والدكم: مرهج
وطوى رسالته هذه على حوالة بألفي ليرة إنكليزية، فخطا هلال خطوة واسعة أدت إلى خطوات أوسع وكثرت أقاويل الجيران، هذا يقول: توفيق غريب عجيب، المال مكبوب على الطرقات حتى يجمعه مرهج! والله العظيم قصة عمنا مرهج قصة غريبة. وإذا بزوجته ترد عليه قائلة: الدنيا سعود وبخوت.
ومثل هذا الكلام كان يتداول في زوايا بيوت عرشين وعلى مصاطبها كلما اجتمع اثنان، أما عند بيت مرهج فتسمع: هاتوا الطين، قدموا حجارة، أصوات تتعالى على الحيطان، ووجوه الجيران تتقلص وتتمدد وتصفر وتخضر، والسن تقول: كان هلال في شروال خام مصبوغ، وصديرية ديما، وكانت الأرض لا تطبق ثقالته، فكيف به وقد لبس الجوخ؟ من ينجينا من شره متى كمل القصر؟
وما صفف قرميد بيت هلال حتى لاحت للقرية أشباح النفوذ الرهيب وتحققت ظنونهم. طمح هلال إلى مشيخة الضيعة وراح يسعى لها، سخت نفسه عن مائتي ليرة إنكليزية إن صيره مدير الناحية شيخا.
ودرى حزب الشيخ بما يطبخ هلال فتهيئوا للكارثة، كيف تفلت المشيخة منهم؟ هذا لا يكون. فأعدوا للأمر المال والرجال، فغلا سعر السوقة وتدللوا حينا، وخفض لهم الأنصار جناح الذل، وظلوا يداورونهم حتى اشتروا أصواتهم آخذين عليهم العهود والمواثيق، ثم حاموا حول صاحب الرفعة مدير الناحية فرضي بالتي هي أحسن ...
لم يكن عزل شيخ في عهد المتصرفية بالأمر الهين، ففكر المدير بحل مريح مربح، فبقي الشيخ في منصبه الرفيع، وعمل من هلال بيكا. كان موسم التبرع للأسطول العثماني، فتبرع هلال بخمسين ليرة عثمانية إعانة للأسطول الشاهاني المظفر، ونامت المائة والخمسون الباقية عند المدير نومة أهل الكهف، ففتح البيك هلال بيته على مصراعيه: سفرة ممدودة للرائح والجائي، أكل وشرب قهوة وإركيلة وسكاير أكسترا عند البيك، سهرات تارة تكون صامتة تقضى بلعب الورق، وحينا باجتماع القوالين يغنون للبيك الطازج، داعين لأفندينا بطول العمر ... وهلال ينفق عن سعة، والحوالة في ظهر الحوالة.
هوذا رجال البيك ينصرفون من «الدار» قرب منتصف الليل، ممسين جنابه واحدا واحدا، وهو يرد كل مساء بأحسن منه، وخصوصا لمن يودعون جنابه بالبكوية، ويكشر بوجه من يغلط ويقول: خواجا هلال. والويل لمن يقول: هلال فقط.
صار بيكا بشطحة قلم وهو يحفظ بطاقة مدير الناحية، في قلب قطعة من الأطلس الزاهي، مدبجة بخيوط استعيرت ألوانها من قوس قزح، وقد حف بها إطار يشع كعين الشمس، عرضها في صدر القاعة ليقرأ كل زائر:
إلى سعادة قائمقام كسروان المحترم
إن صاحب الدولة مظفر باشا متصرفنا المعظم يشكر أريحية هلال بيك مرهج لتبرعه بخمسين ذهبا عثمانيا، إعانة لأسطول الدولة العلية، أيدها الله، فبلغوا المومأ إليه شكر أفندينا، ودمتم محترمين.
Unknown page