجاوب مع كل الحركات التي يتميز بها عصرنا الحاضر في الفن والسياسة والفلسفة، ويرى في كل ناحية من نواحي النشاط الذهني رأيا يهدي الإنسان إلى سعادة النفس واطمئنان الضمير. ثم تعرض المؤلفة بعد ذلك لنيبور، وهو أحد زعماء الدعوة إلى البروتستنتية، وهو يتجه برأيه نحو المظالم الاجتماعية في عهدنا ونحو مهاجمة الكنيسة ذاتها. وتختتم المؤلفة هذه المجموعة برادا كرشنان الذي كان أستاذا للديانات المقارنة بجامعة أكسفورد، وهو أحد زعماء المفكرين في ميدان فلسفات الشرق، وكان سفيرا للهند لدى الاتحاد السوفيتي، وهو الآن نائب رئيس الجمهورية بالهند.
والمجموعة الثالثة هي كذلك لفلاسفة محترفين، ولكنهم يبعدون بالفلسفة عن الدين، ويرون أن الفلسفة هي ذلك النشاط الذي يحكم فيه الإنسان قوة العقل لكي يكسب الحياة معنى. وفي هذه المجموعة جان بول سارتر - وهو زعيم الوجودية في فرنسا - وقد ساق بأعماله الأدبية الوجودية إلى المسرح المعاصر وإلى صفحات الكتب الرخيصة التي تتناولها أيدي العامة من الناس. وهو رجل يجاهر بإلحاده الذي لا نقره عليه بطبيعة الحال، ولكنه يرى في هذا الإلحاد دعوة إلى التحرر. ولعل موقفه من قضية الجزائر واحتجاجه الشديد على وحشية الفرنسيين في معاملة الجزائريين يبرران حشره بين زمرة المفكرين الداعين إلى السلام بين دفتي هذا الكتاب. ولا بد لنا - برغم ذلك - من الاطلاع على آرائه بشيء كثير من التسامح، ومن تفسير إلحاده بالتحرر المطلق وبعدم الإيمان بالقدر، وله دينه ولنا ديننا.
أما برتراند رسل فهو ذلك الشيخ الوقور الذي يقف شامخا في ميدان الفلسفة الحديثة، وقد أسهم بأوفر نصيب في المنطق الحديث، وبقي بالإضافة إلى ذلك مخلصا للآراء التحررية التي نادى بها جده لورد رسل وظهرت في قوانين الإصلاح التي صدرت في عام 1832م، وكتب بإسهاب في معنى الحرية والبلشفية، وفي الآراء التقدمية في التربية، وفي الزواج والأخلاق، وفي السلطة والسعادة، كتابة قوية ذات أثر فعال، وبأسلوب ساحر شائق. أما هوك فهو فيلسوف محترف ومعلم، يستند في الآراء التي نادى بها إلى جون ديوي، وقد عمل على دفع المذهب الطبيعي والديمقراطية إلى الأمام بالتحليل المنطقي ومعالجة المشكلات الخاصة التي تتعلق بالتربية المعاصرة والمجتمع المعاصر. وربما كان ياسبرز زعيم الفلاسفة في ألمانيا في الوقت الحاضر، وقد بدأ حياته العملية طبيبا نفسانيا، وتعمق دراسة التاريخ والفلسفة والعلم الفلسفي كي يدعو إلى إنسانية جديدة ويدافع عنها.
ومن ثم يرى القارئ أن رجال الفلسفة - في هذا الكتاب الذي يضم مقتطفات مختارة لهم - الذين رسموا صورة كاملة للعالم المعاصر، قد أتيحت لهم الفرصة لكي يعرضوا مدى فهمهم للأزمة التي تلم بنا في العصر الحاضر، كل من الزاوية التي يرى أنها تلقي عليها الضوء الذي يوضحها ويبرزها للعيون. وإذا كان الفيلسوف المعاصر ألفرد نورث هوايتهد قد صدق حينما قال إن الإنسانية تمر بمرحلة فذة من مراحل تاريخها تتحول فيها نظرتها من مجال إلى مجال، وتتخلص فيها من قيود التقاليد الفكرية القديمة؛ فإن هذا الكتاب يمدنا بغذاء للفكر، وبمادة يستطيع رجال الفكر بتناولها أن يعيدوا تشكيل فلسفاتهم التي تمس الإنسان كفرد، وتمس قيم الحضارة التي نعيشها.
وكثيرا ما تتفق الآراء التي نقلناها في هذا الكتاب لبعض الفلاسفة والمفكرين فيما يتعلق بأزمة العصر الحديث، ولكنها كثيرا أيضا ما تختلف اختلافا جوهريا. بيد أن مؤلفة الكتاب تحاول في خاتمته التي أدمجناها في هذا الفصل أن تبرز من غضون ما بين الفلاسفة من أوجه الخلاف صورة الأزمة التي نعانيها، والإيمان الذي يجب علينا أن نتسلح به للتغلب عليها.
Unknown page
وترى المؤلفة ضرورة توضيح طبيعة الأزمة التي لم ير الإنسان مثلها من قبل في تاريخه، ودور الفلسفة في تحليل الحضارة التي نعيشها وفي بيان أوجه النقص في هذه الحضارة. (1) فظاعة هذا القرن العشرين
وأول ما تعرض له مؤلفة الكتاب في سبيل إدراك مغزى الأزمة الحاضرة هو هذا الإحساس بالفزع الذي يسود النفوس في القرن العشرين. ولا جدال في أن كل كائن بشري يعرف تمام المعرفة ما تعنيه أوقات الحرج؛ فعندما هجر بوذا أرجاء القصر المنيف الذي كان يعيش في كنفه، والتقى لأول مرة في حياته بالمرض والشيخوخة والفقر والموت، واجه أسباب الأزمات الشخصية التي عرفها الإنسان منذ الأزل. وإن وعي الإنسان بحتمية الموت وحده يكفي لتبصير الإنسان بالدور الأليم الذي يؤديه كضيف في هذه الدنيا نزل «في رحاب الدنيا التي تضيفه». وليس من شك في أن شعور الإنسان بقصر عمره وضرورة زواله يسوغ تعريفنا له بالكائن الذي يعي معنى الموت، وهو تعريف لا يقل صوابا عن التعريف التقليدي للإنسان بأنه حيوان عاقل. وهذه المأساة البشرية تفسر لنا تلهف الإنسان إلى الخلود؛ ذلك التلهف الذي يظهر في كل ثقافة من الثقافات، ويساعد على تفسير قوة تأثير الديانات .
وإذا تحدثنا عن «أزمة العصر» فنحن نعني شيئا مختلفا عن الأزمات الفردية التي يلاقيها المرء في حياته؛ لأنا في هذه الحالة نعالج تطورات متراكمة أساسية بعيدة المدى، تحدث لجمهور بأسره، وتخلق فترة جديدة من فترات التاريخ لها خطرها وخطورتها. وعندما يعود المؤرخون بأبصارهم إلى سير الحضارة الغربية يرون فترات من الحرج في تاريخ الإنسان، تتميز بانقلاب شديد في النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، انقلاب يهدد القيم الثابتة ويتحدى وسائل الحكم المعروفة. ومن المؤكد أن كل عصر من عصور التطور الاجتماعي والسياسي يخلق بسبب حداثته نوعا من الفوضى والاضطراب، وبعض هذه الأزمات التي حدثت في الماضي، مثل الإصلاح الديني وما صاحبه من حروب دينية، أو الثورة الفرنسية وما تخللها من عصر الإرهاب وما أعقبها من حكم نابليون، كانت أوقاتا وحشية عصيبة، تميزت بالعنف الشديد وإراقة الدماء. ولكنا - إلى جانب ذلك - يجب أن نذكر أنها كانت كذلك أوقاتا لم تكن فيها معاناة التطور وثمن الآلام هي العناصر الوحيدة في النضال الاجتماعي؛ فلقد كانت مجموعات كبيرة من البشر تثق وسط هذا الاضطراب بمستقبل أفضل للإنسان، كما كانت هناك خطط عملية لإنهاء الأزمة وتمهيد السبيل إلى نظام جديد.
غير أنه كانت هناك - لسوء الحظ - إلى جانب هذه الفترات من التاريخ البشري، فترات أخرى سارت فيها الحضارات نحو الانحلال، دون أمل في المستقبل يخفف من وقع المأساة. وفي أمثال هذه الفترات التي يسود فيها التدهور كان الهلع يستولي على النفوس، وكان الخوف والعزلة من المشاعر التي تسيطر على الإنسان. وفي مثل هذا الجو الذي تتدهور فيه الحضارة يحل اليأس حتى في قلوب أشد الفنانين حساسية وأكثر المفكرين علما. ولما كانوا لا يجدون ما ينصحون به، فهم يعتزلون العالم في قدس الفن الخاص أو العقيدة الصوفية، أو يقنعون بالتعبير عن عبث كل علاج. وقد لخص جلبرت مري عند دراسته لفترات التدهور في الحضارة الهلينية هذه النظرة إلى الأمور في عبارة موجزة أصبحت شائعة على لسان كل مثقف في بلاد الغرب، وهي «فتور الحماسة». ولم يعن مري بهذه العبارة انحلال المدن الحكومية الإغريقية، وإنما قصد بها كذلك تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها. وقد اتضح انحطاط التفكير - في هذا الجو من الموت البطيء - في انتشار التصوف والتزهد وضعف العقيدة في العلوم.
ومما له دلالته أيضا أن روما قد باتت - في آخر عهد الإمبراطورية - حكومة مستبدة سافرة؛ لأن الناس فقدوا ثقتهم بأنفسهم، وأصبحوا مستعدين للتضحية بكل حق لهم في الحرية في سبيل أمن وهمي تعدهم به الحكومة المستبدة.
ويا ليت هذه النظرة المميتة المتشائمة التي تقضي على الإيمان بشخصية الإنسان والإيمان بإيجاد حل إيجابي للمشكلات العامة، يا ليت هذه النظرة قد اقتصرت على هذين المثالين من أمثلة الإخفاق في الحضارة الغربية! إلا أن أعراض «فتور الحماسة» يمكن أن تشاهد في العالم المعاصر، وجو اليأس يشجع بالفعل على التأهب لحفر قبر الحضارة الغربية التي سوف تنتهي حياتها عما قريب، إذا لم تنتشلها من وهدتها؛ فكيف سيطر هذا اليأس على نفوس الناس في الغرب؟
لقد قضت الحضارة الغربية الحديثة طفولتها القوية إبان النهضة وعصر الإصلاح الديني، وهي على ثقة تامة بكرامة الإنسان وقدرته على الخلق والإبداع، وعلى أهبة لأن تؤمن بالمعرفة البشرية وخبرة الإنسان. وكان من أهم العوامل التي دعمت هذا الإيمان ظهور العلم الحديث والحكومات القومية. وهذه العوامل، مستقلة أحيانا، متعارضة أحيانا، متضامنة في أكثر الأحيان، عملت على إضعاف الثقة بسلطة عليا سابقة، سواء كانت هذه السلطة هي نفوذ أرسطو أم نفوذ الكنيسة، وأخذت حيوية هذه الحركة الإنسانية تشتد بتقدم العلوم وتعزيز الروح القومية، وكلما تقدمت الحركة خلقت ظروفا اجتماعية تحررية تجمعت في العصر الذي يعرف في التاريخ الفكر الإنساني ب «عصر العقل» في القرن الثامن عشر، و«عصر التقدم والتصنيع» في القرن التاسع عشر. ولكن كل هذه التطورات المبشرة التي ترتبت على نمو القوميات الكبرى وتقدم التطبيقات العلمية انقلبت على شخصية الإنسان في القرن العشرين؛ فكلما اتسعت رقعة التمدن في الحياة اليومية وفي انتشار المصانع في ميدان العمل، ازداد الإحساس بضعف روح الجماعة، واشتد الشعور بالعزلة، وذاب الفرد في المجموع في مجتمع بيروقراطي.
وقد ارتفعت الأصوات في القرن التاسع عشر منذرة بهذه الظروف الجديدة في حياة الإنسان الحديث، ومن بين هذه الأصوات أصوات ثلاثة لا يمكن أن تنسى: صوت ماركس، وكركجارد، ونيتشه. وقد تنبأ هؤلاء المفكرون الثلاثة في جلاء بصيرة، وصفاء ذهن، بكل التطورات المقبلة، ولهم تأثير ساحر في معتقداتنا في العصر الحاضر. رأى ماركس المفارقة المتزايدة بين الوسائل التكنولوجية التي يمكن أن تضاعف الإنتاج فتضاعف بذلك من حرية الإنسان من ناحية، وبين حالة العزلة عند الإنسان التي تنشأ عن العلاقات الاجتماعية التي تترتب على الإنتاج، والتي تحول الإنسان بغير رأفة إلى سلعة من السلع، وإلى شيء من الأشياء. وكلما تقدم ماركس في بحوثه اشتد اهتمامه بالظروف الاجتماعية وكأنه نسي الإنسان كفرد. ولم يكن الأمر على هذه الصورة مع كركجارد الذي جعل خبرة الفرد الفذة محور اهتمامه، وهنا اكتشف أن التفكير المجرد لا يستطيع أن يجابه القوى البشرية الخفية العارمة، وأدرك أن حياة الإنسان في المجتمع الصناعي تعادي بطبيعتها الحياة الدينية المسيحية. ولما اشتد فزعه لتدهور العقيدة الدينية الصحيحة، حاول أن يتلمس الإيمان الديني الأصيل في غضون خبرته الخاصة. وشهد نيتشه كذلك تدهور المسيحية، ولكنه اتجه بفلسفته وجهة أخرى تخالف ما ذهب إليه كركجارد كل المخالفة؛ فبينما كان كركجارد يحاول أن يسترد العقيدة في الله نرى نيتشه ينكر هذه العقيدة، وحاول أن يستبدل بالعقيدة الدينية الإيمان بالقومية، وبعبادة يؤديها الناس كالأغنام في الماضي، تمجيد إنسان المستقبل وقوته.
ثم ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية جماعة من المفكرين عبرت بصورة أقوى عن ضعف روح الإنسانية عند الإنسان، عبر عنه شفيترز في كتابه «المدنية والأخلاق»، الذي نشره في عام 1923م، وفيه يقول: «إن موضوعي هو مأساة النظرة الغربية إلى العالم ... إن مدنيتنا تمر بأزمة حادة ... وأكثر الناس يرد هذه الأزمة إلى الحرب، ولكنهم مخطئون؛ فليست الحرب وكل ما يترتب عليها سوى ظاهرة من ظواهر انعدام المدنية الذي نجد أنفسنا فيه.» وقد عزا شفيترز انعدام المدنية هذا إلى عدم التوازن بين تقدمنا المادي وتقدمنا الروحي . وذكر شفيترز فوق كل ذلك أن أكبر خطر يكمن وراء تقدير العناصر المادية فوق العناصر الروحية في الحياة هو «أن أكثر الناس عن طريق الانقلاب الثوري في ظروف حياتهم يتحولون إلى قوم غير أحرار، بدلا من أن يصبحوا أحرارا.» وفي ظروف الحياة الحاضرة يكافح الناس في سبيل البقاء، وهم يرهقون أنفسهم بالعمل دون أن يوفروا لأنفسهم الوقت لكي يجمعوا آراءهم وينظموها. كما أن الاعتماد على المنظمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكبرى يزداد يوما بعد يوم، «إن وجودنا الفردي ينحط شأنه من كل وجه من الوجوه، واحتفاظ المرء بشخصيته يزداد صعوبة جيلا بعد جيل.»
وقد وضح لنا في جلاء أن العالم المعاصر يعاني من اختلال التوازن بين التقدم التكنولوجي ونظرة العالم إلى شخصية الفرد، وذلك عندما تعرضت قيم المجتمع الحر من جراء ظهور الحكم الجماعي والتدهور الذي امتد حتى شمل العالم بأسره. وما إن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى كاد الناس جميعا يتفقون على أن الإنسانية أشرفت على عصر جديد من عصور الحضارة، وهو عصر أزمة طاحنة شاملة قربت بين شعوب العالم أجمعين، لا بروح المحبة التي حلم بها الفلاسفة ذوو النيات الطيبة في كل قرن من قرون الزمان، ولكن بانتشار الفزع في قلوب الناس جميعا، واشتراك الشعوب في الشعور بالخوف والهلع. وقد أخذ هذا الشعور يتزايد، والمشكلات تتضاعف، حتى آمن الناس بقرب انتهاء المدنية الغربية.
Unknown page
وتدل على ذلك عناوين كثيرة من الكتب التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، وأشفق رجال العلم على مصير العالم وقالوا: «إن العالم بين إحدى اثنتين؛ فإما أن يتحد، وإما أن يتلاشى.» إن مدنيتنا - كما قال أحد كبار المؤرخين المعاصرين - تمر بمحنة كبرى. وقد عالج الفلاسفة والمربون وعلماء الاجتماع في كتاباتهم انهيار الغرب وانقسام العالم، ويرى بعضهم أن العصر الحاضر سيكون عصر الحرب الشاملة التي لا تبقي ولا تذر. وفي هذا الصدد يقول سير ونستون تشرشل: «لم يدر بخلدنا قط أن القرن العشرين الذي كنا ننعته بقرن الرجل العادي يكون من بين معالمه الكبرى أن يقتتل هؤلاء الرجال العاديون في يسر لم تشهده القرون الخمسة الماضية في تاريخ العالم، ولكنا أقبلنا على هذا القرن الفظيع - القرن العشرين - بروح الثقة والاطمئنان.»
هذا القرن الفظيع! من ذا الذي يتدبر مسيره وتاريخه ولا يحكم عليه بالفظاعة؟! ومن ذا الذي ينكر أن الثقة التي كانت تملأ نفوسنا عند مطلعه قد زالت من النفوس؟! ليس من شك في أن الأزمة التي نعانيها في العصر الحاضر فريدة في تاريخ الإنسان؛ فهي أعمق وأوسع انتشارا من أية أزمة أخرى عرفه تاريخ الإنسان؛ لأنها أزمة الوجود البشري ذاته. وهذه هي البارقة الأولى من بوارق الخوف الناشئ عن الصور المتعددة لاحتمال الدمار الشامل لشخصية الإنسان؛ الخوف الناشئ عن القنبلة الهيدروجينية، والتعذيب الشديد في معسكرات الأعداء، وتجارب الفتك الشامل للبشرية، وهجرة الكتل البشرية إلى غير مواطنها بسبب الحروب والعداوات. إن هذه المخاوف التي تهدد الفرد، تهدد أيضا المجموعة البشرية كما تهدد الإيمان بالإنسان. إنها أزمة الفرد، وأزمة العلاقة بين الفرد والطبيعة، وبين الفرد وما يعمل، وبينه وبين غيره من الناس، وبين النظام الاجتماعي.
إن القنابل التي ألقيت على هيروشيما ونجازاكي وما تطورت إليه من أسلحة نووية ليست إلا رمزا للكارثة التي تحيق بالبشر، فهي تصور كيف يمكن أن تتجمع أسباب الحرج في تاريخنا على هيئة سلاح واحد مدمر. إن هذه الأسلحة الفتاكة التي يشغل الإنسان نفسه باختراعها تبعث على الخوف من حرب مدمرة تقضي على المدائن في لمحة، وتحطم الحياة البشرية في لحظة، وتلطخ وجه الأرض كله بالدماء. إن هذه الأسلحة الفتاكة قد جمعت مخاوف الناس في نقطة واحدة. وحتى لو استطعنا أن نتحاشى الحرب الشاملة، فهناك ما تثيره الحرب الباردة من قلق في النفوس لا ينفك عنها، هذه الحرب التي أطلقتها من عقالها المنافسة بين قوتين كبيرتين تستطيعان وحدهما أن تتحكما في أكبر عدد ممكن من الأسلحة الفتاكة التي لا يمكن أن تقاوم، حتى يخترع الإنسان أسلحة أخرى أشد منها فتكا. وقد أمكن لهذه الأسلحة الفتاكة أن تعمق هوة الخلاف بين شقي العالم الذي نعيش فيه . كما أن مشكلات انقسام العالم قد أدت بدورها إلى اشتداد الأزمات السياسية والاقتصادية التي يشكو منها عصرنا الحاضر، مثل مشكلة وحدة غرب أوروبا، والصيحة العالمية التي تنبعث من شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية مطالبة بنصيبها في القوة الصناعية والكرامة الوطنية. ثم إن المفارقة - التي أخذت هوتها تتسع - بين قدرة الإنسان الفنية العملية وسيطرته على الطبيعة وبين سيطرة الإنسان على نفسه وكلمته، قد بلغت قمة عالية مع اختراع هذه الأسلحة المميتة.
وللأزمة - أخيرا - وجه خلقي: هل يمكننا أن نسوغ قيمة المعرفة لمجموعة البشر، أو هل يبقى كل فرد حرا فيما يؤمن به؟ إذا كنا لا نستطيع أن نجد مسوغات معقولة لإيماننا بالإنسان، فلا بد أن تبقى القيمة الكبرى للعقيدة التي تسندها القوة الجنونية.
متى بدأت أزمة العصر الحاضر؟ من النقاد من يرى أنها بدأت مع ظهور الحكم الدكتاتوري في أوروبا، ومنهم من يرى جذورها في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي جاءت في أعقاب صلح فرساي، ومنهم من يرد أسبابها إلى القومية المعتدية والصراع الاستعماري بين الدول الحديثة، ومنهم من يرى أن هذه الأسباب جميعا إنما تنم عن ضيق الأفق، وأن السبب الرئيسي مؤامرة شيوعية دولية، كانت فترة انقلاب أساسي عنيف في أكثر من مجال حيوي. ولكن الواقع أن الدرس الذي تلقيناه عن الحرب العالمية الثانية المشئومة هو الذي أفسح المجال للأزمة التي نعانيها.
إن نهاية الحرب العالمية الثانية تحدد بداية عصر من عصور التاريخ، وهي نقطة بداية لمرحلة من مراحل تاريخ الإنسان التي تتجمع فيها مشكلات كبرى تواجه الحضارة الغربية، بل تواجه العالم بأسره، وتبرز من بين هذه المشكلات - غير الأسلحة النووية - ثلاثة أمور كبرى: الأول خطة الشيوعية السوفيتية والصينية، والثاني حل مشكلة الدول النامية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، والثالث مصير الحرية في الغرب. وكل واحد من هذه الأمور كفيل وحده بأن يخلق أزمة للحضارة الغربية الحديثة؛ فما بالك إذا تجمعت ثلاثتها، واشتد أزرها بتقدم فنون الحرب؟ إنها حينئذ تهدد حياة الإنسان كلها، وتجعل أزمة العصر الحاضر من أحد الأزمات؛ ومن ثم فإني أرى أنه لكي نحسن إدراك طبيعة الأزمة الحاضرة ومداها، لا بد من أن ننظر في كل أمر من هذه الأمور على حدة. (2) خطر الشيوعية «إن طيفا جديدا يلمح في أوروبا - هو طيف الشيوعية.» بهذه العبارة الافتتاحية الشهيرة أعلن «البيان الشيوعي» الذي صدر في عام 1848م قرب انتهاء النظام الرأسمالي عن طريق ثورة فريدة تحرر المعذبين في الأرض وتقيم مجتمعا عالميا لا طبقيا. أما اليوم - وقد انقضى بعد صدور هذا البيان ما ينيف على مائة عام - فإن الشيوعية لم تعد طيفا من الأطياف، إنما هي إحدى قوتين عظيمتين في العالم، إنها تتحكم في القوى البشرية والموارد الطبيعية في جزء كبير من العالم، وهي تؤلف قوى حربية لم يعرف التاريخ لها نظيرا من قبل، قوى لا تهدد أوروبا وحدها، بل تهدد أيضا العالم غير الشيوعي برمته. وفي التاريخ وثبات ثلاث يرجع إليها السبب في هذا التحول؛ فالحرب العالمية الأولى عملت على تصفية الإمبراطورية النمساوية المجرية القديمة، وأضعفت ألمانيا، ومكنت للحزب البلشفي أن يستولي على السلطة في روسيا، فأنشأ في فترة وجيزة من الزمان مجتمعا جديدا يخضع للحكم الدكتاتوري. والحرب العالمية الثانية عملت على تصفية النعرة العسكرية في ألمانيا واليابان، والمستعمرات البريطانية والفرنسية والهولندية، ومكنت للأحزاب الشيوعية في روسيا والصين من الاستيلاء على النفوذ في شرقي أوروبا وفي بلاد الصين. والظاهرة القائمة في الوقت الحاضر، ظاهرة صعود الشيوعية إلى قمة القوى العالمية، إنما نشأت عن اندماج النظرية الماركسية بحزب لينين والخطط الخمسية الاستالينية للتصنيع الإجباري الذي يسير اليوم في ظروف التكنولوجيا النووية الآلية الصاروخية. ولما كان الشعور السائد في الغرب هو أن الخطر الشيوعي يمكن أن يزول إذا طبقت روسيا فعلا سياسة التعايش السلمي التي تنادي بها، ولكي ندرك إمكان تحقيق ذلك، أرى أن نحلل الشيوعية إلى عناصرها الأساسية.
ويقودنا ذلك إلى مجموعة المعتقدات والآراء التي يوجه الشيوعيون بها أعمالهم. وما أكثر المؤلفات التي صدرت في موضوع النظرية الشيوعية، وما يترتب على تطبيقها من شرور عن طريق العمل السياسي. ولا نستطيع في هذه المقدمة أن نشير إلا إلى الظواهر الأساسية في هذه المعتقدات. إن جزءا من النظرية من التراث الماركسي، وجزءا آخر هو التطور الذي نشأ عن الحكم القيصري؛ وما اقتضاه من ضرورة القيام بعمل ثوري للاستيلاء على السلطة باسم البروليتاريا، والجانب الأكبر من هذا العمل من صنع لينين. وبعد الثورة البلشفية، أخذ المذهب الشيوعي يتخذ صورة محددة، تصلح للإبقاء على الحكومة السوفيتية وانتشار نفوذها. وكان الجانب الأكبر من هذا العمل من فعل استالين. ثم أخذ المذهب يتطور ويتشكل على صور جديدة متأثرا بالتجربة الشيوعية الصينية. وبالرغم من التعديل الشديد الذي طرأ على التعبير الماركسي الأصلي، فإن لب النظرية لا يزال قائما يؤثر في الوسائل الشيوعية ويمد حكام المجتمع الشيوعي بالرأي الذي يسترشدون به. ولا تزال النظرية الماركسية عاملا قويا لدفع التاريخ نحو انتصار العقيدة الشيوعية؛ ومن ثم كان للنظرية أهميتها في التربية الشيوعية، وهي تؤخذ مأخذ الجد عند مناقشة أي برنامج جديد أو اتجاه في السياسة.
ومن أساسيات النظرية الماركسية نظرية المادية التاريخية، وهي محاولة ماركس أن يوفق بين النظرية من ناحية وبين التاريخ والعمل من ناحية أخرى. إن المادية التاريخية تزعم أنها تفسير مجرى التاريخ كله ببضعة قوانين من قوانين الحركة. التاريخ كله - طبقا لهذه النظرية - ليس إلا تاريخ الصراع بين الطبقات، والطبقة تحدد بالدور الذي تلعبه فيما يتعلق بوسائل الإنتاج السائدة؛ ومن ثم فلكي يفهم المرء التغير الاجتماعي لا ينبغي له أن يتأثر بالعاطفة وينظر إلى الإطار الخارجي - إن المثل الخلقية، أو القوانين، أو المعتقدات مثلا - وإنما ينبغي له أن ينظر إلى العلاقات الأساسية في الاقتصاد والملكية، وهي العلاقات التي تحدد الدور الجديد من تطور الحوادث. وحتى الواقع السياسي السائد - كالدولة مثلا - يجب أن يفهم على أنه ليس إلا السلاح التنفيذي (القانون والجيش) الذي يدفع عن حقوق الملكية للطبقة المالكة. وإن أبسط علاقات الملكية التي تتميز بها هي العلاقة بين أولئك الذين يملكون وأولئك الذين لا يملكون وسائل الإنتاج - بين من عندهم ومن ليس عندهم. وكلما تغيرت الوسائل التكنولوجية نشأت الصعوبات الاقتصادية في حدود تقسيم العمل. وهذه هي الحوافز التي تبعث على النضال بين الطبقات. غير أن علاقات الملكية المشروعة القائمة تصبح إلى جانب ذلك قيودا على التقدم التكنولوجي، ثم تحطم هذه القيود ثورة الطبقة المظلومة فيما سبق، وهي الطبقة التي تلقى تأييدا تاريخيا من جانب التقدم الملموس في التكنولوجيا. وحيث إن الطبقة لا يمكن أن تقتل نفسها، فإن الوسيلة الوحيدة التي تستطيع بها الطبقة المظلومة أن تجتذب وسائل الإنتاج من بين براثن الطبقة المالكة هي الوسيلة السياسية العنيفة؛ وسيلة الثورة. وترى الماركسية أن آخر ما بلغته الرأسمالية من تطور هو السبب في الحروب العالمية وثورة المستعمرات. إن الرأسمالية المتقدمة تحاول أن تتحاشى تناقضها الداخلي بالبحث عن المستعمرات واستغلالها كمصادر للمواد الخام، والعمل الرخيص، وكأسواق للسلع المصنوعة، وذلك مما يحول صراع الطبقات الوطني إلى صراع طبقي عالمي. ولما كانت مساحة الأرض محدودة، وجشع الرأسمالية غير محدود، فلا مناص من أن تنتهي المنافسة الرأسمالية إلى حرب عالمية استعمارية. والاستغلال الرأسمالي للبلدان المتخلفة لا بد - في نفس الوقت - أن يحرك نفس النزاع الطبقي الذي يتولد في داخل الدول الرأسمالية؛ مما ينجم عنه أن تنضم المقاومة الوطنية إلى الوعي الطبقي في الجماهير المستعمرة وتثور في وجه رأس المال الأجنبي المستغل. وهذا الموقف يعجل بثورة البروليتاريا، ويقوي التناقض الموجود في الرأسمالية؛ لأن وجود الدولة الشيوعية يمحو الأسواق ومصادر الاستيراد، ويكون رمزا لإمكان حدوث الانقلاب الثوري؛ ومن ثم فإن النظرية الماركسية تزعم أن الدول الرأسمالية تسعى إلى تدمير الدول الشيوعية وإلا دمرتها الشيوعية. ويحمل لينين هذا الرأي في عبارته الشهيرة التي قال فيها: «ما دامت الرأسمالية والشيوعية موجودتين، فنحن لا نستطيع أن نعيش في سلام.»
ومهما كانت قوة المذهب المادي بالنسبة إلى الماضي وبالنسبة إلى بعض النبوءات التي ثبتت في الحاضر، فإن القوة المعنوية والتبشيرية الكامنة في هذا المذهب تبلغ ذروتها عند تطبيقها على المستقبل، فإن الوعود البراقة التي تقدمها الشيوعية للبشرية تبرر كل تضحية وكل تعذيب في سبيل تحقيق الغاية المنشودة التي تبشر بالسعادة للجميع ؛ لأن الماركسي يرى في تضخم رأس المال سببا في اختراع أدوات تكنولوجية يمكن أن تدر اليوم ما «يكفي» لكل فرد، بشرط تحطيم الأغلال الرأسمالية. والمفتاح السحري لتحقيق ذلك هو بتحويل وسائل الإنتاج الكبرى إلى النظام الشيوعي، وتحويل نظام الإنتاج من أجل الكسب إلى نظام الإنتاج من أجل المنفعة. هذا هو حلم النظرية الشيوعية، وهو حلم ما برحت النظرية الشيوعية السوفيتية تستوحيه، غير أن لهذا الحلم ثمنه الغالي - وهو الثورة - فبهذه الوسيلة وحدها تستطيع الطبقة العاملة أن تستولي على القوة من أصحاب رأس المال، وبها تنشأ دكتاتورية البروليتاريا. ولهذا الحلم أيضا قيمة عند أولئك الذين استولوا على الحكم باسم السوفيت؛ لأن الاتحاد السوفيتي يزعم أنه أرض السعادة الموعودة، والثمرة الحقيقية للشيوعية العلمية. وهناك أخيرا ذلك الأمل المنشود في قيام مجتمع لا طبقي في نهاية الأمر، مجتمع تتوافر فيه الحرية للجميع، وتحل فيه السيطرة على الأشياء وحسن إدارتها محل السيطرة المستغلة للأفراد. وحتى ينزل العدو عن مكانته - من الداخل أو من الخارج - فلا مناص من اتخاذ وسائل الإرهاب التي لا ترحم مع كل من تحدثه نفسه بالتآمر ضد موطن الشيوعية الأول.
إذا تدبرنا نظرية المادية التاريخية في ضوء نفوذ الشيوعيين وأعمالهم، تحققنا من أن الخطر الشيوعي عامل أساسي في الأزمة التي نعانيها في العصر الحاضر. إنها عنصر فعال في الأزمة؛ لأنها نظرية تدعو إلى إثارة الأزمة وتعميمها ومد أجلها، ويؤمن بها حزب عسكري ويثق بصحتها صحة مطلقة، ويرى أنها نظرية النظريات التي يجب أن نسترشد بها في كل ما نعمل. إنها نظرية عامة تشمل الزمان كله، والمكان كله، وجميع أوجه نشاط الإنسان. وهي نظرية ثابتة ثبوت غيرها من النظريات العلمية. وكثير ممن يدرسون التاريخ تجذبهم فيها بساطتها وتعميمها عند تطبيقها في الماضي، وكثيرون آخرون يجذبهم فيها صدق نبوءاتها في تطور العمل ونمو الاحتكار الرأسمالي، والحروب العالمية وثورات المستعمرات. وأخيرا هناك من الناس من يجذبهم فيها أنها نظرية تفسر الماضي وتتنبأ بالحاضر؛ ومن ثم يمكن استخدامها في توجيه مسير المستقبل .
Unknown page
إن هذه النظرية - بما تزعم لنفسها من كيان علمي - مصدر خطر حقيقي؛ لأنها تستخدم كأداة، لا من جانب الأحزاب السياسية بالمعنى الغربي، ولكن من جانب الأحزاب الشيوعية المركزية المنظمة التي تخضع لحكم الفرد، والتي تتألف منها الحكومات التي تحتكر النفوذ السياسي والاقتصادي والروحي على مئات الملايين من البشر. وهذه الأحزاب ذات النفوذ المريض هي تطبيق لفكرة لينين على الحزب التي ظهرت نتيجة لفترة طويلة من النشاط السياسي. والواقع أن الحزب على الصورة التي يراه عليها لينين يكون، مع نظرية ماركس عن استمرار النزاع، لب النظرية الشيوعية وتطبيقها. ومن ثم وجب علينا أن نملك أيضا الدور الذي يلعبه الحزب اللينيني وحقيقته، ما دام الحزب هو الحقيقة الاجتماعية الأساسية التي تتميز بها الدولة الشيوعية، وما دام حقيقة من الحقائق الكبرى التي تدعو إلى انقسام العالم هذا الانقسام الشديد. إن تأليف الحزب على هذه الصورة يفسر لنا كيف أن 240000 روسي ينتمون إلى الحزب هم الذين يمتلكون النفوذ ويتحكمون في دولة من الدولتين الكبيرتين في العالم، وهي دولة تستطيع أن تهدد الدول الأخرى بصواريخها وسيطرتها على الفضاء، كما تفسر لنا كيف أن 20000 صيني ينتمون إلى الحزب الشيوعي يتحكمون في 650 مليونا من البشر تتألف منهم أقوى دولة في آسيا.
وتأليف الحزب الثوري على هذه الصورة هو من عمل لينين. وقد عبر لينين بهذا الحزب عن الحاجة إلى مجموعة متآمرة تستطيع أن تقوم بعمل الجيش السياسي. وأحس بأن العمال يميلون إلى الاقتناع بالنضال اليسير في سبيل رفع مستوى معيشتهم عن طريق اتحاداتهم، وأنهم لا يستطيعون تنمية وعيهم الثائر إلا إذا بصرهم الثائرون من أرباب الفكر برسالتهم التاريخية. وقد أصر - فوق ذلك - على ضرورة وجود ثوريين محترفين يستطيعون أن يكرسوا حياتهم كلها للنضال ضد القيصرية، ويؤلفون لجنة مركزية للحزب، تكون بمثابة أركان الحرب للجيش السياسي العام، وزاد إحساسه بهذه الضرورة صعوبة العمل السياسي في ظل النظام القيصري حينما كان بالإمكان إبعاد الأحزاب الثائرة. وكانت الحرب العالمية الأولى وانهيار القيصرية في عام 1917م هي المرحلة الثانية، عندئذ عاد لينين إلى روسيا لكي يملك حزبه زمام النفوذ؛ أولا باستغلال السخط المتزايد بين أوساط العمال والجند والفلاحين، ثم بالدسائس، فاستطاع أن يسقط بالقوة الحكومة المؤقتة التي وصلت إلى كرسي الحكم بالطريق الديمقراطي. وقد بدأت ثورة أكتوبر بحل المجلس النيابي، وهو أول مجلس روسي تم انتخابه قبل ثورة أكتوبر بقليل بالاقتراع العام الحر. ويرجع السبب في هذه الحركة القاضية إلى أن زعماء الحزب الشيوعي لم يكن بوسعهم أن يسيطروا على المجلس وهو يتألف من أغلبية غير شيوعية. ومن السذاجة كما قال لينين «أن ننتظر أن تكون للبلاشفة الأغلبية بالطريق الرسمي. إن ذلك يتنافى ومنطق الثورة.»
ثم جاءت بعد ذلك المرحلة الأخيرة من مراحل تأليف الحزب الواحد التي أعقبت فترة الحرب الأهلية، وخرست أصوات جميع الأحزاب السياسية الأخرى وكل وسائل النقد السياسي الحر، وصحب ذلك تأليف التشيكا، أو إدارة البوليس السري التي قذفت الرعب في النفوس، وقضت على كل معارضة من جانب الجماهير، وقمعت ثورة الفلاحين في روسيا الوسطى ضد ما قامت به الحكومة من الاستيلاء على موارد التموين. ونتيجة للاضطراب الذي حدث بين صفوف العمال في بتروغراد تألفت جماعة من العمال المعارضين ذوي النفوذ الشيوعي لكي تطالب بإنهاء تجنيد العمال وتكوين إدارة محلية بكل مصنع، ولكن هذه الحركة أيضا أمكن قمعها. وكذلك أمكن قمع الحركة التي قام بها الملاحون بقاعدة كرونشتات البحرية الذين رفعوا من قبل لينين إلى ذروة الحكم في عام 1917م؛ لأنهم بدءوا يطالبون بالحريات الديمقراطية. ولما فشل قيام الثورة الألمانية المرتقبة رأى لينين أنه لم يعد بد من تعزيز نفوذه داخل البلاد، فتقدم ببرنامج جديد للمؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الذي عقد في عام 1921م. وفي هذا البرنامج أعلن السياسة الاقتصادية الجديدة التي سمحت بحرية التجارة في القرى ووضعت القيود على حرية العمل في المدن، وأصدر قوانين جديدة تحرم تكوين جماعات حربية كما تحرم الثورة ضد برنامج اللجنة المركزية.
وبهذه الحركة التي قام بها لينين تخلت الشيوعية عن كثير من الآراء النظرية الماركسية الأولى التي تتعلق بنشأة الثورة الاشتراكية وتطورها؛ ذلك لأن ماركس نادى بأن قوى العلاقات الاجتماعية في الإنتاج تخلق وعيا اشتراكيا صحيحا بين العمال وتقودهم إلى تنظيم الثورة ضد الرأسمالية، وأن الرأسمالية لن تتدهور إلا بعد أن تبلغ ذروة تطورها، وأن العمال، وهم الأغلبية الساحقة من السكان، سوف يقيمون ديمقراطية العمال لكي يحكموا العلاقات القائمة بينهم وبين أنفسهم، كما يقيمون دكتاتورية البروليتاريا لكي يحموا الثورة ضد الرأسماليين الذين انتزعت منهم أملاكهم. بيد أن هذه الآراء الماركسية الأولى قد نبذها لينين عندما اصطدمت بالواقع المر. ولم يكن دور الحزب الشيوعي الروسي هندسة الثورة التي نشبت ضد القيصرية، وإنما كان دوره دور المكتسح الذي لا يبقي ولا يذر. وقد ننسى أحيانا أن العمال الروس كانوا يؤلفون أقل من عشرة في المائة من السكان، وأنهم لم ينجذبوا عموما نحو الحزب الشيوعي الروسي. وكذلك لم تنشب الثورة في بلد توافرت فيه الشروط الاقتصادية للنضج الرأسمالي الذي أشار إليه ماركس، وإنما نشبت في بلد تسوده الزراعة. ولم تكن الدكتاتورية بعد أكتوبر في الواقع دكتاتورية العمال، أو حتى دكتاتورية جزء يسير من العمال، وإنما كانت دكتاتورية الحزب وتحكمه في الناس، بل دكتاتورية اللجنة المركزية وتحكمها في الأعضاء. وهذا الحق الذي اكتسبه الحزب - حق الوصاية على العمال - حق الحزب في الاستعاضة برأيه القاطع وإرادته القوية عن أوهام العمال وأسباب ترددهم، هذا الحق هو أساس اللينينية.
والمرحلة الحاسمة التالية في تطور الحزب تشمل ثلاثين عاما من حكم استالين، وهي تثبت أركان ما أقامه لينين من دعائم. عندما أصبح استالين سكرتيرا عاما للحزب في عام 1922م، استغل منصبه في تعيين أتباعه في المراكز الهامة لكي يضمن الأغلبية لنفسه في مؤتمرات الحزب، وبذلك يسيطر على الحزب وعلى اللجنة المركزية ويبسط نفوذه هنا وهناك. وقد تآمر في البداية مع بعض زملائه لكي يبعد تروتسكي عن خلافة لينين، وعمل على الحد من نفوذه، ثم تآمر مع آخرين وقضى على حلفائه الأولين، وحد من نفوذهم، ثم فصلهم من الحزب في عام 1927م. وفي عام 1928م انقلب على أنصاره الجدد، وأعلن في عام 1929م أن جميع قرارات المكتب السياسي يجب أن تكون بالإجماع، ثم أعلن بعد ذلك خطة السنوات الخمس، التي تكفلت بفرض الزراعة الجماعية، واطراد تصنيع الاقتصاد. وقد نفذت الخطة بكل وسيلة من وسائل الإرغام، ومات في سبيل ذلك الملايين من الناس، وزج بغيرهم من الملايين في المعسكرات التي أقيمت في المناطق المهجورة بشمال روسيا في قارتي آسيا وأوروبا، وهي معسكرات كان يديرها البوليس السري، ويرغم فيها الأفراد على العمل الإجباري. واضطر الفلاحون إلى ذبح الماشية يسدون بها رمق الجوع، وأصيبت الزراعة بنكسة جعلتها أضعف قطاع اقتصادي في البلاد. ومن النتائج الأخرى لسياسة استالين تقدم الصناعات الثقيلة والصناعات الحربية مع إهمال إنتاج السلع المستهلكة وأدوات البناء، حتى أصبحت جمهرة الناس على حافة الموت. وقد نفر عدد كبير من أعضاء الحزب الشيوعي من هذا البرنامج حتى وجد استالين نفسه مضطرا إلى التطهير الدموي والمحاكمات العامة لزعماء الحزب القدامى، وغيرهم من الأعضاء، وقواد الجيش وكبار الموظفين. وبفضل هذا الإرهاب أصبحت لاستالين السيطرة المطلقة على الحزب، وأصبحت للحزب السيطرة الكاملة على الدولة، والشعب، وكل ناحية من نواحي المجتمع الروسي. وتسوغ إقامة هذا الحكم الاستبدادي ضرورة إنجاز التصنيع في بلد متخلف من الناحية الاقتصادية لفرض الظروف الاقتصادية الأساسية التي تميز بها البناء الشيوعي.
وتتمثل المرحلة الحاسمة التالية لتثبيت الحزب في سياسة استالين الخارجية. ولما كانت النظرية الماركسية لا تفتأ تؤكد أن منطق الرأسمالية يسوق القوى الرأسمالية إلى القتال مع الاشتراكية، فلا بد من تعزيز نفوذ الدولة الجماعية وبسط سلطانها لحماية موطن الاشتراكية، ولتحقيق النصر الشيوعي في جميع أرجاء العالم. وتؤكد السياسة الخارجية التي انتهجها استالين جوانب الدفاع السلبي من خطته في أثناء الفترة التي تقع بين تاريخ استيلائه على النفوذ في عام 1922م حتى ظفر هتلر بالحكم في عام 1933م. ولما وجد استالين نفسه مواجها لقوى ألمانيا النازية المتزايدة، حول سياسته الخارجية نحو الأمن العالمي لكي يكتسب التأييد ضد الخطر الهتلري من جانب دول الغرب في عصبة الأمم. وظهور هذا العدو الحقيقي إلى جانب عداوة اليابان كان مسوغا جديدا له لكي يستزيد من الحرمان والضغط وصنوف القساوة والشدة في البرنامج الذي رسم للتصنيع وللعمل الجماعي. ولكن عندما بدا للناس كأن لقاء ميونيخ قد نهنه من طغيان هتلر، وجه استالين سياسته الخارجية مرة أخرى وجهة ثانية، وتفاوض مع ألمانيا في إبرام ميثاق لعدم الاعتداء حتى يستغل عدوان هتلر في الدفاع عن الدولة الروسية الجماعية وبسط نفوذها. وكان للميثاق فيما يبدو ميزتان: الدفاع، بما تضمن من وعد بحياد السوفيت، مما أجاز اعتداء النازي على بولندا دون نشوب حرب في جبهتين؛ ثم التوسع، بما تضمن الميثاق من تقسيم بولندا، وتقسيم شرقي أوروبا إلى مجالات نفوذ معينة. ويبدو أن استالين كان يعتقد أن اتفاقه مع هتلر سوف يدوم؛ ومن ثم فقد ذهل عندما وقع الهجوم الألماني على الاتحاد السوفيتي ولم يكن مستعدا لمقابلته. وما إن حل عام 1941 حتى كان الجيش الأحمر قد تحمل من النكبات ما يفوق تلك الكوارث التي أدت إلى سحق الجيش القيصري. وما إن أشرف عام 1941 على نهايته حتى تمكن الضباط الألمان من رؤية ضواحي موسكو من خلال المناظير، ولكن روسيا بفضل معونة الغرب الرأسمالية استطاعت أن تنجو من محنة الحرب وتصد الجيش الألماني الذي قرع أبواب ستالنجراد، وظهرت كأنها «مخلصة الحضارة من الوحشية الهتلرية».
ولم يتردد استالين في أن يستغل السمعة العريضة التي اكتسبها إبان الحرب في دفع أهدافه الشيوعية إلى الأمام. ولما كان يؤمن بالنظرية التي تؤكد ضرورة نشوب نزاع آخر، وضرورة التوسع في قوى الإنتاج حتى تنتصر الشيوعية، فقد استغل جبهة الغرب بالسياسة، والإنهاك والتعب الذي خلفته الحرب في العالم، والمكانة الممتازة التي بلغها الجيش الأحمر في نهاية الحرب، استغل ذلك كله في تعزيز نفوذ الشيوعية في شرقي أوروبا وفي وسطها وفي البلقان، وفي مطالبته بأن يكون لروسيا صوت في تسوية الأمور في ألمانيا وفي منشوريا وغيرهما من بقاع الأرض. وتبينت الخصومة القديمة ضد الحلفاء السابقين في الخلافات التي نشبت عقب الحرب بشأن تقسيم أوروبا؛ لأن استالين لا يرى حكومة صديقة له سوى تلك التي يديرها الحزب الشيوعي، ولا يرى مجالا للنفوذ إلا للسيطرة الشيوعية المطلقة. ومنذ عام 1945 أخذ الشيوعيون يجمعون مكاسبهم في بلدان شرقي أوروبا، ويزحفون بقواهم إلى الأمام حتى توقفت عند اليونان وبرلين وكوريا ويوغوسلافيا. وقد دفع منطق النظام الروسي الولايات المتحدة إلى أن تتزعم خصوم المعسكر الاشتراكي، واستطاعت أن توقف زحف النفوذ الشيوعي الكامل على آسيا وأوروبا، وهو ما كان يحلم به استالين بعد الحرب.
وبعد هذا الاستعراض للنظرية الشيوعية ووضعها موضع التنفيذ، يجدر بنا أن نفسر السياسة الراهنة التي ينتهجها الزعماء الشيوعيون، وأن نقدر أهميتها كعامل أساسي من عوامل الأزمة العالمية الحاضرة. لقد حدثت منذ وفاة استالين تغيرات متعددة لا تدل على ازدياد المرونة في التنفيذ تحت الظروف الجديدة، دون إحداث أي تغير أساسي في أهداف الشيوعية. ومثال ذلك أن تصرف السوفيت لم يعد ينم - كما كان من قبل - على الرغبة في إحداث أزمة اقتصادية عنيفة في الدول الرأسمالية الكبرى بعد الحرب. كما أن التوتر الداخلي قد خفت حدته بسبب ارتفاع مستوى التنمية الاقتصادية داخل الاتحاد السوفيتي، وبسبب وجود قوة عاملة ماهرة نشأت وترعرعت في ظل نظام بات يمثل إحدى الدولتين العظيمتين في العالم.
ومن التطورات التي حدثت أيضا التحول من نظام التحكم الفردي إلى نظام الزعامة الجماعية.
وهذه المرونة الجديدة في التنفيذ تبدو كذلك في سياسة روسيا الخارجية. ومن العوامل الهامة في ذلك وجود حزب شيوعي متحالف في الصين؛ فبعدما كان استالين لا يسمح بارتباط أخوي بين الأحزاب الشيوعية، وإنما يريد السلطان المطلق للحزب الشيوعي الروسي، يرى الزعماء الجدد ميزة كبرى - بل ضرورة ملحة - في التحالف مع زعماء الحزب الشيوعي الصيني، بسبب قوة نفوذه وبعد تأثيره في آسيا.
Unknown page
وهذه العقيدة وما أحرزته الصين الشيوعية من مركز مرموق ووقوفها رمزا شامخا يشير إلى الثورة ضد الاستعمار، تستخدم في استغلال القلق الذي أخذ يسري في البلدان المتخلفة في العالم طرا. والعامل الآخر الذي دعا إلى المرونة في السياسة الخارجية هو تلك القوة العظيمة التي أصبحت بين يدي روسيا بعد التقدم الذي أحرزته في تطوير الأسلحة الصاروخية والنووية، فأضعفت بذلك قوة التحالف الدفاعي بين الولايات المتحدة وحلفائها؛ لأنها تستطيع أن تقابل القوة بالقوة، والإرهاب بالإرهاب.
ويتضح مما سبق أن البرنامج الرئيسي الذي رسمه الشيوعيون في روسيا لم يطرأ عليه سوى تعديل طفيف برغم كل ما أدخله الزعماء هناك من وسائل جديدة في طريقة التنفيذ. ونسوق في هذا المجال ما ذكره خروشوف في إحدى حفلات الكرملين التي أقيمت تكريما لزعماء ألمانيا الشرقية الشيوعيين حيث قال: «إذا دخل في روع أي إنسان أن بسماتنا تدل على التحول عن تعاليم ماركس وإنجلز ولينين، فلقد خدع نفسه أيما خداع. إن أولئك الذين ينتظرون هذا التحول عليهم أن ينتظروا حتى يتعلم برغوث البحر الصغير.»
ويمكننا أن ندرك المغزى الكامل لهذه العبارة، إذا نحن قرأنا بإمعان ذلك التقرير الرسمي الطويل الذي ألقاه خروشوف باعتباره سكرتير الحزب الشيوعي في المؤتمر العشرين للحزب الذي انعقد في فبراير من عام 1956. ويجدر بنا أن نركن إلى نص الخطاب؛ لأنه غير شائع أو معروف في بلاد الغرب، ولأنه يرتبط في الأذهان ب «التعايش السلمي». بدأ خروشوف خطابه بتحليل العوامل الرئيسية التي يتصف بها الموقف الدولي في العصر الحاضر. وقد أشار إلى الخطوات الواسعة التي خطاها الاقتصاد السوفيتي، وقارن بين هذه الخطوات و«تعزيز الاحتكارات، وزيادة الاستغلال ... وخفض مستويات المعيشة ... وحدة المنافسة بين الدول الرأسمالية، وبلوغ الأزمات الاقتصادية الجديدة والانقلابات الحديثة ذروتها.» ولكي تتغلب الدول الرأسمالية على الأزمات المطردة، لجأت إلى الوسيلة القديمة، وسيلة عقد المحالفات العسكرية العدائية؛ لكي تسترد نفوذها بالقوة الحربية. وقد علمنا التاريخ أن الدول الاستعمارية - حينما تفكر في إعادة تقسيم العالم - كانت دائما تؤلف التكتلات العسكرية. وهي اليوم تضع الشعارات «المناهضة للشيوعية» ... «لكي تتستر على رغبتها في السيطرة على العالم عن طريق القوة». ولكن يقف في طريقها وجود روسيا الشيوعية والصين الشيوعية وما لديهما من قوة عامل جديد فعال في التاريخ يعمل على توقف الدول الرأسمالية عند حد. إن سير العلاقات الدولية في السنوات الأخيرة يدل على قيام قوى شعبية أكبر لكي تقاتل في سبيل الاحتفاظ بالسلام. والدوائر الاستعمارية الحاكمة لا تستطيع نكران هذه الظاهرة. وقد بدأ ممثلوهم من ذوي البصائر النافذة يعترفون بأن «سياسة القوة ... قد فشلت ... غير أن هؤلاء الممثلين المعروفين لدى الجمهور لا يجرءون حتى اليوم على القول بأن الرأسمالية سوف تلاقي حتفها في عالم آخر ... في حين أنهم يعترفون صراحة بأن المعسكر الاشتراكي لا يقهر.» هذا هو الموقف الذي يهيئ الظروف للتعايش السلمي. «إن أعداءنا يصوروننا نحن أتباع لينين قوما يحبذون العنف دائما وفي كل مكان. حقا إننا نعترف بالحاجة إلى التحول الثوري للمجتمع الرأسمالي إلى مجتمع اشتراكي، وهو ما يميز الماركسيين الثوريين عن المصلحين. وليس من شك في أن قلب دكتاتورية البرجوازية بالعنف في عدد من البلدان الرأسمالية ضرورة لا مناص منها. ولكن أشكال الثورة الاجتماعية متنوعة ... فإن شدة النضال واستخدام العنف أو عدم استخدامه في التحول إلى الاشتراكية يتوقف على مقاومة المستغلين ... والمقاومة الجدية - بطبيعة الحال - من جانب القوى الرجعية أمر لا مفر منه في تلك البلدان التي ما زالت الرأسمالية فيها قوية، حيث تملك أداة حربية وشرطية ضخمة؛ فهناك يتم التحول الاشتراكي تحت ظل نضال طبقي ثوري حاد.»
ويؤيد هذه السياسة الشيوعية الأساسية زعماء الحزب الصيني الشيوعي. وربما كان أحسن تعبير عنها ما ورد في كتاب ماوتسي تنج عن «الحرب الطويلة». وأهمية ما ورد هنا لا تصدر عن مكانة ماوتسي المرموقة كزعيم الثورة الشيوعية في آسيا فحسب، بل تصدر أيضا عن الدور الذي يقوم به كرمز سياسي للثورة الأعم ضد ثلاثة قرون من سيادة الغرب، وهي ثورة تستمد حافزا جديدا من نجاح الثورة الصينية (وليست هذه الحرب رائدا لتحرير الصين فحسب، ولكنها تدل دلالة قوية على الثورة العالمية. وسوف نقود الحرب الصينية حتى نهايتها، وسوف نترك أثرا بعيدا كذلك في ثورة الشرق، وفي العالم كله). ولبث ماوتسي نحو عشرين عاما في ريف الصين وفي جبال ينان دون أن يحيد عن هدفه الذي يرمي إلى تجميع السلطة في الصين. والاحتمال والصبر والجلد ، على سند من سياسة ثورية بوسعها أن تستغل تقلبات الحظوظ والظروف، من الشروط اللازمة للنصر. وتتلخص هذه السياسة في ثلاث قواعد صاغها ماوتسي؛ أولها أن المذهب الماركسي يقوم بالنسبة إلى التأثر الشيوعي بعمل المنظار المقرب أو المكبر الذي يميز به بين الضروري وغير الضروري في تقدير العوامل. وثانيها أن من واجبنا أن نبذل قصارى الجهد في صم آذان العدو وإغماض عينيه، فنجعله كفيفا أصم؛ وذلك لكي نحقق النصر لأنفسنا. وثالثها «أن نتقهقر إذا تقدم العدو، وأن ننقض إذا توقف، ونهجم إذا تريث، وأن نتابع السير إذا تقهقر.» إن ما نبه إليه سقراط عندما قال «اعرف نفسك» يتحول عند الشيوعيين إلى هذا التحذير: «اعرف عدوك واعرف نفسك؛ فإن فعلت كسبت مائة معركة دون أن تنهزم في واحدة.»
ويترتب على مواصلة النضال أن يكون السلام ضربا من ضروب النضال، واستمرارا للنزاع، ولكن بوسيلة أخرى، وأنه لا يمكن تحقيق السلام الدائم إلا بالقضاء على النزاع الطبقي الذي يأتي نتيجة لإقرار النظام الشيوعي في العالم، وأن أية حركة شيوعية، مهما تكن عسكرية، هي حركة عادلة تخدم قضية السلام، في حين أن كل حركة رأسمالية، مهما تكن مسالمة، هي حركة سخيفة ظالمة لأنها تؤدي إلى اشتعال الحرب. «إننا نهدف إلى السلام، لا في بلد واحد فحسب، ولكن في أنحاء العالم طرا. ونحن لا نهدف إلى السلام المؤقت، وإنما نهدف إلى السلام الدائم. ولكي نحقق هذا الهدف يجب أن نشن حربا لا هوادة فيها، وأن نكون مستعدين للتضحية بأي شيء؛ لأن الحرب ذاتها، ذلك الخطر الذي يفتك بالطرفين على السواء، سوف تختفي بذلك نهائيا من المجتمع البشري. ولكن هناك وسيلة واحدة نستبعد بها شبح الحرب، وهي أن ننفي الحرب بالحرب، وأن نقضي بالحرب النووية على الحرب الرجعية.»
وتمشيا مع هذا المذهب السياسي، ومع الدروس التي تعلمها من حزب لينين ومن الخطط الخمسية الاستالينية، شرع ماوتسي وغيره من زعماء الصين في إخضاع القطاعات شبه الإقطاعية وشبه الاستعمارية تحت الرقابة المطلقة لسلطات التحقيق. وقد نفذ هذا البرنامج على مستوى من التقدم ينخفض عن المستوى الروسي في عام 1900م، وبسرعة تفوق ما رسم استالين في عام 1928م؛ ومن ثم بات من المحتمل أن يزيد عدد الضحايا البشرية عما حدث في روسيا ذاتها، وهي المثال المحتذى. وقد اتخذت كل وسائل الضغط السياسي لإنشاء الصناعات الثقيلة على حساب الزراعة الجماعية، فنجم عن ذلك، وعن بطء التنمية الزراعية، أن بات ما ينيف عن ستمائة وخمسين مليونا من البشر يعيشون على الكفاف. وقد أعلن ماوتسي في عام 1953 بداية التحول إلى الشيوعية و«التحول السلمي» لطبقة البرجوازي. وهذا المذهب، الذي لم يظهر حتى الآن في العقيدة الشيوعية، إنما نشأ من تخلف الاقتصاد في آسيا، وكثرة الفلاحين وقلة العمال، وتحديد عناصر الطبقة البرجوازية وضعفها، بل ومعارضتها للرأسماليين الأجانب الذين يسيطرون على خاماتهم؛ فكان من الميسور أن تلقن الطبقة البرجوازية مبدأ التعاون مع الحزب في بناء الاشتراكية.
وهذه السياسة الداخلية تؤيد وتعزز السياسة الخارجية للنظام الشيوعي. والهدف الأول للزعيم الشيوعي الصيني في هذه الآونة هو قيام الصين الموحدة القوية، ولا يرمي إلى تثبيت أركان السيطرة الشيوعية على بلاده الشاسعة فحسب، وإنما يرمي أيضا إلى بسط النفوذ الشيوعي في جنوب شرقي آسيا؛ ومن ثم فإن الولايات المتحدة تصبح هدفا لهجوم بكين؛ لأنها تبدو للشيوعيين الدولة الإمبريالية العظمى، وأكبر عقبة في سبيل تحقيق أهداف الدولية العالمية. ولا يمكن للصين الشيوعية أن تنسى أن الولايات المتحدة قد أيدت اليابان الحديثة وجنوبي كوريا، وعاونت تلك البلاد التي تقع في جنوب شرقي آسيا من بورما إلى الفلين، حيث ترى الصين الشيوعية نفوذها هناك معرضا للخطر. ولكن زعماء الصين الشيوعية - طبقا لنظرية ماوتسي التي تقول بمواصلة الحرب والنضال - ليسوا على عجل، وبوسعهم أن يتريثوا حتى تتاح لهم الفرصة التي تمكنهم من بسط نفوذهم على تلك المساحة الشاسعة من الأرض التي تهمهم، وهي مساحة تموج بأسباب القلق، غنية في مواردها، مأهولة بقوم فقراء ساخطين، يمكن توجيه ما في نفوسهم من مرارة في يسر نحو القرون الثلاثة التي خضعوا فيها لنفوذ الغرب، ذلك النفوذ الذي تعد الولايات المتحدة رمزا له في الوقت الحاضر. وزعماء الصين الشيعية باعتبارهم آسيويين خالصين وبوصفهم شيوعيين، يتحكمون في قوة آسيوية لها مكانتها في المجال الدولي، وفي منتصف القرن العشرين يكونون بوضعهم هذا أساسا مكينا لتحالف صيني سوفيتي في الأزمة العالمية الراهنة.
وإذا بقي الموقف الدولي على هذه الحال دون تحول في سياسة الدول الكبرى، فلا بد أن يدخل العالم في حرب ضروس قد لا يبقى فيها شرق ولا غرب. (3) تحدي البلدان المتخلفة
إن الثورة الشيوعية تتخلل ثورة أخرى يشب اليوم أوارها في البلدان المتخلفة في العالم وتقويها وتؤازرها، وتشمل هذه البلدان أكثر شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهم يبلغون على وجه التقريب ثلثي سكان العالم أجمع، وهم يتحدون الغرب بسبب ما يعانون من فقر مدقع، وما يتأجج في صدورهم من وطنية عارمة، وبسبب اطراد الزيادة في السكان، ورغبتهم في اللحاق بالتقدم الصناعي الذي يتميز به القرن التاسع عشر. والطريقة التي تعالج بها هذه الشعوب مثل هذه المشكلات فتنجح في حلها أو تفشل سوف تؤثر في مستقبل الحرية في العالم تأثيرا كبيرا.
وأول وجه من وجوه هذا التحول في المجتمعات غير الغربية هو قيام ثورة تتسم بالطموح والأمل. إنها مجتمعات فقيرة جدا، ولم تعد شعوبها تحس بضرورة الخضوع للفقر الشديد الذي كان يكابده أسلافهم. ويدل على هذا الفقر انخفاض مستوى دخل الفرد، وبخاصة في قطرين عظيمين كالهند والصين. وليس هذا الفقر على هذه البلدان بجديد، وهو فقر تسوده نظم الاقتصاد الزراعي، ويشكو فيه السكان الجوع وسوء التغذية، وتنتشر فيه الأمراض، ويقل مجهود الفرد. وقد أدرك سكان هذه البلاد مقدار انحطاط المستوى في طريقة عيشهم باحتكاكهم بأهل الغرب، كما أدركوا الإمكانيات الفنية التي يمكن أن تستخدم في رفع مستوى العيش عندهم.
Unknown page
وكذلك أدى احتكاك أبناء هذه البلاد بأبناء الغرب إلى إشعال نار الثورة الوطنية، واقتبسوا فكرة الحكومة الوطنية وحق تقرير المصير من الغرب، وحقدت المستعمرات على الإمبريالية الغربية واستغلالها لثروات بلادهم. وقد أثار هذا الشعور في نفوسهم زوال القيم القديمة وطرائق العيش العتيقة نتيجة لتأثير الغرب، والذل الذي فرضه عليهم المستعمر. ولم يعد الفلاح على سذاجته مقتصرا على فلاحة الأرض، يرضى بالقليل من الرزق وبوجود الملكيات الشاسعة. كما انحلت روابط الأسرة وتماسك أهل القرية. وكذلك العمال في المدن كانوا من القرويين المهاجرين الذين فقدوا حماية القرية ولم يجدوا الطمأنينة في المجتمع الجديد. أضف إلى ذلك تلك الطبقة الوسطى التي تعلم بعض أفرادها في الغرب وأشبعوا بروحه، فقد ثاروا على وضعهم الذليل تحت سلطان المستعمر، وعلى النظام شبه الإقطاعي الذي يسود بلادهم. وقد أدى ذلك كله إلى اضطراب الطبقة الحاكمة القديمة. وهذا التحول من نظام المستعمرات إلى الدول المستقلة أخذ يطرد بسرعة فائقة بعد الحرب العالمية الثانية.
كما أن السكان في هذه البلاد يتزايدون بنسبة مرتفعة جدا لا تمكنها مهما جدت أن تزيل معها أسباب الفقر ومظاهره. ويمكن تقسيم هذه البلاد إلى مجموعتين بالنسبة إلى نمو السكان فيها؛ مجموعة تطرد فهيا الزيادة في الوقت الحاضر، ومجموعة أخرى يمكن أن ينمو فيها السكان بسرعة فائقة. ويرجع السبب في هذا النمو إلى زيادة نسبة المواليد مع تحسن الظروف الصحية والطبية وانخفاض تكاليف العلاج.
وسوف يكون لهذه الزيادة في السكان في البلدان المتخلفة حتما آثار سياسية واجتماعية واقتصادية بعيدة المدى؛ فإما أن يرتفع مستوى المعيشة في هذه البلدان، وإما أن يبدو الفرق واضحا بينه وبين المستوى في بلاد الغرب، فتشتد العداوة بين الشرق والغرب.
وهذه الحالة من الفقر التي بيناها، واشتعال روح الوطنية، واطراد الزيادة في السكان هي التي تدفع هذه البلاد إلى السير في طريق التصنيع؛ فإن الحكومات في هذه البلاد تعتقد أن التصنيع هو الوسيلة الوحيدة لرفع مستوى المعيشة إلى الاستقلال القومي والكرامة الوطنية. إنهم يريدون أن يطبقوا الوسائل الفنية الغربية على عجل دون الشعور بضرورة الارتباط بها. ونظرا لقلة الدوافع الفردية، وضعف المهارات الفنية والقدرة على الابتكار بين الأفراد، ونظرا لضغط الظروف السياسية، فإنهم يميلون إلى تسليم الحكومة المركزية الدور الرئيسي في توجيه التنمية الاقتصادية. ونظرا إلى الحاجة إلى التوسع في الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة والمرافق العامة والنقل ووسائل المواصلات، فإن مساهمة الحكومة لا بد أن تكون على نطاق فسيح.
ولكن نسبة نمو السكان سوف تخلق مشكلات عويصة حادة، وقد تقف عقبة كئودا في سبيل تحقيق الأهداف الاقتصادية. وهذه هي الظروف التي تهيئ الفرص إلى انتشار فكرة الشيوعية وتحدي الغرب.
وتتمثل هذه المشكلات الكبرى في الهند والصين على نطاق واسع. وقد بدأت الثورة ضد الغرب في هذين البلدين تحت حكومتيهما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي كل منهما عدد كبير جدا من السكان، يبلغ في الصين نحو 650 مليونا، وفي الهند نحو 400 مليون. وهذا العدد آخذ في التزايد المستمر. وكانت الزراعة وانحطاط المستوى الاقتصادي هما الحالة السائدة هنا وهناك، ودخل الفرد في هذه البلاد يهبط إلى مستوى غاية في الانخفاض. فأخذت الحماسة زعماء البلاد لوضع الخطط الاقتصادية التي ترفع من شأنها، ووضعت الخطة في الصين على أساس تنمية الصناعات الثقيلة إلى الحد الأقصى، وعلى أساس جماعية الزراعة، وذلك دون زيادة الموارد الزراعية على وجه الإجمال أو رفع مستويات المعيشة بين السكان. أما في الهند فإن الخطة ترمي إلى تحسين مركز الزراعة وإصلاح الريف ورفع مستوى المعيشة بين الناس، مع تنمية القطاع الصناعي في الصلب ومصادر القوة وغير ذلك من الصناعات، وكذلك السلع المستهلكة. ويرسم الخطة ويراقب تنفيذها في الصين مراقبة تامة زعماء الحزب، دون مناقشة الجمهور، ومع سيطرة الحكومة المباشرة في كل مجال. أما في الهند فإن الخطط ومشروعاتها تذاع بين الجمهور، وتشترك في المسئولية مع الحكومة المركزية الصناعات الخاصة والحكومات المحلية. وتحتذي الصين في رسم خططها الاتحاد السوفيتي. وقد قال نهرو بعد زيارته الصين ذات مرة إن الهدف من الخطة الهندية «ليس هو تضحية النظم الديمقراطية على مذبح التقدم الاقتصادي ... فإن الرفاهية الاقتصادية التي تقوم على أساس إنكار الحرية البشرية وكرامة الإنسان لا يمكن أن تبلغ بأي قطر من الأقطار غاية بعيدة في نهاية الأمر.» وهذا التباين في الأهداف والبرامج بين الأمتين الكبيرتين في آسيا له أهمية قصوى في الأزمة التي تعانيها في الوقت الحاضر. (4) مصير الحرية في الغرب
في هذه الظروف التي تنشأ عن تحدي الدول المتخلفة وتحدي الشيوعية يجب أن نحاول فهم الأزمة في الغرب ذاته. إن التكنولوجيا الحديثة تدعو إلى تقسيم العالم وعدم الاستقرار فيه. وليس هناك من سبيل إلى الرجوع في تقدم المعرفة والتكنولوجيا. وحتى لو توقف الغرب عن التطور التكنولوجي، فإن الاتحاد السوفيتي وبلدان الشرق لا يمكن أن تتراجع فيه؛ فلا مناص إذن للغرب من الخضوع لتطورات التكنولوجيا أو التطبيق العلمي.
ومن ثم قام من بين المفكرين في الغرب من يدعو إلى تطور العلم إلى أبعد غاياته بغض النظر عن آثاره الإنسانية. وبناء على ما يرى هؤلاء المفكرون تصبح السياسة تابعة للقوة، وتمسي القدرة والموارد العظيمة ذات أثر في رجحان كفة الحق. وهذه النظرية - نظرية القوة المبنية على المعرفة العلمية - لا تعبأ بالمبادئ الديمقراطية، كما أنها لا تعبأ بالقيم الإنسانية. وقد ترتب على ذلك الخلط بين تقدم العلم والتدمير، وبين اليقين والشك، وبين الحرية والأمن.
وهذه الأزمة في القيم تتمثل في محاولة التوفيق بين التطور التكنولوجي القائم على البحث العلمي الحر، وبين التطور الإنساني والروحي القائم على أساس كمال شخصية الإنسان وضرورات المجتمعات البشرية والتزاماتها. والمجهود يسير نحو توجيه التقدم التكنولوجي نحو رفاهية الإنسان.
ولهذه المشكلة أوجه كثيرة تظهر في مختلف الميادين؛ فهناك أزمة الديمقراطية، هل يستطيع المجتمع الصناعي أن يعاون على التقدم البشري والتطور الاجتماعي مع المحافظة على كيانه؟ إن ذلك يعني إلى حد ما أن يئول استخدام القوى إلى أيدي أولئك الذين استطاعوا أن يظفروا بها، وعندئذ تدعى الدولة إلى زيادة التدخل لكي تحفظ للإنسانية رفاهيتها. ويزداد بذلك سلطان الدولة تدريجا حتى تضيق في النهاية بأي نقد يوجه إليها. وهناك أيضا مشكلة الموازنة بين إيجاد عمل لكل فرد دون تضخم في المجتمع الرأسمالي الصناعي، هل يمكن أن نوجد عملا لكل فرد وأن تحتفظ في الوقت ذاته بالاستقرار الاقتصادي؟ أو هل لا مندوحة لنا عن أن نضحي بأحدهما في سبيل الآخر؟ وهناك أيضا مشكلة تنظيم الغرب على أساس تعاوني غير وثيق لكي يوحد جهوده دفاعا عن نفسه ضد الشيوعية وتأييدا للتقدم الاقتصادي الديمقراطي في البلدان المتخلفة. هذه كلها مشكلات عسيرة الحل، تحطم الأمل في المستقبل، وتبعث القلق في النفوس.
Unknown page
وليست هذه التطورات سوى حلقة أخيرة من السلسلة التي بدأت بتقدم العلم الحديث ونشوء القوميات الذي بدأ منذ عصر النهضة. والمشكلة الكبرى التي يواجهها الإنسان المعاصر هي هذه: هل يمكن لتقدم العلوم وقيام الحكومات الوطنية أن يكونا سبيلا إلى الحرية أو إلى زوالها؟ وقد بلغت هذه الأزمة مداها بتجمع القوى في دولتين كبيرتين هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. أولاهما تدعو إلى الحرية، والأخرى تدعو إلى الخضوع. ومن هنا كان الدور القيادي الذي يتحتم على الولايات المتحدة أن تقوم به في سبيل إنقاذ مستقبل الحضارة الغربية.
ولكي تؤدي هذا الواجب الذي ألقي على عاقتها نراها تحاول أن تزيل كل عقبة تقف في سبيل إعادة البناء الاقتصادي لدول الغرب التي أقفرت وأفلست بعد الحرب العالمية الثانية، ورسمت لذلك عدة مشروعات؛ منها مشروع مارشال، وبرنامج النقطة الرابعة، والمعونة العسكرية للبلدان التي يهددها العدوان السوفيتي؛ كما فعلت في جنوب كوريا لكي توقف شمالها الشيوعي عن ابتلاع شبه الجزيرة كلها، وأيدتها في ذلك الأمم المتحدة. وكذلك فعلت الولايات المتحدة في كل بلد يهدده العدوان الشيوعي.
ولكن الولايات المتحدة - برغم هذا - ليست على ثقة من نجاح وسائلها، كما أن المثقفين وأصحاب الرأي خارج أمريكا يشكون في إمكان تغلب الديمقراطية على الحكومات الدكتاتورية؛ ومن ثم فإن فلسفة الديمقراطية - حتى حينما تتنزه عن الرأسمالية - ليست فعالة، بل وليست إنسانية، في نظر كثير من الناس، كما تزعم الشيوعية.
ولا تسلك الولايات المتحدة في سياستها الداخلية مسلكا يؤيدها في هذا الصراع الناشب بينها وبين الاتحاد السوفيتي؛ فهي تتناقض في سياستها الخارجية وتتدخل في شئون غيرها، ولا تقدر الملابسات حق قدرها، وهي تضطهد المعارضين للديمقراطية والمؤيدين للشيوعية بغير هوادة، ثم هي تفرق بين البيض والسود تفرقة عنصرية لا تجوز في القرن العشرين. كل ذلك يثير العداوة للولايات المتحدة أحيانا في بعض بلدان أوروبا وآسيا وأفريقيا، ويثير عليها الاتهام بالمادية وضيق الأفق. ومهما يكن من أمر فإن تضخم القوى في أمريكا يثير ضدها الشكوك. وكذلك كثيرا ما تضر طرق الدعاية الأمريكية بسمعتها.
وقد يعتقد الأمريكيون أن أسلوبهم في الحياة يخدم قضية الحرية، وأن الأسلوب السوفيتي يقضي عليها؛ ومن ثم فهم يؤمنون بأن الدول المؤيدة للحرية ينبغي أن تنضم كلها إلى المعسكر الأمريكي ضد الاعتداء الشيوعي. ولكي تحقق ذلك نراها تتبرع بالمنح والمعونات، مما قد يخدش أحيانا سيادة الدول التي تقبل هذه المنح وتلك المعونات. ولكن ذلك يهون في نظر الأمريكان إذا قيس إلى الذل والخضوع اللذين يفرضهما النظام السوفيتي. ووسط هذا الصراع بين الشرق والغرب يجد مبدأ الحياد ما يسوغه، خاصة وأن الدول المحايدة لا تعتقد أن روسيا أو أمريكا سوف تستخدمان ما لديهما من أسلحة؛ لأن ذلك معناه تدمير الدولتين، بل وتدمير العالم بأسره.
وكان لا بد لمقابلة هذه الحالة من نشوب الحرب الباردة، التي مهما كانت مساوئها فإن ضررها أخف على الناس من ضرر الحرب الشاملة. ولكن امتداد هذه الحرب الباردة يؤدي إلى تصوير القضية في نظر أهل الشرق بأنها قضية الاستعمار والتحرر من سيادة الرجل الأبيض، مما يضطر دول الغرب إلى التكتل ضد مزاعم الشرق. ولما كانت أمريكا في نظر الشرقيين تنحاز إلى الغرب، فإن المشكلة تتعقد تدريجا، ولا تجد سبيلها إلى الحل النهائي.
ولا ترى أمريكا التعايش السلمي حلا للمشكلة؛ لأنها ترى في انتهاج هذه السياسة ما يمكن للشيوعية من تعزيز نفوذها في مختلف الأقطار. ولا بد لمواجهة هذا الموقف من ازدياد قوة الغرب وتوحيد صفوفه، وفي ذلك إذن خطر على الدول التي تريد أن تحقق استقلالها كاملا.
وإذن فلا بد من معالجة الموقف الدولي في كثير من الحذر والحكمة. وإذا كان لا بد للولايات المتحدة من أن تتزعم قضية الحرية، فعليها أن تراعي ثلاثة أمور؛ الأول أنها يجب أن تدرك أن القضية ليست قضية النزاع بين الاشتراكية والرأسمالية، وإنما هي قضية الحرية والدفاع عنها. وفي هذا تتشكك في نيات أمريكا كثير من الدول، وبخاصة ما كان منها خاضعا للنفوذ البريطاني من قبل.
والأمر الثاني الذي يجب أن نذكره هو أن دور الدولة في جميع المجتمعات لا بد أن يأخذ في الازدياد؛ ذلك لأن الالتزامات التكنولوجية تقتضي زيادة نفوذ الدولة، وذلك مما يدعو إلى الحد من حرية الأفراد؛ ومن ثم كانت مهمة الولايات المتحدة شاقة عسيرة؛ لأنها تدعو إلى التحرر في وقت يتطلب فيه التطبيق العلمي زيادة الرقابة. ولم تعد خير الحكومات أقلها تحكما في العصر الحاضر، وإنما خيرها ما يكفل رفع مستوى المعيشة مع الاحتفاظ بالحرية السياسية. وقد يرى المؤيدون لازدياد نفوذ الدولة مقدمة لقيام الحكومة العالمية. ولكن ذلك لن يكون بطبيعة الحال إلا على حساب حريات الأفراد، الذين ربما أغراهم قيام الحكومة العالمية لمنع نشوب الحرب العالمية بالتضحية بحرياتهم الفردية، بل حريات الدول التي ينتمون إليها.
والأمر الثالث الذي يجب ألا يغيب عن أذهاننا هو أن زعامة الولايات المتحدة تتطلب التزام الآراء والمثل الداعية إلى الحرية. ولكن الدول الأخرى ترى في الولايات المتحدة دولة مادية تكتفي بإنتاج السيارات وأجهزة التليفزيون لإشباع رغبات الأفراد، والأسلحة الفتاكة والصواريخ لتعزيز النفوذ السياسي. ونحن لا ندعو إلى الحد من إنتاج هذه السلع لأنها أيضا تسد رغبات غيرنا من الأمم، ولكن ما يجب أن نذكره هو أنه إن كان المضي في هذا الاتجاه يحقق الآمال الأمريكية، فإنه يجب أيضا أن تتاح لغيرنا الفرصة للمضي فيما يرى أنه يحقق حريته في التعبير عن نفسه بطريقته. ولا يكفي أن نتحيز بطريقة العيش الأمريكية، بل ينبغي أن نلقي على الموضوع نظرة أشمل، فندرك ضرورة تكافؤ الفرص بين الأمم، والاحتفاظ بكرامة الإنسان. وبذلك تقوم أمريكا بدورها القيادي الجديد الذي يحقق في الحرية آراء ونظريات لم توضع من قبل موضع التنفيذ.
Unknown page
يجب أن تكون الولايات المتحدة «مصنعا للحريات» تصدرها إلى الخارج - كما قال من قبل فيلسوفها السياسي ماديسون - يجب أن تكون التكنولوجيا هنا عاملا من عوامل تحقيق الحريات. إن ما حققته الولايات المتحدة لنفسها من استقلال وحرية يجب أن يكون مثالا لغيرها من الشعوب كما قال جيفرسون. إننا ندعو إلى تعضيد الإنسانية في نضالها لتحقيق كرامتها، وهي الفلسفة التي نرجو أن يسترشد بها القادة فيما يواجهون من أزمات. فهل يستجيب لهذه الفلسفة رجال الحكم والسياسة في العصر الحاضر؟ هل نستطيع أن نعيد الثقة بقيمة الإنسان وبقدراته العقلية؟ وهل الحرية وحياة التعقل من القيم التي ينبغي أن نعمل على تحقيقها؟ وإن كان الأمر كذلك، فهل يمكن أن يتم ذلك في عصرنا؟ وهل تعلمنا من الأزمة الحاضرة درسا جديدا في الركون إلى العقل والعمل على تحرير الإنسان والاحتفاظ بكرامته؟ (5) دور الفلسفة في الأزمة الحاضرة
إن الأزمة التي نعانيها في الوقت الحاضر أزمة حقيقية محسوسة، ولا يمكن التغلب عليها بالتحذير منها أو بالتحذير من أخطارها. وما دام الأمر كذلك فإنا نتساءل: وما شأن الفلسفة بها؟ وغرضي أن أجيب هنا عن هذا السؤال. وإنما ينبغي لنا قبل الزعم بأن الفلسفة لها أية علاقة بالجو المضطرب الذي يسود العالم أن نفهم المعنى الذي تدل عليه الفلسفة.
ومن أسباب الشك في قيمة الفلسفة في وقت الأزمة هو تلك النظرة العامة التي ترى أن الفلسفة - على أحسن الفروض - شيء خاص ليست له البتة علاقة بمهام العيش. ومن سوء الحظ أن هذا الرأي لا يعتنقه رجل الشارع وحده، وإنما يعتنقه أيضا بعض الفلاسفة المحترفين في بريطانيا والولايات المتحدة، فهذا النفر لا يأبه إلا بطرق التحليل الفلسفي في سبيل توضيح أجزاء من العلم أو ما يجري به اللسان العادي، بل إنهم كثيرا ما يهتمون بصورة التعبير أكثر من اهتمامهم بما يودون أن ينتهوا إليه بتوضيحهم. وبنمو هذه الحركة وبالتساؤل عن طبيعة التحليل الفلسفي ذاته، اتجهت جهود هذه الفئة من الفلاسفة إلى تحليل «التحليل».
وهناك بطبيعة الحال آراء قديمة أخرى عن طبيعة الفلسفة؛ فالفلسفة عند جورج سانتيانا تستحق الدرس؛ لأنها عبارة عن الجهد الذي يبذل في سبيل الكشف عن الحقائق الثابتة التي تلقي الضوء على نشاط الإنسان، فهي لا تصنع من أجل موقف حرج ، وربما لم تكن لازمة في مثل هذه المواقف. ولكن ماركس - من ناحية أخرى - يعتقد أن هذا الرأي خيالي، بعيد كل البعد عن الأمور والناس في هذه الدنيا؛ فقد كان حرج العصر الذي عاش فيه مما يشغله، وحث على الثورة في الفلسفة لكي تهتم بأزمة العصر. ومما قال في ذلك: «إن الفلاسفة قد اكتفوا حتى الآن بتفسير العالم، وإنما المهم تغيير هذا العالم.» وبالرغم من أن رجال التحليل الفلسفي يعتقدون أن كلا الاتجاهين - التفسير والتغيير - خاطئ، فليس من شك في أن الاتجاهين لا يزالان يقتسمان إلى اليوم ذلك الجزء من عالم المعرفة الذي لم يأخذ بنظرية التحليل الفلسفي.
ثم إن هناك - إلى جانب ذلك - من يرى أن الفلسفة تعبير عن العقائد والتزامات الأفراد؛ فهي عزاء وسلوى. وزعيم هذا الاتجاه سقراط، رمز الإنسان المتفلسف في العالم الغربي، الذي رفض أن ينجو من الموت إذا كان ذلك على حساب تخليه عن الفلسفة التي كان يعيش بها ومن أجلها.
وربط «الفلسفة» في هذا الكتاب ب «أوقات الحرج» يرمي إلى الإشارة إلى رأي متكامل يقتضي النظر بعين الفاحص إلى قضايا لها أهميتها القصوى للإنسان الحديث. وهذه النظرة إلى الفلسفة تقترب من معناها اللغوي «حب الحكمة»، ومن أهميتها التاريخية باعتبارها المجال الحر للعقل البشري. وقد ظهر الفيلسوف بهذا المعنى بادئ الأمر في تاريخ الغرب منذ نحو 2500 عام في اليونان حينما ثار الإنسان على التفكير الأسطوري القديم باجترائه على التفكير المتحرر المستقل في أي وجه من وجوه التجربة البشرية؛ ومن ثم فإن كل تواريخ الفلسفة الغربية تبدأ بطاليس وتأملات مدرسة ميليزيا في الكون. هنا نجد الدراسة الكونية تحل محل الأساطير، ونرى الأفراد المفكرين يحتلون مكانة الكهنوت، والبحث العقلي يأخذ مكانة الطقوس المعقدة. وما إن بدأ هذا النوع من أنواع التفكير، حتى سار شوطا بعيدا ولم يقف عند حد.
وإذا كانت الفلسفة قد بدأت بالتعجب في خلق الكون، فقد بلغت شأوا آخر عندما اتجهت نحو البحث عن معرفة الإنسان بنفسه الذي نادى به سقراط. كانت رسالته الاهتمام بالنفس ، حتى لا يرضى الإنسان عن جهله أو يقنع بحاله؛ لأن الحياة التي لا تفحص ، والحياة التي لا تنقد، ليست جديرة بالإنسان. وبحث الشباب الأثيني على هذا اللون من البحث الناقد المستقل شجع سقراط في الواقع على الثورة على الخضوع الاجتماعي لسلطان أصحاب النفوذ وقوة العادات والتقاليد؛ مما هدد حياته بالخطر، وحدا بحكام أثينا أن يطلبوا إليه أن يكف عن نشر هذه التعاليم، وانتهى الأمر بمحاكمته وإعدامه. استمع إليه وهو في محنته يقول: «لن أتخلى عن التفلسف، وعن حثكم عليه، وتوضيح رأيي لكل من أقابل، قائلا له ما ألفت أن أقول دائما: سيدي، إنك أثيني، وإنك مواطن في المدينة العظمى التي اشتهرت بحكمتها وقوتها، ألا تخجل من اهتمامك بمالك وبإنماء ثروتك، وبسمعتك، وبمكانتك، بدلا من اهتمامك بمعرفة الخير والحق وكيف تسمو بروحك؟ وإذا رد علي إنسان بقوله إنه لا يهتم بروحه، فلن أخلي سبيله في الحال وأدعه ينصرف، بل لا بد أن أسأله وأن أحقق معه لكي أعارض رأيه؛ فإن اعتقدت أنه بغير فضيلة - وإنما يدعيها بلسانه - أنبته على الحط من قدر أسمى ما له قيمة، والرفع من شأن ما ليست له قيمة، سأفعل ذلك مع كل من ألاقي من الناس، شيخا كان أو شابا، غريبا كان أو مواطنا، وسأفعل ذلك خاصة معكم أيها المواطنون الأثينيون لما بيني وبينكم من صلة الرحم، وأرجو أن تفهموا أن ذلك هو ما أمرني الله به، وأحسب أنكم لم تنعموا بخير أعظم من هذا الواجب الذي أؤديه لوجه الله؛ لأن كل ما أعمل هو أن أتجول وأقنع الشيوخ والشباب منكم بألا تعطوا أبدانكم وأموالكم من العناية مثلما تعطون لكمال أرواحكم.»
وليس من العسير بعد هذا أن نرى لماذا يعد سقراط أحد أبطال البشرية في مجال الفكر؛ فهو قديس دنيوي عاش ومات من أجل إيمانه بالإنسان وبسيادة العقل البشري.
وفي هذه النشأة وهذا التطور لفلسفة الغرب، نستطيع أن نرى ثلاثة عناصر ثابتة في التقليد الفلسفي من عهد أفلاطون وأرسطو حتى هوايتهد وديوي؛ مما يساعدنا على أن نتبين الدور الذي تلعبه الفلسفة؛ فالفلسفة أولا تقتضي فحص العقائد فحصا واعيا، ولكل منا عقائده، وبفحص هذه العقائد نزداد نضجا، ونمسي أشد قدرة على تقدير قيمة ما نعتقد فيه ومدى تأثيره حتى نبيت أكثر وعيا به وبما يترتب عليه. والعقل - باعتباره راوية لما نعتقد فيه - ضرب من ضروب النشاط الإنساني الذي ليس له عنه غنى. والتفكير - في الفلسفة - ينتظم بالعقل وبالخبرة على السواء؛ العقل للتحكم في علاقة الفكرة بغيرها، والخبرة لتوجيه ما يمكن أن يسلم به، أو يعد من الأمور الثابتة في مجرى البحث. ويحاول العقل أن يخضع لمعاييره في المعرفة والمنطق، دون الخضوع لأية سلطة خارجة عنه؛ لأن مجرد الاعتراف بهذه السلطة يعني الاختيار الشخصي، ولا بد له من علة. هذا العنصر من عناصر البحث الفلسفي - أعني فحص العقائد - يعلل لنا شدة الاهتمام بالطريقة، وبالمنطق، وبنظرية المعرفة.
والعنصر الثاني من عناصر الفلسفة بمعناها القديم هو التوفيق بين العقائد التي ثبتت بالنقد قيمتها. وهنا يشتد الاهتمام بالتعميم دون التخصيص، بالنظرة الشاملة بالمفكر الذي يرى المعرفة كلها والحوادث جميعا لا كمجالات خاصة، أو كمجموعة من الأشياء التي ائتلفت عرضا وبغير نسق، وإنما يراها موضوعا للبحث يستخدم فيه المرء قدراته على التفكير. ولا يقتضي ذلك بناء نظام فلسفي مغلق، فذلك ضرب من المحال. وهناك فرق بين التوفيق - أو التعميم - وبين الجمود في المعرفة الإنسانية والسلوك الإنساني، بين أن يسير المرء على نظام منطقي وأن يتشبث بنظام معين، بين النظرة التي توحد بين الأشتات ومذهب الوحدة. ومن خير من يمثل هذا الاتجاه في الفلسفة أرسطو، وأكويناس، واسبينوزا، وكانت، وهيجل.
Unknown page
والعنصر الثالث من عناصر الفلسفة هو الاهتمام بالقيم الأساسية للإنسان والمجتمع؛ فالتفكير الفلسفي يجمع بين البحث في المعرفة والقيم لكي يرفع من شأن الحياة. وليس من شك في أن كل فرد منا يشغل نفسه بهذا النوع من أنواع التقويم، والفيلسوف في هذا رجل أقوى نقدا وأشد استنارة من أي منا. وربما كان ذلك هو السبب في أننا ما زلنا نقرأ سقراط وأفلاطون وأرسطو بالرغم من أنهم من اليونان القدماء، بل إنا لنستمتع كثيرا عندما نطلع على آثارهم ونعجب بها أيما إعجاب. وإلى إدمان البحث في الإنسان - في الطبيعة وفي المجتمع - يرجع الفضل في اطراد التقدم في نظريات الأخلاق والسياسة.
ومن ثم فإن التزام البحث عن الأفكار المتكاملة المسلسلة في كل قضية من القضايا التي تهم الإنسان، هو ما يكسب الفلسفة التقليدية حيوية وجلالا أكثر من أي شيء آخر. وإن الرفع من شأن العقل وحياة العقل هو ما يوحد بين كبار الفلاسفة في سبيل تحقيق هدف واحد، وما يجعلهم قادة الفكر والأخلاق في حضارتنا. (6) علاقة الفلسفة بالأزمة الحاضرة
والآن نتساءل: وما شأن الفلسفة، بهذا المعنى، والأزمة الحاضرة؟ وقد رأينا أن الأزمة قد تكون نقطة تحول في تاريخ الحضارة الغربية التي يتعرض فيها اليوم الفرد وكرامته وحريته في أن يفكر ويعمل ويكتب كيفما شاء، للقيود الشديدة، كما أن وجوده ذاته تحف به المخاطر. وليس من شك في أن الفلسفة بصورتها القديمة لها علاقة كبرى بهذه المشكلة؛ لأنها تتعرض للآراء الأساسية في قواعد الأخلاق، وتشرح المثل والقيم التي تكمن وراء جانب كبير من حضارة الغرب. وقد أبرز فلاسفة الإغريق قيمة العقل، ومعرفة النفس، والثقافة. وصور لنا فلاسفة النهضة العقل والفرد البشري في صورة جديدة. أما فلاسفة عصر النور فقد أكدوا مجموعة جديدة من المثل الاجتماعية والسياسية، وعبروا عنها بنظرية الحكم بموافقة الشعب، كما عبروا عنها بحقوق الإنسان في «الحياة والحرية وتحقيق السعادة».
ثم إنا قد بينا فيما سبق مدى انتشار الصراع السياسي في عصرنا الحاضر. ولكي نفهم الصراع القائم بين الشيوعيين وغير الشيوعيين، وبين المجتمعات الغربية والمجتمعات غير الغربية، يجب على الأقل أن نقدم البرامج والأهداف السياسية التي تتصل بشكل نظم الحكم ووسائل بسط النفوذ لما لها من أثر في المواطن الفرد، كما يجب أن نقوم أيضا العلاقات القائمة في داخل الدولة، والعلاقات الخارجية بين الدول في العالم بأسره. وهذه الأمور في ملابساتها المباشرة من شأن رجال السياسة، ولكن السياسة في الوقت الحاضر أهم من أن تترك للساسة وحدهم. وإذا توغلنا في التحليل بلغنا حدا تكون فيه الحقائق محلا للبحث السياسي المجرد. والفلسفة السياسية تسد حاجة عاجلة لا يمكن للسياسة البحت والتحليل السلوكي أن تسدها؛ لأن كبار الفلاسفة السياسيين كانوا يهتمون بربط السلوك والتنظيم السياسي بأهداف الإنسان، وكانوا يشغلون أنفسهم بأمور ثلاثة رئيسية: تحليل الآراء الأساسية في السياسة، وشرح نظرية العلاقات الأساسية بين الناس، التي تحتاج إلى أشكال من النظم السياسية، وتقويم العوامل السياسية المختلفة في ضوء المعايير الخلقية. وأهمية العمل الذي قاموا به تنحصر في أن كل الآراء السياسية الكبرى وكل البرامج السياسية في المجتمعات المعاصرة تقريبا - سواء كانت حرة أم مرسومة مخططة - هي من نتائج قرائحهم. ويكفي أن نذكر هوبز، ولوك، وروسو، وماركس، ونيتشه، لكي ندرك الأثر الكبير للفلسفة السياسية الماضية فيما يجري في الفترة المعاصرة.
ويمكن أيضا أن ننظر إلى الأزمة على اعتبار أنها أزمة العلم والتكنولوجيا؛ أولا للهجوم الشديد الذي يتعرض له العلم والعقل من نواح عدة، وثانيا للهجوم الشديد على القيم الذي يشنه بعض رجال الدين على النظرة العلمية، وثالثا لتأثير التكنولوجيا الحربية والصناعية في حياة الإنسان. وهذه المشكلات تظهر في حياة الفرد في صورة الشك في أسس المعرفة والعقيدة، وتظهر في الأمور النظرية على شكل فجوة لا يمكن التغلب عليها بين دنيا العلم ودنيا القيم، وتظهر في الحياة الاجتماعية على صورة انعدام التناسب بين الإنسان والوسائل الفنية في تطبيق العلم. وكل هذه الأمور تؤثر تأثيرا عميقا في حياة الناس ومعتقداتهم في جميع أنحاء العالم الذي توحد لا بفعل الأهداف والمثل العليا المشتركة، ولكن بفعل التكنولوجيا الحديثة التي اكتسحت العالم كله. وقد أخذ الفلاسفة على عواتقهم أن يحللوا أسس المعرفة والدور الذي تلعبه العقيدة، وبظهور العلم الحديث وجهوا جانبا كبيرا من اهتمامهم إلى المشكلات التي أثارتها أزمة العلم والتكنولوجيا. ويكفي أن نشير هنا إلى الطريقة التجريبية الإنجليزية، وإلى الطريقة البراجمية أو العملية الأمريكية، وإلى فلسفة العلم الحالية، لكي ندرك علاقة الفلسفة بهذا الميدان.
والأزمة - أخيرا - شاملة من حيث تأثيرها في الفرد، والمشكلات المتعددة التي تثيرها متشابكة مترابطة، ولا يمكن معالجتها إلا بتجاوز حدود التخصص المهني الضيقة . وتشير إلى ذلك بالفعل أزمة القيم، والسياسة، والعلم، والتكنولوجيا. وإنما نذكر هذه المشكلات على سبيل التمثيل؛ إذ إن هناك كثيرا غيرها. والنظريات السياسية التي تحاول أن تعالج هذه المشكلات هي وحدها التي يمكن أن تلقي ضوءا على الحرية في عصرنا الراهن - حاضرها ومستقبلها. وينبغي لنا أن نجاوز حدود التصرفات السياسية ونبحث في طرق الحياة الديمقراطية، باعتبارها مجموعة من المواقف والأهداف التي تتجه إليها الأنظار.
إن الأزمة في مجموعها تؤكد ضرورة النظرة الشاملة التي هي أخص بالفلسفة منها بأي نشاط مهني مستقل؛ لأن صاحب المهنة المختص لا يسمح لغيره أن يتدخل في اختصاصه، ويتردد في ارتياد اختصاص الآخرين. وإذا سار الإنسان في هذا الشوط حتى غايته اتسعت معارفه وضاق مجاله، حتى يكاد يعرف كل شيء عن لا شيء. ويمكن بطبيعة الحال أن نهاجم رجل التعميم بعكس ذلك؛ فإن معارفه تضيق ومجاله يتسع حتى لا يكاد يعرف شيئا عن كل شيء. ولكنا حينما نعالج مجموعة من المشكلات الكبرى التي تتعلق بالوجود البشري في العصر الحاضر، لا يسعنا إلا أن نعالج أمورا تنتمي إلى مختلف الميادين معالجة المسئول صاحب الفكر المنظم. وجلي أنه ليست هناك جماعة مختصة غير جماعة الفلاسفة بالمعنى القديم تستطيع أن ترنو إلى الأمور جميعا بنظرة شاملة.
وعلى هذا الأساس نجد أن تاريخ الفلسفة ذاته يستطيع أن يلقي ضوءا على أزمتنا الحاضرة، ونستطيع أن نتبين ما كان يدور بخلد العقول العظيمة في الماضي فيما يتعلق بالعالم وبالإنسان؛ لأننا حقا تعلمنا صنع كثير من الأشياء كما تعلمنا التحكم فيها، ولكنا لم نكتسب قدرا كبيرا من الحكمة. وما زالت المشكلات التي تتعلق بطبيعة العالم والمعرفة، وبطبيعة المجتمع الطيب والحياة الطيبة تواجهنا ولا بد من إيجاد حل لها. إن إذاعات التليفزيون وصواريخ الفضاء التي تمس حياتنا في العصر الحديث قد تمدنا بإحساسات جديدة وقوى جديدة، ولكنها في الوقت ذاته تزيدنا رغبة في العثور على جواب لهذا السؤال: «ما الغرض من ذلك؟» ومن ثم فإن ما نتعلمه من تاريخ الفلسفة هو ما كان يراه جبابرة العقل بشأن القضايا الإنسانية الكبرى، وليس من شك في أن هذا الدرس الذي نتلقاه عنهم يزيدنا تمكينا من السيطرة على ما لدينا من معارف وقيم. والمقارنة بين ما نحسب أننا نعرفه ونقدره قدره اليوم وبين الأفكار والقيم التي كان يراها كبار الفلاسفة لا بد أن تمكننا من إعادة النظر في مثلنا وتوضيح ما لدينا من نظريات ومعتقدات.
إن الحضارة والثقافة من الأمور التي تنمو تدريجا وتتطور. والعقل المثقف والإنسان المتحضر لا يوجدان في عزلة، وإنما يتطوران بالاشتراك في الخبرات والتحدث إلى العقول المثقفة الأخرى والكائنات المتحضرة الأخرى. وهناك وحدة بين الناس تتمثل في وحدة جهود الإنسان في تفسير العالم ومعرفة نفسه. وتدل على ذلك الأعمال الفنية الكبرى كما تدل عليه طريقة البحث التي ينتهجها العلماء ورجال الأخلاق. وإذا كان الهدف من التربية هو إلى حد ما تزويد المرء بآراء مختلفة يقيس بها وسائل الحياة الكريمة وقيمها، فمن المؤكد إذن أن تاريخ الفلسفة هو جزء لا غنى عنه لاستمرار التربية.
والفلسفة إذا عولجت علاجا صحيحا تحمينا من التفكير التقليدي العتيق، ولا تجعلنا ننظر إلى الماضي نظرة التقديس، فنميز بين النظر إلى تاريخ الفلسفة باعتباره «أمهات الكتب» التي تحوي كل المعارف الثابتة وبين محاولات الإنسان المستمرة في سبيل معرفة العالم ومعرفة نفسه. ومن الواضح أن الحق لا ينحصر فيما تحويه أمهات الكتب، ولا بد من أن نختار لأنفسنا على أساس المعرفة الصحيحة. ولا يقوم الحق على أساس سلطان الماضي، وإنما يقوم على أساس النقد الصحيح والاختبار والتجربة التي يجب أن تكون ضربا من ضروب النشاط الذهني الدائم، ومن الواجب أن ندرك أن الحق لا يصدق على إطلاقه، ولكن ما نتعلمه من البحث الناقد في تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة هو أن بعض الطرق وبعض الوسائل أكثر نجاحا من غيرها من حيث ما توصلنا إليه من نتائج؛ ومن ثم فإن معرفتنا بما كان يفكر فيه أسلافنا، ومعرفتنا بأساس الحكم على صحة معرفتهم أو خطئها، كل ذلك يجعلنا أشد وعيا بحداثة العصر الذي نعيش فيه. (7) علاقة الفلسفة المعاصرة بالأزمة الحاضرة
Unknown page
إن موقف الفلسفة في العصر الحاضر يحدد مصير الحضارة كلها بطريقة لم تسبق للفلاسفة السالفين معرفتها؛ لأننا ندرك كل الإدراك أن العالم الذي نعيش فيه إنما يبقى ويستحق البقاء إذا هو استطاع أن يحل المشكلات التي تتطلب بطبيعتها التعاون البشري من أجل أهداف إنسانية مشتركة. إن ما نريده هو أن يكون لدينا دافعان؛ أحدهما يسوقنا إلى هضم ميراث الماضي، والآخر يسوقنا إلى مواجهة قضايا الوقت الحاضر المريعة. ومن الواضح أننا إذا استطعنا أن نتعلم شيئا من تاريخ الفلسفة، فأحر بنا أن نزداد معرفة من أوثق الفلاسفة المعاصرين الذين يعالجون مشكلاتنا الراهنة، ويعيدون النظر في التقاليد القديمة لمواجهة مطالب الإنسان المعاصر؛ لأن العصر الذي نعيش فيه يتطلب إعادة النظر في تلك الآراء العامة الشاملة التي توجه الإنسان وجهته، والتي تلقي ضوءا على الظلام المحيط بنا، والتي يمكن أن تمدنا بالأمل، وتدفعنا إلى العمل الإيجابي لإعادة تشكيل أنفسنا وتشكيل تاريخنا البشري.
إن الفلاسفة الذين يتحملون المسئولية اليوم لا يتجاوبون مع وجودنا فحسب، وإنما هناك تطورات معينة مستحدثة تجعلنا أشد ارتباطا بهم منا بالفلاسفة القدامى. وهذه التطورات تتعلق بالمواد والوسائل الجديدة التي يمكن أن تستخدم في البناء الفلسفي في عصرنا. إن معرفتنا التاريخية - خلافا لما كانت عليه في أية حضارة أخرى - تشتمل على تاريخ كل ما سلف من حضارات، وعلى حياة المجتمعات البدائية، ونشاط الشعوب في كل صقع من الأصقاع وتحت كل ظرف من ظروف العالم. وهذه المعرفة التاريخية تمدنا بفرصة كبرى - لم توجد من قبل - لكي نعرف ما نحن بحاجة إليه لكمال البشرية في ضوء تاريخها الماضي. ثم إنا قد سرنا في طريق المعرفة المتقدمة عن الإنسان ذاته، في ضوء ما لدينا من علم بالأنثروبولوجيا ونتائج البحوث النفسية، ولأول مرة يتبين لنا إمكان التطلع إلى بناء نظرية تجريبية عن الشخصية الكاملة. وأخيرا، أقول إن معرفتنا بأوجه الطبيعة المختلفة، من الطاقات التي تنبعث عن الشمس إلى المكونات الأولية للمادة الحية، تؤلف عنصرا جديدا في ميراثنا الفلسفي. إن التطور في طرق البحث، بالإضافة إلى معرفتنا بالطبيعة والإنسان، وخبرتنا بالتطور الاجتماعي، كل ذلك قد يعمل على بناء فلسفات شاملة منطقية تجابه بها القضايا الكبرى ذات الأهمية الإنسانية.
ولكنا في الوقت عينه ينبغي أن نركن إلى ما لدينا من فلسفة، مهما تكن محدودة الطموح ضعيفة التفكير، فنستعين بها في بحث وتقديم ما لدينا من إمكانيات يقع الخيار في حدودها. والمقتطفات التي جمعناها في هذا الكتاب اختيرت على أساس تحقيق هذا الهدف، هذه المقتطفات تمثل مختارات لها دلالتها مما قاله قادة الفكر في العالم الغربي الذين حاولوا تقديم مشكلات إنسان العصر الحاضر، ورسم فلسفة تستطيع البقاء، أو على الأصح تستطيع أن تطور الحياة وتجعلها أغزر مادة وأكثر ثراء. يجب أن نستعين بما يعرضونه من فكر على فهم موقفنا وإعادة النظر فيما لدينا من قيم. ولقد اخترنا ما ورد في هذا الكتاب من مقتطفات على أساس أن الفلسفة التي تدعو إلى الحرية الشخصية والحرية السياسية هي أقوى أثرا وأعمق مغزى للإنسان الحديث من أي فلسفة أخرى. إن كل ما اخترنا من الكتاب من أنصار الحرية. وهذا المبدأ الذي راعيناه في الاختيار هو السبب في إقصاء ممثلي حركتين من أهم الحركات في الفلسفة المعاصرة، وأقصد بهما حركة الشيوعية والتحليل المنطقي. والسبب في إقصائهما هو أن موقفهم النظري يزعم أن القيم لا يمكن الدفاع عنها على أي أساس من أسس العقل، وإنما هي تمثل الأهواء المذهبية لطبقة من الطبقات أو الاتجاهات الشخصية العاطفية.
وقد اتخذت لاختيار الأشخاص ومقتطفاتهم بالإضافة إلى ذلك بضعة معايير أخرى. وكان المضمون - فوق كل شيء - هو المرشد الحقيقي لكل ما قمت به. إلى أي حد يمكن اعتبار الآراء طيبة؟ وفي حدود هذا الإطار العريض وجدت أن سهولة تبليغ الفكرة وصحتها من الصفات التي لا يمكن إغفالها. وبهذه القاعدة استبعدت المتطفلين ووسطاء الصحافة الذين يقحمون أنفسهم على الفلسفة إقحاما، وكانت للمضمون الذي يستحق الدراسة في رأيي أهمية تفوق أهمية الوضوح، وكان من الضروري أن أتحاشى التعبيرات والمصطلحات التي يتمكن القارئ الجاد الحصيف - الذي قد لا يكون من المختصين في الفلسفة - من العثور على شيء له قيمته، كما راعيت في المقتطفات أن أنتقيها من مصادر الإيحاء، والآراء المثمرة، والدراسات العميقة، والنظرات الفلسفية الأصيلة ذات الدلالة. وكل مؤلف وقع الاختيار عليه له مكانته، وهو من نوع الكتاب الذي ينبغي للقارئ الذكي الحساس أن يتعرف إليه، وإلا فاته الاتصال ببعض ما في ثقافتنا من خير وفضل.
وكان رائدي النهائي هو التنوع، ولا أقصد به ذلك التنوع المختلط، وإنما قصدت به عرض الأفكار والآراء المختلفة على أوسع نطاق ممكن؛ حتى يستطيع القارئ أن يكون صورة شاملة يراها على بعد منه. ولم أراع في المتنوعات التي عرضتها التحيز لأمة دون أخرى؛ فهناك الإنجليز والألمان والإيطاليون والهنود والأمريكان، وإنما كان دليلي وجهة النظر التي يعرضها الكاتب، وقد تكون في بعض الأحيان مصبوغة بصبغة الثقافة الوطنية التي ينتمي إليها.
في هذا الكتاب يتصل القارئ بمجموعة طيبة من الرجال الذين يبعثون في الفلسفة الحياة؛ لأنهم لا يعرضونها جامدة ميتة، وإنما يعرضونها رأيا حيا يتجاوز ما يمدنا به الفلاسفة المحترفون من معارف بغية الوصول إلى عقيدة إيجابية؛ عقيد تعزز إيماننا بكرامة الإنسان الحديث وقدراته، وبتلك الصفات البشرية التي تضفي على الطبيعة جلالا ونبلا.
وأود أن أختتم مقدمتي هذه بكلمة عن مدى حاجة العصر الذي نعيش فيه إلى الفلسفة، ويتناول الحديث في هذا الموضوع جانبين؛ أولهما العقل والقيم، والثاني العقيدة المشتركة التي نهدف إليها.
أولا: العقل والقيم (1) المجالات الفلسفية
إن المجالات الفلسفية التي تعرضنا لها في هذا الكتاب هي فلسفات الحرية والإيمان بالفرد البشري، وجميع الكتاب يهتمون اليوم بمصير الإنسان في العصر الحاضر، وهم يتفقون على وجود أزمة عميقة فريدة في نوعها؛ فهي عميقة لأنها قد تنتهي بالقضاء على الحضارة، وفريدة لأنها تهدد الوجود البشري ذاته. وإن ما لدى الإنسان من قدرات فنية هائلة، وقوى سياسية جبارة، قد تحول الإنسان إلى آلة تتحرك بإرادة غيره وتسترقه، إن لم تقض على حياته. وقد كانت الفلسفة فيما مضى تبرز ضرورة نشر المبادئ التي تدعو إلى تحكيم العقل وإنسانية الإنسان في صورة أفكار نظرية، ولكن واجب الفلسفة في عصرنا يجب أن يتجه نحو معالجة هذه الأمور بطريقة محسوسة؛ ذلك لأنا رأينا العقل يستخدم في الشر لقهر الإنسان وتجريده من إنسانيته وتحطيمه، كما أننا قد أرغمنا على الاعتراف بالظروف الجديدة والآمال الجدية للإنسان في عالم وحدت أجزاءه التكنولوجيا وإن يكن ما يزال مقسما من وجوه كثيرة أخرى. والمشكلة الكبرى التي تواجهنا اليوم هي هذه: هل يستطيع العقل أن يستخدم القوى السياسية والتكنولوجيا الحديثة لتحقيق أهداف الفرد ووجوده وحريته؟ وهذا الموضوع يسود مختلف الفلسفات التي سوف نقدمها في هذا الكتاب.
وهناك عدة فروق في معالجة هذا الموضوع ترجع إلى اختلاف الاهتمامات وطرق التعبير والأساس الثقافي؛ ففورستر وسيلون وسارتر يجابهون في فلسفاتهم الوجود البشري من ناحيته النوعية المباشرة، كل من وجهة نظره التي تتأثر بموطنه؛ فهناك النغمة الإنجليزية فيما يقوله فورستر، والإيطالية فيما يذكره سيلون، والفرنسية فيما يعبر عنه سارتر. أما أينشتين ورسل وهوك، فيميلون إلى زيادة الاهتمام بالنواحي الاجتماعية فيما يمس تحرير حياة العقل، متأثرين كذلك بالمواطن التي يعيشون فيها. أما ماريتان ونيبور فيختلفون عن أفراد هاتين المجموعتين لاهتمامهم بالدين. وهم يختلفون فيما بينهم في العقائد التي يعتنقونها، كما يختلفون طبقا لجنسياتهم كذلك. وهناك أيضا بين الذين اخترنا لهم في هذا الكتاب أوجه أخرى للتباين أو التشابه؛ فسيلون وأينشتين بعدما يسيران في اتجاهين مختلفين من حيث الحياة والفكر، يبلغان عقيدة متشابهة في الاشتراكية ومناهضة النازية، غير أن سيلون الذي عرف الشيوعية الدولية عن كثب لم يثق البتة في روسيا السوفيتية، في حين أن أينشتين، الذي كان يميل دائما نحو المسالمة والمثالية، أخذ يميل في سنواته الأخيرة نحو الإيمان بدعوة روسيا إلى السلام، ويلقي الاتهام على الولايات المتحدة لتعزيزها قواتها خلال الحرب الباردة التي تسود العالم. وكذلك نرى سارتر وياسبرز يتفقان في مذهب الوجودية، مع كون الأول ملحدا والثاني فيلسوفا يتجاوز بفكره حدود الوجود. (2) الفلسفة والدين
Unknown page
ومهما يكن من أمر فإن هناك فارقا هاما بين هؤلاء الفلاسفة جميعا، هو الفارق بين أولئك الفلاسفة الذين يقبلون الدين في إحدى صوره القائمة باعتباره أمرا أساسيا في حياة الإنسان، وأولئك الذين لا يقبلون الديانات المنظمة على أسس فلسفية. وبالرغم من أن أولئك وهؤلاء يضعون الفرد في الاعتبار الأول باعتباره حاملا للقيم، ويدركون أن العقل هو علامة البشرية المميزة، إلا أنهم يختلفون في الدور الذي يلعبه العقل وفي الأسس التي تقوم عليها القيم. وفي عبارة أبسط نستطيع أن نقول إن المجموعة الأولى تزعم أن «الوحي» يعطينا حقا أسمى مما يعطينا العقل، وأن القيم تستمد في نهاية الأمر ثبوتها من العلاقة بين الله والناس. أما المجموعة الثانية فترى أنه لا ينبغي لنا أن نضع حدا يقف عنده العقل البشري، وأن القيم لا تثبت إلا على أساس من العقل. ومع هذا الفارق ينشأ خلاف أساسي في تعليل مصدر الأزمة وطبيعتها؛ فالطائفة الأولى تعتقد أن الأزمة قد نشأت عن عدم الإيمان عند الإنسان وعن ادعاء العقل الذي يضع نفسه موضع الآلة، في حين أن الطائفة الثانية ترى أن الأزمة إنما ترجع إلى فشل الإنسان في استخدام عقله في علاقاته الشخصية والاجتماعية.
ترى الطائفة الأولى أن القيم لا يمكن أن تستند إلى العقل؛ لأن العقل يتعلق بخبرة الوقائع والأشياء، في حين أن القيم تتعلق بالشخصية البشرية؛ ومن ثم فهي لا تتصل بالأشياء والوسائل، إنما تتصل بالغايات الإنسانية. ويرى أصحاب هذا الرأي أن الغايات الإنسانية ذات أهمية قصوى بالنسبة إلى الإنسان، كما يرون أن هناك نوعا «أسمى» من المعرفة مجاله العلاقة بين الإنسان والله أو الحقيقة. وهذه العلاقة وحدها هي التي تكسب قيمنا الشخصية ووسائلنا في تحقيق الحرية الصدق والثبات. وإذا أخذنا بهذا الرأي حكمنا بأن ما يدعيه العلم من أنه النوع الوحيد من المعرفة الذي يركن إليه هو الذي أدى إلى دنيوية الحياة الحديثة، وإلى فقدان شخصية الإنسان باستخدامه الوسائل الفنية، وإلى آلية الدولة في العصر الحاضر؛ مما أثقل التاريخ بمعسكرات التعذيب، والشرطة السرية، والتطهير السياسي. فإذا نحن أردنا أن نتخلص من النظر إلى الإنسان كجمهور ومن دولة الجماهير، فلا مناص لنا من العودة إلى الديانات القديمة لنجد السند القوي في سياسة الحرية في الإله المطلق.
ومن الخطأ أن نحسب هذه الآراء عتيقة أو مجرد رد فعل للأزمة الحاضرة ليس له سند من العقل؛ فهي لا تكتسب قوتها من رجال الدين وحدهم، بل كذلك من بعض أولئك الذين ضعف إيمانهم أو لم يكن لهم من قبل إيمان أو عقيدة؛ وذلك نتيجة لذلك الموقف الذي يقفه المؤمنون بالعلم الذي ينبذون القيم على اعتبار أنها لا تستند إلى العقل. ولا أظن ذلك يرضي أولئك الذين يرون في الحرية ميزة على الخضوع. إن أصحاب النظرة الدينية يبدون اهتماما بكثير من القيم البدائية، التي تدفع الناس، بنزاهة الفرد وكرامته، وبأن كل فرد غاية لها قيمتها وليس مجرد رقم من الأرقام في كشوف الإحصاء. وفي عالم يتأثر بالآلة، نراهم يضمدون الجراح ويواسون المصابين في مجتمع بات من غير جذور. إنهم يدركون سيادة الشر في العالم، وينذرون بأن التقدم الإنساني لا يمكن أن يتعامل مع مضاعفة الأشياء المادية. إنهم يرون أن الديانات السماوية تتضمن الاعتراف بالقيم الخلقية التي ترتبط بمبادئ الإنسانية والتحرير في هذا العالم الذي نعيش فيه. إنهم يشفقون على إهمالنا الجانب الروحي في الإنسان؛ ومن ثم فهم يعتقدون أن من واجب الفلسفة في العصر الحديث أن تعيد الاهتمام بهذا الجانب الذي لا غنى عنه للإنسان.
والمغزى الفلسفي لذلك هو أن العلم لا يعالج إلا العلاقات التي تقوم بين الوسائل والغايات، وأن العقل يتعامل مع العلم. وإن صدق ذلك فإن الغايات البشرية لا يمكن أن تقوم بالعقل، ولكن هناك من يرى غير ذلك، ويعتقد أن العقل يمكنه أن يقدر الغايات البشرية حق قدرها، متأثرين في ذلك بالمادية التاريخية والتجربة المنطقية. ولما كان هذان الاتجاهان لا يتمثلان في هذا الكتاب، فإني أود أن أقول كلمة في كل منهما. (3) الفلسفة والعلم - المادية التاريخية
المادية التاريخية كما رأينا هي فلسفة التاريخ الماركسية؛ إذ إن ماركس يزعم أنه عثر على القوانين التاريخية للحركة التي تساوي في قيمتها النظرية قوانين نيوتن عن الحركة. واكتشاف هذه القوانين يجعل التنبؤ ممكنا، والتاريخ علما في ظنه. إنه يرى أن السبب الخفي في جميع حوادث التاريخ ينشأ عن نمو التكنولوجيا وصراع الطبقات في جميع أرجاء العالم. وليس عمل الإنسان في حقيقته اختيارا يسترشد فيه بمثله الشخصية، وإنما هو نتيجة حتمية لأسباب خفية.
وعند تقديرنا لهذا الرأي الماركسي يجب أن نميز بين عنصرين؛ أولهما أن ماركس كان ينظر إلى القيم الخلقية باعتبارها أهواء طبقية مذهبية، فالخير هو ما يساعد على حماية طبقة من الطبقات أو يرفع من مكانتها، ولكن ماركس نفسه قد تأثر أول الأمر بسخطه على قسوة الرأسمالية الإنجليزية، وتصوره قيام مجتمع حر نتيجة لاشتراكية الوسائل التكنولوجية الكبرى. ومعنى هذا الموقف الذي وقفه ماركس الحكم بأن الحرية لها قيمة بشرية من نوع ما، وأن كل ما يعزز حرية الإنسان هو أداة من أدوات الخير، وأن الأداة النهائية هي نمو التكنولوجيا بغير عائق. ويبدو أن ماركس كان يفترض أن زيادة الإنتاج تخفف من العبء الذي يتحمله الإنسان وتصلح من ظروف الناس؛ لأنها تسمح بزيادة المساواة في استهلاك السلع، وبفرص أفضل للحياة والحرية ومتابعة السعادة. وبديهي أن الحكم بأن الحرية لها قيمة إنسانية، وأنه لولا هذه القيمة لفقد مجهود ماركس دافعه الأساسي، بديهي أن هذا الحكم ليس في حد ذاته تحيزا طبقيا، وإنما هو زعم خلقي؛ وإنه لذلك يثبت على أسس تخالف قوانين الحركة المزعومة.
والعنصر الثاني هو أن ماركس يرى أن نمو التكنولوجيا له أهميته القصوى في التطور التاريخي، ولكنه يفشل في تعليل هذا النمو خلال التاريخ. إن نمو التكنولوجيا كان دائما نتيجة لنمو المعرفة، سواء أكانت نظرية أم عملية. كان أكثر ما حدث من تطور في التاريخ - قبل نشوء العلم الحديث - مرتبطا بالاختراعات التكنولوجية التي كانت ترجع إلى أسباب عشوائية؛ ومن ثم لم يكن من المستطاع التنبؤ بها. وكذلك ارتبط تطور التكنولوجيا منذ نشوء العلم الحديث بالنمو في النظريات الأساسية، وليس بوسع أحد أن يتنبأ متى تحدث مثل هذه التطورات في النظريات الأساسية؛ ومن ثم فإن ماركس يستند في دعواه عن إمكان التنبؤ على عوامل لا يمكن التنبؤ بها؛ وبذلك يظهر بطلان الحتمية التاريخية كما يظهر بطلان الدعوى بأن الدور الإنساني في تطور التاريخ لا قيمة له؛ لأن نمو المعرفة - سواء كانت نظرية أم عملية - يترتب دائما على مجهود فردي صمم لسبب من الأسباب ألا يقبل المعتقدات والوسائل القائمة، كما صمم على البحث في إمكان إحداث تغيير فيها. ويجعل ذلك تطور المعرفة التي لا يمكن التنبؤ بها مترتبة على نواحي النشاط عند الأفراد التي يمكن بدورنا أن نتنبأ بها. فهؤلاء الأفراد بمخترعاتهم يستحدثون تطورات هامة في التاريخ، وبذلك يكونون عملاء خارقين مبدعين في خضم الحياة الذي لولاهم لتطور لأسباب لا دخل للإنسان فيها.
ومما يبعث على السخرية في نظرية ماركس أن منطقها قد استخدم ضد الحرية البشرية التي كانت المثل الأعلى أول الأمر عند ماركس؛ فإننا نرى روسيا والصين الشيوعية اليوم قد سارتا طبقا لهذا المنطق حتى غايته، وذلك بالبرامج التي وضعها المسئولون هناك للنهوض بالصناعات الثقيلة على حساب حرية الإنسان وحياة البشر. ثم إن الزعم بأن آراء ماركس يمكن أن يكون لها كل هذا التأثير في التاريخ الحديث يناقض القول بأن الفرد الإنساني ليس له دور خلاق في مجرى التاريخ. إن نبذ هذا الدور الخلاق ونبذ المثل الشخصية التي يمكن أن تدفع البشر إلى العمل ينتهي بالهبوط بالإنسان إلى مستوى المخلوق الذي لا إرادة له.
وأهم من هذا كله أن إخضاع الغايات الإنسانية للوسائل التكنولوجية معناه خلق جو معنوي تكون فيه القوة هي الخير الأسمى.
ثانيا: نحو إيمان مشترك (1) نحو الحضارة
Unknown page
وبعد هذا كله، ماذا نستطيع أن نتعلم من الفلسفات الكبرى المعاصرة لهذا الوقت الحرج الذي يمر به تاريخ البشرية؟ وما الذي نرجوه ونأمل في تحقيقه؟ أعتقد أنه من المهم والمفيد لهذا الغرض أن نميز بين جانبين من جوانب أية فلسفة شافية لوقتنا هذا ؛ الجانب الأول هو الفلسفة الشخصية بمعناها المباشر الذي يتجه نحو علاقة الفلسفة بحياة الإنسان وسعادته، والجانب الثاني هو ذلك الاتجاه الأعم، السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي، الذي يرى أننا نعيش أشخاصا في عالم يشغلنا بمشكلات ذات دلالة إنسانية عامة. ولست أقصد حينما أميز بين هذين الجانبين أنهما يعالجان لونين مختلفين من المشكلات، ولكن أود أن أؤكد أننا لا نتقدم كثيرا دون أن ندرك أن هناك فارقا واضحا بين الاتجاهين.
سوف يرى القارئ فيما نعرضه عليه في هذا الكتاب أن الرأي المشترك الذي يراه أولئك الذين اخترنا لهم بعض مأثورهم ينطوي على الدفاع عن قيم الحضارة، كما ينطوي على تحليل الظروف التي تنشأ فيها الحضارة، وتكاليفها وحدودها. الحضارة مغامرة خطرة يتعاون فيها الإنسان بذكائه، وموضع الخطر أنها مسألة إنسانية، بيد أن الإنسان يستطيع بذكائه وتعاونه أن يتغلب على هذا الخطر. والتعاون يحتم علينا النشاط المشترك، يحتم علينا الثقة وحسن النية، والتنظيم العملي الذي يؤدي إلى إنجاز العمل. ويسود هذا التعاون بين الناس في ظل ظروف إنسانية دون غيرها. أما الذكاء فيهتم بتقدير الوسائل والنتائج. وليست للتعاون صورة عضوية ثابتة، إنما هو حصيلة ثقافية لتضافر جميع الجهود البشرية. وليس الذكاء هو العقل المجرد، إنما هو تنظيم للمشاعر والعواطف والعقل جميعا. ولكي يؤتي ثماره لا بد أن يكون ضربا من ضروب النشاط التعاوني. وهو في جميع الحالات صفة من صفات الوعي الفردي.
إن تاريخ الإنسان يجعل التكنولوجيا حقيقة من أهم الحقائق في حياته، والتغير والتطور في التكنولوجيا يعنيان زيادة السيطرة على الطبيعة. وليس بوسع أهل الغرب، أو أولئك الذين لا يزالون يدافعون عن تقاليد الفكر الشرقي العتيقة، الذين يودون أن ينبذوا كل هذه الوسائل، ويطهروا أنفسهم بإنكارهم حتى الأشياء التي لها قيمة عملية، ليس بوسع أولئك أو هؤلاء أن يمدونا بفلسفة عملية مفيدة لمجتمع عالمي يتولد تدريجا عن هذه الجهود التكنولوجية المترابطة التي يبذلها الإنسان. وهذا جانب من جوانب أهمية نهوض البلدان المتخلفة - أعني قبول القوى التكنولوجية والجهود الروحية معا. وقد أدى قبول الوسائل الفنية العملية قبولا كليا إلى الإنتاج والقدرة الاقتصادية باعتبارها القيم التي تحل كل المشكلات الإنسانية ، في حين أن إنكار هذه الوسائل يؤدي إلى الفقر - فقر الجسد والعقل والروح.
ومن ناحية أخرى، ليس من الحق أن العلم الحديث يخلق الحاجة إلى عالم واحد بمعنى سياسي بحت، والحاجة إلى التوزيع الاقتصادي المتساوي. وليس من الحق في شيء أننا قد حللنا المشكلة الاقتصادية والمشكلة التكنولوجية، وإنما هي نظمنا الاجتماعية وقيمنا التي لا تزال تتحدانا. إنما الأزمة هي أزمة الحضارة، لا بسبب القنبلة الذرية وحدها، وإنما بسبب الصراع القائم بين مشكلات مجتمعنا على جميع المستويات - الشخصية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والروحية - ولأن هذه المشكلات جميعها لها دخل في إعادة البناء إعادة كاملة شاملة، أقول إن أزمة الحضارة الراهنة تعود إلى هذا الصراع بين المشكلات وإلى العلاقة بينها وبين إعادة البناء حتى إذا لم تكن هناك قنبلة ذرية. ولا نستطيع أن نحل المشكلة الاقتصادية على أساس وجود وفرة تظهر بمظهر القلة بسبب طرق التسويق وتسلط الدول الكبرى. ولا تستطيع الدول المتخلفة والشعوب غير البيضاء، وهي تكون ثلثي سكان المعمورية، أن تسد حاجاتها ببرامج المعونة التي تقدمها الدول المتقدمة أو بجهدها الذاتي؛ فإن الفجوة بين آمال هذه الدول ومواردها عميقة سحيقة. ولأسباب شبيهة بهذه لا نستطيع أن ننظم حكومة عالمية على أساس تنظيم الولايات المتحدة؛ ومن ثم فإن اشتراط نجاح مثل هذه الحكومة لمستقبل البشرية هو في الوقت الحاضر وهم من الأوهام.
القنبلة الذرية رمز لأزمة الحضارة، ولكنها لا تعني الموت أو العصر الذهبي للإنسان؛ لأننا إذا حملنا القنبلة هذا المعنى كنا بمثابة من يعزو إلى الرمز ما يرمز إليه. لقد حاول الإنسان - خلال تاريخه كله - أن يحقق إنسانيته بتطوير قدرات الفرد وقدرات المجتمع على السواء. واقتضى ذلك استخدام العقل، وتطبيقه على تطوير الآلات والتكنولوجيا وعلى النهوض بتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية. ومن الحق أنه لم يكن هناك في تاريخ الإنسان من قبل تقدم تكنولوجي تكمن فيه كل هذه القدرة على تحطيم جانب كبير من المجتمع البشري، وهو الجانب الذي يعد نفسه العالم، ومن الحق أنه لم يسبق للإنسان في تاريخه أن أدرك فيه هذا العدد العديد من الرجال مصيرهم المشترك الذي يتطلب اتخاذ الوسائل لإنشاء نظم سياسية تسمح للناس في جميع أرجاء العالم أن يتابعوا ما يشغل أذهانهم من مختلف الاهتمامات. ومن الحق أن عددا كبيرا من الناس عندهم إحساس أرهف بوجود ثقافات متنوعة تقوم بينها الفوارق، وباتساع مدى نشاط الإنسان فوق الأرض؛ ولم تشمل الأزمات السابقة مثل هذه الرقعة الفسيحة من الأرض، وهذا العدد العديد من الناس، وهذه الثقافات المتنوعة، أو الشعور بهذا الدمار الشامل الذي يهدد العالم بأسره. إن المشكلات التي تثيرها أزمات الوقت الحاضر تتطلب الاعتراف بضرورة إصدار قرارات عامة شاملة. إننا لا نستطيع أن نتخلص من الماضي تماما، ويجب أن نعترف بالضغط الواقع علينا من ازدياد السكان في العالم، ومن التكنولوجيا الحديثة والدول العظمى. والفلسفة التي تنكر أي عامل من هذه العوامل لا يمكن أن تكون وافية أو شافية.
وفي معمعان الحرب الباردة وظروفها يستطيع كل فرد منا أن يحس زيادة المسئولية التي تقع على عاتقه، ونستطيع أن نحاول وضع النظم التي تدفع إلى الأمام تقدم العلوم والفنون والاتجاهات الخلقية. وما يوضحه لنا مفكرونا هو الاعتراف بالحاجة إلى حل للتوتر القائم بين الذكاء البشري - الذي يتمثل في العلم - والقيم البشرية - التي تتمثل في برامج التنظيم الاجتماعي والعقائد الأخلاقية. وعلى هذا المستوى نجد اتفاقا بين رادا كرشنا الذي يمثل الشرق المتصوف، وأينشتين الذي يمثل الغرب المادي. إن أحدهما يريد العلم لإثراء الحياة البشرية، والآخر يريد أن يسترشد العلم بالغايات البشرية، ولكن كليهما يريد الحياة الطيبة والمجتمع الطيب، وكلاهما يرى الإمكانيات العملية لخروج هذه الحياة من جوف هذا الوقت الحرج الذي نعيش فيه. أما رادا كرشنا فيرى الوسيلة في ضرورة الاعتراف بدور الشرق في أي مستقبل نتطلع إليه، كما يرى أن الشرق ليس بحاجة إلى وسائل الغرب العملية فحسب، ولكنه بحاجة كذلك إلى النظرة التي تجمع بين الغايات البشرية والوسائل العلمية. وأما أينشتين فيرى أن الاحتياجات العملية التي تنبثق من تقدم البحوث الذرية سوف تحطم البشرية إذا لم يتفق أبناؤها على أن العلم لا تكون له قيمة إلا إذا سار نحو الأهداف الإنسانية العادلة. وجميع الفلاسفة الآخرين يقفون موقفا وسطا بين هذين الرجلين، مبشرين بهذه العقيدة المشتركة، كل بطريقته الخاصة. (2) نحو الفرد
إن من أهم ما تتميز به فلسفات العصر الحاضر صبغتها الشخصية، بعدما اجتازت الفلسفة فترة كاد يهمل فيها العنصر الشخصي إهمالا تاما. وأعتقد أن كثيرا من رجال الفكر في الغرب قد انتهوا إلى عقيدتهم الراهنة بعد الإقلال من شأن الإيمان بالفرد وزيادة الاهتمام بالمبادئ الاجتماعية والاقتصادية البحت. وقد اجتذبت الماركسية الأنظار في الثلاثينيات من هذا القرن؛ لأنها ظهرت بمظهر المحاولة العلمية لتفسير السبب في أن قيام الأزمة لا بد منه على نطاق واسع، والسبب في أن الحروب والثورات والتدهور الاقتصادي والفاشستية وما إليها قد سادت التاريخ المعاصر. وزعمت الماركسية أنها ترشدنا إلى طريق الخلاص، وأنها تجعل الأرض موطنا محببا، وأنها من ناحية أخرى عقيدة تربط الغريب في هذا العالم بالدنيا التي يعيش فيها. والماركسية بهذا نوع من أنواع الولاء الشخصي أو الخلقي له تأثيره القوي؛ لأن المبدأ الذي تبشر به يقتضي أن يتنازل الإنسان عن ذاته لكي يجد نفسه تابعا مريدا في قضية تتجاوز حدود هذا العالم؛ ومن ثم فإن المنطق الماركسي يمدنا بخلق شخصي حينما يطلب إلينا أن ننكر شخصياتنا، باعتبارها ظاهرة برجوازية لا لزوم لها.
ولكن هذا المعبود قد فشل، ويعزى فشله إلى حد ما إلى الخطأ في تحليل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع الحديث، كما يعزى أيضا إلى أنه لا يعترف بوجود الشخصية التي لا مندوحة عن وجودها لدى الفرد وفي الشئون الاجتماعية؛ فنحن كأفراد لسنا أجزاء من آلة اقتصادية، ولسنا ذرات في موجة عظمى. إنما نحن أفراد لنا أهدافنا التي نسير نحوها. نحن نختار ونقوم، واختيارنا وقيمنا معا تشكل المستقبل لنا.
لقد علمنا التاريخ وتحليل النفس وعلم الإنسان - كما علمتنا الخبرة الشخصية - أن هناك عوامل تؤدي إلى السعادة، كما أن هناك ظروفا تعترض سبيلها. والحياة تحت أكثر الظروف لها قيمتها عند كل فرد تقريبا. وتكاد الحياة تكون قيمة مجردة. وذلك هو ما تدعو إليه القواعد الدينية والخلقية كما تدعو إليه النظرية الديمقراطية - الحياة حق مقدس. والأشخاص كائنات بشرية، والكائنات البشرية، سواء في المجتمعات البدائية أو في البلاد المستعمرة المتخلفة، في الاتحاد السوفيتي أو في الولايات المتحدة، لها حاجات لا مناص من الاعتراف بضرورة إشباعها. والنقطة الأساسية في هذا هي أن هناك نواحي نشاط وخبرات مشروعة - إنسانية ومستحبة في آن واحد - وأن هذه النواحي لا ينبغي إنكارها أو اعتراضها لمجرد أنها أمور شديدة الحرج تجابه الإنسان الحديث. ولا ينكر ضرورة إشباع حاجات الإنسان وملذاته الميسورة إلا إنسان شاذ ما دامت هذه الحاجات والملذات سليمة معقولة مسايرة لمصلحة المجتمع.
ليس ثمة داع للتشاؤم، ولا بد من الإيمان بأن الحرب ليست من الضرورات التي لا مفر منها. ويجب علينا أن نأخذ الأمور بابتسامة السخرية وروح الفكاهة حتى نتغلب على ما يواجهنا من صعاب. (3) نحو الحرية
Unknown page
أو ليس من الواضح بعد هذا كله أن من واجب كل عاقل أن يدافع عن الحرية والديمقراطية؟ وقد أجمع الفلاسفة السياسيون على أن للحرية شروطا أربعة: المساواة أمام القانون، والأخذ برأي الأغلبية في الحكم، وحرية البحث، وحرية الاختيار.
والشرط الأول - شرط المساواة أمام القانون - يكفل العدالة، ويضمن مجتمعا يقوم على أساس النظام وحريات الأفراد. وهذا الشرط لازم لتحقق الشروط الأخرى؛ لأن مراعاته تكفل للمرء قدرا كبيرا من الأمن على حياته. وقد نص على ذلك الماجنا كارتا الذي جاء فيه: «لا يجوز أن يؤخذ رجل حر أو يحبس ... أو يحطم على أية صورة من الصور ... إلا بحكم قانوني من أترابه، أو بحكم القانون السائد في البلاد.» وقد أضافت إلى ذلك القرون السبعة التي تلت صدور الماجنا كارتا أن القانون لا ينبغي أن يحابي شخصا ما، وأنه لا يجوز أن يلقى القبض على فرد ما، أو أن يوضع تحت الحراسة، أو أن ينفى اعتباطا وتحكما، وأن المحاكمة أمام محكمة عادلة حق لكل فرد، وكذلك التحرر من كل تدخل تحكمي في خصوصيات الفرد، أو في بيته، أو أسرته. ولكن الدول الدكتاتورية الحديثة لا تراعي احترام هذا الشرط الأول من شروط الحرية.
والشرط الثاني، وهو الأخذ برأي المحكوم ما دامت تؤيده الأغلبية، يكفل حرية تعديل القانون الذي نعيش في ظله. إن حق الكبار جميعا في الإسهام في الحكم لا بد أن يكون حقيقة واقعة، في الانتخابات الحرة التي تحدث في فترات معينة، وفي حرية اختيار الممثلين. قد يؤخذ على حكم الأغلبية أنه لا يلتزم الدقة في بعض القرارات، ولكنه صمام أمن ضد الحكومات المستبدة.
ويرتبط الشرط الثالث بهذا الشرط الثاني، ولكنه أوسع منه مدى. هذا هو شرط الحرية في بحث جميع الاحتمالات، وهي حرية البحث والتفكير والكلام والكتابة، ما دام الفرض لا يعرض للخطر حياة الآخرين. ولا بد في هذا من التجربة، على أساس الفروض المعقولة، لا على أساس من النشاط العشوائي. وبمقتضى هذا الشرط لا بد أن يشترك جميع الأفراد في السلطة السياسية العليا، وأن تكون لهم حرية النقد وتصحيح الأخطاء. ولا يتوافر ذلك إلا في ظل حكومة ديمقراطية لا تعترف بالملكية أو الأرستقراطية أو الدكتاتورية؛ لأن هذه الأنواع من الحكومات تستخدم نفوذها في صالح طبقة معينة أو في حرب عدوانية على حساب الطبقة الكبرى في المجتمع، التي يتألف منها الشعب.
والشرط الرابع، شرط حرية الاختيار، يتعلق بطريقة حياة الأفراد. وقد يتسع مجال الاختيار وقد يضيق طبقا للموقف، إلا أنه ينبغي في كل حالة من الحالات أن يكون للمرء في طريقة حياته قدر من حرية الاختيار في العمل الذي يقوم به، والمتعة التي يمارسها، مع مراعاة شروط الحرية الأخرى، وهذا هو حق المرء في تحقيق سعادته.
ومن الواضح أن هذه الشروط الأربعة مترابطة، ومن الواضح أيضا أننا لا ندعو إلى الحرية المطلقة؛ فهناك درجات من الحرية تتوقف على الظروف والموارد والمشكلات السائدة في وقت من الأوقات، كما تتوقف على مدى تحقيق شروط الحرية المذكورة ذاتها. ولا نقول إن التزام هذه الشروط يحتم النجاح في جميع الحالات، ولكن المحاولة ذاتها ضرورة من ضرورات الديمقراطية الصحيحة ، لكي يتعلم الإنسان من فشله كما يتعلم من نجاحه.
وثمة كلمة أخيرة بشأن ناحية من أهم نواحي النظرية الديمقراطية المعاصرة، وهي تتعلق بحكم الدولة من حيث ارتباطه برفاهية المجموع، والسؤال بعبارة أخرى هو: ما هي الحدود التي نضعها لسلطان الدولة لكي نكفل تحقيق شروط الحرية، ولكي تؤتي الحرية ثمرتها المرجوة؟ وينبغي أن نذكر في هذا الصدد أن نفوذ الهيئات الحكومية والهيئات غير الحكومية على حد سواء ينبغي أن يحد لكي تتوافر لأفراد الشعب العاديين حرياتهم، ويراعى ذلك عند تأميم الصناعات والخدمات، وعند النظر في مدى الضمان الاجتماعي، وعند معاونة الحكومة لمعاهد التربية والتعليم.
إن الجهود التي بذلها أسلافنا في سبيل تدعيم أركان الحرية ينبغي أن تستمر مهما واجهنا من صعاب وعقبات. وقد يتدبر بعض الناس عالم اليوم الذي نعيش فيه، ويذكر الخطر الذي يهددنا من القنبلة الهيدروجينية وتجارب الأسلحة النووية فيرى أن الحرية لا ترتكز على أرض ثابتة، وأنها لم تكن في أي عصر مضى مثلما هي اليوم أمرا يشق على أولي الأمر الاحتفاظ به. ولكنا برغم هذا لا نؤمن بأن المثل التي تدعو إلى «الحياة، والحرية، وتحقيق السعادة» مثل الحرية والحق والعلم قد أفلست.
إن فلاسفة الحرية الذين نتعقب آثارهم يؤمنون بعقيدة مشتركة، وهي أن الإنسانية تستطيع أن تتقدم لكي نكشف عن طرق للحياة جديدة تقربنا من حياة الحرية والعقل والحضارة العالمية.
الجزء الأول
Unknown page
مختارات من الكتاب الفلسفيين
الفصل الأول
أرنولد توينبي
(1988م-...)
ربما كان أرنولد توينبي المؤرخ المعاصر الوحيد الذي استرعى انتباه العالم بأسره وإعجاب الناس أجمعين. وقد انتهت خدمته أخيرا كأستاذ باحث في التاريخ الدولي بجامعة لندن، وكمدير للدراسات بالمعهد الملكي للشئون الدولية. ويجمع كتابه «دراسة التاريخ» الذي يتألف من عدة مجلدات بين المعرفة التاريخية العميقة النادرة والتصور البعيد المدى الذي يتجه نحو الأساطير ومصطلحات التاريخ. وقد وصف هذا الكتاب ب «أنه بعد كتاب «رأس المال» الذي ألفه كارل ماركس، أكثر المؤلفات في النظريات التاريخية إثارة للتفكير مما كتب في إنجلترا.» ومن المبالغة أن نتوقع لكتاب له ما لهذا الكتاب من أفق تاريخي فسيح أن يصبح شائعا؛ بمعنى أن تقرأه من أوله إلى آخره، وأن تهضمه عامة الناس. بيد أن نموذجا لا بأس به من نظرته الثورية بات مألوفا للقارئ العادي عن طريق المجلات الواسعة الانتشار والملحقات الأسبوعية للصحف اليومية، وعن طريق منصات المحاضرات العامة.
ومبحث توينبي الرئيسي هو أن التاريخ لا يمكن إدراكه إلا بالنظر إلى المدنيات باعتبارها الوحدات الحقيقية للتاريخ، ويستحيل إدراكه بالمعالجة المألوفة التي تقتصر على سيرة شعب من الشعوب. وقد وجد أن إحدى وعشرين مدنية قد قامت في الستة الآلاف سنة الماضية، وأن جميع هذه المدنيات قد انهارت أو فنيت فيما خلا المدنية الغربية (أي المدينة اللاتينية المسيحية، التي انبثقت من الهلينية عندما بلغت صورتها الرومانية)، غير أن هذه المدنية الأخيرة التي بقيت على وجه الزمن قد تعقدت مشكلاتها إلى حد كبير، ولا يستطيع أحد أن يضمن نجاحها في المستقبل. ولكن توينبي - بالرغم من هذا - لا يفتأ يردد إيمانه بنظرية «التحدي ورد الفعل» التي تغمر ميدان الحركة الإنسانية بأسره، وهو يحاول أن يؤكد عامل قدرة الإنسان على الخلق، وينبذ نظرية «قانون القضاء والقدر الصارم»، ويقذف بها في هوة العقائد البالية. وسواء لديه اتخذ هذا القانون صيغة الحتمية التي يفرضها العنصر أو البيئة أو المستوى الاقتصادي، ولو أن القدرات المجهولة للصفة الخلاقة عند الإنسان اهتدت وتحررت بطريقة التطور الديني «الرفيقة» اللينة، لأمكن لحضارة الغرب أن تنقذ نفسها، وبالأخص إذا كرست نفسها ب «المجتمع» الذي هو هدف الحضارات؛ ففي هذا تحول الروح «من الدنيا، ومن المادة، ومن الشيطان، إلى مملكة السماء».
ولد أرنولد توينبي في لندن في عام 1889، وتلقى تعليما كاملا شاملا في الدراسات القديمة بكلية باليول في أكسفورد، وترعرع في جو الأمن السائد حينئذ، ذلك الجو الذي شعر به الناس حقيقة واقعة في مستهل هذا القرن، واستمتع بذلك الوهم اللطيف الذي وصفه توينبي نفسه بقوله: «إن التاريخ قد حدث لغيرنا من الناس.» وكانت الحرب العالمية الأولى هي أولى الكوارث التي هدمت هذا الإحساس البريء المستحب ، كما أن سنوات السلم التي أخذت تتقدم باطراد نحو الحرب العالمية الثانية نهضت دليلا على انحلال المدنية الغربية. ويعتقد توينبي اليوم أنه إذا نشبت حرب عالمية ثالثة فستكون على الأرجح سببا في فناء البشر، ويستخلص من ذلك أنه من واجبنا في هذه الساعة الحرجة أن نقابل هذا التحدي الذي يصوبه نحونا عالم طبيعي قوي موحد بديانة عالمية قوية موحدة.
وإن من يقرأ المقتطفات التالية من مقالات توينبي - سواء اتفق أو اختلف معه في الرأي بجملته أو بتفصيله - سرعان ما يسلم بأن ما كتبه توينبي يحقق المثل الأعلى الذي رسمه لورد آكتن حين قال: «إنه يتميز عن التاريخ المشترك لجميع الشعوب، وليس عبئا على الذاكرة، ولكنه إضاءة للروح.» (1) نظرة مؤرخ
إلى أزمة الحضارة الحديثة «أرنولد توينبي» (1-1) هل نحن خاضعون لقدر محتوم؟
هل يعيد التاريخ نفسه؟ كان الكتاب في عالمنا الغربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يحاولون الإجابة عن هذا السؤال لمجرد التدريب على البحث العلمي. إن شدة الذهول التي أصابت أجدادنا من جراء الرفاهية التي اتسمت بها الحضارة في ذلك الحين قد غشت أبصارهم حتى لم يروا أمامهم إلا رأيا عجيبا يجافي الحقيقة، وتوهموا أنهم «ليسوا كغيرهم من الناس»، واعتقدوا أن مجتمعنا الغربي يبرأ من إمكان وقوعه في تلك الأخطاء والنكبات التي أدت إلى انهيار بعض المدنيات الأخرى، التي أصبح تاريخها من بدايته إلى نهايته كتابا مفتوحا. أما بالنسبة إلينا نحن أبناء هذا الجيل، فقد أصبحت لهذا السؤال القديم على حين غرة دلالة عملية أخرى. وتنبهنا إلى الحقيقة (وإني لأعجب كيف يعمى عنها الإنسان)، وهي أن الرجل الغربي وأعماله ليست أشد حصانة من المدنيات البائدة، مدنيات الأزاتقة والأنكا والسومريين والحيثيين؛ ومن ثم فنحن اليوم نبحث - في شيء من الجزع - في ثنايا الكتب المقدسة عن الماضي لعلنا نلتمس فيها درسا نستطيع الإفادة منه. فهل التاريخ يمدنا بأي نوع من أنواع المعرفة التي تتعلق بمصيرنا؟ وإن كان يمدنا بنوع منها، فما مداه؟
Unknown page
1
إن نظرة شاملة إلى الرقعة التاريخية في ضوء ما نعلمه اليوم، تبين أن التاريخ - حتى اليوم - قد أعاد نفسه عشرين مرة تقريبا، وفي كل مرة يتمخض عن مجتمعات بشرية من النوع الذي ينتمي إليه مجتمعنا الغربي، كما تبين أيضا أن هذه المجتمعات التي نسميها المدنيات - ربما فيما خلا المدنية الحاضرة - قد بادت فعلا أو هي في دور الاحتضار. ثم إننا - فوق ذلك - حينما ندرس تاريخ هذه المدنيات البائدة أو العليلة تفصيلا، ونقارن بين إحداها والأخرى، نجد ما يدل على وجود ما يشبه النموذج المتكرر في طريقة انهيارها وتدهورها وسقوطها. ونحن نتساءل اليوم بطبيعة الحال، إن كان لا مناص لهذا الفصل المعين من التاريخ من أن يعيد نفسه في حالتنا الراهنة: هل هذا النمط المتكرر في التدهور والسقوط ينتظرنا بدورنا باعتباره قدرا محتوما لا أمل لحضارة من الحضارات في الفرار منه؟ إن الإجابة على هذا السؤال - في رأي الكاتب - هي بالنفي بكل تأكيد. إن الجهد الذي يبذل لخلق صورة جديدة من صور الحياة - سواء أكانت نوعا جديدا من الحيوانات اللافقرية أو نوعا جديدا من المجتمع الإنساني - قلما، بل يستحيل أن ينجح في المحاولة الأولى؛ فليس الخلق عملا هينا بكل هذه السهولة. إنما يبلغ نجاحه النهائي بعد عدة محاولات تتعثر في الزلل والخطأ. ويترتب على ذلك أن الفشل في التجارب السابقة، لا يحتم فشل التجارب اللاحقة بدورها بالطريقة عينها، بل إنه ليهيئ الفرصة لهذه التجارب الأخيرة لكي تحقق النجاح عن طريق الحكمة التي يمكن أن تكتسب من أسباب الفشل. إن تتابع الفشل فيما مضى لا يكفل النجاح بطبيعة الحال للمرحلة اللاحقة، كما أنه لا يحتم عليها الفشل بدورها. وليس هناك ما يمنع حضارتنا الغربية من أن تتأثر بسوابق التاريخ - إن هي شاءت - فتنتحر انتحارا اجتماعيا. بيد أنه لا يتحتم علينا أن نحكم على التاريخ بأن يعيد نفسه. وأمامنا الفرصة أن نوجه التاريخ في عصرنا - بجهدنا - وجهة جديدة غير مسبوقة. ولقد وهبنا باعتبارنا بشرا هذه القدرة على الاختيار ، وليس بوسعنا أن نلقي تبعاتنا على الطبيعة أو على الآلة، بل ينبغي لنا أن نواجه مسئولياتنا، والأمر مفوض لنا.
2 (1-2) الموقف الدولي الحاضر
ما هي القضية التي تثير هذا القلق اليوم في كل أرجاء العالم؛ بين الأمريكان والكنديين، وبين أنفسنا وجيراننا الأوروبيين والروس ...؟ سوف أقدم إليكم رأيي الشخصي، وهو رأي - كما سوف ترون - يقبل الجدل. عقيدتي الشخصية أن هذه القضية المفزعة قضية سياسية، وليست قضية اقتصادية. ولست أعتقد أن هذه القضية السياسية لا تتعلق بالوحدة السياسية للعالم في المستقبل القريب. إني أعتقد أن العالم سوف يتحد سياسيا في المستقبل القريب على أية صورة من الصور، وأن هذه النتيجة قد انتهينا من الوصول إليها. ولعل هذه العقيدة فيما أظن هي أكثر مبادئي عرضة للجدل، ولكني لا أملك إلا أن أذكر ما أعتقده بأمانة وإخلاص (ولست أرى كيف يستطيع المرء أن يبلغ نتيجة غير هذه، إذا هو تدبر أمرين اثنين؛ مقدار اعتماد شعوب الأرض في وقتنا الحاضر بعضها على بعض، وقوة الفتك في أسلحتنا الراهنة؛ ثم ضم هذين الاعتبارين أحدهما إلى الآخر). أعتقد أن القضية السياسية الكبرى المفزعة الحقيقية اليوم لا تنحصر في الشك في وحدة العالم السياسية الوشيكة، بل في أي طريق من الطريقين الوحيدين الممكنين سوف تسير هذه الوحدة العاجلة.
فهناك الطريقة العتيقة المألوفة التي لا يستسيغها أحد، طريقة الحروب المتواصلة التي تبلغ نهاية مرة تستطيع عندها دولة حية كبرى أن تنقض على منافستها الأخيرة الباقية، ثم تفرض السلم على العالم بحق الغزو. هذه هي الطريقة التي وحدت بها روما بالقوة في القرن الأخير قبل الميلاد العالم الإغريقي الروماني، ووحدت بها إمارة «تسن» ذات العقلية الرومانية العالم في الشرق الأقصى في القرن الثالث قبل الميلاد. ثم هناك التجربة الجديدة، وهي الحكومة التعاونية العالمية - ولا أقول إنها طريقة جديدة كل الجدة - فقد كانت هناك محاولات فاشلة سابقة لإيجاد طريقة تعاونية للتخلص من المتاعب التي انتهت فعلا بفرض ميثاق السلم الروماني، وميثاق السلم السنيكي، عنوة وبالقوة. بيد أن متابعتنا لهذا الاتجاه - خلال الحياة التي عشناها - الذي يدعو إلى هذا الحل الموفق كانت أشد حزما، وأعمق في نفوسنا وعيا ، حتى إننا لنستطيع أن نعدها بحق بداية جديدة. وكانت المحاولة الأولى هي إنشاء عصبة الأمم، والمحاولة الثانية هي الأمم المتحدة. وواضح أننا في هاتين المحاولتين نشغل أذهاننا بمشروع سياسي مبتكر عظيم المشقة يشمل مجالا مجهولا إلى حد كبير. ولو نجح هذا المشروع، حتى إذا لم يفلح نجاحه إلا في أن ينقذنا من طريقة فرض السلام بالغزوات والحروب، أقول لو نجح هذا المشروح لفتح للبشرية آفاقا بعيدة، آفاقا لم تمتد إليها أبصارنا من قبل خلال الخمسة أو الستة الآلاف سنة الماضية التي شهدتنا ونحن نقوم بعدة محاولات لإقامة الحضارة.
وبعدما نحيي هذه البارقة من الأمل التي لمعت في الأفق، أرى أننا نحيد عن الصواب إذا نحن لم ندرك طول ووعورة الطريق الذي يصل ما بين هدفنا والموقف الذي نقفه اليوم. ولا يحتمل أن ننجح في التحول عن طريقة الاحتكام إلى نتائج الحروب إلا إذا وضعنا في اعتبارنا الظروف التي تدعو إليها لسوء الحظ.
وأول هذه الظروف السيئة التي تتحتم علينا مجابهتها هو أن عدد الدول الكبرى ذات القوى المادية العظمى - إذا نحن قسنا هذه القوى بمجرد القدرة على القتال - قد انخفض من ثمان إلى اثنتين؛ فالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي يتقابلان اليوم وجها لوجه وحدهما في ميدان القوى السياسية المجردة. وإذا نشبت حرب عالمية أخرى فالأرجح ألا تبقى سوى دولة واحدة تقوم بتوحيد العالم بالطريقة العتيقة، طريقة فرض الغازي حكمه وإرادته.
وهذا الهبوط السريع المذهل في عدد الدول الكبرى ذات القوى المادية العظمى يعزى إلى الوثبة المفاجئة في معيار الحياة المادي، الذي دعا إلى انكماش دول ضخمة مثل بريطانيا العظمى، وفرنسا أصبحت ضئيلة بالقياس إلى دول مثل الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. وقد حدث مثل هذه الوثبات المفاجئة من قبل في التاريخ؛ فمنذ نحو خمسمائة أو أربعمائة عام تضاءلت دول ضخمة مثل البندقية وفلورنسة بالظهور المفاجئ لدول أضخم مثل إنجلترا وفرنسا.
وهذا التضاؤل الذي أحدثته للدول الأوروبية الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كان لا بد من حدوثه - من غير شك - على أية حالة من الحالات في أي وقت من الأوقات؛ فهو في رأيي نتيجة نهائية حتمية لاتساع الرقعة الأرضية أخيرا في روسيا وأمريكا الشمالية، ولنمو الموارد فيهما الذي حدث بعد ذلك نتيجة لتطبيقهما - على نطاق واسع - للوسائل الفنية التي تم اختراع بعضها في معامل غرب أوروبا. غير أن الوقت الذي تطلبته هذه العملية الحتمية كان ربما يستغرق نحو مائة عام، لولا أنه اختصر إلى ثلث أو ربع هذا المدى بسبب تجمع آثار حربين عالميتين. ولولا التعجل الذي لازم أحداث هذا التغير لتمت العملية تدريجيا بحيث تسمح لكل الأطراف المعنية بتكييف نفسها طبقا لها دون معاناة تذكر. ونتيجة للعجلة التي أحدثت بها الحربان العالميتان هذه العملية، كانت العملية ثورية وضعت كل جهة من الجهات في حيص بيص.
3 (1-3) الحرب والطبقات في حضارتنا
Unknown page