يحسب أدباء العصر أن الفكر أو المعنى مما يصح أن يكون ملكا لواحد دون سائر الناس، وهذا حسبان لم تعرف العصور الحالية له مثيلا؛ لأن السرقة الأدبية لم تكن يومذاك مثلها في هذه الأيام، ويبدو لي أن الرأي القديم في هذا الصدد خير من الرأي الحديث؛ لتجرده وسموه وموافقته لمصالح جمهورية الآداب، فالكاتب الذي لا يأخذ من غيره إلا ما كان حسنا مفيدا، ويختار ويحسن الاختيار، هو رجل فاضل مستقيم. ***
سذاجة الفلاسفة لا يسبر غورها. ***
يقال: إن الفلاسفة الذين يبحثون عن المبادئ والعلل، هم كالفيلة التي إذا مشت لم تضع على الأرض القدم الثانية إلا متى ثبتت القدم الأولى. ***
حق لكل عالم، بل فرض عليه، إذا كان عنده رأي في هذا الكون أن يبديه مهما يكن رأيه، وعلى من حسب أنه يعرف الحقيقة أن يذيعها، فإن هذا مما توجبه كرامة العقل البشري، ولكن آراءنا في الطبيعة ليست إذا رددناها إلى أصولها؛ لا كثيرة العدد ولا حسنة التنوع، فالإنسان منذ قدر على التفكير لا يفتأ يدور في دائرة من النظريات واحدة، لقد أثير الخلاف والجدل حول حرية الفكر، وسيظلان مثارين، إلا أن حقوق الفكر فوق كل شيء، وأجل مفاخر المرء أن يجرؤ على إبداء كل الآراء، أما السيرة في الحياة، فلا ينبغي أن تكون متوقفة على مذاهب الفلاسفة المجردة. ***
إن رجلا وحده لشيء يسير، وإن يكن رجلا عظيما، لا يعلم الناس جيدا هذه الحقيقة، وهي أن الكاتب مهما يكن مطبوعا فهو يستعير أكثر مما يخترع، ليست اللغة التي يكتب بها ملكا له، ولم يخلق القالب الذي يصب فيه فكره من الموشح إلى الرواية التمثيلية فالقصة، وهو أيضا لا يملك نحوه ولا عروضه، بل ماذا أقول؟ إن نفس معانيه وأفكاره تلقى إليه من كل ناحية، لقد أعطي الألوان هبة، وهو لا يعطي إلا دقائقها التي لا أنكر أنها جد ثمينة في بعض الأحيان، ليكن لنا إذن من جودة العقل ما يكفي للإقرار بأن مؤلفاتنا ليست لنا بتمامها، أجل، إنها تنمو فينا، ولكن جذورها محجوبة في الأرض الخصيبة التي تغذيه؛ لنقر بأنا مدينون للناس جميعا بالشيء الكثير، وبأن الجمهور الذي نزف إليه مؤلفاتنا هو شريكنا فيها. ***
إن أمراض النفس والجسد تهب أحيانا المبتلين بها قوى لا يملكها الأصحاء، والحقيقة أن الصحة الجيدة والصحة الرديئة لا وجود لهما، فليس ثمة إلا حالات للأعضاء مختلفة، لقد درست الأمراض درسا وافيا أدى بي إلى اعتبارها الصور اللازمة للحياة، وإني لأجد في دراستها لذة تربو على لذة محاربتها، فإن منها ما لا يستطيع المرء أن يراه إلا معجبا مأخوذا به، كتلك التي تخفي تحت عوارض الاختلال انتظاما عميقا، ومن المؤكد أن حمى الربع شيء جميل، كذلك قد تكون أمراض الجسد دواعي إلى إثارة قوى النفس وإعلائها فجأة. ***
لست أظن سوءا؛ لأني أعتقد أن البشر عاجزون عن إتيان الشر والخير على السواء، بل لا وجود للخير والشر إلا في رأي الناس، والعاقل من اتبع في أعماله العرف والعادة، ليس إلا. ***
إن المرأة لا تجلب للرجال اللذة، بل الحزن والقلق والهموم السود، والحب علة آلامنا اللاذعة، اسمع أيها الغريب، إني ذهبت في صباي إلى تريزين من أعمال الأرغوليد، فرأيت فيها آسة لا مثيل لها في العظم، ملأت أوراقها وخزات لا يحصيها العد، وإليك ما يقوله أهل البلد في شأنها: زعموا أن الملكة فيدر لما أحبت هيبوليت كانت تقضي سحابة يومها مضطجعة في برج الوجد، تحت هذه الشجرة الباقية إلى يومنا هذا، فكانت في سأمها المميت تأخذ الدبوس الذهب الذي يمسك شعرها الأشقر، وتخز به أوراق الشجرة ذات الحب العاطر، وهكذا أثخنت الأوراق كلها وخزا، وبعد أن أضلت فيدر ذلك الفتى البريء الذي كانت تلح عليه بهواها الحرام، ماتت كما تعلم شر ميتة، اختلت في مقصورة العرس، وشنقت نفسها بزنارها المذهب معلقا بمسمار من العاج، وبمشيئة الآلهة ظلت الآسة التي شهدت الفاجعة تحمل أوراقها الجديدة وخزات الدبوس، لقد قطفت إحدى هذه الأوراق ووضعتها على وسادة مضجعي؛ لتحذرني على الدوام عواقب الاستسلام لجنون الحب، ولتثبتني على مذهب أستاذي أبيقور الإلهي الذي يعلم أن الشهوة مخوفة، ولكن الحقيقة هي أن الحب داء في الكبد، ولا يأمن أحد قط أن يصيبه الداء. ***
لماذا تريدون أن يعامل الغني الفقراء بغير ما يعامل الأغنياء والقادرين؟ إنه يفي الدين الذي لهم عليه، وإذا لم يكن لهم شيء فهو لا يؤديهم شيئا، هذه هي الاستقامة بعينها.
إذا كان مستقيما فليعامل الفقراء على هذه الصورة، ولكن لا تقل: إن الأغنياء ليسوا مدينين للفقراء بشيء، فإنك لن تجد غنيا واحدا يقول هذا القول، غاية ما في الأمر أن الشكوك تحوم حول مقدار الدين، ولا يرغب الأغنياء في الخروج من هذه الشكوك؛ لأنهم يؤثرون البقاء في حالة الإبهام؛ يعلم الغني أنه مدين، لكنه لا يعلم مقدار الدين، فهو يؤدي حينا بعد حين دفعة صغيرة على الحساب، هذا هو الإحسان، وهو في مصلحة الأغنياء. ***
Unknown page